الفصل الخامس
(١) ما هو رأس المال؟
تكلَّمنا عن تقسيم العمل ومنافعه ومضاره، ولنشرع في معرفة ماهية الوسيلة الثالثة من وسائل استنتاج الثروة وهي رأس المال الذي نستعين به على إيجاد أموالٍ جديدةٍ، وقد يكون كلُّ رأس مالٍ ثروةً ولا تكون كلُّ ثروةٍ رأس مالٍ؛ لأنه إذا ملك رجلٌ شيئًا من النقود أو من الأصناف الأخرى التي يمكنه بها شراء مؤنته حتى يتسنى له حينئذٍ أن يعيش فقط دون أن يعمل أي عملٍ كان، فإن ثروته لا تُعتبر رأس مالٍ؛ لأنه لم يستعملها في استنتاج ثروةٍ أخرى، ولكنه لو كان مشتغلًا ببناء بيتٍ أو حفر بئرٍ أو عمل عربةٍ أو إحداث أي شيءٍ كان يكفيه مؤنة عملٍ يعود عليه بمنفعةٍ في المستقبل فتعدُّ ثروته وقتئذٍ رأس مالٍ.
وأعظم مزيةٍ لرأس المال هي أن يتيسر إتمام العمل بطريقةٍ لا تحتاج لتعبٍ عظيمٍ، فإذا أراد رجلٌ مثلًا أن يحمل ماءً من بئرٍ إلى منزله ولم يكن له إلَّا رأس مالٍ صغيرٍ جدًّا التزم بنقل الماء إلى منزله دلوًا دلوًا، ولا يخفى ما في ذلك من التعب والمشقة، وأمَّا إذا كان عنده رأس مالٍ عظيمٍ تمكَّن من ابتياع حمارٍ وقربةٍ وخفف بذلك بعض ما كان يعانيه من النصب، وإذا كان لديه مالٌ أكثر من ذلك أيضًا فأحسن طريقةٍ تكون عمل قناة ماءٍ أو بالأحرى وضع مواسير حديدٍ لإيصال المياه من البئر إلى منزله. نعم، وإن كان ذلك يستدعي في أول الأمر بعض التعب إلَّا أنه بعد نهايته ووصول الماء إلى بيته يبقى آمنًا مرتاحًا.
(٢) في رأس المال الثابت والمتداول
يقال عادةً: إن رأس المال ثابتٌ ومتداولٌ، ويلزمنا الوقوف على الفرق بين الاثنين.
فرأس المال الثابت هو عبارة عن الفاوريقات والآلات والمراكب والسكك الحديدية وعربات النقل والركوب وغيرها من الأشياء الأخرى التي تمكث طويلًا وتساعد على العمل، إلَّا أن ذلك لا يشمل كلَّ نوعٍ من الأملاك الثابتة؛ إذ إن الكنائس مثلًا والجوامع والآثار والرسوم والكتب وأشجار الزينة وغيرها قد تمكث زمنًا مديدًا، غير أنها ليست برأس مالٍ؛ لأنها لا تساعد على إيجاد أموالٍ جديدةٍ، نعم ربما أتت بعملٍ خيريٍّ وعادت بسرورٍ على صاحبها وزادت في ثروة المملكة، إلَّا أنها ليست برأس مالٍ ثابتٍ في اصطلاح الاقتصاديين.
أمَّا رأس المال المتداول فيتكون من المأكولات والملبوسات وغيرها من الأشياء الضرورية لرد عوز العمَلة، ويسمى برأس المال المتداول؛ لأنه قليل المكوث، فالبقول مثلًا أو غيرها من أصناف الطعام تفنى بمجرد الاستعمال، وكذلك الثياب تَبلَى بعد استعمالها بضعة أشهرٍ أو سنواتٍ، فرأس المال المتداول الموجود اليوم في البلد ليس هو الذي كان موجودًا فيه منذ سنتين.
أما رأس المال الثابت فهو هو، نعم ربما اندرست بعض فاوريقات وذهبت فريسة الحريق وتلاشتها أيدي الدمار، أو أن بعض الآلات استُعيضت بأخرى، ولكن هذه التغييرات والتقلبات نسبيةٌ فقط، مع أن رأس المال المتداول كله يتغير في كلِّ سنةٍ أو سنتين تقريبًا.
على أننا لا نستطيع التمييز والتفريق بين رأس المال الثابت والمتداول، حيث توجد بعض أنواع من رءوس المال ليست ثابتةً كليةً ولا متداولةً كليةً، فالدقيق بما أنه يؤكل في زمنٍ قليلٍ يقال له رأس مالٍ متداولٍ، وأما الطاحونة فيمكن مكوثها نحو الخمسين سنةٍ وهي ولا شكَّ يقال لها رأس مالٍ ثابتٍ، ولكن كيس الطحين الذي يمكث تقريبًا مدة عشر سنين فمن الصعب إلحاقه بأحد القسمين، وفي السكة الحديد نجد أن الفحوم الحجرية والزيوت اللازمة للآلة البخارية التي تُستهلك أو تنتهي في زمنٍ يسيرٍ يقال لها — ولا مرية — رأس مالٍ متداولٍ، بخلاف العربات فإنها تمكث عشر سنين تقريبًا، والآلات البخارية تعيش أكثر من عشرين سنةٍ، والمحطات ثلاثين على الأقل، ولا يبعد أن بواسطة الاعتناء تمكث الكباري والدهاليز والردوم مائتين من السنين، فمن ثم نرى أن تقسيم رأس المال متعلقٌ بالمدة، بمعنى أنه يعتبر ثابتًا كلما طالت مدة وجوده ومنفعته، ومتداولًا كلما قلت هذه المدة.
(٣) في كيفية الاستحصال على رأس المال
رأس المال هو نتيجة الاقتصاد والتقتير، بمعنى أنه يمكن الحصول عليه بالسعي وراء جمع الأموال وعدم استهلاكها دفعةً واحدةً؛ لأنك تجد مثلًا الرجل الوحشي المسكين الذي يضطره معاشه إلى إجهاد النفس في الشغل لا يملك شيئًا يقال له رأس مالٍ، فإن توفر لديه ما يميزه وأمكنه الاشتغال بعمل القسي والنبال لتسهيل اقتناص الحيوانات كانت له هذه القسي بمثابة رأس مالٍ، وعلى العموم كلما اشتغلنا لإصابة مرمى غرض مستقبل ساعدنا على ذلك رأس المال الذي نسعى في نموه.
فالتقتير هو عبارةٌ عن الحرمان من التنعم بشيءٍ أوجدناه أو يمكننا إيجاده بكدِّنا وكدحنا.
أما الاقتصاد فهو عبارةٌ عن حفظ الشيء دون أن يمسه أحدٌ للحاجة إليه في المستقبل فهو متوفرٌ ما دمنا لا نستعمله. فلو كان لدي مثلًا ما يمونني من الخبز وأكلته فليس ثَمَّةَ من اقتصادٍ، وإنما إذا أكلته واشتغلت بعمل محراثٍ أو عربة نقلٍ أو بأي شيءٍ آخر قابل للبقاء يساعدني في المستقبل على الإيراد؛ فقد حولت الخبز إلى رأس مالٍ ثابتٍ بخلاف ما لو أكلته بدون عملٍ ما فإني لم أتحصل على رأس مالٍ.
فرأس المال يدوم بدوام الشيء الموضوع هو فيه؛ إذ لو وُجِدَ محراثٌ جيدٌ لربما أمكن مكوثه عشرين سنةٍ، ففي هذه المدة يحصل مالكه باستعماله على قيمة العمل ورأس المال التي استلزمها تشغيله فضلًا عن الفوائد، وكذلك رأس المال الموضوع في عربات قطار السكك الحديدية يجب استرداده في مدة العشر سنين التي تمكثها هذه العربات بوجه التقريب، وعلى كلِّ حالٍ فرأس المال المعين لأي عملٍ يكون دائمًا مهما كانت حالته معتبرًا بصفة أجورٍ أو أشياء تُدفع أجورًا، ومصداق ذلك أن رأس المال في السكك الحديد مثلًا يتركب من أغذيةٍ وملابس وبعض أشياء أخرى أُنفقت على العَمَلة الذين قاموا بأعباء تلك الشئون. نعم، وإن كان من المحقق أنه لزم أيضًا آلاتٍ وقضبان وقرميد (طوب) وأدواتٍ أخرى، ولكن بما أن هذه الأشياء كانت استحضرت بواسطة العَمَلة من بادئ الأمر فيمكننا أن نقول: إن رأس المال المعين حقيقةً هو أجرة الأجراء الذين كانوا صنعوها، وهكذا كلما استقصينا كلَّ عملٍ وجدنا أن رأس المال عبارةٌ عن مصاريف العَمَلة.
(٤) في وضع رأس المال
لنا في هذا الموضوع أمران يجب النظر إليهما: كمية رأس المال، والزمن الموضوع فيه؛ لأن كمية رأس المال نفسها ستشغل ثلةً من الرجال على قدر طول المدد وقصرها الموضوعة لأجلها هذه الكمية، فالرجل الذي يزرع مثلًا نوعًا من المزروعات لا يلزمه أن ينتظر نتيجة أعماله إلَّا بعد مضي سنةٍ على التقريب.
فلو كلفته ميرته وملبوساته مبلغ ٧٥٠ فرنكًا في مدة سنةٍ لكفاه هذا المبلغ رأس مالٍ، ولو اجتمع ثلاثة رجالٍ لزرع هذا النوع من المزروعات لاقتضى بالطبع ازدياد رأس المال ثلاث مراتٍ أي ٢٢٥٠ فرنكًا، وهلمَّ جرًّا في مثل هذه الأحوال التناسبية.
أما في زراعة الكرم فيجب الانتظار عدة سنين قبل أن يبتدئ بالطرح، مثال ذلك: لنفرض أنه يلزم الانتظار خمس سنواتٍ فيكون زارع الكرم محتاجًا إلى ٥ × ٧٥٠ = ٣٧٥٠ فرنكًا قبل أن يستثمر منه القطفة الأولى، ولو وُجد ثلاثة زارعين لاحتيج إلى ٣ × ٥ × ٧٥٠ = ١١٢٥٠، ولو وجد عشرة لاستلزم لهم ١٠ × ٥ × ٧٥٠ = ٣٧٥٠٠ فرنكٍ، وهلمَّ جرًّا.
ومن ثَمَّ يتضح لنا جليًّا أن رأس المال اللازم لأية مهنةٍ كانت يكون مناسبًا لعدد المستخدمين والمدة المستعمل فيها رأس المال، ولكن لا يوجد مع ذلك أدنى تناسبٍ ثابتٍ بين عدد العمَلة ورأس المال اللازم؛ لأن ذلك متعلقٌ جميعه بالزمن الذي يُسترد فيه رأس المال، فالبدوي المسكين يدبر أمره في المعاش برأس مالٍ لا يكفيه إلَّا زمنًا قليلًا، والمزارع يحتاج لرأس مالٍ يكفيه لمدة سنةٍ.
وأمَّا صاحب الأملاك الواسعة المتعود على إدخال الإصلاحات المهمة فيها فيحتاج إلى رأس مالٍ أعظم من ذلك بكثيرٍ، وقُلْ ما شئت فيما يلزم من النقود للسكك الحديدية؛ لأن تلك النقود تتحول إلى رأس مالٍ ثابتٍ هو الجسور والمحطات والقضبان والوابورات وغيرها.
(٥) في أن الشغل لا يصح اعتباره رأس مالٍ
كثيرًا ما نسمع أن الشغل هو رأس مال الفقير، وأن له الحق كما للغني في التعيش من رأس ماله، فنقول: إن هذا الحق مخوَّل له، ولكن ما هي الفائدة يا ترى وهو لا يمكنه إيجاد ثروةٍ ما واستبدالها بغيرها لعدم وجود رأس مالٍ عنده، بل في الغالب يضطر إلى ما يسد به عوزه قبل أن يتم العمل الذي شرع فيه؛ وذلك لأن شغله لا يكفي بل يحتاج لما يميره في هذه الأثناء، وأيضًا يلزمه بعض مهماتٍ وأدواتٍ أخرى، فهذه الأشياء المتنوعة هي التي تكوِّن رأس المال، ومن العبث تسمية الشغل برأس مالٍ.
وقد سمعنا أيضًا غير مرةٍ أن الأرض رأس مالٍ، والذكاء رأس مالٍ وهلمَّ جرًّا، وهو خطأٌ محضٌ؛ إذ المعنى المقصود هو ولا شكَّ أنَّ بعض الناس يتعيشون مما يستثمرونه من الأرض وما يقتبسونه من ذكائهم، كما أن آخرين يعيشون مما يستنتجونه من فائدة رأس مالهم، ومع ذلك فإن الأرض ليست برأس مالٍ ولا الذكاء، بل إن الإيراد يستلزم كما نظرنا ثلاثة أشياء مختلفةٍ: الأرض والشغل ورأس المال. ومن العبث الكلي إشكال هذه الأشياء جميعها معًا مع ما هي عليه من التباين الظاهر.