الفصل الثاني
(١) احتياجاتنا متنوعةٌ
إذا أمعنَّا النظر برهةً نرى على العموم أن رغبتنا لا تتوجه إلَّا إلى جزءٍ حقيرٍ من كلِّ نوعٍ من أنواع البضاعة، وأننا نفضل امتلاك جزءٍ من نوعٍ وجزءٍ من آخر، والمعاينة تثبت أن الإنسان لا يميل إلى جعل غذائه مركبًا من العيش فقط أو البطاطس فقط أو اللحم فقط، بل إلى تفضيل الغذاء من اللحم والعيش والبطاطس معًا، وربما أضاف إليه شيئًا من المشروبات المنعشة، وكذلك نرى أن الإنسان لا يهتم بالحصول على جملة ملابس متشابهة. نعم، قد يشتهي ولا ريب أن يكون حائزًا على جملة ملبوسات، ولكن على شريطة أن يكون بعضها ثقيلًا وبعضها خفيفًا، وبعضها للنهار والآخر لليل، وغيرها للأسفار، وهلمَّ جرًّا.
ومن الهذيان والتفاهة أن تكون خزانة الكتب جميع كتبها متماثلة، لا سيما وأن المشهور على العموم عدم الفائدة من الجمع بين نسختين متماثلتين، فكيف بين مجلدات مكتبةٍ بتمامها، وفي جميع هذه الأحوال وغيرها نرى أن احتياجات الإنسان تميل إلى التغير والاختلاف، فإذا قضى الإنسان لُبانته من حاجة استبدلها بأخرى وهكذا، وقد سمَّى سنيور الذي سبق إيراد اسمه هذه القاعدة بناموس التنوع، وهو أهم النواميس في علم الاقتصاد السياسي.
ويُؤخذ من هذا أن للأهمية في تتابع احتياجاتنا تسلسلًا طبيعيًّا، فمثلًا الغذاء ضروريٌّ لحياتنا، فإذا لم نجد غيره نكون سعداء إذا حصلنا على العيش الكَفاف، ومتى حصلنا على هذا العيش لزمتنا اللحوم والبقول والفواكه وغيرها من المأكولات اللذيذة، وليست الملابس بدرجة الأغذية في الضرورة، ولكن إذا صار في وسع الإنسان أن يحصل على معاشه بالسعة واليسر ابتداءً في تحسين لباسه، ثم تتلو ذلك الرغبة في الحصول على منزلٍ للمعيشة فيه، وكلما ازدادت الثروة كلما ازدادت الرغبة في سكن منزلٍ أرفع ذروةً وأوسع فناءً، ومتى حصل على هذا المنزل توجهت إرادته إلى فرشه بالأثاث الجميل، وخزانات الكتب، وألواح الرسوم، وآلات الموسيقى، وغيرها من لوازم البذخ، وعلى هذا المنوال تكون احتياجاته مرتبةً على المثال الآتي؛ وهو الغذاء واللباس والمسكن والتعلم والزخرفة واللهو. ومما تهم ملاحظته أنه لا توجد غايةٌ ولا حدٌّ للأشياء المختلفة التي يمكن أن يميل الغني إلى الحصول عليها، فالذي يملك بيتًا لائقًا به يود لو أن يكون له منزلٌ آخر، وقد لا يقتصر بعض الأغنياء والمثرين على منزلَيْن لإقامة الواحد منهم، أحدهما بداخل المدينة والثاني بأطرافها، بل يتخذ له أربعة أو خمسة منازل أو أكثر، ويُؤخذ من هذه الملحوظات أنه لا يمكن أن تتوفر لدى الشعوب المتمدنة الثروة الكافية الكافلة بانقطاع أفرادها عن الاستمرار على طلبها والحصول عليها؛ إذ إنه مهما كانت الأشياء التي يتيسر لنا الحصول عليها عديدةً، فإنه توجد أشياء أخرى نتمنى لو أن تقع في أيدينا.
وقد دلَّت المشاهدات على أن الإنسان إذا تحسَّن غذاؤه اشتهى اللباس الحسن، فإذا تحققت هذه الأمنية طمح إلى امتلاك منزلٍ طيب المناخ، جميل الوضع، يفرشه بالرياش الثمينة والمتاع النفيس، وإذا فاضت لديه الخيرات وكثر هطول النعم عليه فلا يكون ذلك إلَّا في فرعٍ واحدٍ منها، وليس في جميع الفروع معًا؛ لأن المزارعين قد يسقطون من ذروة الثروة إذا كثرت عندهم الحبوب بحيث يستحيل عليهم استنفادها، وحينئذٍ يمكنهم بدلًا عن استخراج الكثير من الحبوب أن يصرفوا شيئًا من عنايتهم إلى الاستنفاع من لحوم الحيوانات وألبانها، فلا يُخشى والحالة هذه من أن الآلات تحدث من الأعمال الكثيرة ما يضطر العمال إلى ملازمة البطالة وذلك لمدةٍ طويلةٍ على الأقل، وغاية ما يمكن حدوثه هو أن أولئك العمال الذين قد ضرب عليهم الحرمان من تناول صنعتهم يتخذون لهم صنعةً غير الأولى.
(٢) متى تكون الأشياء نافعةً؟
الغرض الأصلي الذي نرمي إليه، إنما هو البحث: متى تكون الأشياء نافعةً؟ ومتى لا تكون كذلك؟ فنقول: إن ذلك يتعلق تمامًا باحتياجنا إلى تلك الأشياء أو عدم احتياجنا إليها، فإن أغلب الأشياء المحيطة بنا كالهواء والماء والمطر والأحجار والأرض … إلخ، ليست من الثروة في شيءٍ؛ لأنها لا تنقصنا، أو لأن اللازم لنا منها قليلٌ ويمكننا الحصول عليه بكلِّ سرعةٍ، ولنبحث بكلِّ اعتناءٍ عمَّا إذا كان يجوز القول بأن الماء نافعٌ وفي أي معنًى.
سمعنا أناسًا كثيرين يزعمون أن الماء أنفع المواد الموجودة في العالم، والحقيقة كذلك في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ولكن إذا طغى الماء فوصل إلى أعتاب المنازل وتجاوزها إلى الداخل، فإن المنفعة تُسلَب ولا شكَّ عنه، وإذا رشح في الجدران فسبب إصابة المفاصل بالآلام الشديدة القاسية، فلا بدَّ من اعتباره مضرًّا وغير نافعٍ، وإذا احتاج إنسانٌ إلى ماءٍ نقيٍّ فحفر بئرًا وعثر على طِلبته وهي هذا الماء فإنه يكون نافعًا، ولكنه إذا حفر بئرًا من آبار المعادن أو مناجم الفحم الحجري، وبينما هو يحفر إذ وردت المياه وحالت بينه وبين الوصول إلى ذلك الفحم، فمن الواضح أن الماء يكون في هذه الحالة خِلوًّا من الفائدة والنفع، وقد يحدث أن الأمطار تسقط بغير انتظامٍ في بعض الممالك كأستراليا مثلًا، فإنه بهذا السبب يستمر الجفاف سنة أو سنتين، وفي بعض الأحيان ثلاث سنوات متوالية، وتجف الأنهار في داخل تلك القارة تمامًا، وتنضب المياه بحيث إن المستنقعات الآسنة التي تتصاعد منها الروائح الكريهة تُعتبر وقتئذٍ من أنفس الأشياء التي يُحتَرز عليها لحفظ حياة قطعان الماشية والأغنام، وفي بلاد الغالة الجنوبية قد بلغ ثمن الدلو من الماء في كثيرٍ من الأحايين ثلاث شلناتٍ (١٥ قرشًا صاغًا)، فإذا تمَّ دور الجفاف فيها سقطت المياه بغتةً في الأنهار فتدمِّر ما تمرُّ عليه من الجسور والقناطر والمنازل، وتغرق الكثير من الإنسان والحيوان، ومن الواضح تمام الوضوح أنه لا يسعنا القول بأن الماء يكون نافعًا دائمًا؛ لأنه أضرَّ بالإنسان في أحوالٍ كثيرةٍ.
وملخص ما يُؤخذ مما تقدَّم هو أن الماء يكون نافعًا في المكان والزمان الذي نحتاج إليه فيهما على شرط أن يكون بمقدار الحاجة، وليس كلُّ الماء نافعًا وإنما الكمية التي نستعملها منه في وقتٍ معلومٍ وهو وقت الحاجة إليه.
ومن السهل الآن الوقوف على السبب الذي يجب بمقتضاه أن تكون الأشياء محدودة الكمية تُحسب من الثروة، وما لم يكن محدودًا منها فلا حاجة لنا به؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يشرب أكثر من ثلاثة أو أربعة أقداحٍ في اليوم، ولا يأكل ما يزيد وزنه على بعض أرطالٍ من الغذاء، وبهذه المثابة يمكننا الوقوف على السبب الذي بمقتضاه لا يُحسَب الثور الضخم في جهات أميركا الجنوبية من الثروة؛ وهو كثرة عدد الثيران وقلة عدد الآكلين، نعم إن الثور الذي يُؤكل في تلك البلاد نافعٌ بالنسبة للأفراد نفعه بالنسبة لأمثالهم في إنكلترا، ولكن القيمة في الأول غايةٌ في البخس؛ بسبب كثرة المواشي وعدم احتياج الأهلين لجميعها.
(٣) ما ينبغي أن تكون غايتنا التي نسعى إليها
في وسعنا الآن أن نقف الوقوف التام على ما ينبغي لنا الإلمام به من علم الاقتصاد السياسي، وهو قضاء حوائجنا المختلفة بقدر الطاقة، ويجب علينا لذلك أن نبحث قبل كل شيءٍ على الأشياء الضرورية لنا، فنقول: من العبث الحصول على شيءٍ إذا صار في قبضتنا لا يصلح لأمرٍ من الأمور، ويجب أن يكون الشيء الذي نبحث عنه متناسبًا مع احتياجاتنا؛ فلا يجب مثلًا على صانع الأمتعة والأثاث أن يصنع عددًا عظيمًا من الموائد وعددًا قليلًا من الكراسي، بل يجعل عدد هذه أكثر من عدد تلك، وهكذا الحال في كلِّ نوعٍ من أنواع البضائع، فإنه يجب القيام بعمله وأدائه عند الحاجة إليه، ولا يجب أن يكون المصنوع منه زيادةً عن اللازم؛ إذ الأحسن صرف الوقت والتعب والمال في عمل شيءٍ غير الأول.
(٤) متى يجب علينا استنفاد الثروة؟
استنفاد بضاعةٍ من البضائع هو سلب الفائدة منها، مثال ذلك الفحم المحروق والخبز المأكول والآنية المكسورة وهكذا، وتفقد الأشياء فائدتها أي منفعتها بطرقٍ مختلفةٍ، منها الفساد كما يحصل في اللحوم والأسماك، وتجدد الأزياء عند النساء، والقِدم كمضي السنة على التقويم الموضوع لها … إلخ، وقد تتلف الأبنية وتحترق مخازن الحبوب وتغرق السفن، ففي هذه الأحوال كلها تزول المنفعة ببطءٍ أو بسرعةٍ وتُفقَد البضائع، ومن الواضح أنه يجب علينا استخدام الأشياء حينما تكون صالحة للاستعمال إذا أردنا الاستفادة منها، وأن نستفيد بقدر الإمكان من الأشياء التي حظينا ونحظى بامتلاكها، فإذا لم يتلف شيءٌ منها بسبب الاستعمال كالكتاب ولوح الصورة، فكلما ازداد استعماله ازدادت منفعته، ويزيد نفعًا أيضًا إذا انتقل من يدٍ إلى أخرى، كما يحدث في الكتب الموجودة بقاعات المطالعة، وفي هذه الحالة يحدث ما نسميه بتضارب المنفعة أي تضاعفها، فإن خزائن الكتب العمومية ودور التحف والتصوير وغيرها مما يضاهيها تجعل المنفعة مضاعفة والمصروفات التي تُصرف في سبيلها ليست شيئًا بالنظر للمنفعة التي تُقتطف منها.
وأما البضائع التي تتلاشى بمجرد الاستعمال كالغذاء مثلًا، فمن الواضح أن لا ينتفع منها إلا شخصٌ واحدٌ، وفي هذه الحالة يجب علينا محاولة استنفادها حينما تكون حائزةً على أعظم صفات المنفعة والفائدة، ولنفرض مثلًا رجلًا ضلَّ في الصحاري والقفار، ولم يكن معه سوى جزءٍ قليلٍ من الغذاء، فهو يعد فاقد العقل إذا أكل هذا الجزء دفعةً واحدةً، لا سيما وهو يعلم أنه على وشك تكبد آلام الجوع مدة أيامٍ، أما إذا جنح إلى ادِّخار ذخيرته والحرص عليها بحيث لا يأكل منها إلا جزءًا واحدًا يراه كافيًا لتجديد نشاطه وبث القوة فيه، فيكون قد أحسن النظر في العواقب، ويجب علينا أن نقتدي به في ادِّخار ما نستفيده من المال أثناء حياتنا، فلا يصرف العامل منا كل ما يكتسبه مدة ازدياد حركة الأعمال؛ لأنه يحتاج إليه إذا بطأت هذه الحركة فيخلد عندئذ إلى البطالة والكسل، وكذلك الحال بالنسبة لما يصرف من المال أيام الشبيبة في البذخ والأمور التافهة، فإنه ينفع أيام الشيخوخة حيث يتعذر الحصول على الضروريات البسيطة، والمأخوذ من هذا الباب هو أن الثروة تُستنتج لتُستنفد، ولكن لا يصح أن تُستنفد إلَّا إذا كانت منفعة استفادتها عظيمة.
(٥) في الوساوس المتداولة بشأن الاستنفاد
لا يندر سماع بعض الناس يزعمون بأن الواجب عليهم بذل المال لتعضيد التجارة وتوزيع نطاقها، ويقولون إنه إذا اكتنز كلُّ واحدٍ ما عنده من المال بدلًا عن بذله في هذا السبيل، فإن التجارة لا ينفق سوقها، والعمال لا يجدون ما يشتغلون به، ونصراء هذه المزاعم هم التجار؛ إذ من الواضح كلما تمكن الخياط مثلًا من إقناع زبونه بوجوب عمل ما يلزمه من الملابس عنده كلما ازدادت أرباحه الذاتية وربت فوائده الشخصية، ثم إن الزبائن ميالون إلى تصديق البراهين التي يخالها الصانع نافعةً لصالحه؛ بسبب ما يعتريهم من السرور الناشئ عن شرائهم ملابس جديدة وأشياء محبوبة، والبراهين التي نحن بصددها من الأغلاط المضرَّة.
وفي الواقع فإنه لا يسع الغني أن يحتمي عن تنشيط حركة العمل بأية وسيلةٍ من الوسائل، فإذا اقتصد نقوده فالمرجح أنه يضعها في أحد البنوكة، ولكنها لا تلبث فيها بلا فائدةٍ؛ لأن صاحب البنك يقرضها للتجار وأصحاب المعامل وغيرهم من أرباب الصناعات الذين يستخدمونها في توسيع نطاق أعمالهم وتكثير عدد عمَّالهم، وإذا اشترى بها أسهمًا من السكك الحديدية فإن الذين يقبضون منه ثمن هذه الأسهم يستخدمونه في استثمار فائدةٍ من الفوائد، أما إذا اكتنز نقوده فضةً وذهبًا فإنه لا يستفيد منها فائدةً ما، وإنما يزيد في طلب الفضة والذهب والبحث عليهما، وإذا اهتمَّ جملةٌ من الأغنياء في إخفاء الذهب فنتيجة هذا العمل تكون حض العمال الذين كانوا يشتغلون في أعمال السكك الحديدية وغيرها على الاشتغال باستخراج معدن الذهب.
ومن هنا نرى أن الغني بتعيينه طريق استعمال نقوده يرشد العَمَلة إلى العمل الذي يستوجب إقبالهم عليه.
وإذا راق لديه أن يحتفل بليلةٍ راقصةٍ كان ذلك سببًا لتكثير عدد صانعي الأزياء والملابس وأدوات الزينة والرونقة … إلخ، ولا شكَّ في أن الحفلة الواحدة لا يكون منها تأثيرٌ عظيمٌ، ولكن إذا اقتدى كثيرٌ من الناس بذلك الغني في إحياء الحفلات وإقامة الليالي الراقصة، فإن كثيرًا من الصناع يتخذون تلك الصناعات مهنةً لهم، أمَّا إذا وضع الأغنياء نقودهم لإنشاء سكةٍ حديديةٍ جديدةٍ فلا بدَّ لهذه السكة من مفتشين ومهندسين وكثيرٍ من رجال الصنائع للقيام بما يلزمها من الأعمال.
وبالجملة، فإن المسألة تنحصر حقيقةً في أمرٍ واحدٍ، وهو هل يستفيد الشعب من المراقص أكثر من استفادته من السكك الحديدية؟ إن الاحتفال بإقامة الرقص قد يدخل السرور على الإنسان في وقتٍ محدودٍ، ولكنه يكلف مصاريف باهظةً على صاحب الحفلة والمدعوين عنده؛ لأنهم يضطرون إلى شراء الملابس الثمينة التي تكلف النقود الباهظة، وبمجرد انقضاض حفلة الرقص لا يبقى منها فائدةٌ، فضلًا عن أنها لا توجد ارتياحًا مستمرًّا عند مَنْ حضرها، أما السكة فإنها بالعكس ليست سببًا من الأسباب اللاوسطية للسرور، ولكنها تنقص أثمان البضائع بسبب سهولة النقل، وتسمح للإنسان بالابتعاد عن الهرج الحاصل في المدينة إلى الخلوات، حيث السكون والهدوء ودواعي الصحة.
وعليه فيكون من الجنون المحض استحسان الاستنفاد لذاته، أو لأنه يكون معضدًا للتجارة موسعًا لنطاقها؛ إذ يجب على الإنسان وقت صرف ثروته أن لا يفتكر إلَّا في الفوائد والمزايا العائدة منها على الشعب.
ويقع الناس في خطأٍ مضاد لذلك، وهم الذين يعتبرون كلَّ ما يُصرَف ضررًا، ويقولون: إن أحسن سبيلٍ تُستعمل فيه الثروة هو الحرص عليها واستزادتها بالأرباح، أو إهمال هذه والاقتصار على اكتناز الذهب لذاته. هذا هو تصور البخلاء، ولا يخلو الحال من وجود عددٍ منهم يحرمون أنفسهم بهذه الطريقة من لذات المعيشة المعتادة إرضاءً لميلهم؛ وهو توفر الشعور عندهم بأنهم من الأغنياء المثرين، على أن هذا الفريق لا يضرُّ بأفراد بني نوعه ضررًا حقيقيًّا، بل بالعكس يزيد في ثروة البلاد، ولا بدَّ أن يستفيد أحد الناس منها عاجلًا أو آجلًا، وأَضِفْ إلى ذلك أنه إذا وضع ثروته في أحد البنوكة أو في موضعٍ آخر يستفيد منها فيه، فإنه يكون قد أدَّى خدمةً عظيمةً بزيادة رأس مال الأمة، وتسهيله تشييد المصانع والسكك الحديدية والأعمال الأخرى المهمة، وكثيرٌ من الناس يميلون كل الميل إلى صرف نقودهم في الملاذ الزائلة، وإقامة الولائم الشائقة، والمبالغة في إتقان الزي، حتَّى لقد صار من السعادة وحسن الطالع أن يُرى أناسٌ آخرون يحافظون على ثروتهم ولا يتصرفون فيها.
ومع ذلك فلم يكن من اللائق الاحتماء عن كلِّ ما يوجب الانشراح والانبساط والفرح ذريعة لجمع النقود واكتنازها؛ إذ قد سبق أن قلنا: إن الأشياء لا تُعدُّ ثروةً إلَّا إذا كانت نافعةً ومحبوبةً، وإذا وضع كلُّ الناس نقودهم في السكك الحديدية فإنها تكثر للحد الذي يصعب معه استعمالها كلِّها، فتصبح عائقًا وضررًا لا ربحًا، وكذلك لا فائدة من عمل الأرصفة إذا لم تكن ثَمَّةَ سفنٌ تشحن منها، كما لا فائدة من إنشاء السفائن إذا لم تكن هناك بضائع أو مسافرون لتنقلهم من مكانٍ إلى آخر، ومن العبث إنشاء معملٍ لصنع الأقمشة إذا كان يوجد معامل أخرى تقوم بصنع ما يفي بحاجة الجمهور من المنسوجات القطنية أو غيرها.
ومما تقدَّم يُؤخذ أن الثروة وُجِدَتْ للاستعمال والاستهلاك بأية وسيلةٍ من الوسائل، وأن الواجب علينا اتباعه هو صرف ما بقبضتنا بحيث نستخرج منه ما يعود بالسعادة والرفاهية علينا وعلى أقاربنا وأصحابنا وجميع الأشخاص الذين يُفرض علينا الاشتغال بأمرهم والعناية بشأنهم.