الفصل الحادي عشر
(١) كيف تكون المبادلة؟
من أهم الوسائل التي يمكننا بواسطتها زيادة الثروة المبادلة، أعني إعطاء الأشياء التي لا احتياج إليها واستعواضها بأشياء أخرى في حاجةٍ إليها، وقد سبق قلنا: إن الثروة تتكون من جميع الأشياء النافعة القابلة للتداول.
فإذا كنَّا نحتاج إلى صنفٍ معلومٍ وتحصلنا عليه، فلا لزوم عندنا لما يزيد عن لوازمنا من هذا الصنف، ولكننا نحتاج إلى أشياء أخرى، ومن ذلك يتبين أن المبادلة تعود بالمنفعة على المتبادلين.
وقد اعترض بعضهم على المبادلة بقوله: إنها لا تأتي بفائدةٍ ما؛ لأنها لا تكون إلا بين شيئين متساويين في القيمة، وقال بعضهم أيضًا: إن ما يكتسبه أحد المتبادلين يخسره بالطبع المتبادل الآخر، وهذه الأقوال تدفع إلى توهم أن التجارة هي عبارةٌ عن سلب أحد المتبادلين، والحقيقة أن الشيئين المتبادلين متحدان في القيمة ولكنهما مختلفان في المنفعة، والمقصود من التجارة هو زيادة المنفعة.
ولا يخفى أن ثمن الأشياء ليس مناسبًا لمنفعتها؛ إذ لو كان كذلك لكان الهواء والماء والخبز من أغلى الأشياء ثمنًا، مع أن الهواء والماء لا يدفع لهما ثمنٌ، والخبز ثمنه زهيدٌ، ولفهم هذه المسألة الغريبة يجب أن نبحث عن حقيقة «القيمة».
(٢) ما هي القيمة؟
لو أردنا مبادلة صنفٍ بآخر وجب علينا أن نعرف الكمية التي يلزم إعطاؤها من الصنف الأول للتحصل على كميةٍ معلومةٍ من الصنف الثاني، ويقال عن شيءٍ: إن له قيمةً عظيمةً إذا أمكننا بمبادلته التحصل على كميةٍ وافرةٍ من أصناف أخر، فيقال: إن للذهب أو للماس قيمةً عظيمةً؛ لأنه يمكن مبادلته بكميةٍ وافرةٍ من الأصناف الأخرى، أما الرماد فإن قيمته زهيدةٌ جدًّا أو هي معدومةٌ بالمرة؛ لأنه لا يمكن استبداله بشيءٍ ما، على أن كلمة «قيمة» تدل على جملة معانٍ مختلفةٍ فيقال: إن الكينا ذات قيمةٍ؛ لأنها دواء الحمى، وإن للحديد قيمةً؛ لأنه يقوي الجسم، وإن للماء قيمةً؛ لأنها تطفئ الحرائق، وهلمَّ جرًّا، وفي هذه الأمثلة كلمة قيمة لا تتضمن معنى المبادلة؛ لأن الكينا دواء للحمى سواء كان القيراط منها يساوي بنسًا واحدًا أو عشرة شلناتٍ، والماء لو وجد في الوقت المناسب لإطفاء الحرائق مهما كان ثمنه، فيتضح من ذلك إذن أن كلمة قيمة تُستعمل في بعض الأحيان للدلالة على قيمة الاستعمال، وأن لكل شيءٍ قيمتَيْن: قيمة استعمالٍ، وقيمة مبادلةٍ، وأنه يوجد كثيرٌ من الأشياء قيمة مبادلتها دنيئةٌ وقيمة استعمالها عظيمةٌ. وقيمة استعمال أي شيءٍ هي عبارةٌ عن مقدار منفعته، أو بالأحرى منفعة القدر الذي نستعمله منه، مثلًا قيمة استعمال الماء هي عبارةٌ عن المنفعة العائدة علينا من الماء الذي نستعمله للشرب أو للغسيل أو للطبخ أو للرش وهلمَّ جرًّا، ولكن مهما كانت هذه المنفعة جليلةً فإنها لا تشمل مياه الغرق أو المياه التي تسبب رطوبة المنازل أو ترشيح المناجم … إلخ.
وقد اعتُرض على التجارة بأنها عديمة الفائدة؛ لكونها لا تحدث بضائع جديدةً، ففي المثل السابق كمية الفحم والنبيذ لا تتغير، حصلت المبادلة أو لم تحصل، ولكن هذا الاعتراض مردودٌ، بما أن علم الاقتصاد السياسي لا يبحث عن الثروة إلا من جهة منفعتها، أعني فيما إذا كانت تستهلك بفائدةٍ أو لا، فإذا كان الأمر كذلك فنقول: إن الشيء الذي لا يُعد ثروةً بالنسبة للشخص الذي يمتلكه يعتبر ثروةً عند انتقاله إلى شخصٍ آخر، وهذا الأمر هو المقصود من المبادلة.
(٣) القيمة تدل على نسبةٍ في المبادلة
لا يمكن تصور قيمة مبادلة لأي شيءٍ إلا بمقارنة هذا الشيء بالأشياء الأخر، وتختلف هذه القيمة باختلاف الأشياء، فكمية البطاطس التي يمكن ابتياعها بشلنٍ واحدٍ تكون أكثر من كمية الخبز، وكمية الخبز أكثر من كمية اللحم وهكذا، إذن لو تكلمنا على قيمة أي شيءٍ ما وجب علينا ذكر الشيء الذي نقارنه به، فإن كلمة قيمة تدل أن الكمية المخصوصة من صنفٍ معلومٍ يمكن مبادلتها بكميةٍ مخصوصةٍ من صنفٍ آخر، والقيمة هي عبارةٌ عن نسبة هاتين الكميتين، مثال ذلك: للحصول على طلناتة من الحديد يلزم إعطاء كرتير (مكيال إنكليزي) من القمح، فالنسبة هنا هي كنسبة ١ إلى ١، أما لو أريد الحصول على طلناتة من النحاس للزم إعطاء ٣٠ كرتيرًا من القمح، فتكون النسبة هنا كنسبة ١ إلى ٣٠ وهكذا، إلا أننا في الغالب نعبر عن القيمة بواسطة الثمن، وثمن أي شيءٍ هو عبارةٌ عن كمية الدراهم التي تُصرف للحصول على هذا الشيء، والنسبة هنا محصورة بين كمية الدراهم وكمية البضاعة التي نبتاعها، وسنرى فيما بعد أن الدراهم لا تخرج عن كونها بضاعةً كبقية البضائع.
والتعبير عن القيمة بواسطة النقود يسهل مقارنة قيمة الشيء بقيمة أي شيءٍ آخر، فإذا علمنا مثلًا أن رطل البطاطس يساوي بنسًا واحدًا، وأن رطل الخبز يساوي ثلاثة بنساتٍ، وأن رطل اللحم يساوي تسعة بنساتٍ، لعلمنا في الحال أن قيمة رطلٍ واحدٍ من اللحم تساوي قيمة ثلاثة أرطالٍ من الخبز وتسعة أرطالٍ من البطاطس.
(٤) قانون العرض والطلب
تختلف قيمة الأشياء تبعًا لقوانين مخصوصةٍ — سنشرحها الآن — وأهمها قوانين العرض والطلب، والعرض هو عبارةٌ عن كمية البضائع المراد بيعها، والطلب هو عبارةٌ عن كمية البضائع المراد شراؤها.
وقد يختلف العرض والطلب؛ لأنه إذا أراد إنسانٍ شراء أي صنفٍ يبحث أولًا عن الثمن، ثم يعين الكمية التي يشتريها، فإذا فرضنا وكان ثمن الرطل من الخبز أربعة بنساتٍ عوضًا عن ثلاثةٍ كما هي قيمته الحالية، ربما اضطر الفقراء إلى تقليل مرتبهم أو إلى شراء صنفٍ آخر أقل من الخبز قيمةً مثل البطاطس، وكذلك لو كان ثمن الرطل من اللحم شلنًا أو أربعة عشر بنسًا، عوضًا عن تسعة بنساتٍ، يمتنع بعض الناس عن أكل اللحم، وبعضهم يقتصدون فيه، هذا ما يختص باختلاف الطلب، وأما اختلاف العرض، فإنه لو فُرض ارتفاع ثمن اللحم لأسرع أصحاب المواشي إلى بيعها طلبًا في الربح، ولو هبط السعر لأرجئُوا البيع إلى وقتٍ آخر، إذن لو ارتفع الثمن يزيد العرض ويقل الطلب، ولو هبط الثمن يقل العرض ويكثر الطلب، وكذلك لو زاد العرض وقل الطلب يهبط الثمن، ولو قل العرض وكثر الطلب يرتفع الثمن، وبما أن هذه القوانين على غايةٍ من الأهمية، سنبينها في الشكل الآتي:
الثمن | العرض | الطلب |
مرتفع | كثير | قليل |
بخس | قليل | كثير |
يسهل علينا الآن أن نفهم كيف يتحدد ثمن أي بضاعةٍ كانت؛ لأنه يجب أن يصل الثمن إلى حدٍّ يكون فيه العرض مساويًا للطلب؛ لأن الذين يريدون شراء بضائع بثمنٍ معلومٍ، ولا يمكنهم التحصل عليها به يضطرون إلى زيادته؛ ليشجعوا بعض التجار على البيع؛ لأننا علمنا مما تقدم أنه كلما ارتفع الثمن كثر العرض.
ولو رغب أحد المشترين ابتياع صنفٍ مخصوصٍ بثمنٍ مرتفعٍ عن الثمن الجاري، لعلم بذلك في الحال البائعون الآخرون، فالفلَّاحة التي تأخذ قدرًا من المسلى مثلًا لبيعه في السوق تعلم بمجرد وصولها إذا كان العرض أزيد من المعتاد أو لا، فإذا قلَّ الشارون خشيت عودتها بالبضاعة، وبدون أن تشتري الأشياء التي كانت عازمةً على مشتراها بالثمن، فتضطر إلى تقليل ثمن كلِّ رطلٍ بنسًا واحدًا أو اثنين مثلًا، وفي الحال تضطر بقية بائعات المسلى إلى البيع بهذا الثمن؛ إذ لا يرغب أحدٌ في شراء مسلى بسعر الرطل الواحد ١٫٨٠ فرنكٍ من بائعٍ إذا أمكنه التحصل على مسلى يماثله في الجودة بمبلغ ١٫٦٠ف من بائعٍ آخر.
ولو فرضنا وكانت كمية المسلى المراد بيعها قليلةً، أو كان المشترون عديدين لكانت الحالة بعكس ما تقدم؛ إذ تتحقق بائعات المسلى أنه من السهل تصريف ما عندهن من البضاعة، ويسرع الشارون إلى ابتياع ما يلزمهم من المسلى قبل نفاده، وهذا الإقبال يحمل البائعات على دفع الأثمان، وبهذه المساومة تجدد أثمان البضائع. وخلاصة القول: إن الثمن الاعتيادي هو الذي يتساوى به العرض والطلب.
(٥) في ارتباط القيمة بالشغل
سنبحث الآن في مسألة مهمةٍ وهي الجواب على هذا السؤال: هل القيمة نتيجة الشغل أو لا؟ وبعبارةٍ أخرى: هل من ارتباطٍ بين القيمة والشغل؟ فنقول:
شاهدت فئة من الاقتصاديين أن الأشياء ذات القيمة المرتفعة كالذهب تستلزم مشقةً زائدةً للتحصل عليها، فقالوا: إن العناء الذي يتكبده الإنسان للتحصل على أي شيءٍ هو السبب في ارتفاع قيمة هذا الشيء، على أن هذا خطأٌ بيِّنٌ؛ لأننا لو اعتمدنا هذا المبدأ لوجب علينا أن نقول: إن كل شيءٍ استلزم للحصول عليه كثيرًا من العناء يكون مرتفع القيمة، وكلنا يعلم أن ذلك ليس بحقيقيٍّ، فلو استلزم تأليف كتابٍ وطبعه وتجليده عناءً كبيرًا، ولم يقبل عليه أحدٌ لما كانت له إلا قيمة زهيدة، ولنا في السكة التي أُنشِئت تحت نهر التيمز أعظم دليلٍ على ما قدمناه، فإنها استلزمت أشغالًا كثيرةً، ومع ذلك فلما تمت لم يقبل الناس على المرور بها، فكانت قيمتها إذن لا تذكر، ولم تتحسن حالتها إلا عندما أنشئت بها سكةٌ حديديةٌ، فمن المحقق إذن أن مجرد الشغل لا يعطي الشيء قيمةً، ولا إعطاء القيمة يجب أن يكون الشغل من خاصيته أن يجعل للشيء منفعةً.
وقد يُشاهد أيضًا بعض أشياء ذات قيمةٍ جسيمةٍ لا تستلزم شغلًا بالمرة، أو لا تستلزم إلَّا شغلًا يسيرًا، فمثلًا لو مرَّ أحد الرعاة الأستراليين على جبلٍ فوجد سبيكةً من ذهبٍ وأخذها، فلا يُعد أخذه لها شغلًا متعبًا، ومع ذلك فإن لهذه القطعة الذهب قيمةً كقيمة أي قطعة ذهبٍ أخرى مساوية لها في الوزن، وكذلك بعض المناجم يُستخرج منه كمياتٌ وافرةٌ من الذهب، وبعضها لا يُستخرج منه إلا كمياتٌ واهيةٌ رغمًا عن الأتعاب التي يستلزمها، ومع ذلك فثمن ذهب أي منجمٍ يساوي ذهب المناجم الأخرى عند اتحاد العيار.
نتج لنا من ذلك أن الشغل ليس السبب في ارتفاع قيمة الذهب، بل السبب في ذلك هو أن كثيرًا من الناس يرغبون في ازدياد الكمية الموجودة عندهم منه، وعلى العموم فالشيء يكون له قيمةٌ عند احتياج الناس إليه، هذا وإذا كان من الممكن الحصول على شيءٍ مرتفع القيمة مثل الذهب بقليلٍ من العناء لاشتغل كثيرٌ من الناس باستخراجه، وحينئذٍ تكون قيمة الذهب المستخرج كقيمة الذهب الموجود من قبل، لو فرضنا أن درجة الاحتياج إليه لم تتغير عن ذي قبل، لكن من المعلوم أن الكمية التي يرغب الإنسان في الحصول عليها منه محدودةٌ؛ لأننا قلنا فيما سبق: إن الثروة لا بدَّ أن تكون محدودة الكمية، فإذا كثرت كمية الذهب حتى عادلت كميات الرصاص والنحاس لا بد وأن تقل قيمته عن الأول؛ لأن كميته تزيد عن القدر الكافي لعمل الحلي والساعات والمصوغات … إلخ، ويتسنى استعماله لعمل أوانٍ وأحواضٍ، ولا يخفى أن استعمال الذهب ليس بضروريٍّ في مثل هذه الأشياء.
وخلاصة القول: إنه إذا أمكن الحصول على كميةٍ وافرةٍ من أي صنفٍ بقليلٍ من العناء لاكتفى الناس بالكمية الموجودة عندهم منه، وما رغبوا في زيادتها، ونتيجة ذلك أنهم لا يشترونه بثمنٍ مرتفعٍ، فإذن العناء المبذول للحصول على أي صنفٍ لا يؤثر على قيمته، اللهم إلا إذا كانت نتيجة هذا العناء زيادة أو نقصان الكمية المطلوبة منه، بحيث تزداد أو تنقص منفعة جزءٍ من هذه الكمية.
(٦) ما السبب في ارتفاع قيمة اللؤلؤ؟
لفهم ما تقدم جليًّا يجب علينا أن نجيب على هذا السؤال: هل يُغاص في قاع البحار للحصول على اللؤلؤ لأن قيمته مرتفعةٌ، أو أن قيمته مرتفعةٌ لأنه يستوجب الغوص في قاع البحار؟ فنقول:
لا يخفى أن الحصول على اللؤلؤ أمرٌ يستوجب كثيرًا من الخطر والنَّصَب، فإن الغواصين يضطرون إلى حمل أثقالٍ تجذبهم إلى قاع البحار، ولا يتنفسون مدة وجودهم تحت الماء، فضلًا عن كون كمية اللآلئ التي يجدونها قليلةً جدًّا بالنسبة لما يلاقونه من المصاعب، فيُستنتَج من ذلك أن الأجور التي تُعطَى لهم لا بد أن تكون مرتفعةً وإلا كانت غير مناسبةٍ للشغل، على أن ذلك ليس السبب الوحيد في أن قيمة اللؤلؤ مرتفعة جدًّا؛ لأنه إذا كان ذلك هو السبب الوحيد لكان للصدف الذي يوجد داخله الدر قيمة مرتفعة كقيمة الدر نفسه، والحال أن الصدف معتبرٌ ضمن الأشياء القليلة القيمة، ولو كان السبب الوحيد هو العناء لكان لمن يغطس ويأتي من قاع البحر بأي شيءٍ الحق في بيع هذا الشيء بثمنٍ مرتفعٍ؛ نظرًا لكون هذا الشيء استلزم غطاسه في البحر، والحقيقة أن اللؤلؤ قيمته مرتفعةٌ؛ لأن كثيرًا من السيدات ليس عندهن عقودٌ منه، ويرغبن الحصول عليها، فالسبب إذن في ارتفاع قيمة اللآلئ هو منفعتها عند السيدات، والسبب في هذه المنفعة هو أن السيدات لم يتحصلن منها للآن على كميةٍ كافيةٍ، ولم يمكن السيدات الحصول على القدر الكافي؛ لأنه يصعب البحث عليها في قاع البحار، وبالاختصار العرض تابعٌ للعناء، والاحتياج تابعٌ للعرض، والقيمة تابعةٌ للاحتياج.