الفصل الثالث عشر
(١) فيما هي السلفة
من الضروري لمتعلمي الاقتصاد السياسي أن يعرفوا تمام المعرفة ما هي السلفة، فقد يقال: إن أحمد أقرض عليًّا إذا أعطاه جزءًا مما يمتلكه بشرطٍ أن يرد ما أخذ بعد مضي وقتٍ معلومٍ، فأحمد في هذا المثال يقال له مُقْرِضٌ، وعليٌّ مُقْتَرِضٌ، والسلفة مبينةٌ على ثقة الناس ببعضهم، فإقدام أحمد على السلفة هو لتأكده أن عليًّا يرد إليه ما اقترض منه — وقد يخطئ زعمه في كثيرٍ من الأحيان — فأحمد دائنٌ وعليٌّ مدينٌ، ولا تُستعمل لفظة سلفة في جميع الأحيان، فلو اقترض إنسانٌ جوادًا أو كتابًا أو آلةً أو غير ذلك، ودفع شيئًا في مقابل استعماله لهذا الشيء لقيل حينئذٍ: إنه أجرةٌ، والمبلغ الذي يدفعه يسمى قيمة الإيجار، ففي البلاد التي لم تستعمل فيها النقود لغاية الآن، ترى الأهالي يقرضون ويقترضون القمح أو الزيت أو النبيذ أو الأرز أو صنفًا آخر مرغوبًا عند الجميع، وفي الجهات الأفريقية التي يُصنع فيها زيت البلح تنحصر السلفة في هذا الصنف.
وأما في البلاد المتمدنة فقد جرت العادة باقتراض الدراهم، فلو أراد إنسانٌ اقتناء آلةٍ ولم يكن عنده ما يشتريها به، بحث عن شخصٍ يقرضه ما يلزمه بأحسن طريقةٍ، واشترى الآلة بأقل ما يمكنه، وكثيرًا ما يأتمن البائع المشتري فيعطيه الآلة ويقرضه ثمنها، أي إنه لا يأخذه منه على الفور. والسلفة ذات أهميةٍ كبرى؛ لأنها لو حسن استعمالها لألقت الأملاك بين يدي من يحسن إدارتها، فإن كثيرًا من الناس لهم أملاكٌ لا يستطيعون القيام بشئونها كالنساء والأطفال والشيوخ وأرباب العاهات وغيرهم. وقد تكثر أملاك الأغنياء فلا يهتمون بالأشغال لو وجدوا من يقوم مقامهم، ومنهم من يهتمون بأشغالهم، إلا أنهم تتوفر عندهم مبالغ يميلون إلى إقراضها لمددٍ قصيرةٍ، وفضلًا عن ذلك فإن كثيرًا من النبهاء المجتهدين يمنعهم ضيق ذات اليد عن إنشاء المعامل وفتح المناجم والاشتغال بالتجارة؛ لعدم وجود ما يشترون به الأدوات والآلات والمحلات والأراضي اللازمة لهذه المشروعات، ولا يمكن الإنسان أن يقترض إلا إذا كان يمتلك شيئًا، اللهم إلا إذا اشتهر بالمهارة والاستقامة، فإنه يتحصل في هذه الحالة على ما يريده من المال.
(٢) في السلفة بمقتضى الرهن
(٣) في البنوكات
في البلاد المتمدنة تُقرض أغلب المبالغ من البنوكات، وتلك المحلات تتجر في القروض أو الديون، وقد يشتغل أصحابها بثلاث أو أربع عملياتٍ في آنٍ واحدٍ، إلا أن وظيفتهم الحقيقية هي اقتراض الدراهم من بعض الناس وإعطاؤها على سبيل السلفة لمن هم في احتياجٍ إليها، فلو باع أحد التجار جانبًا من السلع وتحصل على ثمنه، فإنه لا يحتاج إلى هذا الثمن إلا عندما يريد مشترٍ بضائع جديدةٍ، وكذلك من تُصرف إليهم مرتباتٌ أو أقساطٌ أو أي دخلٍ مماثلٍ؛ لذلك يرد إليهم في أوقاتٍ معينةٍ لا ينفقونها كل مرةٍ واحدةٍ، فبدلًا من أن يتركوا هذه النقود عندهم معرضةً للسرقة أو التبديد أو الحريق بدون أن تأتيهم بأي فائدةٍ ينصفون في تسليمها للبنوكة، أي إنهم يقرضونها إياها بشرط ردها عند الطلب، وفي العادة أن التجار وأرباب المعامل يرسلون يوميًّا المبالغ المتوفرة لديهم إلى البنوكات، ولا يبقون منها إلا قليلًا من الجنيهات اللازمة للتعامل أو بعض المشتروات الصغيرة.
- (١)
النقود تكون في أمنٍ؛ لأن صاحب البنك يضعها في خزينةٍ من حديدٍ، محكمة الأقفال يحرسها الحرس ليلًا.
- (٢)
من السهل الحصول على اللازم منها بواسطة التحاويل المخولة لمن أعطيت له الحق في مطالبة البنك بالمبلغ المذكور بها.
- (٣)
في أغلب الأحيان يتعهد البنك بدفع فائدةٍ خفيفةٍ لصاحب الأمانة، وقد تتنوع كيفية تسليم الأمانات، فبعض المحلات يشترط على صاحب المال الإعلان قبل أخذ المبلغ بأسبوعٍ، وبعضها يقترض النقود لمدة شهرٍ أو ثلاثة شهورٍ أو ستةٍ، وكلما زادت مدة السلفة كلما ارتفعت الفائدة.
وقد يكثر وضع الأمانات على سبيل ما يدعوه التجار بالحساب الجاري، وهو كنايةٌ عن وضعها في البنك بشرط إمكان الأخذ منها في كل وقتٍ يريده التاجر بدون سابقة إعلانٍ، وفي هذه الحالة تكون الفائدة ضعيفةً جدًّا ومعدومة بالمرة؛ لأن البنك مضطرٌّ إلى تحويل جزءٍ من المال تحت طلب عملائه لعدم علمه بالساعة التي يحضرون فيها.
ولكن بينما البعض يأخذون أماناتِهم فالآخرون يسلمون أماناتٍ جديدة، ولا يحتمل أن عملاء بنكٍ مهمٍّ يحتاجون كلهم في وقتٍ واحدٍ إلى نقودهم؛ ولهذا السبب تجد البنك دائمًا عنده — بخلاف رأس ماله — مبلغٌ وافرٌ من النقود، ينتفع منه بإقراضه لمن هم في احتياجٍ إلى السلفة. وأنواع السلفة متعددةٌ، وقد رأينا أن بعض الناس يقرض أمواله بعد أخذ الرهن اللازم على المنازل أو البضائع أو أسهم السكة الحديد أو الأسهم الأخرى، واستعمال البنك لهذه الطريقة لا يكون في مبالغ جسيمةٍ؛ وذلك لما يلاقيه من الصعوبات في وجود النقدية وقت الحاجة إليها، وأقرب طريقةٍ للسلفة هي التصريح للعميل بأن يأخذ من البنك أكثر مما وضع فيه من المبالغ، ولا بدَّ للبنك في هذه الحالة من أن يثق من مدينه بأن يتحصل على ضماناتٍ منه أو من أصحابه.
(٤) في الحطيطة
فيقال لمحمدٍ: إنه ساحب التحويل، ولحسنٍ أنه مسحوبٌ عليه، وذلك عبارةٌ عن إقرار محمدٍ أن حسنًا مدين بالمبلغ المذكور، فإذا صادقه حسنٌ على ذلك يكتب على ظهر السند عند عرضه عليه كلمة مقبول ويضع علامته تحتها.
فإذا كان الساحب التحويل والمسحوب عليه ممن يوثق بهم لا يمتنع صاحب البنك من استلام التحويل، مع مراعاة الحطيطة، أي إنه يشتريه بالمبلغ المرقوم عليه بعد خصم قيمة الفائدة، باعتبار خمسةٍ في المائة للمدة الباقية عن استحقاق الدفع، وهذا التحويل هو من أعظم الضمانات؛ لأنه عند حلول الميعاد يضطر حسنٌ إلى دفع ما فيه، وإلا فيقدم التحويل للمحاكم، وكثيرًا ما ينتقل التحويل من شخصٍ لآخر بواسطة عبارةٍ تُكتب على ظهر الورقة، تشير بالدفع إلى آخر مستلمٍ، وعند حلول الميعاد يذهب هذا المستلم إلى حسنٍ ويطالبه بما عليه، فإذا توقف عن الدفع كان له أن يطالب جميع من سبقوه في امتلاك التحويل.