النظرية الاقتصادية للسيطرة على التلوث بفعالية
لنبدأ استعراضنا للاقتصاد البيئي عن طريق الطرح المباشر للسؤال الذي يميز المنهج الاقتصادي عن العديد من الرؤى غير الاقتصادية: «ما مستوى التلوث الذي ينبغي أن يتقبله المجتمع؟» أو دعونا نطرح سؤالًا شبيهًا لكنه أقل استفزازًا: «ما مستوى الموارد التي يجب أن نخصصها من أجل تقليل — أو «خفض» — التلوث؟»
قد تبدو إجابة هذين السؤالين بسيطة في نظر البعض. فالتلوث ضار وغير مرغوب فيه، ويجب أن يرغب أي مجتمع متحضر في إيجاد الموارد اللازمة للقضاء عليه تمامًا. لكن لنجعل السؤال أكثر تحديدًا: إذا كان سعر مكافحة التلوث هائلًا، فإلى أي مدى ينبغي أن نمضي قدمًا؟ يتطلب الوصول إلى بيئة أنظف دفع تكاليف، من حيث الموارد المستخدمة في تركيب أجهزة مكافحة التلوث وتشغيلها، والتكاليف الأعلى المترتبة على إنتاج سلع نظيفة عوضًا عن البدائل الأرخص، وهكذا. يُتوقع أن ترتفع بعض هذه التكاليف بحدة كلما زاد حرصنا على محاولة السيطرة على التلوث. فهل لا يزال أي مستوى من التلوث مرفوضًا حتى وإن كان القضاء على التلوث سيتكلف مبالغ طائلة؟
مجددًا، قد يود البعض تجنب الإجابة على السؤال، عن طريق التشكيك في حيثياته. هناك من يؤكدون أحيانًا أن السياسات البيئية الأكثر صرامةً ستثمر منافع اقتصادية عن طريق توفير فرص عمل، أو دعم الابتكار والنمو الاقتصادي، أو تحفيز أداء التصدير في الشركات التي تصنع أجهزة مكافحة التلوث. يحمل كل من هذه الحجج شيئًا من الحقيقة، لكنها جميعًا ليست حججًا قوية بالقدر الكافي بما يسمح لنا بالتهرب من السؤال الجوهري: في الحالات التي تتطلب فيها إجراءات مكافحة التلوث تكلفة عالية، ما هي التكلفة التي لدينا استعداد لدفعها؟
إجابة خبراء الاقتصاد
ستتضمن إجابة خبراء الاقتصاد على هذه الأسئلة بطبيعة الحال تقييمًا لتكاليف كل جنيه يُنفَق على مكافحة التلوث ومنافعه: «هل تشتمل الإجراءات الإضافية لمكافحة التلوث على منافع تفوق تكاليفها أو تقل عنها؟» وتشمل التكاليف تكاليف أجهزة مكافحة التلوث وتكاليف تغيير السلوك؛ في حين تشمل المنافع مجموعة من التأثيرات على صحة الإنسان وجودة الحياة.
ليست جميع هذه التكاليف والمنافع سهلة القياس، وحتى عندما تتوفر تقنيات للقياس، فقد تكون غير دقيقة أو خلافية. (يتناول الفصل الرابع مسألة القياس بمزيد من التفصيل، ويستعرض بعض هذه المسائل الخلافية.) غير أنه يمكننا حاليًّا استيعاب إجابة خبراء الاقتصاد جيدًا، بدون استعراض كامل للأساس الذي تُقاس عليه التكاليف والمنافع. ويمكننا رغم ذلك الإشارة إلى ملاحظتين أوليتين.
الملاحظة الأولى هي أنه بتقييمنا الحجة الداعية لمكافحة التلوث من حيث تكاليفها ومنافعها، فإننا لا نقيِّد بشكل غير مباشر نطاق الاعتبارات المؤثرة في التحليل. يحتاج هذا التقييم في الأساس إلى مراعاة كل التكاليف والمنافع ذات الصلة، دون الاقتصار على تلك التي تشمل تداول الأموال. يقوم علم الاقتصاد على القيم، وليس فقط على إمساك الدفاتر المالية. تمثل التأثيرات على الصحة والقيم الجمالية في النظرة الاقتصادية لمكافحة التلوث القيمة نفسها التي تمثلها — على سبيل المثال — تكاليف تركيب مرشحات التلوث التي تتكبدها الشركات، أو ما تمثله تكاليف تنظيف البيئة الملوثة التي تتحملها المجالس المحلية.
أما الملاحظة الثانية، ففي حين يهدف التحليل الاقتصادي إلى أن يكون شاملًا، فإنه يستخدم المال رغم ذلك مقياسًا للقيمة، وهي سمة تُفسر كثيرًا — تفسيرًا خاطئًا — على أنها تعني أن بعض التكاليف والمنافع أهم من غيرها. يُوصف النهج الاقتصادي أحيانًا بأنه لا يُعنى إلا بتكاليف العمل وأرباحه، ولا يهتم بتأثير التلوث على جودة حياة المواطنين العاديين. وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة! يكرس أغلب علماء الاقتصاد البيئي طاقاتهم في سبيل ابتكار طرق لتقييم تلك التأثيرات التي تقع خارج نطاق معاملات السوق المعتادة تقييمًا وشاملًا. لكن لا يزال الافتراء قائمًا؛ وسنحتاج إلى معاودة تناول هذه المشكلات عن كثب في الفصل الرابع.
ومن ثم، دون الحاجة إلى أن يكون القارئ قد اقتنع بالضرورة بأن تقييمنا للتكاليف والمنافع يمكن حقًّا أن يكون شاملًا، أو بأن كل هذه التكاليف والمنافع يمكن أن تُترجم على نحو مقبول إلى قيم نقدية، دعونا نستعرض تأثيرات هذا التوجه الفكري بدءًا من أبسط سياق ممكن. تصور مثلًا وجود مشكلة تلوث بيئي في منطقة بعينها، وربما يكون مصدره مدخنة أحد المصانع التي تنفث الدخان وغيره من الملوثات في بيئة المنطقة. يمكن مكافحة التلوث عن طريق تركيب تقنية لخفض التلوث تقوم بالفعل بترشيح المخلفات الصادرة من المدخنة وتزيل جزءًا من النفايات السائلة. تتيح تقنية خفض التلوث الترشيح الفعال إلى حدٍّ ما للنفايات السائلة، لكن انبعاث نفايات أنظف يتحقق مقابل تكلفة أعلى. ويمكن أن نفكر ربما في الحاجة إلى مرشحات أكبر أو أكثر تطورًا، أو في تكاليف تشغيل أعلى إذا كانت عملية تنظيف النفايات السائلة ستزيل نسبة أعلى من النفايات السائلة المسببة للتلوث. سيترتب على ذلك أن نواجه مجموعة من الاحتمالات الخاصة بالنسبة المئوية لتخفيض التلوث، وليس مجرد قرار ينطوي على أحد خيارين لا ثالث لهما: «نعم أم لا؟» يمكننا خفض التلوث بدرجة أكبر لكن ذلك سوف تقابله تكاليف أعلى.
ومقابل تكاليف الخفض التي تهدف لمكافحة التلوث، نقيس منافعها من حيث تقليل الأضرار الناجمة عن التلوث. وإذا خاطرنا بالتقليل من شأن مسائل جوهرية غالبًا مثل صحة الإنسان ورفاهيته، لنفترض أن الضرر الناجم عن التلوث في هذه الحالة يتخذ فحسب صورة القذارة التي تسبب التآكل، والتي تؤدي إلى تدهور حالة المركبات والمنشآت وغيرها من الممتلكات. وكلما ارتفع مستوى الانبعاثات، ارتفع معه مستوى الملوثات ومستوى الضرر. وعلى النقيض من ذلك، يؤدي تخفيض الانبعاثات بنسب مئوية مرتفعة إلى استفادة أعلى بالتوازي من حيث تجنُّب الأضرار الناجمة عن التلوث.
يمكننا حينها أن نسأل عن درجة مكافحة التلوث التي ستعظم من إجمالي المنفعة الصافية التي تعود على المجتمع مع مراعاة كلٍّ من التكاليف التي تتحملها الشركة والمنافع التي تعود على السكان المحليين من حيث تقليل الضرر الناتج عن التلوث. انطلاقًا من موقف أوَّلي غير مشروط يقوم فيه المصنع بضخ أي قدر يشاء ضخه من النفايات السائلة، يمكننا التفكير في نتائج كل خطوة من الخطوات المتعاقبة للحد من الانبعاثات، وعند كل مستوى من المستويات المتتالية من مقياس مكافحة التلوث، يمكننا أن نتساءل عما إذا كان الخفض الإضافي يمنح منافع إضافية كافية لأن تبرِّر تكبُّد التكلفة الإضافية.
الفكرة الرئيسية التي نخرج بها من هذا النهج هي أن إجمالي المنفعة الصافية التي تعود على المجتمع من مكافحة التلوث سوف تزداد إلى حدها الأقصى (شريطة وجود مؤهلات معينة يمكننا توضيحها فيما بعد) على مستوى الخفض عندما تتساوى تكلفة الخفض الحدية مع الضرر البيئي الحدي. لنفترض أن تكاليف الخفض الحدية ترتفع مع زيادة مكافحة التلوث، وهو ما سيحدث بطبيعة الحال إذا بدأنا بإنجاز المهام الأرخص. (دعونا نفترض الآن أيضًا أن الضرر البيئي الحدي ثابت مقابل كل وحدة من وحدات التلوث، أو بعبارة أخرى أن كل طن من المواد المسببة للتلوث يسبب القدر نفسه من الأضرار.) بذلك سيكون الطن الأول من خفض التلوث مرغوبًا فيه اجتماعيًّا إذا كانت الاستفادة (من حيث تجنب الضرر البيئي الحدي) تتجاوز تكلفة الخفض الحدية. وهكذا بالنسبة للطن الثاني من الخفض إلى أن نصل إلى نقطة ترتفع عندها تكلفة الخفض الحدية حتى تتساوى مع الضرر البيئي الحدي. وقبل أن نصل إلى هذه النقطة، تكون كل وحدة إضافية من وحدات خفض التلوث مبررة اجتماعيًّا، بمعنى أن التكاليف الإضافية المدفوعة أقل من المنافع الإضافية المكتسبة، مما يزيد صافي الاستفادة التي يحصل عليها المجتمع. لكن دفع خفض التلوث ليتعدى نقطة تساوي تكلفة الخفض الحدية مع تكلفة الضرر الحدي ينقلنا إلى مرحلة تكون فيها وحدات خفض التلوث الإضافية باهظة للغاية (أي إن تكلفة الخفض الحدية تتجاوز الضرر البيئي الحدي)، وهذا يعني أن تكاليف الخفض الإضافية تزيد على التخفيض الإضافي للضرر، مما يترتب عليه نقص رفاهية المجتمع. إذا سألنا عن مستوى مكافحة التلوث المقبول اجتماعيًّا فستكون إجابة خبراء الاقتصاد على النحو التالي: حتى النقطة التي تتساوى عندها تكلفة الخفض الحدية مع الضرر البيئي الحدي، ولكن ليس لأبعد من ذلك.
يسهل تشويه هذا المنظور بتفسيره على أنه من منطلق التقتير: في كل مرة يمكن فعل شيء في صالح البيئة أو اتخاذ إجراء لمنع الضرر البيئي، يظهر المختص بالاقتصاد ويقول: «كل هذا جميل، ولكن كم سيتكلف؟» هذا الاهتمام بالموازنة بين التكاليف والمنافع لا يرجع رغم ذلك إلى الانشغال بالحسابات أو بتقليل عبء الضرائب للحد الأدنى؛ ولا هو نابع من الخلط بين مفاهيم التكلفة والسعر والقيمة المختلفة عن بعضها اختلافًا كبيرًا. لكنه يعكس عوضًا عن ذلك اعترافًا بأن موارد المجتمع الإنتاجية محدودة، وبأن تخصيص موارد إنتاجية لنشاط بعينه يقلل الإنتاج المتوقع في باقي المجالات.
من وجهة نظر المجتمع، تكلفة الفرصة الضائعة في حالة بناء محطة جديدة لمعالجة النفايات السائلة لتقليل تلوث المياه قد تكون تحسين المدارس أو المشافي الذي يمكن تحقيقه عن طريق استهلاك نفس القدر من الموارد العامة، أو قد يكون الاستهلاك الإضافي الخاص الذي يمكن للناس أن يتمتعوا به إذا عادت عليهم الأموال الموفَّرة نتيجة عدم بناء محطة المعالجة في صورة ضرائب أقل. والمبدأ القائل بضرورة خفض التلوث — أو تحسين البيئة بصفة عامة — حتى الوصول للنقطة التي تتساوى عندها تكلفة الوحدة التالية مع الاستفادة التي تتحقق في المقابل — دون تجاوز هذه النقطة — يعكس ببساطة مبدأ أنه إذا استُخدمت الموارد الإنتاجية في نشاط ما فيجب أن تحقق على الأقل القيمة نفسها التي كانت ستحققها لو أنها استُخدمت لأغراض أخرى.
رسم بياني مفيد
يوضح الرسم البياني أن تكلفة الخفض الحدية تزداد بزيادة مستويات الخفض. ويحمل هذا في الواقع انتقادًا جوهريًّا للحُجة؛ ولكنه أيضًا معقول إلى حدٍّ ما، إذا كانت تقنيات الخفض يجري انتقاؤها بواسطة مديرين على مستوى عالٍ من الكفاءة معنيين بالتكاليف والأرباح. ستزداد تكاليف الخفض الحدية بالفعل بزيادة مستويات الخفض إذا اتُّخذت القرارات عن طريق تصنيف خيارات تكاليف الخفض من حيث تكاليف الخفض لكل طن، ثم تنفيذ مجموعة الإجراءات الأوفر من أجل تحقيق نتيجة الخفض المنشودة. علاوةً على أن مسار الضرر البيئي الحدي يزداد بانتظام بزيادة مستويات التلوث، وهذا مطلوب مجددًا إذا كان اختبارنا لتحقيق أقصى صافي استفادة للمجتمع يهدف دائمًا إلى التعرف الصحيح على الحد الاجتماعي الأمثل. ولا تشتمل بعض المشكلات البيئية على علاقة التزايد هذه بين الانبعاثات والضرر الحدي، وقد يحتاج التحليل في هذه الحالات إلى أن يكون أكثر تعقيدًا.
أجل، لكن هل هذا عادل؟
يختلف المنظور الاقتصادي لتنظيم التلوث والصور الأخرى من تنظيم الحماية البيئية اختلافًا كبيرًا عن المناهج الأخرى؛ سواءٌ تلك التي تركز فحسب على البيئة أم تلك التي تركز على حقوق الأفراد أو الإنصاف.
يراعي المعيار الاقتصادي لمستوى الموارد التي تُخصص من أجل خفض التلوث الأمور من حيث تكاليف الخفض والمنافع البيئية، لكن دون مراعاة كيفية توزيع هذه التكاليف والمنافع على أفراد المجتمع. فكثيرًا ما يستحق تكاليف الخفض والمنافع البيئية أفراد مختلفون.
ربما يتطلب الحد من الانبعاثات أن تنفق الشركات المسببة للتلوث على الخفض، في حين أن منافع خفض تلوث الهواء قد تعود على آخرين؛ فستعود على المواطنين الذين كانت صحتهم ستتعرض للضرر لولا ذلك، وعلى الهيئات العامة التي كان من المحتمل أن تضطر إلى إنفاق الموارد لتنظيف واجهات المنشآت التاريخية المدمَّرة، وعلى الشركات الأخرى التي كانت ستضطر لولا ذلك إلى تركيب مرشحات هواء باهظة حتى لا تصاب عمليات الإنتاج الحساسة بها بالضرر الناتج عن الأوساخ والمواد الكيميائية التي يحملها الهواء، وهكذا. يبدو أن المذنبين — وهم مسببو التلوث — مطلوب منهم أن ينفقوا المال للحد من الضرر الذي يلحقونه بضحاياهم الأبرياء؛ هل يمثل هذا بالفعل عدالة لا غبار عليها؟ لماذا إذن نتوقف عند نقطة تساوي تكلفة الخفض الحدية بالضرر البيئي الحدي؟ لماذا لا نطالب بأن ينفق مسببو التلوث المزيد من الأموال على أعمال التنظيف، ويخفضوا انبعاثاتهم متى كان ذلك في صالح ضحاياهم الأبرياء؟
يستطيع خبير الاقتصاد الرد بثلاث نقاط:
أولًا، الصورة التوضيحية بسيطة للغاية، ويتصادف أنها تقدم نمط التكاليف والمنافع بطريقة تتماشى بالتأكيد مع نمط الذنب والبراءة. ليس كل مسببي التلوث مؤسسات تجارية لا تُعنى بالأفراد وتضر بالمواطنين دون أن تبالي سعيًا وراء الربح. في واقع الأمر، يساهم مستهلكو السلع التي تنتجها الشركات المسببة للتلوث بشكل أو بآخر في الضرر البيئي عن طريق قرارات الاستهلاك التي يتخذونها. قد نكون جميعًا مسببين للتلوث وضحايا أيضًا لعواقبه. إضافةً إلى أننا نتحمل جميعًا — إلى حد ما — أيضًا تكاليف إجراءات الخفض. سوف تُضاف تكاليف خفض التلوث إلى أسعار المنتجات؛ فكلما طلبنا بصفتنا أفرادًا في المجتمع من الشركات المسببة للتلوث في صناعة ما أن تكافح التلوث، ارتفعت الأسعار التي ندفعها لنشتري منتجاتها. فعلى سبيل المثال، قد ترتفع أسعار المنتجات كثيفة الكربون لتعكس تكلفة تقليل الضرر الذي يلحق بالمناخ العالمي بسبب إنتاجها (وسيمثل انخفاض الاستهلاك بسبب الأسعار آلية أساسية لتقليل «بصمتنا الكربونية»). يوجِّه التفكير في الخفض من هذه الجوانب السؤال بطبيعة الحال نحو التكاليف والمنافع الإجمالية: ما الذي نجنيه جميعًا من منافع بيئية مقابل التكاليف التي نتحملها جميعًا؟
ثانيًا، لا «يُقصد» بهذا المعيار معالجة مشكلات العدالة الاجتماعية أو تحديد نتيجة عادلة اجتماعيًّا. إنه ببساطة يحدد مستوى «كفاءة» الإنفاق على الخفض، بالمعنى المحدد الذي يستخدمه خبراء الاقتصاد لمفهوم الكفاءة؛ أو بعبارة أخرى مستوى الإنفاق الذي يحقق أقصى «إجمالي منافع صافية» من الموارد المستخدمة. هب أن سبب المشكلة هو أن ورش الفقراء تلوث المتنزهات الترفيهية للأغنياء؛ فلا نزال نستطيع تحديد مستوى خفض يتسم بالكفاءة، حيث تتجاوز الاستفادة التي تتحقق تكاليف الخفض التي يتحملها الملوثون بمراحل، لكننا في هذه الحالة سنكون أقل رضا بتحميل عبء التنظيف للملوثين «المذنبين». ولربما نود دراسة مسألة التوزيع العادل للتكاليف والمنافع بمعزل عن العوامل الأخرى، وفي ضوء النمط الشامل للدخل والثروة في المجتمع، وليس فقط توزيع الأرباح التي تدرها السياسات البيئية.
ثالثًا، سيقول خبير الاقتصاد بأن المبادئ البيئية التي لا تراعي التكلفة لن تجدي في النهاية في معالجة بعض المشكلات البيئية الأكثر إلحاحًا وصعوبة والتي يواجهها المجتمع. فإذا كانت حياة البشر بأسرها والنشاط الاقتصادي كله ينطويان على نسبة معينة من الضرر البيئي، فقد نعجز عن القضاء على التلوث والضرر البيئي كله دون إيقاف الأنشطة الاقتصادية جميعها. ومن ثم، نحتاج إلى معيار ما ليكون مرشدنا إلى إجراءات عملية، ونقدِّر استنادًا إليه مستوى التضحية الاقتصادية التي سنكون مستعدين لتحملها في القطاعات الأخرى من النشاط البشري، حتى نتجنب المستويات غير المقبولة من الضرر البيئي. بالطبع يمكن التفكير في طرق أخرى للموازنة بين التكاليف والمنفعة، لكننا لا نستطيع أن نتجنب ضرورة وضع حد عند مستوى معين.
لا نقصد بهذا أن ننكر بأي صورة أهمية مشكلات العدالة الاجتماعية على وجه العموم، أو ما يتعلق بالسياسة البيئية. فبعض من أهم هذه المشكلات يتعلق عمليًّا بتوازن المصالح بين الأغنياء والفقراء. حيث تفرض على الأقل بعض المشكلات البيئية أعباءً معينة على الفقراء، وعادة تكون الأحياء الأفقر أكثر تلوثًا من الأماكن التي تعيش فيها العائلات الثرية. ترجع أغلب أسباب هذا إلى أن الأثرياء يستطيعون تحمل نفقات الانتقال إلى أحياء أرقى وأنظف، وإذا قبلنا ضرورة وجود المصانع أو محطات الطاقة أو مجمعات القمامة أو محارق المخلفات، فالمرجح أن الأشخاص المستعدين للعيش إلى جوارها سيكونون هؤلاء الذين لا يملكون المال للانتقال إلى أي مكان آخر. تكمن المشكلة إلى حد كبير في الفقر بصفة عامة، وليس الفقر البيئي بصفة خاصة، وربما تكون الحلول وثيقة الصلة بالتوزيع الكلي للدخل كما هي بتوجيه التحسينات البيئية لمصلحة الفقراء.
حجة كوز المضادة
لكن هل قطعنا بالفعل شوطًا كبيرًا في زعم أننا وضعنا أساسًا اقتصاديًّا للتنظيم البيئي؟ في بحث خارج عن المألوف نُشر في مستهل ستينيات القرن الماضي بعنوان «مشكلة التكلفة الاجتماعية»، اعترض رونالد كوز على الرأي التقليدي القائل بأن مشكلات التلوث تتطلب تدخلًا تنظيميًّا من قِبل الحكومات. قدم بحثُه زعمًا مدهشًا مفاده أنه — في ظل ظروف معينة — يمكن معالجة مشكلات التلوث وغيرها من التأثيرات الخارجية معالجة كاملة عن طريق التفاوض الفردي بين الأطراف المعنية دون الحاجة إلى أي تدخل للسياسات الحكومية على الإطلاق.
وما عُرفت فيما بعد بنظرية كوز تحدد الشروط التي بموجبها يمكن أن يحقق التفاوض بين مسبب التلوث وضحايا التلوث المستوى المنشود اجتماعيًّا من خفض التلوث، نتيجةً لتفاوض طوعي بالكامل. علاوةً على هذا، زعم كوز أنه يمكن تحقيق هذا بغض النظر عن الطريقة التي يوزع بها القانون الحقوق بين مسببي التلوث والمتضررين منه. قد لا يضع القانون أي قيود على التلوث، أو قد يمنح المواطنين بدلًا من ذلك حقوقًا نافذة قانونًا ليصروا على خفض التلوث إلى الصفر، إذا أرادوا ذلك. في أي من الحالتين، يرى كوز أن هذه التخصيصات للحقوق القانونية تحدد ببساطة نقطة البداية لمفاوضات محتملة بين مسببي التلوث وضحاياه ربما تستطيع تحقيق نتيجة أفضل من نقطة البدء الأولية لكلا الطرفين.
في حالة التفاوض الطوعي، لن يوافق كلا الطرفين إلا على الصفقات التي تمثل تطورًا عن نقطة البداية. وعندما لا يواجه المتسبب في التلوث أي قيود قانونية، سيحتاج الضحايا إلى عرض دفع مبلغ لإقناعه بتخفيض انبعاثاته، وإلا فلن يكون هناك سبب يحث مسبب التلوث على الموافقة. رغم ذلك، إذا كان الضرر الذي يعانيه الضحايا كبيرًا، فقد يرغبون بشدة في عرض دفع مثل هذا المبلغ، وإذا كانت تكاليف الخفض التي يتحملها مسبب التلوث منخفضة، فقد يوافق أيضًا مسبب التلوث على هذا المبلغ. وإذا سلك كلا الطرفين طريق التفاوض سعيًا إلى الحصول على أفضل اتفاق ممكن، فستتوافق النتيجة تمامًا مع الحد الاجتماعي الأمثل الذي أشرنا إليه سابقًا، حيث ينخفض التأثير الخارجي إلى النقطة التي تتساوى عندها تكلفة الخفض الحدية وتكلفة الضرر البيئي الحدي.
عندما تتساوى الحجة والحجة المضادة، ستكون هناك فرصة لإجراء مفاوضات مفيدة لكلا الجانبين بدءًا من نقطة أن يحظى المواطنون بالحق في عدم التعرض للضرر الناتج عن تأثير التلوث الخارجي. في هذه الحالة، سيضطر مسبب التلوث بالطبع إلى أن يدفع للضحية نظير قبولها بمستوى معين من التعرض للتلوث. لكن قد يقبل كلا الطرفين مثل هذا الاتفاق إذا كانت تكاليف الخفض أعلى بالنسبة إلى تكاليف الضرر البيئي.
وفقًا لرأي كوز ومؤيديه، فإن هذا الجدل يُفرغ الحجة الاقتصادية من مضمونها الداعي لاتخاذ إجراء متعلق بالسياسات لتنظيم التلوث وغيره من المشكلات التي تكتنف التأثيرات الخارجية. فإذا كان التفاوض بين الشركات والمواطنين فرادى كافيًا لحل مشكلات التأثيرات الخارجية للتلوث، فلا جدوى إذن من قانون للبيئة. ولكن المهم حينها هو أن يحدد القانون نقطة بدء واضحة للتفاوض، في صورة تنازل مبدئي واضح عن الحقوق ثم دعم نتيجة أي تفاوض تالٍ.
من الناحية العملية، يتضح أن الشروط التي تضمن نجاح التفاوض «على طريقة كوز» تحد بدرجة كبيرة من جدواه بصفته حلًّا لمشكلة تنظيم التلوث. أولًا، يبدو جليًّا أن عملية التفاوض ذاتها تشتمل على تكاليف. وعندما تشمل المفاوضات أطرافًا عديدة، سواءٌ من مسببي التلوث أو «الضحايا»، فسترتفع هذه التكاليف، وحتمًا سيكون التوصل إلى اتفاق يقبله جميع الأطراف أكثر تعقيدًا. علاوةً على أن نجاح التفاوض بين مسبب التلوث والسكان المحليين يُتوقع أن يقوضه الضعف التنظيمي في الإجراء الجماعي الطوعي المعروف باسم «الانتفاع المجاني». سيحجم الأفراد عن المساهمة في تكاليف أي اتفاق، ظنًّا منهم أنهم يستطيعون توفير مالهم مع الاستفادة من أي اتفاق يجري التوصل إليه دون مساهمة منهم. وثمة عقبة أخرى تحول دون نجاح المفاوضات هي عدم توفر معلومات كافية لدى الأطراف عن مصالح الطرف الآخر وحدود قدرته على التوصل لاتفاق. قد تخفق المفاوضات، لا لعدم وجود اتفاق يفيد كلا الطرفين من حيث المبدأ، ولكن لأن أحد الطرفين تصله معلومات خاطئة عن مصالح الطرف الآخر، مما يدفعه لفرض مطالب غير واقعية.
يبدو تحليل كوز بصفة عامة رائعًا من الناحية النظرية أكثر كثيرًا مما يبدو عليه عند التطبيق العملي على السياسة البيئية. وتبقى رغم ذلك نقطة واحدة في السياسة يجب أن يمر — بالضرورة — عندها التفاوض بين الأطراف المعنية بمرحلة وسطى. وهذا هو حال مشكلات السياسة البيئية الدولية، حيث تؤثر إجراءات الدول — التي تسبب التلوث أو تحد منه — على مصالح دول أخرى. ففي غياب هيئة دولية قادرة على حمل الدول على اتخاذ إجراء، تُنفَّذ في الأساس جميع الإجراءات الوطنية المتعلقة بالمشكلات البيئية الدولية طوعيًّا؛ نتيجةً لشكل من أشكال الاتفاق التفاوضي يحق لكل دولة ذات سيادة قبوله أو رفضه. يضع تحليل كوز الأسس التي يقوم عليها إطار العمل التحليلي للتفكير في هذه العملية، ويعلل لبعض التفاؤل الحذر بأنه قد يحقق في بعض الحالات نتائج مُرضية.
دراسة حالة: الحد من الأمطار الحمضية
يوضح تطور سياسات الأمطار الحمضية في أوروبا خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي كيف يمكن استخدام المنهج التحليلي الذي يتناوله هذا الفصل في التفكير في جوانب سياسة بيئية واقعية. لقد أصبح كثير من سياسات الأمطار الحمضية في أوروبا شيئًا من الماضي وليس جدلًا يشغل السياسة الحالية، حيث إن الإجراءات التي اتُّخذت منذ عقدين قللت كثيرًا مستوى تلوث الأمطار الحمضية الذي يتسبب فيه الإنسان في أوروبا. بيد أن دراسة سياسة الأمطار الحمضية في أوروبا كمثال تعطينا دروسًا وأفكارًا تفيد المناقشات الدائرة حول السياسات اليوم، لا سيما تلك المتعلقة بتغير المناخ.
أصبح تلوث الأمطار الحمضية يمثل قضية سياسية كبرى منذ ثمانينيات القرن العشرين، مدفوعًا بصفة خاصة من قِبل الظهور المفاجئ للأحزاب الخضراء على الساحة السياسية في ألمانيا وبعض الدول الأوروبية الأخرى. تركزت مخاوف الرأي العام على التدهور البادي للعيان في غابات أوروبا، حيث وقفت الأشجار الميتة تشهد على وجود مصدر قوي لكن غير مرئي للضرر. وفي المناطق الحضرية أيضًا، كانت عواقب الأمطار الحمضية واضحة للغاية ومحفورة بعمق في حجارة المباني؛ بما فيها العديد من الآثار التاريخية في أوروبا.
قبل ثمانينيات القرن الماضي، كانت سياسات مكافحة تلوث الأمطار الحمضية في المناطق الحضرية تركز على إنشاء مداخن شاهقة لنشر الانبعاثات عند ارتفاعات كبيرة في الغلاف الجوي. نتج عن هذه السياسات تحويل المشكلات التي كانت تُعد في المقام الأول متعلقة بحماية البيئة إلى مشكلات دبلوماسية كبيرة، حيث كانت الرياح تحمل الانبعاثات بعيدًا عن مصدرها الأصلي لمئات الكيلومترات، قبل أن تسقطها في صورة أمطار حمضية بعيدًا جدًّا عن دولة المنشأ. نتج الكثير من الأمطار الحمضية التي سقطت على إسكندنافيا مثلًا في دول أخرى، بما في ذلك محطات الطاقة في بولندا وألمانيا والمملكة المتحدة. وأدى الإقرار بخطورة هذه التأثيرات العابرة للحدود إلى انطلاق المفاوضات الدولية في الثمانينيات حول وضع تدابير سياسية منسَّقة للحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت.
تشمل الإمكانات التكنولوجية لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت الصادرة من محطات الطاقة ثلاث مجموعات عامة؛ أولًا، يمكن تقليل الانبعاثات بدرجات كبيرة جدًّا وبتكلفة منخفضة نسبيًّا لكل طن عن طريق التحول نحو استخدام وقود تشغيل يحتوي على نسبة أقل من الكبريت. ثانيًا، يمكن إنشاء محطات طاقة جديدة باستخدام تقنيات حرق أقل تلويثًا قادرة على توليد المزيد من الكهرباء مقابل مستوى معين من الوقود المستهلك. ثالثًا، يمكن تقليل الانبعاثات عن طريق تنظيف النفايات السائلة باستخدام تكنولوجيا «معالجة الانبعاثات عند المصب»؛ بمعنى عزل الكبريت الذي كانت ستطلقه محطات الطاقة في الغلاف الجوي. أجهزة إزالة الكبريت من غاز المداخن — أو ما يُطلق عليه «أجهزة التنقية» — هي جزء ضخم من البنية التحتية يُنشأ إلى جانب محطة الطاقة، وتستطيع إزالة ٩٠٪ أو أكثر من الكبريت الذي تطلقه المداخن في الهواء. لكن تزويد محطات الطاقة بأجهزة تنقية غاز المداخن من الكبريت استثمار ضخم في رأس المال، حيث يتكلف عشرات الملايين من الجنيهات لكل محطة. فكان من الضروري اختيار الاستثمارات الكبرى في أجهزة إزالة الكبريت من غاز المداخن بحكمة واستغلال الخيارات الأخرى الأرخص إلى أقصى حد.
كيف إذن يساعد علم الاقتصاد في اتخاذ هذه القرارات؟ أولًا، وبصورة مباشرة إلى حد ما، يمكن أن يساعد وضع خطط خاصة بتكلفة الخفض الحدية في التعرف على أكفأ مجموعة من إجراءات الخفض التي تحقق أي نسبة من التخفيض في انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكبريت. أثمر العمل في مركز أبحاث «المعهد الدولي لتحليل الأنظمة التطبيقية» في فيينا عن وضع تقديرات لخطط تكلفة الخفض الحدية لكل دولة من الدول الأوروبية، استنادًا إلى معلومات تفصيلية حول التكاليف والخفض المتوقع أن تحققه كل من التقنيات المتاحة، في ضوء خصائص محطات الطاقة في كل دولة. ثمة نقطة مهمة هنا؛ فرغم أن التقنيات التي استُخدمت في كل الدول كانت واحدة في الأساس، اختلفت تكاليف الخفض الحدية اختلافًا كبيرًا من دولة لأخرى. فالدول التي كانت تعتمد بدرجة كبيرة على الفحم البني الغني بالكبريت لتوليد الكهرباء كانت فرصتها في تحقيق خفض مقابل تكاليف زهيدة أكبر بكثير من تلك التي كانت تستخدم بالفعل وقود تشغيل يحتوي على نسبة أقل من الكبريت، أو التي كانت قد طبقت بالفعل تدابير محلية للحد من الانبعاثات.
تختلف منافع خفض الأمطار الحمضية — أي تكاليف الضرر الموفرة — تبعًا للظروف المحلية؛ حيث يسبب ترسب الحمض في المناطق ذات الطبيعة شديدة الضعف — مثل التربة الضحلة والضعيفة في إسكندنافيا — ضررًا أكبر مما يسببه في أي مكان آخر. ويسبب ترسب الحمض في المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية والمكتظة بالمباني والسيارات خسائر اقتصادية ناجمة عن إتلاف الحمض لرأس المال المادي تفوق تلك التي تصيب المناطق الأقل من حيث الكثافة السكانية والتطور. غير أنه ثمة عامل جوهري يؤثر في الضرر الذي تحدثه انبعاثات محطة الطاقة؛ وهو الاتجاه الذي تحمل إليه الرياح السائدة هذه الانبعاثات. كان فهم التدفقات الدولية من تلوث الكبريت أمرًا جوهريًّا في حالة توجيه استثمارات الخفض إلى محطات الطاقة، حيث يمكنها أن تحقق أفضل المنافع.
كانت أيضًا التدفقات الدولية عاملًا أساسيًّا في تشكيل نمط المصالح القومية في المفاوضات التي دارت على الصعيد الأوروبي. أوضحت أبحاث أجراها «البرنامج الأوروبي للرصد والتقييم» نطاق التدفقات الدولية من تلوث الكبريت، حيث حملت الرياح التلوث بعيدًا عن مصدر الانبعاثات لمسافة مئات الكيلومترات. ومن بين انبعاثات المملكة المتحدة من ثاني أكسيد الكبريت التي بلغت ٢٫٩ مليون طن عام ١٩٩١، لم يترسب سوى ١٫١ مليون طن منها فقط في المملكة المتحدة نفسها، أما بقية الانبعاثات فانتشرت على نطاق واسع. فعلى سبيل المثال؛ ترسب حوالي ١٣١ ألف طن في إسكندنافيا و٩٥ ألف طن في ألمانيا. وفي المتوسط على مستوى أوروبا كلها، لم يسقط من انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت التي تطلقها دولة داخل حدودها سوى حوالي ثلث الانبعاثات.
النتيجة المباشرة لقيام دول العالم بنشر الانبعاثات هي أن العمل القومي الخالص الذي يهدف إلى معالجة مشكلة الأمطار الحمضية سيكون محدودًا وباهظ التكاليف. في بعض الدول — خاصةً الدول الكبرى التي تسقط معظم انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت الصادرة عنها داخل حدودها — يجدر اتخاذ إجراء سياسي قومي لتقليل الضرر الناتج عن الأمطار الحمضية، حتى دون الحاجة إلى إبرام أي اتفاقية دولية. غير أن الدول الأوروبية لم تكن لديها جميعًا فرصة حقيقية لتقليل الأضرار الناتجة عن الأمطار الحمضية باتخاذ إجراءاتها الخاصة. ففي إسكندنافيا بأسرها — على سبيل المثال — لم تكن انبعاثات المنطقة من ثاني أكسيد الكبريت الناتجة عن الحمض الذي يلوث مياه الأمطار بفعل الأنشطة البشرية سوى ٢٢٪، أما معظم الحمض فقد أتى من خارج البلاد. كان من الضروري للدول الإسكندنافية إبرام اتفاقية دولية. فحتى إذا خفضت هذه الدول انبعاثاتها من غاز ثاني أكسيد الكبريت إلى الصفر، فسيقل ترسب الكبريت في الأمطار الحمضية بنسبة ٢٢٪ فحسب.
ثاني أكسيد الكبريت المترسب (آلاف الأطنان) | النسبة المئوية للراسب الناتج عن مصادر انبعاثات محلية | انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت (آلاف الأطنان) | النسبة المئوية للانبعاثات المترسبة محليًّا | |
---|---|---|---|---|
المملكة المتحدة | ١٢٣٢ | ٨٥٪ | ٢٩٠٦ | ٣٦٪ |
ألمانيا | ٢٧٠٠ | ٧٢٪ | ٤٧٠٥ | ٤١٪ |
إسكندنافيا | ١١٥١ | ٢٢٪ | ٦٠٤ | ٤٢٪ |
مناطق أخرى في أوروبا الغربية | ٤١٧١ | ٥٩٪ | ٤٧٤١ | ٥٢٪ |
اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية السابق | ٦٤٤٦ | ٥٨٪ | ٤٧٦٣ | ٧٩٪ |
أوروبا الشرقية | ٦٧٠٧ | ٧٠٪ | ٧٦٢٨ | ٦٢٪ |
الرواسب البحرية المعروفة | ٧٣٤١ | |||
غير ذلك/غير معروف | ٨٠٤ | ٥٤٠٤ | ||
الإجمالي | ٣٠٧٥١ | ٣٠٧٥١ |
هذا هو لب موضوع الاتفاقيات الدولية بشأن سياسات الأمطار الحمضية وتغير المناخ العالمي والمشكلات البيئية الأخرى التي تنتشر فيها التأثيرات البيئية متجاوزةً الحدود المحلية. فما يمكن تحقيقه عن طريق العمل المنسَّق أكبر مما يمكن تحقيقه إذا نظرت كل دولة فقط إلى المنافع التي تعود عليها محليًّا نتيجة إجراءات الخفض الخاصة بها. ليست هذه دعوة إلى الإيثار (رغم أن هناك مشكلات بيئية دولية قد يكون الإيثار فيها صحيحًا ومناسبًا من جانب الدول الثرية). ولكن المنطق الذي تتبناه الدول بدلًا من ذلك هو «إذا أسديت لي معروفًا رددته لك». والدول التي تزيد من الخفض عما هو مبرر بالنسبة إلى تحسين البيئة المحلية فإنها تمنح دولًا أخرى منافع بيئية، وفي الوقت نفسه تستفيد من وفود أمطار حمضية أقل إليها نتيجةً لإجراءات السياسات المتخذة في الدول الأخرى.
غير أن مشكلة سياسة الأمطار الحمضية تمثلت في أن المنافع المترتبة على العمل المنسَّق كانت تُوزع توزيعًا غير عادل على الإطلاق. فتيارات الرياح التي تهب على أوروبا لا تنشر الانبعاثات بالتساوي، بل توجد رياح سائدة؛ مما يعني أن بعض الدول قد تصدِّر كميات من الأمطار الحمضية إلى الدول الأخرى في أوروبا أكبر بكثير من التي تستوردها في المقابل. ونظرًا لأن الرياح القادمة من الجنوب الغربي هي الرياح السائدة، فقد ساهمت المملكة المتحدة وأيرلندا — على سبيل المثال — في الأمطار الحمضية التي أصابت بقية أوروبا أكثر مما تلقته منها في المقابل.
بالجمع بين هاتين الملاحظتين حول احتمالات الخفض وتكاليفه ومستوى الضرر البيئي وتوزيعه، درس عالم الاقتصاد السويدي كارل يوران مولر نمط المصالح القومية في المفاوضات التي جرت على الصعيد الأوروبي حول مكافحة الأمطار الحمضية. وفي دراسته التي كان لها عظيم الأثر في عام ١٩٩١ بعنوان «لعبة المطر الحمضي»، أوضح طبيعة التفاعلات الاستراتيجية بين الدول، والمشكلة الجوهرية المتمثلة في أن بعض الدول تعرضت لخسائر فادحة جراء مشاركتها في اتفاقية من شأنها أن تعظِّم المنافع على مستوى أوروبا. وبسبب نمط الرياح السائدة، ستحتاج المملكة المتحدة إلى الحد من الانبعاثات بنسبة أكبر بكثير من دول أخرى عديدة، مع تحقيق استفادة أقل بكثير من المتوسط من حيث ما يصل إليها من خارج حدودها من الأمطار الحمضية. ما الذي سيدفع دولة في موقف كهذا لتوقيع الاتفاقية؛ عمل اختياري يجعل وضعها أسوأ مما هو عليه في حالة عدم وجود اتفاق؟ وكما هو متوقع، قررت المملكة المتحدة عدم المشاركة في أول اتفاقية أوروبية حول الأمطار الحمضية، أول بروتوكول خاص بتقليل انبعاثات الكبريت، وُقعت عام ١٩٨٥.
لاحظ مولر وجود حل بسيط في الأساس لهذه العقبة الضخمة التي تعترض طريق الاتفاقية. فإذا كانت هذه الاتفاقية سيترتب عليها منافع شاملة تعود على أوروبا بأسرها، فإن الدول الرابحة سيكون لديها فائض من الربح يمكن منحه للدول الخاسرة على سبيل التعويض. وعن طريق دفع الدول تعويضات فيما بينها، سيكون من الممكن إعادة توزيع الأرباح الإجمالية حتى لا تتعرض أي دولة مشاركة للخسارة. يطلق خبراء الاقتصاد على هذه المدفوعات اسم المدفوعات الجانبية. وتقدم هذه المدفوعات في الأساس حلًّا شاملًا ورائعًا لمشكلة أن ما قد يفيد مجموعة من الدول مجتمعة قد لا يفيد كل عضو من هذه المجموعة على حدة بصورة مباشرة.
لكن هذا الحل شأنه شأن العديد من الحلول الرائعة، يصعب كثيرًا تطبيقه عمليًّا. لم تكن المدفوعات الجانبية جزءًا من الاتفاقيات الأوروبية بشأن الأمطار الحمضية. ولم ينتشر استخدامها كذلك في المفاوضات البيئية الدولية الأخرى. إن العقبة الأساسية عقبة سياسية: كم سياسي يستطيع استمالة جماهير بلاده إلى اتفاقية دولية تقوم على أن تدفع الدول المتضررة من التلوث العالمي مبالغ كبيرة لتلك الدول التي سببت المشكلة؟
إذا كانت هذه العقبة لا يمكن تخطيها، فهناك حَلَّان بديلان؛ أحدهما هو إخفاء المدفوعات الجانبية بطريقة ما، ربما عن طريق ربط الاتفاقية بمفاوضات أخرى تتخذ فيها حركات التكاليف والمنافع اتجاهًا عكسيًّا في الوقت نفسه. وقَّعت المملكة المتحدة بالفعل على البروتوكول الثاني لتقليل انبعاثات الكبريت — الذي تم التوصل إليه عام ١٩٩٤ — ربما لأن الضرر الدبلوماسي الذي كان سيترتب على استمرار رفضها للتوقيع كان سيفوق تكاليف مشاركتها. أما الخيار الآخر فيتمثل في قصر نمط الالتزامات التي تفرضها الاتفاقيات الدولية على تلك التي تضمن ألا تكون هناك دولة واحدة لا تحصد سوى الخسارة. قد يقلل هذا بدرجة كبيرةٍ المنافعَ الإجمالية للاتفاقية في بعض الحالات، وفي حالات أخرى قد يمثل عقبة خطيرة تحول دون إبرام أي اتفاقية على الإطلاق.
يقودنا هذا إلى نتيجة تشاؤمية إلى حد ما؛ ستكون هناك العديد من العقبات في طريق الاتفاق الدولي بشأن اتخاذ تدابير شاملة لمكافحة المشكلات البيئية العابرة للحدود القومية. يتطلب التوصل لاتفاقية فعَّالة تراعي كلًّا من تكاليف الخفض ونمط المنافع البيئية أن تساهم دول مختلفة بنسب مختلفة تمامًا من الخفض؛ ولكن قد يبدو هذا غير منصف، ولذا قد يصعب التوصل لاتفاق. وتظهر بعض العقبات الأصعب في سبيل التوصل لاتفاقية عندما توزع تأثيرات التلوث — ومن ثم منافع الخفض — توزيعًا غير متساوٍ. ومن الحقائق المزعجة في الدبلوماسية أنه في هذا الموقف لا يُرجح التوصل لاتفاق ما لم يموِّل «ضحايا» التلوث جزءًا كبيرًا من تكاليف الخفض التي يتكبدها مسببو التلوث.