معلومات وقيم اقتصادية في قرارات السياسة البيئية
•••
أوضح الفصل الثاني كيف يحدد خبير الاقتصاد المستوى المنشود لمكافحة التلوث، عن طريق مقارنة تكاليف كل وحدة تالية من وحدات خفض التلوث ومنافعها. ويمكن قياس بعض هذه التكاليف والمنافع بسهولة نسبية. يتمثل الكثير من تكاليف خفض التلوث مثلًا في تكاليف الحصول على أجهزة مكافحة التلوث وتركيبها، وتكون أسعار هذه الأجهزة متاحة دون صعوبة. لكن ثمة تكاليف أخرى غير مباشرة بالدرجة التي تتيح لأي تحليل للتكاليف والمنافع أن يشملها. فتلوث الهواء مثلًا يضر بالصحة. يجب مقارنة هذا الضرر بتكاليف تركيب أجهزة مكافحة التلوث، لكن كيف نقيس قيمة الضرر الواقع في صورة تدهور الصحة — وربما الوفاة المبكرة — على أساس يمكن مقارنته بتكاليف مكافحة التلوث؟ بين هاتين الحالتين المتطرفتين، توجد تأثيرات أخرى كثيرة؛ إما تكاليف مكافحة التلوث أو منافع خفض التلوث التي لا يمكن الاستدلال الفوري عليها من أسعار السوق المتاحة. فعلى سبيل المثال، إذا نظرنا إلى الضرائب المرتفعة على وقود السيارات باعتبارها طريقة لتقليل التلوث الناتج عن المركبات أو تقليل الازدحام المروري، فكيف نقيس التكاليف التي يتحملها الذين تخلوا عن رحلات كانوا سيذهبون فيها لولا تلك الضرائب؟ وإذا كان جزء من المنفعة التي تحققها السياسة البيئية يتمثل في الحفاظ على مواطن طبيعية معينة، فكيف نقيِّم المزايا الترفيهية التي يحظى بها ممارسو المشي ومراقبو الطيور في بيئة طبيعية سليمة، أو منافع الحفاظ على التنوع الحيوي الذي كان سيُفقد لولا ذلك؟
الأهم من ذلك، من أي منظور تكون التكلفة في صورة قيم نقدية هي المعيار الصحيح الذي يجب استخدامه في المقارنة بين مزايا اتخاذ إجراءات لمكافحة التلوث وعيوبه؟ عندما نفكر في اتخاذ إجراءات لحماية برية لم يمسسها التلوث، أو إجراءات محافظة للحيلولة دون انقراض طيور نادرة (أو خنافس نادرة)، هل نستطيع حقًّا أن نختزل قيمة الشيء الذي نحافظ عليه أو الدمار الذي نتجنبه في أسعار سوقية أو قيم نقدية؟
الأسعار والقيم في اقتصاد السوق
تحليل التكاليف والمنافع هو تقنية يستخدمها خبراء الاقتصاد في قياس ما إذا كان استخدام موارد إنتاجية — مثل القوة العاملة والموارد الطبيعية ورأس المال — لغرض معين تبرره منافع كافية في المقابل. ترجع أصول فكرة تحليل التكاليف والمنافع عمليًّا إلى دراسة أجراها خبير الاقتصاد الفرنسي والمهندس جول دوبوي في أربعينيات القرن التاسع عشر. وحتى سبعينيات القرن العشرين، كانت هذه التقنية تستخدم استخدامًا شبه حصري في تقييم المشروعات الاستثمارية العامة واسعة النطاق؛ مثل تقييم الحجة الداعية إلى بناء جسر أو سد. لكن مع تنامي الوعي البيئي منذ سبعينيات القرن العشرين، أصبحت التأثيرات البيئية تدخل في دراسات التكاليف والمنافع لمشروعات ضخمة، وبدأ تحليل التكاليف والمنافع يُستخدم على نطاق أوسع من أجل تقييمات السياسات البيئية.
الفكرة التي يقوم عليها تحليل التكاليف والمنافع هي أن استخدام الموارد دائمًا ما ينطوي على «تكلفة الفرصة الضائعة». بعبارة أخرى، إن الموارد المستخدمة لغرض ما كان يمكن أن تُستخدم بدلًا من ذلك في إنتاج شيء آخر. فإذا جرى تعيين عمال لتشغيل نظام معقد لعزل النفايات وإعادة تدويرها، فهؤلاء العمال كان من الممكن توظيفهم بطرق مختلفة، مثل بناء المدارس أو المستشفيات أو في أعمال تابعة للقطاع الخاص. ما نتخلى عنه باستخدام الموارد في مشروع معين يمثل بصورة جوهرية تكلفتها الاقتصادية الحقيقية.
رغم ذلك، يبدو قياس تكلفة الفرصة الضائعة لاستخدام الموارد مهمة مستحيلة. فمن بين آلاف الاحتمالات، كيف نعرف بالتحديد أي الاستخدامات البديلة كنا سنختار؟ لحسن الحظ، لدينا في اقتصاد السوق نقطة بدء واضحة. وطالما ظلت أسواق الموارد الإنتاجية تنافسية، فستعكس أسعار السوق الخاصة بالعمالة ورأس المال وغيرها من الموارد الإنتاجية تكلفة الفرصة الضائعة لها. وستعكس معدلات الأجور مثلًا تكلفة الفرصة الضائعة لتعيين العمالة: ستسعى الشركات لتوظيف عمالة حتى تصل إلى الحد الذي تتساوى عنده تكلفة تعيين موظفة إضافية مع «منتَجها الحدي»؛ أو بعبارة أخرى المنتج الإضافي الذي تنتجه. نتيجةً لهذا، يجمل قياس تكلفة الموارد بناءً على سعرها في السوق قياسًا لقيمتها في الاستخدامات البديلة، وهو تقييم كنا سنعده معقدًا لدرجة مستحيلة في ظروف أخرى.
يحاول تحليل التكاليف والمنافع أن يجمع أطراف تقييم شامل لجميع التكاليف والمنافع باستخدام المعيار الشائع المتمثل في القيم النقدية، حتى يقدم في النهاية عملية حسابية واحدة توضح ما إذا كانت التكاليف تفوق المنافع.
في حين قد تمثل القيم النقدية — المستندة إلى أسعار السوق — انعكاسًا جيدًا لتكلفة الفرصة الضائعة المتعلقة باستخدام الموارد، وبقيمة السلع التي يجري إنتاجها وتداولها في اقتصاد السوق، نعلم أن أسعار السوق لا تعكس دائمًا القيم الحقيقية. ففي واقع الأمر، يُعنى الاقتصاد البيئي خصيصًا بمجموعة واحدة من الأسباب التي تجعل أسعار السوق انعكاسًا سيئًا للقيمة، عندما تخفق أسعار السلع في ترجمة الضرر البيئي المترتب على إنتاجها. يمكننا أن نرى أيضًا أن العديد من منافع المشروعات والسياسات البيئية تتعلق بأشياء ليست لها أسعار في السوق إطلاقًا. فنحن لا نشتري الهواء الذي نتنفسه مثلًا، لهذا لا يوجد سوق يدلنا على نسبة تجاوز قيمة الهواء النقي لقيمة الهواء الملوَّث. ولدمج الشواغل البيئية في تحليلات التكاليف والمنافع، نحتاج إلى إيجاد سبيل لقياس التبعات البيئية لمقارنتها بتقييمات التكاليف والمنافع الأخرى التي تترجم في صورة أسعار السوق. لتبسيط الأمر، نحتاج إلى إيجاد طريقة لتقييم البيئة بلغة المال.
بوسعنا طبعًا أن نرفض فعل هذا، وبوسعنا أن ننكر أن هذا ممكن، أو أن القيم البيئية المترجمة إلى لغة المال تحمل أي معنى. يمكننا أن نعترض على أساس أن البيئة لا تقدر بثمن؛ أن شواغلنا وقيمنا البيئية لا يمكن أن تُختزل في شيء مهين ووضيع مثل سعر السوق. لكن هذا لن يكون تصرفًا حكيمًا. يتجلى تأثير الأرقام بقوة في الخطاب الجماهيري وصنع القرارات العامة، ويلوح خطر أن الأشياء التي لا تُقاس ولا تُقيَّم يمكن ببساطة تجاهلها. فإذا كانت للبيئة أهمية في نظرية الخيارات العامة، فيجب حسابها بالأرقام وتقييمها.
ربما أيضًا لا نكون أمناء تمامًا مع أنفسنا إذا صممنا على أن البيئة «لا تقدر بثمن». غرقت أودية خلابة في ويلز عندما أُنشئت خزانات لضخ مياه شرب نظيفة للمواطنين في المدن الإنجليزية الكبيرة. قد نظن أن هذه كانت علامة على الحضارة والتقدم، أو قد نظن ذلك اعتداءً صارخًا على البيئة الطبيعية، لكن ما يتضح هو وجود اختيار كان لا بد أن نحسمه، ما بين تلبية احتياجات ملايين المواطنين والحفاظ على المناطق الطبيعية. بالطبع كانت هناك خيارات أخرى؛ فكان يمكن إنشاء الخزانات في أي مكان آخر، كان بعضها سيتطلب تكاليف أكثر لإنشائه وتشغيله، وكان البعض الآخر سيشكل سدودًا أمام أودية أنهار ومناطق طبيعية لم تمتد إليها يد العبث. الخيار الذي كان على صنَّاع القرارات العامة اتخاذه كان بين المطالب والاحتياجات المتضاربة، والموازنة بين الحفاظ على المناظر الطبيعية وتكاليف التشغيل وغيرها من الاعتبارات. وسواء اتخذوا الخيار الصحيح أم الخاطئ، ليس هذا هو موضوعنا الآن. لكن ما لا يمكن إنكاره هو أنه كان لا بد من الاختيار بين اعتبارات بيئية واعتبارات أخرى، وكان لا بد من الموازنة بينها. إن الغرض من التعبير عن التأثيرات بلغة المال ليس إلا التحقق من النقطة التي نرغب عندها في تحديد اختيارات أو عمل مقايضات.
يمكن بالطبع إذا شق علينا تعيين قيمة تعبر عن التبعات البيئية المترتبة على إجراء معين متعلق بالسياسة أن نقيس كل التأثيرات الأخرى — الأسهل تقديرًا — ثم نتساءل عما إذا كان التأثير النهائي مبررًا كافيًا للأثر البيئي. سنحتاج أيضًا إلى مقارنة التأثيرات البيئية بالتكاليف والمنافع الأخرى المختزلة في صورة قيم نقدية، لكن دون الحاجة إلى تحديد رقم دقيق يعبر عن الأثر البيئي.
في الوضع المثالي أيضًا، لن نرغب فقط في التعرف على اختيار الأغلبية، ولكن في التحري عن قوة آراء الجمهور، بحيث لا تطغى بالضرورة الأغلبية الأقل اهتمامًا بالنتيجة على الشواغل الأهم للأقلية التي تتأثر بالنتيجة إلى حد بعيد. إحدى مزايا تقييم النتائج في صورة قيم بدلًا من تقييمها ببساطة بناءً على صوت الأغلبية هي أن القيم تقيس قوة تفضيلات الأفراد، وتعطي وزنًا أكبر على نحو مناسب للذين يعتقدون أنهم سيتعرضون لضرر كبير أو سينعمون بمزايا كبيرة، مقارنةً بالوزن الذي تعطيه للذين لا يهتمون كثيرًا على أي حال.
لكن إحدى السمات المثيرة للجدل التي تتسم بها القيم النقدية هي أنها تعطي وزنًا أكبر في الحساب النهائي لأصحاب التأثير الأقوى في السوق؛ للأثرياء أصحاب القوة الشرائية الأكبر من الفقراء. إذا سألنا عن المبلغ الذي سيرغب الناس في دفعه مقابل منفعة بيئية معينة، فإننا نسأل في واقع الأمر عما سيكون الناس مستعدين للتخلي عنه مقابل الحصول على هذه المنفعة. وإذا كان تأثير العوامل الأخرى متعادلًا، سيكون الأثرياء أكثر قدرة على الدفع وسيضحون بالاستهلاك الأقل قيمة، على عكس الفقراء الذين يضطرون لإنفاق دخلهم على ضروريات الحياة. حينها سيتجه الاستعداد للدفع إلى الزيادة مقابل الجودة البيئية كلما زاد الدخل، وحيث تختلف الآراء حول مدى الرغبة في الخيارات الممكنة، ستتجه تفضيلات ميسوري الحال إلى أن تكون عنصرًا أكبر في حساب القيمة الإجمالية.
في هذا الشأن، يشبه تحليل التكاليف والمنافع اقتصاد السوق بصفة عامة: يكون الأثرياء أكثر استهلاكًا، ويعيشون في أماكن أرقى … إلخ. تختلف الآراء حول ما إذا كانت هذه مشكلة في تحليل التكاليف والمنافع. أيد البعض استخدام قيم عادلة في عمليات تحليل التكاليف والمنافع للتعبير عن التأثيرات التي تمس الأفراد أصحاب المستويات المختلفة من الدخول، بحيث يُعطى وزنًا أكبر لما يهم الفقراء أكثر من ذلك الذي يُعطى للأثرياء، وذلك لتعويض التحيز الأولي في صالح الأثرياء في حساب القيمة الإجمالية. تكمن الصعوبة بالطبع في أن الآراء بشأن العدالة تتسم بالذاتية الشديدة؛ فسيصدر الأشخاص المختلفون أحكامًا مختلفة بشأن القيم المناسبة بين الأثرياء والفقراء، وقد يتأثر الحساب النهائي تأثرًا شديدًا بهذه التسوية المثيرة للجدل.
ثمة استجابة بديلة؛ وهي عدم إجراء تسوية عادلة، ومعاملة تحليل التكاليف والمنافع شأنه شأن أي قرار آخر يُتخذ في مجتمعنا غير المتكافئ المعتمد على السوق. قد لا تكون هذه الطريقة مراعية للمساواة الاجتماعية كما يبدو، وهذا رأي العديد من خبراء الاقتصاد المعنيين بالمساواة والعدالة الاجتماعية. فهم يعتقدون رغم ذلك أن تحليل التكاليف والمنافع أو اتخاذ القرارات التي تخص السياسات البيئية، ليست بالمقام المناسب الذي نعالج فيه مظاهر عدم المساواة الاقتصادية. ولكن يجب التعامل مع عدم المساواة الاقتصادية باستخدام الأدوات المتنوعة المتاحة القابلة لإعادة التوزيع؛ بما في ذلك الضرائب والمنافع الاجتماعية. وما إن تُتخذ قرارات بشأن مستوى إعادة التوزيع، فلن يكون هناك سبب بعينه يدفعنا إلى التعامل مع الإنصاف فيما يتعلق بالبيئة على نحو مختلف عن الإنصاف في أي سياق آخر. ومن ثم، يمكن قياس التكاليف والمنافع البيئية مباشرةً استنادًا إلى مجموع التقييمات الفردية لكافة الأفراد المتأثرين.
أنواع القيمة البيئية
قبل أن نتحول إلى الطرق المتاحة للتقييم المنظم للتأثيرات البيئية، يجدر بنا أن نتناول بمزيد من التفصيل جوانب مختلفة للقيمة البيئية. عند التفكير في القيمة البيئية، يميز التحليل الاقتصادي مبدئيًّا بين القيمة التي قد يعينها أحد الأفراد لأحد الجوانب البيئية لأنه هو نفسه يستفيد منها بشكل من الأشكال، والقيم التي قد لا تكون مرتبطة بالاستخدام الفردي.
الفئة الأولى هي «قيم الاستخدام»، وتشمل القيمة الإنتاجية لبعض جوانب البيئة (يمكن استخدام الغابات في الحصول على الأخشاب، ويمكن أن تمدنا الأنهار والمحيطات النظيفة بالأسماك، وغير ذلك)، والقيم الترفيهية (يعلي الناس من قيمة زياراتهم للمتنزهات العامة، ويقدر مراقبو الطيور تمكنهم من مراقبة مجموعة متنوعة من فصائل الطيور، ويستطيع الناس السباحة بشواطئ غير ملوثة)، وتشمل أيضًا تأثيرات جودة البيئة على صحة الأفراد. إضافة إلى ذلك، يمكننا أن ندرج ضمن فئة قيم الاستخدام دور الغلاف الجوي العالمي في تنظيم المناخ ودور السهول الفيضية في تقليل الضرر الناجم عن غزارة هطول الأمطار. «يستخدم» الأفراد البيئة بكل هذه الطرق المتنوعة، ويُتوقع أن يعيِّنوا قيمة لهذه الاستخدامات.
ثمة فئة أخرى من فئات القيمة التي ترتبط مرة أخرى باستخدام الأفراد؛ وهي احتمالية أن يقيِّم الأفراد البيئة لأنهم قد يستفيدون منها في مرحلة ما، حتى إذا لم تكن تلك المرحلة قد حانت بعد. ربما تمثل «قيمة الخيارات» هذه جزءًا جوهريًّا من الحجة الداعية إلى الحفاظ على التنوع الحيوي، خاصةً في الغابات المطيرة وغيرها من المناطق الثرية بالنباتات والحيوانات التي قد تكون يومًا ما مصدرًا لأدوية ذات قيمة كبيرة أو اكتشافات أخرى.
وقد يعيِّن الأفراد كذلك قيم «عدم الاستخدام» للبيئة. فقد يرغب الأفراد في أن يورثوا أبناءهم أو الأجيال المستقبلية بصفة عامة بيئة سليمة. ينطوي هذا على شيء من الإيثار؛ أي اهتمام الناس بالآخرين، وإكسابهم قيمة للبيئة لأنهم يتمنون أن يتمكن الآخرون من الاستفادة منها مستقبلًا.
النقطة الأخيرة — والأكثر إثارةً للجدل — هي أن الناس قد يحددون قيمًا لبعض جوانب البيئة التي لا تتعلق إطلاقًا باستخدامهم الفعلي أو المحتمل؛ فقد أهتم ببقاء النمور والباندا والحيتان في الحياة الطبيعية، ليس لأنني أتوقع أن أحصل منها على قيم استخدام في أي وقت، بل لمجرد أنها «موجودة». من المحتمل أن تقتصر «قيم الوجود» على بعض الناس فقط، وألا يُعنى الآخرون بالبيئة إلا بالقدر الذي يحصلون به منها على قيمة استخدام فعلية أو محتملة. لكن يبدو جليًّا أن البعض مستعدون للمساهمة في مشاريع الحفاظ على البيئة في مناطق لن يزوروها أبدًا، ولا يُرجح أن يحصلوا منها على أي قيمة استخدام مباشرة. إذا اعترفنا بإمكانية أن يرى الناس قيمة وجود لبعض جوانب البيئة، فهذا سيجعل مهمة قياس القيم البيئية أكثر تعقيدًا بكثير. وفيما يتعلق بقيم الاستخدام، لا نحتاج سوى استقصاء مجموعات المستخدمين المحتملة (هؤلاء الذين يمارسون الصيد أو الذين يزورون المتنزهات العامة … إلخ). لكن قيم الوجود قد تنتشر انتشارًا بسيطًا عبر قطاع عريض ومتنوع من الأفراد الذين لا تربطهم علاقات معروفة بالأصل البيئي محل الدراسة. علاوةً على أن بعض طرق التقييم المتاحة فقط تتوفر لها بعض فرص التعرف على عنصر قيمة الوجود ضمن القيمة البيئية الإجمالية. وقد يتضح أن التحري عن قيم الوجود صعبٌ ومثيرٌ للجدل.
القيم المستدل عليها من سلوك السوق
كيف إذن يمكننا إيجاد طريقة نظامية لتقييم التأثيرات البيئية، مع استخدام المال باعتباره مقياسًا يتيح عقد مقارنات مع التكاليف والمنافع الأخرى التي تتمتع بأسعار سوقية محددة؟ إحدى الطرق لفعل هذا هي تقنية «تسعير الإشباع» الإحصائي التي تحاول استنتاج قيم بيئية من السلوك الملاحَظ في أسواق معينة غير بيئية، لا سيما سوق الإسكان، وكذلك سوق العمالة إلى حدٍّ ما. ففي هذه الأسواق، نجد مواقف حيث توضع البضائع البيئية — التي لا يجري تداولها صراحةً وبصورة مستقلة — في «حزمة واحدة» مع السلع التجارية في معاملات تجارية تتم تحت الإشراف. و«تسعير الإشباع» تقنية تهدف إلى استعادة «الأسعار» الضمنية للسمات المتنوعة للمنازل أو غيرها من السلع، شاملةً الأسعار الضمنية للسمات البيئية.
يشيع اعتقاد بأن من يشترون المنازل في المملكة المتحدة يدفعون مبلغًا إضافيًّا باهظًا مقابل الحصول على منزل يقع في منطقة بها مدارس تجذب السكان مما يتيح لأبنائهم الفرصة للالتحاق بالمدرسة التي يرغبون فيها. هل تتأثر أسعار المنازل هي الأخرى بالجوانب البيئية للموقع؛ مثل التعرض لضوضاء حركة السير أو القرب من متنزه جذاب؟ عن طريق ملاحظة تدني أسعار المنازل الواقعة على الطرق التي تخيم عليها ضوضاء حركة السير المزعجة مقارنةً بالمنازل المماثلة الموجودة في شوارع أهدأ، نستنتج شيئًا عن مدى اهتمام مشتري المنازل بالتلوث الضوضائي الناجم عن حركة السير.
الفكرة المحورية في تسعير الإشباع هي أن مشتري المنازل (أو غيرها من السلع المعقدة) يدفعون سعرًا واحدًا مقابل باقة من السمات المتعددة، وكل من هذه السمات تؤثر في السعر الإجمالي. يمكن أن تشمل هذه السمات خصائص مادية في العقار (مثل حجمه وحالته وعدد الغرف والحديقة وغيرها)، وتكاليف التشغيل (الضرائب المحلية وتكاليف التدفئة والصيانة المحتملة)، والجوانب المتعلقة بالموقع (قربه من مرافق نقل عام جيدة، والمدارس والمنافع القريبة، وموقعه في منطقة مرغوب فيها بصفة عامة)، والجوانب المتعلقة بالجودة البيئية والمنافع (تعرضه للتلوث الهوائي والضوضائي، وقربه من مواقع نفايات وأنشطة صناعية خطيرة أو غير مرغوبة، ووقوعه في بيئة طبيعية جذابة).
وإدراك أن مشتري المنازل قد يرغبون في دفع مبالغ أكبر مقابل بقعة جذابة أو بيئة نظيفة أو هادئة هو جانب واحد، أما احتساب المبلغ الإضافي المرتبط بهذه السمات البيئية فهو جانب آخر، حيث إن كل ما نستطيع ملاحظته مباشرةً هو السعر الإجمالي المدفوع نظير كل عقار، وليس البنود المنفصلة الخاصة بكل سمة فيه. ونحتاج إلى أساليب إحصائية لفصل المكونات المستقلة الداخلة في السعر الإجمالي للعقار؛ مثل سعر الحمام الإضافي وأشياء من هذا القبيل.
سيكون من السهل فعل هذا، إذا استطعنا أن نجد المقارنات الدقيقة التي تختلف فيها سمة واحدة فقط في المرة الواحدة. فعلى سبيل المثال، إذا وجدنا منزلين متطابقين تمامًا في كل شيء باستثناء أن أحدهما يتعرض لضوضاء حركة السير والآخر لا يتعرض لها، فعندها يمكننا الاستدلال على قيمة غياب ضوضاء حركة السير عن طريق المبلغ الإضافي الذي يُدفع مقابل العقار الأهدأ. لكن المنازل تختلف في العديد والعديد من النواحي، ونادرًا ما قد نجد مثل هذه المقارنة الدقيقة، التي يختلف فيها المنزلان في سمة واحدة فقط ويتطابقان فيما عدا ذلك. غير أنه تتوفر أساليب الاقتصاد القياسي التي تقوم على تحليل الانحدار المتعدد وتستطيع التعرف على الأنماط النظامية في عينات كبيرة من معاملات بيع وشراء المنازل، لتقدير تأثير كل سمة على السعر، مع تثبيت السمات الأخرى. أو بعبارة أخرى، تستطيع هذه الأساليب أن تفصل إسهام كل سمة مستقلة في السعر الإجمالي. ويترتب على هذا مجموعة من الأسعار الضمنية المقدَّرة لكل سمة، وذلك بفرض أن السمات الأخرى لا تتغير؛ بعبارة أخرى، توفر هذه الأساليب تقديرًا لسعر غرفة نوم إضافية واحدة وحديقة أكبر وشارع أهدأ … إلخ، «وكأنه يمكن شراء كل عنصر من هذه العناصر وحده».
لهذا تستطيع أساليب تسعير الإشباع أن توفر لنا تقديرات لتأثير السمات البيئية المرتبطة بعمليات شراء المنازل. قد تكون هذه سمة مرغوبة، مثل وجود محمية طبيعية بالمنطقة، أو غير مرغوبة مثل القرب من مدفن نفايات. السؤال هنا هو: إلى أي مدى ينجح هذا الإجراء في تحديد القيمة البيئية الإجمالية؟ ولا يقيِّم تحديدًا الإجراء سوى تلك المنافع التي تعود على السكان (أو بالأحرى مالكي المنازل)، بموجب امتلاك المنازل، والتي لم تكن لتعود عليهم لولا ذلك. وقد تتأثر قاعدة أعرض من الأشخاص: قد يتمكن الأشخاص من السفر من مناطق شتى لزيارة المحمية الطبيعية، وهذه المنافع لا تنعكس على أسعار المنازل بالمنطقة؛ علاوةً على هذا، لا يحصِّل مشترو المنازل إلا المنافع التي «تزداد» في حالة سكنهم بالمنازل فقط.
استُخدم تسعير الإشباع في تقدير تكاليف الضرر المترتبة على مواقع جمع القمامة، من حيث زيادة الضوضاء الصادرة عن حركة السير والرائحة الكريهة والمخلفات الملقاة والهوام والأذى البصري الذي يتعرض له السكان بمنطقة من المناطق. يمكن الاستدلال بتقديرات تكاليف الضرر المترتب على مواقع دفن القمامة في عمليات تحليل التكاليف والمنافع على قرارات تحديد مواقع دفن القمامة. وقد تنخفض تكاليف التشغيل (خاصةً تكاليف نقل القمامة إلى الموقع) إذا كانت أماكن دفن القمامة تقع بالقرب من المناطق الحضرية، لكن يجب الموازنة بين هذا وبين عدد أكبر من سكان المنازل الذين سيتحملون تكاليف الضرر. قد يساعد الاستدلال بتسعير الإشباع على نطاق تكاليف الضرر في التعرف على المقايضة المثلى بين هذه التأثيرات.
يرتبط أيضًا الدليل على تكاليف الضرر الناتجة عن مدافن القمامة بتحديد الضريبة على مدافن القمامة في المملكة المتحدة عند المستوى المناسب. وتهدف ضريبة مدافن القمامة إلى التعبير عن التكاليف البيئية للتخلص من نفايات مدافن القمامة، قياسًا بالوسائل البديلة مثل إعادة التدوير أو الحرق (رغم أنه يُفضل أن تكملها ضريبة تعكس التأثيرات الخارجية لأفران الحرق أيضًا). عندما طُرحت هذه الضريبة لأول مرة عام ١٩٩٦، كانت المعدلات التي طُبقت ٧ جنيهات استرلينية للطن بالنسبة للنفايات القياسية (القابلة للتحلل الأحيائي)، ومعدل أقل بلغ جنيهين استرلينيَّين لكل طن من النفايات الجامدة مثل أنقاض المباني … إلخ. جرى تحديد هذه المعدلات بناءً على تقديرات الأبحاث التي أُجريت على التكاليف الخارجية المترتبة على وجود مدافن القمامة، شاملةً تأثيرات تغير المناخ التي تسببها انبعاثات غازَي الميثان وثاني أكسيد الكربون، والتأثيرات الخارجية المتعلقة بوسائل النقل، والتلف الناجم عن الترشيح، وتكاليف الضرر. في الوقت نفسه، لم تقدم المملكة المتحدة دليلًا على تكاليف الضرر الناتجة عن مدافن القمامة، وافتُرض بناءً على الأدلة المستمدة من نظام معلومات المختبرات أن السعر المناسب هو جنيهان استرلينيَّان للطن. لم تبتعد التقديرات اللاحقة لقياس تكاليف الضرر في المملكة المتحدة عن هذه القيمة التي توصلت إليها دراسة أجرتها مؤسسة كامبريدج إكونوميتريكس. لكن خلال السنوات الأخيرة، ارتفعت ضريبة النفايات القياسية ارتفاعًا حادًّا دون الرجوع إلى التكاليف الخارجية، والآن (٢٠١١/٢٠١٠) استقرت عند ٤٨ جنيهًا استرلينيًّا للطن، وهو مستوى يتجاوز إلى حد كبير تكاليف الضرر والتكاليف الخارجية الأخرى المقدرة.
الدراسة التي أجرتها شركة كامبريدج إكونوميتريكس على مدافن القمامة تسلط الضوء على مسألة أخرى؛ حيث أشارت الدراسة إلى أن الإسكان الأقل جودة والمجتمعات الأفقر تميل إلى التجمع بالقرب من مدافن القمامة. وهذا يؤكد على قيمة أخذ جميع العوامل التي تحدد أسعار المنازل في الاعتبار. فالاكتفاء بالنظر إلى الاختلافات في متوسط أسعار المنازل الموجودة بالقرب من مدافن القمامة — دون أخذ جميع العوامل الأخرى التي تؤثر في أسعار المنازل في الاعتبار — كان من شأنه المغالاة في تأثير مدافن القمامة بدرجة كبيرة.
استخدام طرق تسعير الإشباع في تقدير الضرر الناتج عن مواقع مدافن القمامة في بريطانيا العظمى
استخدمت دراسة أُجريت عام ٢٠٠٣ طريقة تسعير الإشباع في تقدير تأثير القرب من موقع مدفن قمامة على أسعار المنازل، وذلك بُغية قياس تكاليف الضرر الناتجة عن مدافن القمامة (الضوضاء والرائحة الكريهة والمخلفات الملقاة والهوام … إلخ).
استخدمت الدراسة بيانات مستمدة من حوالي ٦٠٠ ألف معاملة بيع وشراء منازل خلال الفترة من ١٩٩١ إلى ٢٠٠٠، اعتمادًا على قاعدة معاملات الرهن الخاصة بجمعية تعاونية ضخمة للبناء في المملكة المتحدة. ووفر هذا بيانات عن أسعار البيع ومواصفات المنازل مثل: نوع المنزل وعمره ومساحة أرضه وعدد غرف النوم وغيرها من المرافق. وعكَس التحليل أيضًا مواصفات متنوعة اتسم بها الحي الواقع به المنزل. وبالجمع بين هذه المعلومات، فسرت هذه العوامل حوالي ٨٠٪ من التباين الإجمالي في أسعار المنازل.
ثم تقصت الدراسة عما إذا كانت أي من التباينات غير المفسرة المتبقية في أسعار المنازل يمكن أن تُعزى إلى وجود موقع لدفن القمامة في الحي، باستخدام بيانات حول ما يقارب ١١ ألف موقع حالي ومغلق لدفن القمامة، وبالأخذ في الاعتبار كلًّا من المسافة التي تفصل كل عقار عن مدفن القمامة وحجم كل موقع ونوع القمامة التي تُدفن فيه وحالته التشغيلية.
وُجدت علاقة ملحوظة من الناحية الإحصائية بين أسعار المنازل ووجود مواقع لدفن القمامة في الجوار، بعد تثبيت كافة المؤثرات الأخرى على أسعار المنازل. أدى وجود المنزل على مسافة ربع ميل من مدفن قمامة مشغَّل إلى انخفاض سعره بنسبة ٧٪ تقريبًا، أو بقيمة تبلغ في المتوسط ٥٥٠٠ جنيه استرليني حسب أسعار عام ٢٠٠٣، في حين كان لوجود المنزل على مسافة تتراوح بين ربع ميل ونصف ميل من مدفن القمامة تأثيرٌ أقل؛ حيث انخفضت أسعار المنازل بنسبة ٢٪. أما البعد عن مدافن القمامة بمسافات تتعدى نصف ميل لم يكن له تأثير يُذكر على الأسعار.
تحددت قيمة الضرر الإجمالية لمدافن القمامة في كل أنحاء المملكة المتحدة بناءً على هذه التقديرات بمبلغ ٢٫٥ مليار جنيه استرليني (حسب أسعار عام ٢٠٠٣)، أو حوالي ٤٠٠ ألف جنيه استرليني لكل موقع لدفن القمامة. ويعادل هذا تأثيرًا خارجيًّا للضرر يبلغ ١٫٨٦ جنيه استرليني لكل طن من النفايات.
لا يتضح السبب وراء ظاهرة اتجاه المجتمعات الأفقر من المتوسط للعيش بالقرب من مواقع دفن القمامة. أحد الاحتمالات هو أن لهذا علاقة بالعمليات التي تجري داخل سوق الإسكان، والتي بمقتضاها يكون الأفقر أكثر استعدادًا لتحمل الضرر الناتج عن مدفن القمامة، مقابل فارق معين في السعر، وحيث يعي متعهدو المنازل أن عمليات التنمية الإسكانية الجديدة بالقرب من مدافن القمامة لا يُرجح أن تجذب المشترين الأثرياء. لكن ثمة أدلة تشير إلى أن جزءًا من النمط يحدث من خلال العملية السياسية، وفيها تكون المجتمعات الأثرى ذات النفوذ السياسي الأقوى ومهارات ممارسة الضغط أكثر قدرة على صد اقتراحات بناء مواقع دفن القمامة الجديدة في أحيائهم.
سوق الإسكان هو المصدر الأساسي للأدلة المشيرة إلى تسعير الإشباع والمتعلقة باتخاذ القرارات البيئية. ورغم ذلك، يشكل المنهج نفسه أيضًا محورًا لبعض أكثر الدراسات المثيرة للجدل التي أُجريت حول التقييم البيئي، تلك الدراسات المتعلقة بتقييم التغييرات في احتمالات الوفيات؛ والتي يشار إليها أحيانًا باسم «القيمة الاقتصادية لحياة الإنسان». يمكن أن يترك عددًا من السياسات البيئية — شاملةً العديد من السياسات المتعلقة بتلوث الهواء بمنطقة من المناطق — تأثيرات خطيرة على صحة الإنسان، وفي بعض الأحيان على نسبة الوفيات. فقد يزيد الهواء المحتوي على نسبة عالية من التلوث من أمراض الجهاز التنفسي مثلًا ويمكن أن ترتفع معدلات الوفيات بين الأفراد، لا سيما أثناء الفترات التي ترتفع فيها نسبة التلوث ارتفاعًا شديدًا. وفي إمكان الإجراءات الهادفة للحد من تلوث الهواء أن تقلل في المقابل معدلات الوفاة المبكرة، والسؤال هنا هو: كيف يمكن أخذ هذا في الاعتبار في تحليل التكاليف والمنافع؟
استُمدت تقديرات القيمة الإحصائية لحياة الإنسان (أو بعبارة أخرى، انخفاض مخاطر الوفيات بما يعادل حالة وفاة واحدة أقل بين السكان) من أبحاث أُجريت على عدد من جوانب السلوك البشري؛ حيث يختار الأفراد تعريض أنفسهم لأنشطة تنطوي على درجات متنوعة من الخطورة. أحد هذه الاختيارات هو اختيار الوظيفة: تختلف الوظائف من حيث كون الشخص عرضة لخطر الموت في حادث عمل أو عن طريق التعرض لمخاطر متنوعة أثناء العمل. وفي المتوسط (إذا أخذنا في الاعتبار شروط المهارة وغيرها من العوامل ذات الصلة)، تشير الأدلة إلى أن الوظائف الأكثر خطورة تقدم معدلات أجور أعلى من أنواع العمل الأكثر أمانًا. كان «فارق الأجر التعويضي» هذا دليلًا على القيمة التي يحددها العمال أنفسهم للاختلافات في المخاطر الوظيفية؛ أي الأجر الإضافي الذي يطلبونه تعويضًا عن الخطر الإضافي. وتبدو التقديرات في الدول المتقدمة مرتفعة — حيث تبلغ في الولايات المتحدة مثلًا ٧ ملايين دولار لكل حالة وفاة إضافية — ويبدو أن استخدام هذه التقديرات في تحليل التكاليف والمنافع بدوره يعين أهمية كبيرة لإجراءات مكافحة التلوث التي تعمل على تقليل مخاطر الوفيات. يجب إدراك الشكوك التي تحوم حول هذه التقديرات، لكن الاستناد إليها باعتبارها دليل على ما يفعله الناس على أرض الواقع عندما يواجهون خيارات تتضمن اختلافات في التعرض لمخاطر الوفاة يعني أنها أكثر رسوخًا من النهج الأخرى المتاحة.
التقييم الاحتمالي
ثمة طريقة بديلة لتقييم الأشياء التي لا يُتاجر بها في الأسواق الفعلية — وبالتالي التي ليست لها أسعار سوقية — هي سؤال الناس مباشرةً عن مدى تقديرهم لوجود عدد أكبر أو أقل من تلك الأشياء. على سبيل المثال، طرحت دراسة سويدية أُجريت مؤخرًا سؤالًا على عينة من السكان عن مدى استعدادهم للدفع مقابل تطبيق «سياسة الحفاظ على الحيوانات الضارية» لضمان بقاء الذئاب والدببة وحيوان الوشق وحيوان الشَّره في الحياة البرية على المدى البعيد. لا يوجد سوق حقيقي يستطيع فيه الأشخاص الذين يقدرون وجود هذه الفصائل في الحياة البرية أن يعبِّروا عن تفضيلاتهم في صورة مدفوعات، ولم يكن الاستقصاء يطلب من الناس تقديم إسهامات حقيقية. لكنه كان يطلب من هؤلاء الذين شملهم الاستقصاء أن يتخيلوا أنفسهم في موقف يستطيعون فيه تقديم إسهام مالي يؤدي إلى بقاء هذه الفصائل في الريف السويدي، وأن يقولوا كم كانوا سيدفعون للحصول على هذه النتيجة.
تُستخدم طريقة «التقييم الاحتمالي» هذه على نطاق واسع في الاقتصاد البيئي. ويمكن استخدامها في قياس القيم بالنسبة لمجموعة موضوعات بيئية أكثر بكثير من تلك التي تتناولها أساليب تسعير الإشباع، التي لا يمكن تطبيقها إلا عندما يتصادف أن يكون الاستمتاع بالمنفعة البيئية مرتبطًا بشكل ما بإحدى المعاملات التجارية في السوق مثل شراء عقار أو تأجيره. ويمكن استخدامها أيضًا في قياس قيمة أشياء غير موجودة؛ أو تغييرات لا تزال قيد الدراسة. وعلى عكس تسعير الإشباع، يمكن استخدام هذه الطريقة في اكتشاف ما إذا كان الناس يعينون «قيم الوجود» للحفاظ على أنواع الكائنات أو الأماكن الطبيعية المهددة أو المواقع التاريخية والثقافية.
من بين الأمثلة التي استُخدم فيها التقييم الاحتمالي: الحفاظ على الأنواع، وإنشاء محميات طبيعية وغيرها من المرافق، والضرر البيئي الناتج عن حوادث التلوث، وتقديم صور مختلفة لمنشآت إعادة التدوير، وتحسين جودة الهواء. كما استُخدم في مجالات اقتصادية أخرى مثل قياس القيمة المحتملة لصور معينة من العلاج الطبي الذي قد يحسن صحة الأفراد أو جودة الحياة.
رغم أن التقييم الاحتمالي متعدد الاستخدامات، وربما تكون له أهمية كبيرة من حيث قدرته على التوصل لقيم لا تستطيع أي تقنية أخرى تناولها، فقد أثار جدلًا واسعًا. اشتعل جدل كبير في الولايات المتحدة عندما استُخدم التقييم الاحتمالي في تقدير مستوى الأضرار التي وجب قياسها نتيجة تلوث ساحل ألاسكا عندما جنحت ناقلة النفط «إكسون فالديز» عام ١٩٨٩؛ تقدم الدعوى القضائية والتقرير الذي قدمته لجنة التحقيق حول شرعية هذه التقنية حججًا جيدة التنظيم تتعلق بكلا جانبي الجدل.
تتفق غالبية الآراء عمومًا على أن الممارسة السليمة في استقصاء من هذا النوع تتطلب أن يبدأ المحاور الاستقصاء بعرض سياق الاختيار الذي سيُطلب من الأفراد المجيبين التفكيرُ فيه بوضوح وبالتفصيل قدر المستطاع. وفي حالة السؤال عن كثير من المشكلات البيئية، قد يحتاج المحاور إلى شرح كيفية حدوث المشكلة البيئية، إضافة إلى الحرص على توضيح التحسن قيد الدراسة. فعلى سبيل المثال، قد يبدأ استقصاء تقييم احتمالي يقيس منافع تحسن جودة الهواء نتيجة استثمار كبير في مكافحة تلوث الهواء بتوضيح الأسباب وراء التلوث القائم أولًا، باعتبارها خلفية ضرورية لاستيعاب نتائج الاختيار المُقدم. بعد ذلك، يجب أن يحدد بأكبر تركيز ودقة ممكنة التحسن الذي يعرضه سؤال الاستقصاء. وإحدى طرق فعل هذا في الاستقصاءات عن إجراء تحسينات في مدى وضوح الرؤية هي عرض صور «قبل» و«بعد» على المجيبين توضح مستويات مختلفة للرؤية، وتحديد عدد الأيام الأخرى «الصافية» في العام حين لا يكون هناك ما يشوب الرؤية. من الضروري تقديم هذه المعلومات عن سياق سؤال الاستقصاء ومعناه الدقيق من أجل الحصول على إجابات وافية عليه، لكن من الواضح أن هذا لا بد أن يتم بحرص بالغ، حيث ثمة احتمالات أن يؤثر المحاور — بقصد أو بدون قصد — على إجابات المجيبين، عن طريق إعطاء وصف مقنع بدلًا من أن يكون مجرد وصف إبلاغي.
التقييم الاحتمالي للحفاظ على الفيلة
جرى التحري عن مدى استعداد سكان الحضر للدفع مقابل الحفاظ على الفيل الآسيوي في دراسة قام بها رانجيث باندارا وكليم تسديل عام ٢٠٠٤ باستخدام طريقة التقييم الاحتمالي.
أُجريت الدراسة الاستقصائية على عينة من سكان العاصمة السريلانكية كولومبو بلغ عددهم ٣٠٠ شخص. عُرضت على المشاركين معلومات عامة حول المخاطر التي تكتنف بقاء الفيلة في سريلانكا، ووصف مفصل لاستراتيجية حفاظ محتملة يمكن تنفيذها عن طريق وكالة افتراضية يمولها صندوق ائتماني باستخدام إسهامات تطوعية.
ثم سُئلوا: «خلال السنوات الخمس القادمة، هل سترغبون في دفع ٥٠٠ روبية من الدخل الشهري للأسرة … في سبيل إنشاء صندوق الائتمان المقترح … للحفاظ على الفيلة الموجودة في البلاد؟» طُرح السؤال نفسه على الذين أجابوا «لا» مع اقتراح مبالغ أقل وصولًا إلى ٢٥ روبية. ثم طُلب من هؤلاء الذين أجابوا «لا» على كل هذه المبالغ أن يحددوا الحد الأقصى للمبلغ الذي سيكونون مستعدين لدفعه.
وفقًا للإحصاءات الإجمالية، كان ٩٣٪ من المجيبين مستعدين لدفع مبلغ ما: كان ٩٪ مستعدين لدفع أكبر مبلغ محدد؛ وكان ٥٠٪ مستعدين لدفع ١٠٠ روبية أو أكثر؛ وكان ٨٩٪ مستعدين لدفع ٢٥ روبية على الأقل. وبلغ متوسط الاستعداد للدفع شهريًّا ١١٠ روبيات (أي ما يعادل دولارًا أمريكيًّا واحدًا تقريبًا)، وهو مبلغ يمثل أقل بقليل من ١٪ من متوسط دخل المجيبين. كشف التحليل الإحصائي للعوامل المشكلة لاستعداد المجيبين للدفع عن أن هذا المبلغ كان أكبر بين المجيبين ميسوري الحال — هؤلاء الأفضل ثقافةً وتعليمًا — وبين الذين يمتلكون وعيًا أكبر بمسائل الحفاظ على الكائنات.
تشير هذه النتائج إلى أن سكان سريلانكا الحضريين ككل كانوا سيرغبون في دفع مبلغ إجمالي يبلغ نحو ٩٠ مليون دولار في العام من أجل الحفاظ على الفيلة. كان هذا يتجاوز بمراحل الضرر الذي تلحقه الفيلة بالمحاصيل والممتلكات في المناطق الريفية، والذي يبلغ إجماليه ١١ مليون دولار أمريكي سنويًّا. استنتج مصممو الاستقصاء أن وضع سياسة لتعويض الفلاحين عن الضرر الذي تسببه الفيلة حتى يتقبلوا وجودها ستكون خطوة مبررة وقابلة للنجاح.
عندما نصل إلى سؤال التقييم نفسه، نجد مجموعة من الاختيارات، التي تترتب عليها بعض النتائج المهمة. قد تكون أبسط صيغة للسؤال شيئًا من قبيل: «تجري دراسة تدابير من شأنها تحسين جودة المياه بهذا الامتداد من الساحل لترقى لمستوى الأمان من أجل سباحة الجمهور فيها: كم ستدفع للحصول على هذه النتيجة؟» وباستخدام سؤال «غير محدد الإجابة» كهذا، يستطيع المجيب الإجابة كما يشاء: «لا شيء» أو «سبعة جنيهات» أو «مائتي جنيه» أو أي مبلغ آخر. عندها يصبح تحليل النتيجة عملية سهلة للغاية. وطالما كانت عينة الأفراد الذين تُطرح عليهم الأسئلة تمثل كافة شرائح السكان، فإن متوسط الاستعداد للدفع عند السكان ككل هو ببساطة متوسط الإجابات المعطاة.
لا تَلقَى الأسئلةُ المفتوحة التي تقتضي أن يرد المجيب برقم معين قبولًا لدى الخبراء في هذا المجال حاليًّا؛ لأن الأدلة تشير إلى أن الأشخاص يعانون من الطبيعة غير المألوفة للسؤال. ثمة بضعة مواقف أخرى في الحياة اليومية نُسأل فيها عن المبلغ الذي قد نرغب في دفعه مقابل شيء ما. عندما نتسوق، نرى عامةً المنتجات معروضًا عليها أسعارُها، ونختار ما إذا كنا سنشتري سلعة ما بالسعر المعلن أم لا. لذا، ربما يبدو الأمر طبيعيًّا أكثر لو أننا سألنا أسئلة القيمة الاحتمالية بالطريقة نفسها. فبدلًا من السؤال: «كم كنت ستدفع؟» علينا أن نحدد مبلغًا. على سبيل المثال، يمكن أن نقول: «هل كنت سترغب في دفع ١٠ جنيهات مقابل هذا التحسين في جودة المياه؟» عندها يستطيع المجيبون أن يجيبوا «نعم» أو «لا». ولكن للأسف تخبرنا هذه الإجابة بمعلومات أقل بكثير من التي تقدمها الإجابة على سؤال مفتوح، ويصبح تحليل النتائج أكثر تعقيدًا. إذا أجاب المجيبون بالموافقة، فكل ما نستطيع استنتاجه هو أنهم مستعدون لدفع ١٠ جنيهات «على الأقل». قد يكون المبلغ ١٠ جنيهات فقط، وقد يكون أكبر بكثير من هذا. وبالمثل، إذا أجاب المجيبون بالرفض، فكل ما سنعلمه هو أنهم مستعدون لدفع مبلغ أقل من ١٠ جنيهات، وليس العشرة جنيهات تحديدًا. لاكتشاف المبلغ الذي يكون الشخص على استعداد لدفعه، سيكون علينا أن نطرح السؤال مرات عديدة، مستخدمين مبالغ مختلفة، حتى نكتشف القيمة الحدية التي تتبدل عندها إجابتهم من «نعم» إلى «لا».
مع الأسف، وُجد أن تكرار السؤال لمرات عديدة على الشخص نفسه يعرِّض الاستقصاء لخطر أن يؤدي هذا لإجابة قد لا تعكس تقييم الشخص الحقيقي. فقد يفقد بعض المجيبين صبرهم، ويغيِّرون إجابتهم فقط ليوقفوا ذلك الوابل الممل من الأسئلة. وقد يشعر آخرون دون وعي بأن الإجابة «الصحيحة» لا بد وأن تكون قيمة من بين القيم المعروضة، ويؤدي هذا إلى أن يؤثر تسلسل الأسئلة على الإجابة النهائية.
أيًّا كان السبب في هذا، تحتاج الدراسات الاستقصائية ذات الأسئلةِ المحددةِ الإجابةِ، والتي تحدد مبلغًا معينًا، إلى إجراء الاستقصاء على عدد من الأشخاص أكبر بكثير للحصول على القدر نفسه من المعلومات التي يوفرها السؤال غير محدد الإجابة. قد تكون هذه الدراسات أكثر موثوقيةً، لكن إجراءها يتطلب تكاليف أكثر.
كشفت تجربة الدراسات الاستقصائية للتقييم الاحتمالي عن عدد من مواطن الشذوذ الغامضة في طريقة إجابة الأشخاص. يثير بعضها الشك حيال ما إذا كانت الإجابات يمكن تفسيرها بالفعل على أنها دليل يشير إلى القيمة التي يحددها الأشخاص للسلع البيئية. لا تتناسب بعض أنماط الإجابات الشاذة مع النتيجة المتوقعة من أشخاص ينتقون اختيارات متناغمة وعقلانية، بناءً على مجموعة أساسية واضحة من التفضيلات الشخصية. فعلى سبيل المثال، إذا سُئل الأشخاص عن أكثر من إجراء في الاستقصاء نفسه، فيبدو أن ترتيب الأسئلة يؤثر في النتائج. ويبدو أنه ثمة اتجاه لدى الأشخاص للاستعداد لدفع مبلغ أكبر مقابل أي شيء يُسأل عنه أولًا، وإذا سُئلوا بعد ذلك عن شيء آخر، يتراجع استعدادهم للدفع. يعتقد بعض خبراء الاقتصاد أن هذا دليل على أن إجابات الأشخاص على استقصاءات القيمة الاحتمالية لا تخاطب في الحقيقة السؤال الفعلي المطروح، ولكنها تعكس «الإيثار الخالص» النابع من الرغبة في فعل شيء من أجل البيئة، بغض النظر عن محتواه. قد تعكس إجابتهم على السؤال الأول — أيًّا كانت هذه الإجابة — رغبتهم في إبداء الإيثار الخالص، وتعني إجاباتهم على الأسئلة التي تلي ذلك شيئًا مختلفًا تمامًا.
يستطيع الاستقصاء المخطط بإتقان أن يسبر غور إجابات الأشخاص ليتعرف على معناها بالضبط، وأن يقلل إلى الحد الأدنى مدى تأثر دراسات التقييم الاحتمالي بهذا وغيره من أنماط الشذوذ في إجابات الأفراد. بالرغم من هذا، تظل هذه التقنية مثيرة للجدل بين خبراء الاقتصاد. يصر البعض على أن مواضع الغموض وحالات عدم الاتساق العديدة التي توجد في نتائج الاستقصاءات تدل على وجود خطأ جوهري في الإجراء بأسره. تأتي الإجابات غير مرضية لأن العملية تطلب من الأشخاص أن يفعلوا شيئًا «لا يستطيعون فعله»، لأنه يختلف في جوهره عن أي شيء آخر يفعلونه في حياتهم اليومية.
مما لا شك فيه أن التقييم الاحتمالي يقود الناس إلى دروب غير مألوفة. فعليهم أن يجيبوا عن أسئلة افتراضية حول استعدادهم للدفع، وهذا قد يتطلب منهم أن يفكروا في كيفية تقريرهم للاختيارات، بدلًا من مجرد تحديد هذه الاختيارات. ويُطلب منهم في الوقت نفسه أن يقرروا بشأن قيمة السمات البيئية، وهي قرارات لم يضطروا إلى اتخاذها من قبل.
يمكن أن يكون الاعتراض على أن الاختيارات التي يطرحها التقييم الاحتمالي افتراضية اعتراضًا مبالغًا فيه، فنحن نعلم بالتأكيد أنه قد تكون هناك اختلافات كبيرة بين ما يقول الناس إنهم يريدونه وبين ما يختارونه فعلًا، ويميل خبراء الاقتصاد عمومًا إلى الثقة في الأفعال الحقيقية («التفضيلات التي تُكتشف عن طريق مراقبة الأفعال») أكثر من الأقوال باعتبارها دليلًا على آراء الأشخاص الحقيقية. لكن ما يقول الناس إنهم كانوا سيفعلونه في مواقف افتراضية ليس مجردًا تمامًا من الأهمية. يعتمد عدد كبير من أبحاث السوق التي تُجرى من أجل منتجات جديدة على سؤال الأشخاص عما إذا كانوا سيشترون منتجًا جديدًا قبل إنتاجه وتسويقه فعليًّا. والشركات مستعدة بقوة لدفع مبالغ كبيرة نظير هذه الدراسات، ولتنفيذ استثمارات باهظة تقوم جزئيًّا على نتائج هذه الدراسات.
أحد الأسباب التي تجعل الشركات تعطي أهمية لنتائج أبحاث السوق عن رد فعل المستهلكين تجاه المنتجات في مواقف افتراضية هو أنه يمكن الحكم على قيمة البحث مقارنةً بنتائج السوق التي تعقب ذلك. ولو كانت أبحاث السوق مضللة دائمًا بشأن سوق المنتجات الجديدة، فلن يجد باحثو السوق عملًا لهم. قد تمنحنا هذه الملاحظة بعض الثقة في التقييم الاحتمالي، لكنها تشير أيضًا — كلما أمكن — إلى أهمية العثور على أشكال أخرى من الأدلة لتكتمل الصورة التي تكونها أبحاث التقييم الاحتمالي حول القيم البيئية. تمنحنا المقارنة بين نتائج التقييم الاحتمالي وتقديرات القيمة البيئية التي يتم الحصول عليها من أساليب أخرى (مثل تسعير الإشباع) معلوماتٍ قيمةً عن موثوقيتها، وتساعدنا في التعرف على أنماط الأخطاء والتحيز وتصحيحها.