مقدمة
تنعكس صورة العصر على أقلام الكُتَّاب والمفكرين بإحدى طريقتَين، فهؤلاء الكُتَّاب والمفكِّرون إما أن يصوِّروا واقع الحياة من حولهم تصويرًا أمينًا، بحيث يبدو على صفحات كتبهم وجهُ الحياة القائمة كما هو بملامحه ومعالمه وقَسَماته ولمحاته، أو أن يصوِّروا هذا الواقع بالثورة عليه ومحاولة قلب أوضاعه. وعندئذٍ يستطيع القارئ أن ينظر إلى صفحات الكتاب، لا ليرى وجه الحياة كما هو، بل ليستدلَّه استدلالًا من الصورة الكاملة التي خلقها صاحب الكتاب بفكره، ليُصْلِحَ بالكمال الذي رسمه بقلمه، نقصَ الحياة الشائعة التي يريد تقويمها وإصلاحها؛ فالصورة في هذه الحالة الثانية لا تصوِّر الشبيه بشبيهه، بل تدل على الشيء بالإشارة إلى نقيضه، فلو كان الناس يعيشون — مثلًا — في عصر تسوده القسوة والشدة والعنف، كان الأرجح أن يكتب بعض المفكرين داعين إلى اصطناع الرحمة والرفق والتسامح، وإن كانوا يَحْيَون في عصر يسوده التراخي وميوعة العواطف، فالأرجح كذلك أن يجيء تفكير المفكرين في جملته أمْيَل إلى دعوة الناس إلى شيء من التماسك والصلابة والشدة؛ ومن قبيل ذلك أنه إذا انزلق قوم مع نعومة الإيمان الساذج وطَراوته؛ ظهر المفكر الذي يدعوهم إلى التشكك والتعقل كما فعل ديكارت في عصره، وكذلك إن غلا القوم في تقييد أنفسهم بشكائم العقل ومنطقه؛ ظهر المفكر الذي يثير فيهم الوجدان الشاعر والقلب النابض الحَسَّاس، كما فعل روسو رادًّا على فعل فولتير وتابعيه.
وعقيدتي هي أن عصرنا هذا في مصر بصفة خاصة، يسوده استهتار عجيب في كل شيء، والذي يهمني الآن ناحية خطيرة من نواحي حياتنا، هي ناحية التفكير والتعبير؛ فقد اعتادت الألسنة والأقلام أن ترسل القول إرسالًا غير مسئول، دون أن يطوف ببال المتكلم أو الكاتب أدنى الشعور بأنه مطالَب أمام نفسه وأمام الناس، بأن يجعل لقوله سندًا من الواقع الذي تراه الأبصار وتمسه الأيدي.
فلو كان هذا «الارتجال» الحر الطليق من قيود الواقع وشكائمه مقصورًا على جوانب هَيِّنة يسيرة من حياتنا، لما كان الأمر بحاجة إلى جهد يُبْذَل، لكنه ارتجال اتسعت رقعته، حتى شمل حياتنا العملية والعلمية كلها أو كاد، بحيث أصبح أمرًا مألوفًا أن نرى الحاكم عندنا يحكم الناس بلا عدٍّ أو حساب، والاقتصادي يَصْدُرُ في مشروعاته عن غير إحصاء وأرقام، والعالِم يقول القَوْل بلا سند أو دليل.
وهذه كلها — في حقيقة الأمر — فروع تفرَّعت عن مشكلة أعم وأضخم، هي مشكلة الأخلاق التي أحاطت بحياتنا الفردية والاجتماعية من جميع جهاتها، فتراها بادية في مظاهر لا تخطئها العين المسرعة العابرة؛ وهل من سبيل أمام الرائي أن تخطئ عينه هذا الاستخفاف الشامل، الذي رفع عن كواهل الناس كل شعور بالتَّبِعة فيما يقولون وما يفعلون؟ لا فرق في ذلك بين حاكم ومحكوم، وكدتُ أقول ألا فرق بين عالم وجاهل، فهو استخفاف بكل شيء، قد تغلغل في ثنايا حياتنا، واصطبغت بلَوْنه دنيانا بكل ما فيها من جليل وتافه، حتى أصبح المتعقب للحق — على عُسْر الطريق ومشقته — هو الحقيقي مِنَّا بالسخرية والضحك.
•••
وهذا كتاب يتشدَّد في الشروط المفروضة على المتكلم الجاد إذا ما نطق بعبارة أراد بها انتقال فكرة من رأسه إلى رءوس الآخرين؛ فلئن كانت الفلسفة في هذا الكتاب مدار الحديث، وإن كانت الميتافيزيقا هدف النقد والهدم، فما ذلك إلا لنضع منوالًا أمام القارئ ينسج عليه عباراته، ومقياسًا يميِّز به ما يصلح أن يكون قولًا علميًّا مقبولًا وما لا يصلح، نعم إنه واجد ها هنا شروطًا تُضيِّق مجال القول إلى حد بعيد، لكن ما حيلتنا إن كان القول الصادق لا يجاوز هذا المجال الضيق الضئيل؟!
وإني أصارح القارئ منذ فاتحة الكتاب، بأنه مقبل على صفحات لم تُكْتَب للتسلية واللهو، لكنه إن صادَفَ في دراسته الكتاب شيئًا من العُسر والمشقة — وبخاصة في الفصول التي تناولت فن التحليل الفلسفي، وهي الفصول الثلاثة الأخيرة — فأملي أن يجد بعد ذلك جزاء ما تكبَّد من مشقة وعُسر، وجزاؤه هو أن يُلِمَّ بطرف رئيسي هام من التفكير الفلسفي المعاصر، لعله بذلك أن يشارك أصحاب الفكر في عصره تفكيرهم، وتلك هي الوسيلة التي لا وسيلة سواها أمام الإنسان ليحيا في العصر الذي أراد له الله أن يعيش فيه.
سيجد القارئ في الفصل الأول من هذا الكتاب عرضًا وتأييدًا للفكرة القائلة بأنه لا يجوز للفيلسوف أن يقول جملة واحدة يحاول بها أن يصف الكون أو أي جزء منه، وكل مهمته أن يُحلِّل العبارات التي يقولها العلماء في أبحاثهم العلمية والناس في حياتهم اليومية، تحليلًا يبيِّن مكنون هذه العبارات؛ حتى نطمئن جميعًا إلى سلامة ما يُقال؛ إذ هي مهزلة المهازل أن يجلس الفيلسوف على كرسيِّه في عقر داره مُسْنِدًا رأسه على راحتَيه، زاعمًا لنا ولنفسه أنه يفكر في حقيقة العالم، كأنما العلماء أمام مخابيرهم وموازينهم ومقاييسهم يلهون ويعبثون ولا يبحثون عن حقيقة العالم بحثًا هو أجدى على الناس من ألف ألف رسالة فلسفية في هذا السبيل.
وفي الفصل الثاني بحث في الفلسفة النقدية عند «كَانْت» أردت به أن أسوق للمشتغلين بالدراسات الفلسفية مثلًا فنيًّا للتحليل الفلسفي كيف بلغ حدًّا بعيدًا من الدقة والعمق على يدي رجل من أضخم رجال التحليل في تاريخ الفكر كله، فإن وجد القارئ العادي مشقة في تتبع هذا الفصل، فليتركه حينًا حتى تتهيأ له الدراسة التي تعينه على ذلك، ولن يؤثِّر هذا أثرًا ملحوظًا في تتبعه الفكرة الرئيسية التي كُتِبَ الكتاب من أجلها.
وفي الفصل الثالث تحديد للميتافيزيقا بالمعنى الذي نرفضه، وقد حدَّدناها بأنها مجموعة العبارات التي تحتوي على كلمات لا ترمز إلى شيء مما تقع عليه حواس الإنسان فعلًا أو إمكانًا. ويجيء بعد ذلك الفصل الرابع على سبيل التطبيق؛ إذ جعلناه خاصًّا بالبحث في الجمل التي يعبِّر بها قائلوها عن «القِيَم» الأخلاقية والجمالية، وقد بيَّنَّا أن أمثال هذه العبارات فارغة من المعنى، فكل عبارة يقولها قائلها ليحكم على فعل بأنه خير أو على شيء بأنه جميل، إنْ هي إلا تعبير منه عن ذات نفسه، ولا تدل في العالم الواقع على شيء، وبالتالي لا يجوز أن تكون موضعًا للنقاش والجدل؛ لأن العالم الخارجي — عالم الأشياء — لا خير فيه ولا جمال، كما أنه لا شر فيه ولا قبح، فهذه كلها كلمات دالة على شعور المتكلم نحو الأشياء من حب لها أو كراهية، بحكم تربيته ونشأته.
وأما الفصول الثلاثة الأخيرة، فكلها عرض لطرائق التحليل عند الفلاسفة المعاصرين؛ لأننا إذ نرفض ما نرفضه من عبارات، لا نبني ذلك على ميول وأهواء، وإنما نرفضه على أساس تحليل هذه العبارات المرفوضة نفسها تحليلًا يدل على أنها فارغة لا تعني شيئًا ولا تدل على شيء.
هذا هو الكتاب الذي أقدِّمه للقُرَّاء عامة، والمشتغلين بالدراسات الفلسفية بصفة خاصة، والأمل يحْدُوني أن يجيء عاملًا متواضعًا من جملة العوامل الكثيرة التي تؤثِّر في توجيه الفِكْر العربي، وسأَعُدُّ القارئ صديقًا إن أيَّد وجهة النظر التي عرضتها في الكتاب أو عارضها؛ لأنه في كلتا الحالَين سيخرج متأثِّرًا بما قرأ.
القاهرة في أبريل ١٩٥٣م