الفصل الثامن
(١) الغرض من شركات العَمَلة
إن العَمَلة يفتكرون على العموم أن أحسن طريقة لارتفاع أجورهم هي الاتحاد؛ إذ يضطر أرباب المعامل إلى زيادتها، فشركة العَمَلة هي عبارةٌ عن جمعية عَمَلة أرباب حرفةٍ واحدةٍ يتعهدون بالرضوخ لتعليمات لجنةٍ ينتخبونها وبدفع ما يُفرض عليهم من الرسوم، وهذه الشركات ليست على نسقٍ واحدٍ فبعضها ينهج منهجًا قويمًا وبعضها يتخبط في سيره، وفضلًا عن ذلك فإن هذه الشركات تشتغل بجملة أعمالٍ متباينةٍ، وفي الغالب فإنها تكون شركات تعاونٍ بمعنى أنه لو دفع مثلًا أحد الأعضاء شلنًا كلَّ أسبوعٍ قيمة ما هو مفروضٌ على كلٍّ منهم، وزاد على ذلك رسم الدخول في الجمعية وبعض مصاريف أخرى طفيفة كان له الحق بعد قليلٍ من الزمن في أخذ اثني عشر شلنًا في الأسبوع عند إصابته بمرضٍ، ويمكنه أن يسترد قيمة أدواته إذا حُرقت أو فقدت، وإن وُجد بدون شغلٍ أخذ مثلًا عشرة شلناتٍ في كلِّ أسبوعٍ مدةً من الزمن، وإذا أصابته مصيبة أقعدته عن العمل أخذ مبلغًا وافرًا بصفة تعويضٍ، ومتى مات دفن على مصاريف الجمعية.
فكل هذه الترتيبات والنظامات جيدةٌ؛ لأنها تكفل الإنسان من الغوائل التي لم يستطع في الغالب ملاقاتها، وتقي الفعَلة من السقوط في مهواة الفقر والفاقة، وما دامت هذه غاية شركات الفعلة يجب الموافقة عليها واستحسانها بكلِّ رغبةٍ وارتياحٍ، وقد يمكن هذه الجمعيات أيضًا أن تسعى في مصلحة أعضائها بالإلحاح على أرباب المعامل بأن ينظموا معاملهم على حسب القواعد الصحية، فلو قام عاملٌ بمفرده ورفع شكواه من ارتفاع حرارة محلات الورش أو من آلةٍ خطرةٍ أو من عدم اعتدال ونقاوة الهواء في المنجم على حسب ما يُرام ما سُمِعَت شكواه، وأمَّا إذا قام كلُّ العَمَلة وشكوا مرةً واحدةً وأعربوا عن قصدهم في عدم الذهاب إلى الشغل ما دامت الأحوال غير سائرةٍ على طريقةٍ مُثلى، فهناك يتبصر صاحب المعمل في المسألة جيدًا ويعمل كلَّ ما فيه الخير والصواب منعًا للنزاع، وإنا نعذر كلَّ إنسانٍ اعتنى بأمور حياته وصحته وسعى في شئونه، فلا لوم ولا تثريب على هؤلاء الفعلة إذا عارضوا في مثل هذه الأحوال، واتفقوا على التحسينات التي رأوا من العدل طلبها؛ إذ مثل هذه الأعمال تكون مستحسنةً كلَّ الاستحسان لدى الخاص والعام.
ولكن لو نظرنا إلى الحقيقة لوجدنا أن الإنسان لا يخلو من الطيش، وأن العارين عن المعارف والعلوم الاقتصادية لا يتأملون غالبًا في نتيجة ما يطلبون؛ لأنهم ربما طلبوا شيئًا مستحيلًا أو يتسبب عنه تعطيل الشغل، ففي هذه الأحوال يجب على الفعلة أن يمشوا مشي الحكمة والتدبير، ويستشيروا خصوصًا الرأي العام، وبذلك لا يضيعون شيئًا وينجحون في مساعيهم، ويعود عليهم الأمر بالربح والفلاح.
(٢) في تحديد مدة العمل
من أهم الأسباب الداعية للنزاع تحديد الساعات التي يقضيها العامل في اليوم، حتى إنه في بعض الصنائع قد يقاول الصانع بالساعة أو بالقطعة بحيث إن كلَّ إنسانٍ يمكنه أن يشتغل كثيرًا أو قليلًا على حسب إرادته، وفي هذه الحالة يعمل كلُّ إنسانٍ على ما يوافقه دون أدنى تداخلٍ لجمعية العَمَلة، وأمَّا في المعامل على العموم فلا يصح ترك العَمَلة وشأنهم، بل يجب أن يشتغلوا ما دامت آلات الحياكة والأنوال دائرةً ورفقاؤهم في احتياجٍ إليهم، فإذن صار من الواجب تحديد مدة العمل. أمَّا صاحب المعمل فإنه يفضل طول مدة الشغل؛ لأنه بذلك يستفيد من معامله وعماراته كثرة الشغل وزيادة الأرباح، فمن الحكمة أن يؤخذ رأي العَمَلة في هذه المسألة، ولكن العَمَلة قد يغترون في الغالب ويتصورون أنهم يمكنهم الحصول على أجرةٍ سواء اشتغلوا تسع ساعاتٍ أو عشر، ويفتكرون أن صاحب المعمل يمكنه أن يزيد ثمن بضائعه أو يحتسب الفرق على أرباحه الطائلة، ولكن لو نظروا لقواعد الاقتصاد السياسي لوجدوا أن أجرة العمل هي في الحقيقة قيمة البضائع المصنوعة بعد خصم دخل صاحب الأرض وفائدة صاحب المال، فإذن لو كانت الأعمال التي تنجزها الفاوريقات في تسعة أيامٍ أقل مما تنتجه في عشرة أيامٍ كما هي العادة، لما أمكن إعطاء هؤلاء العَمَلة الزيادة التي يطلبونها، هذا وكلما كانت الفاوريقات متناهيةً في الإتقان كلما كان الشغل ذا ثمرةٍ عظمى. ومن العدل أن يفضل العَمَلة الذين ينقدون رواتب عظيمةً نقصان ساعات شغلهم على زيادة أجورهم، فهذه المسألة لها شأنٌ عظيمٌ، ولا يمكننا أن نوفيها حقَّها في هذا المختصر، وإنما غاية ما يمكننا أن نقوله في هذا الصدد إنما هو إذا أراد العَمَلة تنقيص ساعات شغلهم لا يسوغ لهم أن يطلبوا الأجرة التي كانت مخصصةً لهم يوميًّا قبل هذا النقصان؛ لأن تنقيص الساعات شيءٌ وزيادة أجرة الساعة شيءٌ آخر، وفي بعض الأحيان يمكن الجمع بين هذين الشيئين، ولكن لا يجب مطلقًا اعتبارهما كأمرٍ واحدٍ.
(٣) في زيادة الأجور
إن أهم المسائل التي توجه أنظارها نحوها شركات العَمَلة إنما هي ارتفاع قيمة أجورهم؛ لأنهم يفتكرون أنهم إذا لم يتيقظوا ويأخذوا حذرهم يسلب أرباب المعامل الجزء الأعظم من المحصول، ولا يعودون يدفعون إليهم إلَّا أجورًا واهيةً جدًّا، ويتوهمون أن أصحاب الأموال يجولون في مضمار الحرية لو لم يكونوا دائمًا ملاحظين ومهددين بالخسارة التي تعود عليهم من اعتصاب العَمَلة، ويعتبرون أرباب المعامل بصفة ظلومين يفعلون كيفما شاءوا، مع أن كلَّ هذه التوهمات إنما هي خطأٌ عظيمٌ.
(٤) في الاعتصاب والطرد
الاعتصاب هو عبارةٌ عن إضراب العَمَلة عن العمل؛ لكي يتحصلوا من أرباب المعامل على بعض الطلبات كزيادة الأجرة ونحوها، والطرد هو عبارةٌ عن منع العَمَلة عن الشغل لإجبارهم على قبول نقصٍ في الأجرة أو ما يماثل ذلك، فاعتصاب العَمَلة يمكث بعض الأحيان عدة شهورٍ، فيقتاتون حينئذٍ مما كان متوفرًا لديهم، أو من الإعانات التي يمنحها إياهم العَمَلة الأُخَر، أو الجمعيات التي من حزبهم، أو أرباب الصنائع الأخرى، وفي هذه الفترة نفسها ينشأ عن وقوف حركة الفاوريقات خسائر جمةٌ على أربابها الذين يساعدهم أيضًا في بعض الأحيان أرباب المعامل الآخرون، فإذا ما دامت اعتصابات العَمَلة أو أرباب المعامل سائرةً على أحسن منوالٍ فليس للقوانين ولا لنواميس الآداب أن تتعرض لها بشيءٍ؛ لأن الرجل الذي لم يتقيد بوعدٍ له الحق في الشغل من عدمه، بمعنى أن القانون يرى أن من الأمور العائدة على الأمة بالمنفعة إطلاق حرية العمل لكلِّ إنسانٍ، وكذلك أرباب المعامل يكونون مطلقي الحرية في تشغيل بضائعهم من عدمه، ولكن لا يجب على أي الفريقين من أرباب المعامل أو الفعلة فسخ ما يكون بينهما من المعاهدات، فمثلًا إذا وعد بعضهم بأن يشتغل لآخر الأسبوع وجب عليه تأدية هذا العمل؛ إذ إنه لا يكون حرًّا إلَّا بعد الوفاء بوعده، وكذلك لا يسوغ لأي عاملٍ أن يغادر شغله إذا كان في ذلك إيقاع أناسٍ آخرين في مهاوي الأخطار، وقد يتعصب في أميركا سواقو الوابورات والحراس في أثناء سير الوابور ويتركون المسافرين وشأنهم، وهذا العمل يعدُّ جريمةً كالقتل.
نتج لنا من ذلك أن العَمَلة المنوطين بتوزيع المياه أو بكلِّ أمرٍ يتعلق بالجمهور في الاحتياجات المعيشية لا يجب عليهم أن يوقفوا العمل فجأةً دون إعلانٍ من قبل؛ لأن الأمن العام يستوجب العناية به، ومن واجبات الشارع معاقبة مَنْ ينزعون إلى مثل هذا الاعتصاب.
(٥) في نتيجة اعتصاب العَمَلة
بالنظر لصغر هذا المؤلف لا يسعنا أن نستقصي هذا الموضوع، ولكن لا نشكُّ في أن اعتصابات العَمَلة تأتي بخسائر جمةٍ على أصحابها وعلى غيرهم، ونرى أنه لو لم يحصل أي اعتصابٍ في مدة الثلاثين سنة الأخيرة لارتفعت أجورهم اليوم أكثر مما هي عليه، وكانوا تلافوا الخسائر الطائلة التي حلَّت بهم والتقتيرات العظيمة التي التزموها لضيق ذات يدهم.
وإليك ما أورده في هذا الصدد: «إنه لحدوث بطالاتٍ عرضيةٍ لا يوجد في الصنائع السائرة على أحسن نظامٍ أكثر من خمسين أسبوعًا في السنة يشتغل فيها العامل، فكلُّ أسبوعٍ يقدر إذن باثنين في المائة من السنة، فلو اعتصب العَمَلة على طلب أربعةٍ في المائة علاوةً على أجورهم واستمروا على ذلك مدة خمسة عشر يومًا للزم أن يشتغلوا اثني عشر شهرًا بالأجرة الجديدة ليحصلوا على ما يعادل ما فاتهم من المكسب في أيام البطالة، وكذلك لو اعتصب الفعلة على طلب علاوةٍ ثمانيةً في المائة واستمر ذلك أربعة أسابيع لم ربحوا شيئًا في آخر السنة، وقد يحدث غالبًا أنه يحصل بعض تعديلاتٍ جديدةٍ في الأجور قبل أن تعوض الخسائر الأخيرة، فيكون حينئذٍ مثل اعتصاب العَمَلة الذي ينجح كمثل قضيةٍ مكتسبةٍ لا تخلو من الخسائر.» فلو تذكرنا أن أكثر اعتصابات العَمَلة لا تجدي نفعًا، وأنها في هذه الحالة لا تعود إلَّا بالخسارة العظيمة على العموم، وأنها لو صادفتها العناية ونجحت لكان من المحتمل أن تأتي هذه الزيادة تدريجيًّا بدون بطالةٍ ولا تعطيلٍ في الشغل، وأن الخسارة لا تنتهي فقط بضياع الأجور، بل بإحداث ضررٍ لصاحب المعمل في مصالحه ورأس ماله، وهذا الضرر لا تعود سوء عقباه دائمًا إلَّا على العَمَلة أنفسهم، لما كان هناك أدنى ريبةٍ في أن اعتصاب العَمَلة إنما تنتج عنه كلُّ مضرةٍ وخسران. وخلاصة القول أن اعتصاب العَمَلة على العموم ضربٌ من الجنون والهذيان.
(٦) التهديد في الاعتصاب
ليس للمعتصبين من العَمَلة أدنى حقٍّ في منع عَمَلة آخرين عن أخذ محلهم، بحيث لو وُجِدَ أناسٌ خالون من الخدمة وكانوا مستعدين للقيام بالعمل بأجرةٍ أقل لعادت الفائدة على العموم ما عدا المعتصبين؛ لأن المسألة مسألة عرضٍ وطلبٍ، وصاحب المعمل له الحق في تشغيل عمله بأقل قيمةٍ ممكنةٍ؛ إذ لو ظهر له فريقٌ من العمال يقبل العمل بأجرةٍ أقل لكان من العبث عدم قبوله، وقد يحدث أن المعتصبين من العَمَلة يحاولون منع العَمَلة الآخرين عن أخذ محلهم حتى لقد يستعينون كثيرًا على ذلك بالتهديد والوعيد، ومثلهم في هذه الحالة كمثل من يطلب صناعة محل بصفة حق له بدون أدنى مسوغٍ قانونيٍّ؛ إذ لا يكون اعتصاب العَمَلة قانونيًّا إلَّا إذا أجمعوا على استحسانه، وأمَّا إذا شرع أحد المعتصبين في تهديد العَمَلة الآخرين أو منعهم عن الشغل فإنه يرتكب جريمةً بتقييد حريتهم الشخصية، ويسبب ضررًا للعموم، فللإنسان الحرية في الإحجام عن الشغل، ولكن من الضروري أيضًا حفظ الحق للآخرين في الإقدام على العمل إذا حسن لديهم، فهذه الأحكام لا يسري مفعولها فقط على العَمَلة، بل يسري أيضًا على أرباب المعامل؛ إذ لا يسوغ البتة لصاحب المعمل الذي يطرد عماله أن يهدد أرباب المعامل الآخرين ويلزمهم باتباع خطته، وأمَّا لو هدد بعض أرباب المعامل بإحداث مضرةٍ لمن لا يريدون قفل ورشهم عوقبوا أشد عقوبة، ولكن هذه الحالة نادرٌ حصولها، فاعتصاب العَمَلة وطردهم لا يكونان قانونييْنِ إلَّا إذا كان الغرض منهما التجربة ومعرفة ما إذا كان ممكنًا تغيير الأجرة أو بعض الشرائط الأخرى للعمل.
فإذا شكا عمال حرفة من قلة أجورهم برهن لهم الاعتصاب على صواب شكواهم من عدمه، فمثلًا لو رُئِيَ أن أرباب المعامل غير قادرين على وجود عَمَلةٍ أكْفاء بهذه القيمة نفسها لالتزموا بزيادتها، ولكن لو أمكنهم الحصول على آخرين بالقيمة الأصلية لكان ذلك برهانًا على أن هؤلاء المعتصبين كانوا في غرورٍ؛ لأن أجورهم كانت مناسبةً لحالة التجارة، وكل ذلك إنما هو مسألة عرضٍ وطلبٍ، فمثل من يضربون عن العمل كمثل من يكون لديهم شيءٌ من البضائع في مخازنهم ويرفضون بيعه طمعًا في الحصول على ثمنٍ جيدٍ، فإذا كانوا بهذا الفعل مغرورين وجب عليهم الصبر على ما يلاقونه تلقاء ذلك من الخسائر، وأمَّا من سمحوا بالبيع في الوقت المناسب فقد حصلوا من بضائعهم على الربح الكافي. ومن البديهي أنه ليس من المباح لأي تاجرٍ أن يهدد أو يمنع زملاءه عن البيع لأيٍّ كان، واتحاد التجار في شأن البيع لا يخلو عن الاعتراض؛ لأنه بمثابة اتحاد على سرقة الجمهور، فالذي يجب علينا مراعاته هو كلُّ ما فيه صالح الأمة بأسرها، وهذه الغاية لا تُدرَك إلَّا بإطلاق الحرية للناس في المزاحمة، وبيع البضائع بأبخس الأثمان.
(٧) في احتكار شركات العَمَلة
لا مشاحة في أن العَمَلة في بعض الحِرَفِ يستطيعون باتحادهم الفوز برفع أجورهم إلى ما فوق العادة؛ لأن الأجور كأثمان السلع تتقيد بقوانين العرض والطلب، وعليه فإذا أمكن تقليل عدد صناع القبعات لقلَّت كمية المصنوع من هذا النوع، وارتفع ثمنه، وطلب هؤلاء الصناع أجورًا عاليةً لا يتسنى لهم الحصول عليها في وقتٍ آخر، وكثيرٌ من الشركات تحاول تحديد كمية المصنوعات؛ وذلك بقبول عددٍ مخصوصٍ من التلامذة «الصبيان»، ويأبون الشغل مع كلِّ مَنْ لم يمارس هذه المهنة، ومن المحتمل أن يُكَلَّل هذا المشروع بالنجاح متى كانت المهنة قليلة الأهمية، وكانت الشركة قويةً، فبهذه الوسيلة تصبح المهنة محتكرةً، ويحصل صناعها على أجورٍ وافرةٍ؛ وذلك بمبيع ما يستنتج منها للجمهور بأثمانٍ مرتفعةٍ، فبهذه الطريقة كأنهم يحصلون ضريبةً من الأهالي بما فيهم عمَّال الكارات الأخرى، فهذه الطريقة إذن طريقة طمعٍ وفسادٍ، ويجب على ولاة الأمور أن يعملوا كل الوسائط الفعالة في تثبيط همم هؤلاء المحتكرين، الذين مع توالي الأيام يكونون ضربةً قاضيةً على العَمَلة؛ لأن جميع أرباب الحِرَفِ يحاولون حينئذٍ الاقتداء بمَنْ نجحوا في مساعيهم، ولما يرى أن بين صناع القبعات ارتباطًا زائدًا، يجتهد صناع الأحذية والخياطون وأرباب الحِرَف الأخرى في توحيد كلمتهم وحصر عدد الأشخاص المتدربين منهم، ولو نجح هؤلاء في مشروعهم لكانت النتيجة وخيمةً؛ لأنهم يحاولون وقتئذٍ أن يغتنوا، وذلك إنما يفضي إلى وقوع الجميع في الفقر؛ لأنه إذا أمكن إثراء مهنةٍ واحدةٍ بأضرار المهن الأخرى لا يمكن إثراء كلِّ المهن بانتهاج هذه الخطة.
ولا شكَّ أن العَمَلة يتوهمون أنه إذا زِيدت أجورهم فالزيادة تكون من مواليهم، ولكن هذا الوهم خطأٌ محضٌ؛ لأن أرباب المعامل لا يتسنى لهم الاستمرار على هذه الأحوال ما لم يرفعوا ثمن سلعهم، وبذلك يأخذون من الشاري قيمة زيادة الأجور التي يدفعونها، بل لا بدَّ لهم من إيجاد مبلغٍ يقابل الخسائر التي تنتج من اعتصاب العَمَلة في بعض الأحيان وإيقافهم للأعمال، فالمشترون هم الذين يدفعون قيمة الزيادة، نعم إن الموسرين قد يدفعون جانبًا منها، إلَّا أن العَمَلة يتحملون الجزء الأعظم، فنتيجة احتكار شركات العَمَلة تكون في الغالب مضرةً بالعَمَلة أنفسهم؛ لأنها تعود بالفائدة على بعض الأفراد منهم، وبالمضرة على أكثرهم، وذلك لكون تقييدهم وحبس حريتهم يمنعانهم عن الاشتغال بالأعمال التي توافقهم، فمن أسعدهم الحظ منهم تحسنت حالتهم، وساءت أحوال إخوانهم، والاعتصاب الذي يحصل لاستمرار الاحتكار ينقص من المبلغ المخصص للأجور.
(٨) في جمعيات العَمَلة الصناعية
قد ينتحل أنصار شركات العَمَلة سببًا يسوِّغ وجودهم، وهو كون المحامين والأطباء وغيرهم لهم جمعياتٌ تماثل شركات العَمَلة، وكأني بالعَمَلة يقولون كغيرهم ممن تقدموا: إننا نؤسس شركاتٍ كما تفعلون أنتم، ولَعَمْر الحق إن هذا المستند ضعيفٌ؛ لأن الإنسان المخطئ لا يسوغ له أن ينتحل عذرًا من وجود أناسٍ غيره واقعين في الخطأ عينه، وإنا نسلِّم أن كثيرًا من نظامات المحامين لا تفضل على نظامات شركات العَمَلة، فمن ذلك إلزام المحامي الجديد بالحضور في بعض الولائم، ومنعه عن قبول أية قضيةٍ نقصت قيمة أتعابه فيها عن مبلغٍ معلومٍ، وإلزامه بأن يكون في مكتبه وكيلٌ يتوسط بينه وبين أرباب القضايا، وأن يكون عنده شابٌّ تحت التمرين، وغير ذلك من الاشتراطات التي غايتها زيادة المكسب.
ولو أن هذه الجمعيات تحتاج إلى جملة إصلاحاتٍ إلَّا أنها لا تخلو من المزايا، فإنها تمنع كثيرًا من الغلطات التي أسندناها إلى شركات العَمَلة، فإن عدد الأعضاء الذين ينتظمون في سلكها ليس محددًا، فكل إنسانٍ اشتهر بحسن السيرة وتحصل على المعلومات الكافية يمكنه اتخاذ حرفة المحاماة مثلًا، نعم لا يقبل الآن في الحِرَف القضائية والطبية وغيرها إلَّا من قدَّم امتحانًا في مواد معلومةٍ، إلا أن المقصود من ذلك ليس إلَّا تخصيص المهرة من الناس للقيام بالأعمال التي تهم العموم.
ومما يميز هذه الجمعيات عن غيرها هو كونها لا تتعرض مطلقًا للحجر على حرية أعضائها بمنعهم عن كثرة الجد في كل العمل، وتأدية ما في استطاعتهم القيام به من الأعمال التي تعود بالنفع على العموم.
(٩) أوهامٌ متداولةٌ بشأن العمل
(١٠) الشغل بالمقطوعية
تسعى بعض شركات العَمَلة في أن لا يشتغل أعضاؤها بالمقطوعية، بمعنى أنها تمنعهم عن قبول أجورٍ محددةٍ بالنسبة للقدر الذي يشتغلونه، وتحرضهم على التمسك بالأسلوب المعتاد الذي تُحَددُ الأجرة فيه بالنسبة للزمن الذي يمضونه في القيام بالعمل، ومن المعلوم أن العامل الذي يكتسب فرنكًا واحدًا في الساعة مثلًا — سواء أسرع في الشغل أو أبطأ — من مصلحته الاشتغال ببطءٍ ما دام لا يبالغ في الكسل إلى حدٍّ يستلزم طرده، ومن المعلوم أيضًا أن من يشتغل بالمقطوعية ينجز أعمالًا أكثر ممن يشتغل بالساعة، فمن المستحسن إذن التشغيل بالمقطوعية إذا أمكن مقياس العمل بالضبط، وبذلك يكتسب العامل أجرةً عاليةً؛ لأن منفعته تحمله على الجد في العمل، وهو يستحق في الغالب الأجرة التي تدفع له، ومع ذلك فشركات العَمَلة تعارض في بعض الأحيان أسلوب العمل بالمقطوعية، محتجةً بأن هذا الأسلوب يكلف العامل الإفراط في العمل فيضر بصحته، وهو احتجاجٌ باطلٌ؛ إذ المفروض عمومًا أن كلَّ إنسانٍ قادرٌ على العناية بصحته، ومن الشواهد على ذلك أنه توجد صنائع ومهنٌ عديدةٌ تنقد العَمَلة فيها باعتبار العمل بالمقطوعية، ومع ذلك لم تقم من بينهم شركاتٌ لمنعهم من التهالك على العمل، وإذا كان ثَمَّةَ شيءٌ يُخشى منه فإنما يكون تهاملهم وتكاسلهم، ولو دققنا البحث في الأسباب التي تحمل العَمَلة على عدم رضاها بالشغل بالمقطوعية، لوجدنا أنها تخشى من هذه الطريقة؛ لأن بواسطتها تعمل الأشغال بسرعةٍ، وهي تعتقد أن في ذلك خسارةً على بعضهم، وقد سبق أجبنا على هذا الاعتراض، وبيَّنَّا أن القصد من العمل إنما هو نتيجته، وأنه كلما كثرت المتحصلات كلما ارتفعت الأجور، أما أعضاء شركات العَمَلة فيقولون — وكأنهم مخلصون: إنه لا يجب أن عاملًا يشتغل كثيرًا فيحرم إخوانه من العمل، ولكنهم لا ينظرون إلى الألوف من العَمَلة الذين لا يكتسبون إلَّا أجورًا واهيةً، ولا يمكنهم ازديادها ما داموا متمسكين بمبدئهم، فإذا أردنا أن نزيد في ثروة الأمة عمومًا لوجب على كلٍّ منَّا أن يعمل ما في وسعه لإحداث الثروة، وأن لا يغبط الآخرين الذين منحتهم العناية الإلهية خاصياتٍ لم نفز بها، فنجحت مساعيهم أكثر منَّا، فقد يندر وجود إنسانٍ يحدث ثروةً ولا يعود نفعها إلَّا عليه، بل في الغالب يعمُّ نفعها على الهيئة الاجتماعية، فإن نتيجتها يكون تنقيص أثمان الأشياء التي يحتاج إليها الإنسان أو تسهيل مشاق العمل.
(١١) الأوهام التي نشأت بشأن المساواة
كثيرًا ما يظهر عَملة العامل عدم ارتياحهم من النابغين بينهم، وذلك لسببين؛ الأول: توهمهم أنه إذا قام أحد العَمَلة وجدَّ في عمله ربما أحرم كثيرين من الشغل. والثاني: لما جُبلوا عليه من الغيرة والحسد. ولو أنعمنا النظر لوجدنا أن هذه الإحساسات ليست قاصرةً على العَمَلة، وكل مَنْ يتروى في حالة الهيئة الاجتماعية يأسف كل الأسف من رؤيته العدد القليل من الناس في ثروةٍ واسعةٍ، والسواد الأعظم في فاقةٍ شديدةٍ، وقد يسوء ظنُّ البعض في القوانين التي لا تعارض هذه الاختلافات، على أن القوانين ليس لها في ذلك من ذنبٍ، وأحزاب المساواة يقولون: إن بني الإنسان يُولدون أحرارًا ومتساوين، ومن الصعب الموافقة على كونهم يولدون أحرارًا؛ لأنهم يمضون أعوامًا عديدةً وهم في احتياجٍ إلى مساعدة والديهم، ولو سلمنا أنهم يصيرون أحرارًا عندما يبلغون سنَّ الرشد، لا نسلِّم بأنهم متساوون؛ لأن بعضهم يكون قوي البنية متمتعًا بالصحة التامة وعلى جانبٍ عظيمٍ من النشاط والذكاء، وبعضهم ضعيف عديم الهمَّة، ولا تأثير للقوانين على هذه الاختلافات؛ إذ لا يُتصور أن قانونًا يقوي بنيةً ضعيفةً، فهذه الاختلافات تكون سببًا في أن بعض الناس يكتسبون أكثر من غيرهم، ولو فرضنا ألف إنسانٍ بين رجلٍ وامرأةٍ نبغ من بينهم البعض واشتهروا بالكفاءة وقوة الاختراع، فبالجد والثبات مع الأهلية اخترعت آلات الخياطة والتلغراف والتلفون وغيره مما عاد بالفوائد العظمى على النوع الإنساني بأسره.
نتج لنا إذن من جميع ما تقدم أن المنفعة العمومية تقضي بتنشيط من ظهر استعدادهم لنفع الهيئة الاجتماعية، وذلك بمنحهم البراءات وحفظ حقوق المؤلفين منهم؛ لأننا إذا ثبطنا هممهم أو منعناهم عن الأعمال التي يميلون إليها بمدِّ العراقيل والصعوبات أمامهم كان ذلك سببًا في التقهقر؛ لأن كلَّ مجتهدٍ في عمله ساعٍ وراء الاختراع يسعى في تحسين حالته وحالة أمته؛ لأنه يبين لها طرق زيادة الثروة وتسهيل العمل.
وما قلناه ينطبق على الاختراعات المهمة كما ينطبق على كلِّ تحسينٍ ما، فلو وُجدت طريقةٌ يمكن بواسطتها نقل كميةٍ عظيمةٍ من القرميد اللازم للبناء وجب استعمالها، فإن ما يجب مراعاته في هذه الحالة إنما هو منفعة أصحاب الأشغال؛ لأن كلَّ ما يزيد في صعوبة البناء أو في نفقته، يكون سببًا في إلزام الناس بالسكنى في محلاتٍ غير لائقةٍ، وربما لو أُدخلت الطرق المسهلة تحسنت هذه الحالة.
ولا يمكننا التحصل على أشياء جيدةٍ وبثمنٍ بخسٍ إلَّا إذا اشتغل كلُّ إنسانٍ بما في وسعه، وزاده انتظار المكافأة نشاطًا، فيجب إذن التصريح لكلِّ إنسانٍ بالاشتغال بكلِّ ما يريد، وبالتحصل على كلِّ ما يمكنه من المكاسب، بل ومن الواجب مساعدته وتنشيطه؛ ولذلك لا يجب التذمر من عدم المساواة في الثروة؛ لأن الإنسان الذي يبتدئ في الثروة يتوفر عنده رأس مالٍ ويزداد حذقًا ومهارةً، فيسهل عليه زيادة ثروته، ومع ذلك فلا حقيقة للقول بأن الذين يكتسبون كثيرًا يحرمون غيرهم، فإن الأغنياء بتراكم أموالهم وبإنشائهم للمعامل والطواحين والبيوتات والسكك الحديدية، وبتنظيمهم للحِرَف يشغلون الألوف من العَمَلة وينقدونهم أجورًا يصعب عليهم التحصل عليها من طريقٍ آخر، على أن أرباح أصحاب الأموال ليست في الغالب إلَّا جزءًا صغيرًا بالنسبة للمبالغ الجسيمة التي يصرفونها أجورًا لعملتهم، فضلًا عن كونهم لا يمكنهم أن يزيدوا في ثروتهم إلَّا إذا دفعوا أجور العَمَلة حتى يتسنى لهم أن يعيشوا عيشةً راضيةً.