الفصل الخامس عشر
الأعمال التي يجب على الحكومة القيام بها هي الخدم المطالبة بها نحو الأمة، وتنقسم هذه الأعمال إلى قسمين: قسمٌ اضطراريٌّ، وقسمٌ اختياريٌّ؛ فالقسم الاضطراري يشتمل على الأعمال التي لا بدَّ للحكومة من القيام بها، مثل المحافظة على البلاد من مهاجمة العدو لها، وتوطيد الأمن في داخليتها، وملافاة كلِّ ثورةٍ تهدد هيئة الحكومة نفسها، ومعاقبة المجرمين الذين يخرقون حرمة القانون ويكدرون صفاء الراحة العمومية، وترتيب المحاكم التي تبت فيما يحصل بين الأهالي من الخلاف، ونحو ذلك.
وأما القسم الاختياري فيعم كل الأعمال التي يمكن الحكومة إتمامها بفائدةٍ، مثل: إيجاد عَمَلةٍ جديدين، وتوحيد طريقة المكاييل والموازين، وإنشاء الطرق وموالاتها بالإصلاح، وتنظيم بريدٍ وطنيٍّ لنقل الرسائل، وتأسيس مرصدٍ ومكتبٍ لنشر وحصر الحوادث الجوية، وهلمَّ جرًّا، والأعمال الاختيارية عديدةٌ، وليس من حدٍّ لما تعهدت به الحكومات منها، ولا يمكننا حصر الأعمال التي يجب على الحكومة الاختصاص بها، والأعمال التي يختص بها الأهالي؛ لأن أخلاق وعوائد الأمم وطرق معاشها وحياتها تختلف اختلافًا كليًّا، حتى إن ما يصلح قومًا يضر آخرين.
فالحكومة الروسية والأسترالية مثلًا تنشئان جميع السكك الحديدية على نفقتهما، فإذا كانت هذه الطريقة لازمةً أو مستحسنةً في هذه البلاد، فلا يتعين أنها لازمةٌ في إنكلترا أو أيرلندا والولايات المتحدة أيضًا، وقد علمتنا التجارب أنه في إنكلترا تأتي إدارة البريد البريد بأرباحٍ وافرةٍ، وإدارة التلغراف لا يكفي إيرادها مصروفها، ومن الأمور المؤكدة أن تسليم زمام الخطوط الحديدية الإنكليزية إلى عمال الحكومة يكون سببًا في خسارتها خسارةً جسيمةً، فمن هذا يتبين أنه لا بدَّ لكل حالةٍ من فحصٍ مخصوصٍ. وغاية ما يجب على الاقتصادي هو أن يبين بطريقةٍ عموميةٍ ما هي المزايا وما هي المضار التي تنشأ عن تداخل الحكومة في الأعمال.
(١) في المزايا الناشئة عن تداخل الحكومة
قد ينتج في الغالب وفرٌ عظيمٌ من تشغيل جميع ما يلزم البلاد من صنفٍ معلومٍ في معملٍ واحدٍ، فمثلًا مكتب حوادث الجو بلوندرة يرد إليه كل يومٍ من أنحاء المملكة البريطانية ومن الممالك الأوروبية رسائل برقيةٍ متعلقة بالجو، فيقابل بين جميع ما يرد إليه من هذا القبيل، وينشر نتيجة بحثه بواسطة التلغراف والجرائد، وليس في إمكان أحدٍ من الأهالي أن يتمم هذا العمل، فما تصرفه الحكومة كلَّ عامٍ على هذا المكتب إن هو إلا شيءٌ زهيدٌ في جانب الخدم العديدة التي يقوم بها نحو الجمهور من تنبيهه إلى الأزمات التي يكثر فيها الغرق أو انفجار المناجم، أو غير ذلك من المصائب التي كثيرًا ما يكون حدوثها سببًا عن جهلنا بحالة الوقت، فمما تقدم لنا يتبين أنه من الصواب أن تختص الحكومة بمعاهدة الحوادث الجوية.
وقد يحدث وفرٌ عظيمٌ إذا كانت الحكومة تنشئ إدارةً بمثابة إدارة البريد؛ لأجل نقل الصرر الصغيرة، ففي إنكلترا توجد جملة شركاتٍ لهذا الخصوص، إلا أنها كثيرًا ما ترسل عربة إلى جهةٍ بعيدةٍ لنقل صرةٍ واحدةٍ، ففي لوندرة توجد ست أو سبع شركاتٍ مستقلةٍ لنقل الصرر داخل المدينة، وكل شركةٍ من شركات السكك الحديدية لها طريقةٌ مخصوصةٌ في توزيع البضائع، وكل مخزنٍ من المخازن العمومية، وينشأ عن ذلك تبذيرٌ في الوقت وفي القوى بدون طائلٍ، فلو تكلفت الحكومة بهذه المهمة لكفاها إرسال عربةٍ واحدةٍ كل شارعٍ، فتوزع على كل بيتٍ ما يخصه، وبهذه الواسطة تتحصل على اقتصادٍ في المسافات وفي الوقت.
(٢) في المضار
من الأمور المضرة اشتغال الحكومة بأعمالٍ يمكن الأهالي أو الشركات أداؤها؛ لأن مستخدمي الحكومة لا يُحالون على الاستيداع إلا في النادر، وقد تُصرف لهم في هذه الحالة معاشاتٌ، وبهذه الطريقة لا يمكن الحكومة أن تترك مشروعًا أخذت في إتمامه إلا بتحملها مصاريف باهظة، وعلى هذا فهي تستمر في إتمام مشروعها صالحًا كان أو غير صالحٍ، وفضلًا عن ذلك فإن مستخدميها تعلمهم أنهم لا يُفصَلون من وظائفهم إلا وترتب لهم المعاشات، فهم في الغالب أقل نشاطًا واعتناءً من مستخدمي الأهالي مع كونهم ينقدون مرتباتٍ وافرةً.
فمما تقدم يظهر للقارئ الخبير أن الحكومة لا يجب عليها الاشتغال بمشروعٍ جديدٍ إلا إذا كان يتبين لها جليًّا أنها أقدر على إتمامه بطريقةٍ أوفر وأحسن من الأهالي، وخلاصة القول: إن مزية تداخل الحكومة في وجود معملٍ واحدٍ متوفرةٌ لديه أموالٌ كثيرةٌ، والضرر منحصرٌ في زيادة المصاريف، ففي البريد تتغلب المزايا على المضار، وقد يكون في الغالب كذلك لو أُنشئ بريدٌ لتوزيع الصرر، وأما في التلغراف فالمزايا عديدةٌ والخسارة جسيمةٌ، وإذا كانت الحكومة تشتري وتدبر حركة السكك الحديدية الإنكليزية، لأضحت المزايا قليلةً والخسائر جسيمةً، وفي أميركا نرى شركات البريد أحسن إدارة وأكثر انتظامًا من إدارة بريد الحكومة، ومن الأمور المؤكدة إن إدارة السكك الحديدية والتلغرافات بالولايات المتحدة هي الآن أحسن إتقانًا وأكثر نظامًا مما لو دخلت تحت إدارة الحكومة.