سأتحدَّث في محاضرتي الثانية عن النظرية الكمية للثقوب السوداء. ويبدو أنها تؤدي إلى
تفاقم
مشكلة عدم القدرة على التنبؤ في الفيزياء، بما يتخطَّى عدم التيقُّن المعتاد المرتبط
بميكانيكا الكم؛ وهذا لأنه يبدو أن الثقوب السوداء لها إنتروبيا داخلية، وأنها تفقد
البيانات الموجودة في منطقتنا من الكون. يتعيَّن أن أقول إن هذه الادعاءات محلُّ خلاف؛
فكثيرٌ
من أولئك الذين يدرسون الجاذبية الكمية — بما في ذلك تقريبًا كل من دخلوا إليها عن طريق
مجال فيزياء الجسيمات — سيرفضون فورًا فكرة أن البيانات المتعلقة بالحالة الكمية للنظام
يمكن أن تُفقَد، لكنهم لم ينجحوا إلا بقدرٍ ضئيل جدًّا في إظهار كيف يمكن للبيانات أن
تخرج
من الثقب الأسود. وأعتقد أنهم في النهاية سيكونون مُجبَرين على تقبُّل ادعائي بأنها تُفقَد،
تمامًا كما أُجبروا على الموافقة على أن الثقوب السوداء تبعث الإشعاع، وقد كان ذلك مخالفًا
لكل تصوراتهم السابقة.
سأبدأ بتذكيركم بالنظرية الكلاسيكية للثقوب السوداء. رأينا في المحاضرة السابقة أن
الجاذبية دائمًا تكون جاذبة، على الأقل في الأوضاع الطبيعية. فلو كانت الجاذبية أحيانًا
جاذبة وأحيانًا أخرى طاردة، مثل الديناميكا الكهربية، فما كنا لنُلاحظها مطلقًا؛ لأنها
ستكون
أضعف بمقدار مرة. والسبب الوحيد في أنه يمكن لقوة الجاذبية بين جسيمات جسمين مرئيين
بالعين المجردة — مثل البشر والكرة الأرضية مثلًا — أن تُنتج قوةً يمكننا الشعور بها،
هو أن
للجاذبية نفسَ الإشارة دائمًا.
إن حقيقة أن الجاذبية قوةٌ جاذبة تعني أنها ستميل إلى جذب المادة الموجودة في الكون
بعضها نحو
بعض، مكوِّنةً أجرامًا مثل النجوم والمجرات، وهذه الأجرام يمكنها البقاء لمدة ومقاومة
الانضغاط أكثر بفعل الضغط الحراري — في حالة النجوم — أو بفعل الدوران والتحركات الداخلية
—
في حالة المجرات — لكن في النهاية ستنهزم الحرارة أو الزخم الزاوي، وسيبدأ الجسم في
الانكماش. إذا كانت الكتلة أقل من كتلة الشمس بنحو مرة ونصف، يمكن وقف الانضغاط من خلال
الضغط الناشئ عن انخفاض مستويات الطاقة في الإلكترونات والنيوترونات، وسينتهي المطاف
بالجِرم
لأن يُصبح نجمًا قزمًا أبيضَ أو نجمًا نيوترونيًّا، على الترتيب. لكن لو كانت الكتلة
أكبر
من هذا الحد، فلا يوجد شيء يمكنه إبقاؤها متماسكةً ومنعها من الاستمرار في الانضغاط.
وبمجرد
انكماشها حتى تصل إلى حجم حرج معيَّن، سيصبح مجال الجاذبية على سطح الكتلة قويًّا جدًّا،
حتى إن المخاريط الضوئية ستنحني نحو الداخل، كما هو موضَّح في الشكل ٣-١.
كنت أودُّ أن أرسم لكم صورةً رباعية الأبعاد، لكن القيود التي تفرضها الحكومة على المصروفات
أدَّت إلى عدم قدرة جامعة كامبريدج على تحمُّل تكاليف أكثر من شاشاتٍ ثنائية الأبعاد؛
ومن ثَم
فقد مثَّلت الزمن بالاتجاه الرأسي، واستخدمت الرسم المنظوري لإظهار اتجاهَين من الاتجاهات
المكانية الثلاثة. يمكنكم ملاحظة أنه حتى أشعة الضوء المنبعثة ينحني بعضها نحو بعض؛ ومن
ثَم
فإنها تتقارب بدلًا من أن تتباعد. هذا يعني أنه يوجد سطحٌ محصور مغلق، وهو أحد الشروط
الثالثة البديلة التي تتضمنها نظرية هوكينج-بنروز.
شكل ٣-١: صورة توضِّح الزمكان أثناء انهيار نجم ليكوِّن ثقبًا أسود، ويظهر فيها أفق
الحدث وسطحٌ محصور مغلق.
إذا كانت حدسية الرقابة الكونية صحيحةً، فمن غير الممكن رؤية السطح المحصور، والمتفردة
التي يتنبأ بوجودها، من على بُعد؛ ومن ثَم لا بد من وجود منطقة في الزمكان لا يمكن لشيءٍ
الخروج منها إلى اللانهائية، وهذه المنطقة يُقال إنها ثقبٌ أسود، وحدُّها يُسمى أفق الحدث،
وهو
سطحٌ صفري ينشأ بفعل أشعة الضوء التي تفشل في الإفلات إلى اللانهائية. وكما رأينا في
المحاضرة السابقة، لا يمكن لمساحة القطع العرضي لأفق الحدث أن تنخفض أبدًا، حسب النظرية
الكلاسيكية على الأقل. ويشير ذلك، بالإضافة إلى حسابات الاضطراب في الانهيار الكُروي،
إلى أن
الثقوب السوداء سينتهي بها الأمر إلى حالةٍ مستقرة. وتُشير مبرهنة اللاشعر، التي برهنت
عليها الأعمال المجمَّعة لكل من إزرائيل وكارتر وروبنسون، وأنا، إلى أن الثقوب السوداء
الوحيدة المستقرة وسط غياب حقول المادة هي حلول كير. وهي تتميز بعاملين: الكتلة ، والزخم الزاوي . وقد وسَّع روبنسون مبرهنة اللاشعر لتشمل حالة وجود مجال كهرومغناطيسي.
وقد أضاف ذلك عاملًا ثالثًا هو ، الذي يرمز إلى الشحنة الكهربية (انظر ٣-٢).
ولم تثبت مبرهنة اللاشعر فيما يخص مجال يانج-ميلز، لكن الفرق الوحيد على ما يبدو هو إضافة
عدد صحيح واحد أو أكثر، يمثِّل مجموعةً منفصلة من الحلول غير المستقرة. ويمكن إثبات أنه
لم
يَعُد ثَمة المزيد من درجات الحرية المتصلة لثقوب أينشتاين-يانج-ميلز السوداء غير المرتبطة
بالزمن.
وما تبيِّنه مبرهنة اللاشعر هو أن كميةً ضخمة من المعلومات تُفقَد عند انهيار جسم
ليُكوِّن
ثقبًا أسود، ويوصف الجسم المنهار بعددٍ كبير جدًّا من العوامل، من هذه العوامل أنواع
المادة،
والعزوم المتعددة الأقطاب لتوزيع الكتلة؛ بيدَ أن الثقب الأسود الذي يتكوَّن يكون غيرَ
معتمد إطلاقًا على نوع المادة، ويفقد بسرعةٍ كلَّ العزوم المتعددة الأقطاب، عدا الاثنين
الأولين: العزم الأحادي القطب، وهو الكتلة؛ والعزم الثنائي القطب، وهو الزخم الزاوي.
شكل ٣-٢: مبرهنة اللاشعر: توصف الثقوب السوداء المستقرة من خلال كتلتها ، وزخمها الزاوي ، وشحنتها الكهربية .
ولم يكن فقد المعلومات هذا ذا أهمية حقيقية في النظرية الكلاسيكية. يمكننا القول إن
كل
المعلومات المتعلقة بالجسم المنهار ما زالت داخل الثقب الأسود، وسيكون من الصعب جدًّا
على
المُراقب خارج الثقب الأسود أن يحدِّد الحالة التي كان عليها الجسم المنهار قبل انهياره،
لكن
الأمر كان لا يزال ممكنًا — من حيث المبدأ — في النظرية الكلاسيكية؛ فلن يغيب الجسم المنهار
عن نظر المُراقب أبدًا، بل سيبدو وكأنه يتباطأ ويخفت بشدة مع اقترابه من أفق الحدث، لكن
يظل
بإمكان المُراقب أن يرى ماهيته وتوزيع الكتلة فيه، إلا أن نظرية الكم جاءت لتغيِّر كلَّ
ذلك.
أولًا: يُرسل الجسم المنهار عددًا محدودًا فقط من الفوتونات قبل عبوره أفق الحدث، وستكون
غير كافية بالمرة لنقل كل المعلومات المتعلقة بالجسم المنهار. ويعني هذا أنه في نظرية
الكم لا يمكن للمُراقب في الخارج أن يقيس حالة الجسم المنهار. قد نعتقد أن ذلك لن يشكِّل
أهميةً كبيرة؛ لأن المعلومات ستظل داخل الثقب الأسود حتى لو لم نستطع قياسها من الخارج.
لكن
هنا يأتي دور التأثير الثاني لنظرية الكم في الثقوب السوداء. كما سأوضِّح لكم، سوف تؤدي
نظرية الكم إلى أن تبعث الثقوب السوداء الإشعاع، وتفقد بعضًا من كتلتها. يبدو أنها في
نهاية
المطاف سوف تختفي تمامًا حاملةً معها المعلومات التي بداخلها. وسوف أقدِّم لكم براهين
على أن
هذه المعلومات تُفقَد حقًّا ولا تعود بأي صورة. وكما سأوضح، سيُضيف فقدُ المعلومات هذا
مستوًى
جديدًا من عدم التيقن في الفيزياء يفوق عدمَ التيقن المعتاد المصاحب لنظرية الكم. ومع
الأسف، وعلى خلاف مبدأ عدم التيقن لهايزنبرج، فإن هذا المستوى الإضافي من عدم التيقن
سيكون
إثباته تجريبيًّا أمرًا صعبًا في حالة الثقوب السوداء، ولكن، كما سأوضِّح في محاضرتي
الثالثة
(الفصل الخامس)، بطريقةٍ ما ربما نكون قد رصدناه بالفعل في قياسات الاضطرابات في إشعاع
الخلفية الميكروي.
اكتُشفت حقيقة أن نظرية الكم تؤدي إلى انبعاث الإشعاع من الثقوب السوداء للمرة الأولى
من خلال تطبيق نظرية المجال الكمي على خلفية ثقب أسود تكوَّن إثر عملية انهيار. ولفهم
كيف
يحدث ذلك، من المفيد أن نستخدم ما تُسمى عادةً مخططات بنروز، لكنني أعتقد أن بنروز نفسه
سيتفق معي على أنها في الواقع يُفترض أن تُسمى مخططات كارتر؛ لأن كارتر كان أول من استخدمها
على نحوٍ منهجي. في الانهيار الكُروي، لن يعتمد الزمكان على الزاويتين و، بل إن التغيرات الهندسية كلها ستحدث في المستوى . ولأن أيَّ مستوًى ثنائي الأبعاد يُوازي فضاءً مسطحًا، يمكننا تمثيلُ
البِنية السببية بمخطَّطٍ تكون فيه الخطوط الصفرية الواقعة في المستوى عند زاوية
من الرأسي.
دعونا نبدأ بفضاء منكوفسكي المسطَّح، الذي يتخذ شكل مخطَّط كارتر-بنروز، وهو عبارة
عن مثلَّث
يقف على أحد رءوسه (انظر الشكل ٣-٣). الضلعان القُطريان على الجانب
الأيمن يمثِّلان اللانهائية الصفرية الماضية واللانهائية الصفرية المستقبلية اللتين أشرتُ
إليهما في محاضرتي الأولى. وهما بالفعل في اللانهائية، لكن كل المسافات تنكمش بفعل عامل
مُتوازٍ مع الاقتراب من اللانهائية الصفرية الماضية أو اللانهائية الصفرية المستقبلية.
كلُّ
نقطة على هذا المثلث تمثِّل كرتين نِصفُ قُطْر كلٍّ منهما . و على الخط الرأسي إلى اليسار، الذي يمثِّل مركز التماثل، و على الجانب الأيمن من المخطط.
شكل ٣-٣: مخطط كارتر-بنروز لفضاء منكوفسكي.
وبالنظر إلى المخطط يمكننا بسهولةٍ ملاحظةُ أن كل نقطة في فضاء منكوفسكي تقع في
ماضي
اللانهائية الصفرية المستقبلية . وهذا يعني أنه لا وجود لثقبٍ أسود ولا أفق حدث. لكن لو كان لدينا جسمٌ
كُروي ينهار، فسيختلف المخطط (انظر الشكل ٣-٤)؛ فهو يبدو كما هو في
الماضي، لكن الآن أصبح الطرف العلوي من المثلث مقطوعًا، وحلَّ محلَّه نطاقٌ أفقي. هذه
هي
المتفردة التي توقَّعتها مبرهنة هوكينج-بنروز. بإمكاننا الآن ملاحظة وجود نقاط تحت هذا
الخط
الأفقي، ليست في ماضي اللانهائية الصفرية المستقبلية . وبعبارةٍ أخرى، يوجد ثقبٌ أسود. وأفق الحدث، أي حد الثقب الأسود، هو خطٌّ
قُطري يمتدُّ من الركن أعلى اليمين ويُلاقي الخط الرأسي الذي يمثِّل مركز التناظر.
شكل ٣-٤: مخطط كارتر-بنروز لنجمٍ ينهار ليكوِّن ثقبًا أسود.
يمكننا أن نعتبر أنه يوجد مجالٌ قياسي أمام هذه الخلفية. لو كان الزمكان غير معتمد على الزمن، لكان حلُّ
المعادلة الموجية التي تضمَّنت تردداتٍ موجبةً فقط على له ترددٌ موجب أيضًا على . وسيعني ذلك أنه لن يكون ثَمة إنتاج للجسيمات، ولن يكون ثَمة جسيماتٌ خارجة
على إذا لم يكن ثَمة جسيمات قياسية في البداية.
لكن الفضاء المتري يعتمد على الزمن أثناء الانهيار. وسيؤدي هذا إلى أن يصبح الحل
المتمثِّل
في ترددٍ موجب على ترددًا سالبًا جزئيًّا عند وصوله إلى . ويمكننا حساب هذا الخلط عن طريق أخذ موجة ذات اعتماد على الزمن مقداره على وجعلها تنتشر إلى الوراء عائدةً إلى . وعندما نفعل ذلك، نجد أن الجزء من الموجة الذي يمرُّ بالقرب من الأفق
يكون مُنزاحًا بشدةٍ نحو الأزرق. والمُدهِش أنه يتضح أن عملية الخلط تكون مستقلة عن تفاصيل
عملية الانهيار في حدود الأزمنة المتأخرة. وهي تعتمد فقط على الجاذبية السطحية التي تقيس شدة مجال الجاذبية على أفق الثقب الأسود. ويؤدي خلط الترددات
الموجبة والسالبة إلى إنتاج الجسيمات.
حين بدأت دراسةُ هذا التأثير للمرة الأولى عام ١٩٧٣، توقَّعت أن أجد طفرة في الانبعاث
أثناء
عملية الانهيار، وبعدها يخفُت تخليقُ الجسيمات، ويتبقى لدينا ثقبٌ أسود شديد السواد.
لكن
المفاجأة تمثَّلت في أنني وجدت أنه بعد حدوث طفرة أثناء الانهيار، استمرَّ تخليق الجسيمات
بمعدلٍ
ثابت، وكذلك استمر الانبعاث. علاوةً على ذلك، كان الانبعاث حراريًّا تمامًا، وكانت درجة
حرارته ، وكان ذلك هو المطلوب تمامًا لجعل فكرة أن الثقب الأسود له إنتروبيا
تتناسب مع مساحة أفق الحدث الخاص به متسِقة. إضافةً لذلك فقد أدَّى إلى إبقاء قيمة ثابت
التناسب عند ربع بوحدات بلانك، حيث . ويؤدي ذلك إلى أن تكون وحدة المساحة سنتيمترًا مربعًا؛ ومن ثَم فإن الثقب الأسود الذي تبلغ كتلتُه نفسَ كتلة
الشمس ستكون الإنتروبيا فيه من الدرجة . ومن شأن هذا أن يعكس العدد الهائل من الطُّرق التي يمكن تكوينه
بها.
الإشعاع الحراري للثقب الأسود
درجة الحرارة تُساوي
الإنتروبيا تُساوي
عند اكتشافي الأول لانبعاث الإشعاع من الثقوب السوداء، بدا أشبه بالمعجزة أن تؤدي
عمليةٌ
حسابية معقَّدة إلى انبعاثٍ حراري تمامًا، إلا أن الأعمال المشتركة بيني وبين جيم هارتل
وجاري
جيبونز كشفت عن السبب الأصلي. ولشرحه سأبدأ بمثال مترية شفارتسشيلد.
مترية شفارتسشيلد
يمثِّل هذا مجال الجاذبية الذي كان سيستقرُّ فيه الثقبُ الأسود لو لم يكن يدور. في
الإحداثيات المُعتادة و توجد نقطةٌ متفردة واضحة عند نصف قطر شفارتسشيلد ، لكنَّ السبب في هذا ليس سوى اختيار إحداثيات غير مناسبة. بإمكاننا
اختيار إحداثيات أخرى يكون الفضاء المتري فيها مُنتظمًا.
شكل ٣-٥: نموذج كارتر-بنروز لثقبٍ أسود أبدي، حسب شفارتسشيلد.
إن نموذج كارتر-بنروز يتخذ شكل الماسة، بوجهين عُلوي وسفلي مسطَّحين (انظر الشكل
٣-٥). وهو مقسَّم إلى أربعة أجزاء بفعل السطحين الصفريين، حيث . المنطقة على الجانب الأيمن، المُشار إليها بالرقم (١) على الرسم، هي الفضاء
المسطح تقاربيًّا حيث يُفترض أن نكون، وله لا نهائياتٌ صفرية ماضية ومستقبلية و مثل الزمكان المسطَّح. ويوجد جزءٌ آخر مسطَّح تقاربيًّا (٣) على الجانب الأيسر،
يبدو أنه مُناظر لكَونٍ آخر متصل بكوننا عبر ثقب دودي. لكنه، كما سنرى، متصل في الحقيقة
بمنطقتنا عبر زمن تخيُّلي. إن السطح الصفري الممتد من أسفل اليسار إلى أعلى اليمين هو
النطاق المحيط بالمنطقة التي يمكننا الإفلات منها إلى اللانهائية على الجانب الأيمن؛
ولذلك
فإنه أفق الحدث المستقبلي، ويوصف بأنه مستقبلي لتمييزه عن أفق الحدث الماضي الممتد من
أسفل
اليمين إلى أعلى اليسار.
دعونا الآن نَعُد إلى مترية شفارتسشيلد في الإحداثيات الأصلية و. لو افترضنا أن ، نحصل على فضاءٍ متري محدَّد موجب. وسأشير إلى مِثل ذلك الفضاء المتري المحدد
الموجب باعتباره إقليديًّا، رغم أنه قد يكون منحنيًا. ومرةً أخرى توجد نقطةٌ متفردة واضحة
عند في مترية شفارتسشيلد الإقليدية. لكن يمكننا تحديد إحداثي قُطري جديد بأنه .
مترية شفارتسشيلد الإقليدية
شكل ٣-٦: حل شفارتسشيلد الإقليدي، حيث يُعرَّف دوريًّا.
وإذا ما حدَّدنا للإحداثي الدورة ، يصبح النظام المتري في المستوى
شبيهًا بنقطة
الأصل في الإحداثيات القطبية. وبالمثل يصبح للأنظمة المترية الإقليدية الأخرى للثقوب
السوداء متفرداتٌ واضحة على أفق الحدث، يمكن إزالتُها عن طريق تحديد أن إحداثي الزمن
التخيلي
دورته (انظر الشكل ٣-٦).
إذن ما المَغزى من وجود زمن تخيلي محدَّد بالدورة ؟ لمعرفة ذلك، انظر السعة اللازمة للانتقال من تكوين مجالي على السطح إلى تكوين آخر على السطح ، وسيُمثَّل ذلك بعنصر المصفوفة . لكن يمكننا أيضًا تمثيل هذه السعة في صورة تكامل المسار على جميع الحقول بين و التي تتوافق مع الحقلَين المعطَيَين و على السطحين (انظر الشكل ٣-٧).
نختار الآن أن يكون الفرق الزمني
تخيليًّا بالكامل، ويُساوي (انظر الشكل ٣-٨)، كما نُساوي المجال الأولي بالمجال النهائي ، ونحسب المجموع على أساس الحالات كلها . على الجانب الأيسر، لدينا القيمة المتوقَّعة مجموعة على جميع الحالات، وهذه هي دالة تجميع المستويات في الديناميكا
الحرارية، ، عند درجة الحرارة .
في الطرف الأيمن من المعادلة، لدينا تكامل المسار. نُساوي ﺑ ، ونحسب المجموع على جميع التكوينات المجالية . هذا يعني أننا نحسب تكامل المسار على جميع المجالات في زمكانٍ محدَّد دوريًّا في اتجاه الزمن التخيلي بالدورة ؛ ومن ثَم فإن دالة تجميع المستويات للمجال عند درجة حرارة مُعطاة بتكامل المسار على جميع المجال في زمكانٍ إقليدي. هذا الزمكان يكون
دوريًّا في اتجاه الزمن التخيلي، ومحدَّد بالدورة .
شكل ٣-٧: السعة اللازمة للانتقال من الحالة على إلى الحالة على .
شكل ٣-٨: دالة تجميع المستويات عند درجة الحرارة معطاة بتكامل المسار على جميع المجالات في زمكانٍ إقليدي
محدَّد بالدورة في اتجاه الزمن التخيلي.
بحساب تكامل المسار في الزمكان المستوي، المحدد بالدورة في اتجاه الزمن التخيلي، نحصل على النتيجة المعتادة لدالة تجميع
المستويات الخاصة بإشعاع الأجسام السوداء. لكن، كما رأينا للتَّو، حل شفارتسشيلد الإقليدي
دوريٌّ أيضًا في الزمن التخيلي المحدَّد بالدورة . ويعني هذا أن المجالات في خلفية شفارتسشيلد ستتصرف كما لو كانت في حالةٍ
حرارية عند درجة حرارة .
تُفسر السمة الدورية للزمن التخيلي السببَ في أن العملية الحسابية المعقَّدة لخلط
الترددات أدَّت إلى ظهور إشعاع حراري تمامًا، لكن عملية الاشتقاق هذه تجنَّبت مشكلة
الترددات
العالية جدًّا التي تُساهم في عملية خلط الترددات، كما يمكن تطبيقها أيضًا عند وجود تفاعلات
بين المجالات الكمية في الخلفية. إن حقيقة أن تكامل المسار يحدث في خلفيةٍ دورية تدل
على أن
جميع الكميات الفيزيائية، مِثل القيم المتوقَّعة، ستكون حرارية. وهو أمرٌ كان سيصعب جدًّا
تحقيقه في عملية خلط الترددات.
ويمكننا مدُّ نطاق هذه التفاعلات لتشمل التفاعلات مع مجال الجاذبية نفسه؛ إذ نبدأ
بمقياس
للخلفية ، مثل مترية شفارتسشيلد الإقليدية، التي هي حلٌّ لمعادلات المجال
الكلاسيكية. ويمكننا عندئذٍ توسيع النشاط في متسلسلة القوى في الاضطرابات حول :
يختفي الحدُّ الخطي لأن الخلفية عبارة عن حل لمعادلات المجال. ويمكن اعتبار أن الحد
التربيعي يصفُ الجرافيتونات في الخلفية، بينما الحدود التكعيبية والأعلى من ذلك تصف
التفاعلات بين الجرافيتونات. تكامُل المسار على الحدود التربيعية تكاملٌ نهائي. توجد
انحرافاتٌ غير قابلة لإعادة التطبيع في حلقتين في الجاذبية التامة، لكن تأثيرها يُلغى
بالفرميونات في نظريات الجاذبية الفائقة. ليس معروفًا إن كانت نظريات الجاذبية الفائقة
تشمل
انحرافات في ثلاث حلقات أو أكثر؛ لأنه لم يتحلَّ أحدٌ بالشجاعة الكافية أو الطيش الكافي
ليجرِّب إجراء العملية الحسابية. تُشير بعض البحوث التي أُجريت مؤخرًا إلى أنها قد تكون
محدودة لجميع الدرجات، لكن حتى لو كانت توجد انحرافاتٌ حلقية أعلى فستُحدِث فارقًا طفيفًا
جدًّا، إلا في حالة كَوْن الخلفية منحنيةً على مقياس طول بلانك، وهو سنتيمترًا.
والأكثر إثارة من الحدود ذات الدرجة الأعلى هو الحد ذو الدرجة صفر، وهو فعل مقياس
الخلفية :
إن فعل أينشتاين-هيلبرت المعتاد للنسبية العامة هو مُكامل الحجم للمنحنى القياسي
، وقيمته صفر في حلول الفراغ؛ لذا قد نتصور أن فعل حل شفارتسشيلد الإقليدي
يُساوي صفرًا، لكن يوجد أيضًا حدٌّ سطحي في الفعل، يتناسب مع تكامل ، وهو أثر الصيغة الأساسية الثانية لسطح النطاق. بإدخال هذا مع طرح الحد
السطحي للفضاء المستوي، نجد أن تأثيرَ مترية شفارتسشيلد الإقليدية هو ، حيث هو الدورة في الزمن التخيلي عند اللانهائية؛ ومن ثَم فإن أهم ما يؤثِّر في
تكامل المسار لدالة تجميع المستويات هو :
وإذا ما اشتققنا بالنسبة إلى الدورة ، فسنحصل على قيمة الطاقة المتوقَّعة — أو بعبارة أخرى، الكتلة — بالشكل
الآتي:
ومن ثَم نحصل من ذلك على الكتلة ، ويُثبت ذلك صحة العلاقة بين الكتلة والدورة — أو معكوس درجة الحرارة —
التي كنا نعرفها بالفعل، ولكن يمكننا الذهاب لما هو أبعد من ذلك. بالمدخلات القياسية
للديناميكا الحرارية، لوغاريتم دالة تجميع المستويات يُساوي سالب الطاقة الحرة مقسومًا على درجة الحرارة :
شكل ٣-٩: النطاق عند اللانهائية في حل شفارتسشيلد الإقليدي.
والطاقة الحرة هي الكتلة أو الطاقة زائد درجة الحرارة مضروبةً في الإنتروبيا :
وبضمِّ كلِّ ذلك معًا نجد أن فعل الثقب الأسود يُعطي مقدارًا من الإنتروبيا :
وهذا بالضبط ما يلزَم لجعل قوانين الثقوب السوداء مُماثلةً لقوانين الديناميكا
الحرارية.
فلماذا نحصل على الإنتروبيا الجذبية الداخلية التي ليس لها مُكافئ في نظريات المجال
الكمي
الأخرى؟ السبب هو أن الجاذبية تسمح بظهور تكوينات مختلفة في منطوية الزمكان. وفي الحالة
التي نتحدث عنها هنا، يتضمن حل شفارتسشيلد الإقليدي وجود نطاق عند اللانهائية له طوبولوجيا
، حيث هو كرةٌ كبيرة ثنائية الأبعاد شِبه مكانية عند اللانهائية، ويمثِّل اتجاه الزمن التخيلي المحدَّد دوريًّا (انظر الشكل ٣-٩). ويمكننا ملءُ هذا النطاق بفضاءاتٍ مترية بتكوينَين مختلفين على الأقل؛ أحدهما بالطبع
هو
مترية شفارتسشيلد الإقليدية، وله طوبولوجيا ؛ أي مستوًى إقليدي ثنائي الأبعاد مضروب في كرةٍ ثنائية الأبعاد. الفضاء
المتري الآخر هو ، وهو طوبولوجيا فضاء إقليدي مسطَّح، محدَّد دوريًّا في اتجاه الزمن التخيلي.
ولهذين التكوينين عددَا أويلر مختلفان. إن عدد أويلر للفضاء المسطَّح المحدَّد بالدورة
هو صفر،
بينما في حالة حل شفارتسشيلد الإقليدي هو اثنان. وتكمن أهمية ذلك في الآتي: في طوبولوجيا
الفضاء المسطَّح المحدَّد بالدورة، يمكننا إيجادُ دالة زمنية دورية لا يكون تدرجها صفرًا في أي مكان، وتتوافق مع إحداثي الزمن التخيلي على
الحد عند اللانهائية؛ ومن ثَم يمكننا حساب الفعل للمنطقة بين سطحين و. سيكون ثَمة شيئان يُسهمان في الفعل، هما: تكاملٌ حجمي على لاجرانجية
المادة، زائد لاجرانجية أينشتاين-هيلبرت؛ وحدٌّ سطحي. إذا كان الحل مستقلًّا عن الزمن،
يُحذَف
الحد السطحي المقسوم على مع الحد السطحي المقسوم على ؛ ومن ثَم فإن العامل الوحيد المؤثِّر في الحد السطحي يأتي من النطاق عند
اللانهائية. ويُعطينا ذلك نصف الكتلة مضروبًا في فترة الزمن التخيلي . وإذا كانت الكتلة غير صفرية، فلا بد من وجود مجالات غير صفرية من المادة
لتوجد الكتلة. ويمكننا إثباتُ أن التكامل الحجمي على لاجرانجية المادة، زائد لاجرانجية
أينشتاين-هيلبرت، يُعطينا أيضًا ؛ ومن ثَم فإن الفعل الكلي هو (انظر الشكل ٣-١٠). وإذا أخذنا مكون لوغاريتم دالة
تجميع المستويات هذا ووضعناه في صيغة الديناميكا الحرارية، فسنجد أن قيمة الطاقة المتوقعة
هي الكتلة، كما هو متوقع، ولكن قيمة الإنتروبيا الناتجة عن مجال الخلفية ستكون
صفرًا.
شكل ٣-١٠: فعل الفضاء الإقليدي المسطح والمحدد بالدورة يُساوي .
شكل ٣-١١: الفعل الكلي لحل شفارتسشيلد الإقليدي يُساوي ، حيث نستبعد تأثير الزاوية من .
لكن في حالة حل شفارتسشيلد الإقليدي يختلف الأمر. فلما كان عدد أويلر يُساوي اثنين
وليس
صفرًا، فلا يمكننا إيجادُ دالة للزمن ميلها غير صفري في كل مكان. أقصى ما في وسعنا هو أن نختار إحداثي الزمن
التخيلي لحل شفارتسشيلد، وله كرةٌ ثنائية الأبعاد ثابتة عند الأفق، حيث تتصرف الدالة
كإحداثي زاوي. والآن إذا حسبنا الفعل بين سطحين لهما ثابت ، يفنى التكامل الحجمي؛ لأنه لا وجود لمجالات المادة، والانحناء القياسي
يُساوي صفرًا. ومرةً أخرى يُعطينا الحد السطحي عند اللانهائية ، بيدَ أنه لدينا الآن حدٌّ سطحي آخر عند الأفق، حيث يلتقي السطحان و في زاوية. ويمكننا حساب قيمة هذا الحد السطحي؛ لنجد أنه يُساوي أيضًا (انظر الشكل ٣-١١)؛ ومن ثَم فإن الفعل الكلي للمنطقة
المحصورة بين و هو . وباستخدام هذا الفعل مع ، نجد أن قيمة الإنتروبيا تُساوي صفرًا. لكن إذا ما نظرنا إلى فعل حل
شفارتسشيلد الإقليدي من منظورٍ رباعي الأبعاد بدلًا من ، نجد أنه لا يوجد سبب لتضمينِ حدٍّ سطحي على الأفق؛ لأن الفضاء المتري
هناك منتظم. وباستبعاد الحد السطحي على الأفق، يقلُّ الفعل بمقدار ربع مساحة الأفق، وهو
ما يُساوي بالضبط مقدار الإنتروبيا الجذبية الداخلية للثقب الأسود.
إن حقيقة أن إنتروبيا الثقوب السوداء ترتبط بلا مُتغير طوبولوجي — وهو عدد أويلر —
ترجح
بقوة أنها ستظل موجودة حتى لو اضطررنا إلى الانتقال إلى نظريةٍ أكثر جوهرية. تُعَد هذه
الفكرة بمثابة انتهاك جائر للمبادئ من وجهة نظر أغلب علماء فيزياء الجسيمات، الذين يتسمون
بأنهم فئةٌ محافظة بشدة، ويريدون جعلَ كلِّ شيء يُشبِه نظرية يانج-ميلز. يتفق هؤلاء العلماء
فيما بينهم على أن الإشعاع الصادر من الثقوب السوداء يبدو حراريًّا ولا تؤثِّر عليه الكيفية
التي تكوَّن بها الثقب في حال كان الثقب كبيرًا مقارنةً بطول بلانك، لكنهم يدَّعون أنه
عندما
يفقد الثقب الأسود بعضًا من كتلته ويتقلص في الحجم ليصل إلى حجم بلانك، تنهار النسبية
العامة الكمية وقد يحدث أيُّ شيء. لكنني سأتحدث الآن عن تجربةٍ افتراضية للثقوب السوداء،
يبدو فيها أن المعلومات قد فُقدت، بينما الانحناء خارج الآفاق يظل ضئيلًا دائمًا.
عُرِف منذ زمنٍ أنه يمكننا تكوين أزواج من الجسيمات المشحونة بشحناتٍ موجبة وسالبة
في مجالٍ
كهربي قوي. إحدى الطُّرق لفهم ذلك هي ملاحظة أنه في الفضاء الإقليدي المسطح، يتحرك جسيمٌ
شحنته — كإلكترون على سبيل المثال — في مسارٍ دائري في مجالٍ كهربي منتظم . ويمكننا تحليليًّا الاستمرار في هذه الحركة من الزمن التخيلي إلى الزمن الحقيقي ؛ ومن ثَم نحصل على زوج من جُسيمين مشحونين بشحنةٍ موجبة وشحنةٍ سالبة،
يتسارعان مبتعدين بعضهما عن بعض، يجذبهما المجالُ الكهربي بعيدًا بعضهما عن بعض (انظر
الشكل
٣-١٢).
شكل ٣-١٢: في الفضاء الإقليدي، يتحرك أحدُ الإلكترونات في مسارٍ دائري في مجالٍ
كهربي. أما في فضاء منكوفسكي، فلدينا زوج من الجسيمات متنافرة الشحنة،
يتسارعان مبتعدين بعضهما عن بعض.
إن عملية تكوين زوج الجسيمات يمكن تفسيرُها بقسمة كل شكل من الشكلين إلى نصفين، عبر
الخطَّين و؛ ومن ثَم نضمُّ النصف العلوي من مخطَّط فضاء منكوفسكي إلى النصف السفلي من
مخطَّط الفضاء الإقليدي (انظر شكل ٣-١٣). ونحصل من هذا على صورةٍ يكون فيها
الجسيم الموجب الشحنة والجسيم السالب الشحنة جسيمًا واحدًا، ويمرُّ بشكلٍ نفقي عبر الفضاء
الإقليدي؛ لينتقل من أحد خطوط العالم في فضاء منكوفسكي إلى خط عالم آخر. وبتقريبٍ أولي
نجد
أن احتمالية تكوين زوج الجسيمات هي ، حيث إن:
الفعل الإقليدي يُساوي .
إن عملية تكوين أزواج الجسيمات بمجالات كهربية قوية قد رُصدت تجريبيًّا، ويتفق المعدل
مع هذه التقديرات.
يمكن للثقوب السوداء أيضًا أن تحمل شحناتٍ كهربية؛ ومن ثَم قد نتوقع أن تتكوَّن هي
أيضًا
في صورة أزواج، إلا أن المعدل حينها سيكون ضئيلًا جدًّا مقارنةً بمعدل تكوين أزواج
الإلكترون-البوزيترون؛ لأن نسبة الكتلة إلى الشحنة أكبر بمقدار مرة. وهذا يعني أنه يمكن تحديد أي مجال كهربي بتكوين زوج
الإلكترون-البوزيترون، وذلك قبل وقت طويل من ظهور أي احتمالية كبيرة لتكوين الثقوب
السوداء بتكوين أزواج منها، لكن توجد أيضًا حلول ثقوب سوداء بشحنات مغناطيسية. لم يكن
بالإمكان لمِثل هذه الثقوب السوداء أن تنتج عن طريق انهيار الجاذبية؛ وذلك لأنه لا توجد
جسيماتٌ أولية مشحونة مغناطيسيًّا، لكننا قد نتوقَّع إمكانية تكوُّنها على هيئة أزواج
في مجالٍ
مغناطيسي قوي. في هذه الحالة، لن يُنافسها تكوين الجسيمات العادي؛ لأن الجسيمات العادية
لا تحمل شحنات مغناطيسية؛ ومن ثَم يمكن للمجال المغناطيسي أن يصبح قويًّا بما يكفي لوجود
فرصة
حقيقية لتكوين زوج من الثقوب السوداء المشحونة مغناطيسيًّا.
شكل ٣-١٣: توضَّح عملية تكوين أزواج الجسيمات عن طريق ضم نصف المخطط الإقليدي إلى
نصف مخطط منكوفسكي.
في عام ١٩٧٦ توصَّل إرنست إلى حل يمثِّل ثقبين أسودين مشحونين مغناطيسيًّا، يتسارعان
مبتعدين بعضهما عن بعض في مجالٍ مغناطيسي (انظر الشكل ٣-١٤). وإذا
أكملناه تحليليًّا في الزمن التخيلي، يصبح لدينا صورة شبيهة جدًّا بصورة عملية تكوين
زوج
الإلكترونات (انظر الشكل ٣-١٥). يتحرك الثقب الأسود في مسارٍ دائري في
فضاءٍ إقليدي مُنحنٍ، تمامًا مثل حركة الإلكترون الدائرية في الفضاء الإقليدي المسطح.
ثَمة
تعقيد في حالة الثقوب السوداء؛ لأن إحداثي الزمن التخيلي يكون دوريًّا عند أفق الثقب
الأسود، وكذلك حول منتصف الدائرة التي يتحرك عليها الثقب الأسود. وعلينا ضبطُ نسبة الكتلة
إلى الشحنة للثقب الأسود لجعل هذه الدورات مُتساوية. ويعني ذلك فيزيائيًّا أننا نختار
بارامترات الثقب الأسود، بحيث تكون درجة حرارته مُساويةً لدرجة الحرارة التي يختبرها
بسبب
أنه يتسارع. تميل درجة حرارة الثقب الأسود المشحون مغناطيسيًّا إلى الصفر، بينما تميل
الشحنة
إلى الكتلة بوحدات بلانك؛ ومن ثَم ففي حالة المجالات المغناطيسية الضعيفة، أي مع التسارع
الضئيل، يمكننا دائمًا أن نُطابق بين الدورات.
شكل ٣-١٤: زوج من ثقبين أسودين متنافرَي الشحنة، يتسارعان مبتعدين بعضهما عن بعض
في مجالٍ مغناطيسي.
شكل ٣-١٥: ثقبٌ أسود مشحون يتحرك في مسارٍ دائري في فضاءٍ إقليدي.
وكما في حالة عملية تكوين زوج الإلكترونات، يمكننا شرحُ عملية تكوين زوج من الثقوب
السوداء بضمِّ النصف السفلي من حل الزمن التخيلي الإقليدي إلى النصف العلوي من حل
لورنتز للزمن الحقيقي (انظر الشكل ٣-١٦). ويمكننا التفكير في الثقب
الأسود باعتباره يمرُّ في مسارٍ نفقي عبر المنطقة الإقليدية، ويظهر في صورة زوج من الثقوب
السوداء المتنافرة الشحنة، التي تتسارع مبتعدةً بعضها عن بعض بفعل المجال المغناطيسي.
إن
حلَّ الثقب الأسود المُتسارع ليس مسطَّحًا تقاربيًّا؛ لأنه يميل إلى مجالٍ مغناطيسي منتظم
عند
اللانهائية. ومع ذلك ما زال بإمكاننا استخدامه لتقدير معدل تكوين أزواج الثقوب السوداء
في
منطقةٍ محلية من المجال المغناطيسي. يمكننا أن نتخيل أنه بعد التكوين يبتعد الثقبان الأسودان
بعضهما عن بعض، ويدخلان في مناطق خالية من المجال المغناطيسي. وعندها يمكننا التعامل
مع
كل ثقب أسود على نحوٍ مُنفصل باعتباره ثقبًا أسود في فضاءٍ مسطَّح تقاربيًّا. ويمكننا
إلقاء
كمية ضخمة جدًّا من المادة والمعلومات في كل ثقب منهما؛ ومن ثَم يُطلِق الثقبان إشعاعًا
ويفقدان بعضًا من كُتلتَيهما، بيدَ أنه لا يمكنهما فقدُ شحنتهما المغناطيسية؛ وذلك لعدم
وجود
أي جسيمات مشحونة مغناطيسيًّا؛ ومن ثَم يعودان في النهاية إلى حالتهما الأولى، وتكون
كُتلتاهما أكبرَ قليلًا من الشحنة. ويمكننا عندئذٍ ضمُّ الثقبين الأسودين بعضهما إلى
بعض مرةً
أخرى، حيث يُفني كلٌّ منهما الآخر. ويمكن اعتبار عملية الفناء هذه المعكوسَ الزمني لعملية
تكوين
الزوج؛ ومن ثَم تُمثَّل بالنصف العلوي من الحل الإقليدي، مضمومًا إلى النصف السفلي
من حل
لورنتز. وما بين تكوين الزوج وفنائه، قد نجد فترة لورنتز طويلة حيث يبتعد الثقبان بعضهما
عن
بعض، ويُراكمان المادة، ويُطلِقان إشعاعًا، ثم يعودان مرةً أخرى بعضهما إلى بعض. لكن
تكوين
مجال الجاذبية سيكون هو تكوين حل إرنست الإقليدي، وهو ناقص نقطة واحدة (انظر الشكل ٣-١٧).
شكل ٣-١٦: يُشرَح التحرك في مسارٍ نفقي لتكوين زوج من الثقوب السوداء، كذلك بضمِّ نصف
المخطط الإقليدي إلى نصف مخطط لورنتز.
شكل ٣-١٧: يتكون زوج من ثقبين أسودين عن طريق اتخاذ مسار نفقي، وفي النهاية يفنيان
عن طريق اتخاذ مسار نفقي أيضًا.
وقد نخشى من أن يُخرَق القانون الثاني العام للديناميكا الحرارية عند فناء الثقوب
السوداء؛ لأن منطقة أفق الثقب الأسود ستكون عندئذٍ قد اختفت، لكن يتضح لنا أن منطقة أفق
التسارع في حل إرنست أصغر من المساحة التي كانت ستتخذها لو لم يحدُث تكوين للزوج. هذه
عمليةٌ حسابية دقيقة؛ لأن منطقة أفق التسارع لا نهائية في كلتا الحالتين. ورغم ذلك، يظل
من
المنطقي أن يكون الفرق بينهما محدودًا، ويُساوي منطقة أفق الثقب الأسود زائد الفرق في
فعل
الحلول مع تكوين الزوج ودونه. ويمكن فهمُ ذلك بالقول إن عملية تكون الزوج هي عمليةٌ صفرية
الطاقة؛ أي إن المؤثِّر الهاملتوني في وجود عملية تكوين الزوج هو نفس المؤثر الهاملتوني
دونها. أنا مُمتنٌّ بشدة لكلٍّ من سيمون روس وجاري هورُويتز لحسابهما مقدار هذا الانخفاض
في
الوقت المناسب قبل إلقائي هذه المحاضرة. إن معجزات كهذه — وأعني النتيجة نفسها، وليس
أنهما
توصَّلا إليها — هي التي تجعلني مُقتنعًا بأن الديناميكا الحرارية للثقوب السوداء لا
يمكن
أن تكون مجرد تقريب منخفض الطاقة. أعتقد أن الإنتروبيا الجذبية لن تختفي، حتى لو اضطررنا
إلى الانتقال إلى نظريةٍ أكثر جوهرية للجاذبية الكمية.
ويمكننا أن نستنبط من هذه التجربة الافتراضية أننا نحصل على إنتروبيا جذبية داخلية،
كما
تُفقد المعلومات، عندما تختلف طوبولوجيا الزمكان عن طوبولوجيا فضاء منكوفسكي. إذا كانت
الثقوب السوداء المكونة تظهر في صورة أزواج كبيرة مقارنةً بحجم بلانك، فإن الانحناء خارج
الآفاق سيكون ضئيلًا في كل مكان مقارنةً بمقياس بلانك. هذا يعني أن التقريب الذي قمتُ
به
باستبعاد الحدود المكعبة والتي أسُّها أكبر من ذلك في الاضطرابات هو أمرٌ جيد؛ ومن ثَم
فإن
ما انتهينا إليه بأن المعلومات يمكن أن تُفقد في الثقوب السوداء يُفترض أن يكون أمرًا
مؤكدًا.
إذا كانت المعلومات تُفقد في الثقوب السوداء الظاهرة للعيان، فيُفترض أن تُفقد أيضًا
في
العمليات التي تظهر فيها الثقوب السوداء المجهرية الافتراضية بسبب الاضطرابات الكمية
للفضاء
المتري. ويمكننا أن نتصور أن الجسيمات والمعلومات يمكن أن تسقط في هذه الثقوب وتُفقد.
ربما
يكون ذلك هو أيضًا ما حدث لكل تلك الجوارب المفقودة. ستُحفظ الكميات — مثل الطاقة والشحنة
الكهربية — التي يرتبط بعضها يبعض لسَبْر المجالات، بيدَ أن غير ذلك من المعلومات والشحنات
العامة سيُفقَد. من شأن هذا أن يكون له آثارٌ بعيدة المدى في نظرية الكم.
يُفترض عادةً أن النظام الذي يكون في حالةٍ كمية خالصة يتطور على نحوٍ موحَّد عبر
عدة
حالات كمية متتابعة. إذا فُقدت المعلومات عبر ظهور الثقوب السوداء واختفائها، فلا يمكن
أن
يحدث تطورٌ موحَّد. بدلًا من ذلك، سيعني فقدُ المعلومات أن الحالة النهائية بعد اختفاء
الثقوب
السوداء ستكون هي الحالة التي يُطلَق عليها «حالة كمية مختلطة». يمكن اعتبار ذلك مجموعةً
من
حالاتٍ كمية صافية مختلفة، لكلٍّ منها احتماليته الخاصة. لكن لأنها ليست يقينًا في حالةٍ
واحدة، لا يمكننا تقليل احتمالية الحالة النهائية إلى الصفر عن طريق التدخل في أي حالة
كمية. هذا يعني أن الجاذبية تطرح مستوًى جديدًا من عدم القدرة على التنبؤ في الفيزياء،
يفوق
مقدار عدم التيقن المُصاحب عادةً لنظرية الكم. سأوضِّح في محاضرتي القادمة (الفصل الخامس)
أننا
ربما نكون قد شاهدنا بالفعل هذا القدر الإضافي من عدم التيقن. وهو يعني انتهاء الأمل
في
الوصول إلى حتميةٍ علمية؛ أي انتهاء الأمل بأن يُصبح بإمكاننا توقُّع المستقبل توقعًا
يقينيًّا. يبدو أن الرب ما زال يُخفي في جعبته بعض الأسرار (انظر الشكل ٣-١٨).