الفلسفة تحليل
١
أَلِفَ الناس أن ينظروا بالمنطق ذي القيمتَين إلى القول يقوله القائل ليخبر به خبرًا؛ أي إنهم قد أَلِفُوا أن يحكموا على الخبر يأتيهم به المتكلم بأحد شيئَين: فهو عندهم إما صواب أو خطأ، ولا ثالث لهذَين الفرضَين؛ حتى جاء المناطقة المحدثون، فأضافوا إلى هذَين الحكمَين التقليديَّين حكمًا ثالثًا، هو أن يكون القول كلامًا فارغًا لا يحمل إلى السامع معنًى، فلا يجوز وصفه عندئذٍ بصواب أو خطأ، وبالتالي لا يجوز أن يكون موضع أخذ ورد وبحث ومناقشة؛ فقولنا عن العدد ٢ مثلًا: إنه زوجي، قول صحيح، وقولنا عنه: إنه فردي، قول خاطئ، وأما قولنا عنه: إنه «عدد أبيض» فكلام فارغ لا يكون صوابًا ولا خطأً.
والفرق واضح بين الكلام الخاطئ والكلام الفارغ، فالأول يرسم لنا صورة إلا أنها لا تصوِّر الحق، والثاني لا يصوِّر شيئًا؛ فإذا قلت لك: إن المصريين عددهم خمسون مليونًا من الأنفس، فقد قلتُ لك خبرًا مكذوبًا، بمعنى أني قد صوَّرت لك به صورة لا تطابق حقيقية الواقع، فأنت تستطيع أن تتصوَّر حالة يكون عدد المصريين فيها خمسين مليونًا، لكنك إذا أردت أن تراجع الحالة الواقعة فعلًا بالصورة التي رسمتها لنفسك؛ ألفيتَ بين الصورتَين اختلافًا، وفي هذا يكون المعنى الخطأ، إذ نقول عن الخبر: إنه خاطئ؛ أما إذا قلتُ لك: «إن المصريين عددهم أرباع مجسَّمة.» فقد قلتُ لك كلامًا فارغًا خاليًا من المعنى، على الرغم من أن كل كلمة على حِدَة لها معناها الخاص المعلوم إذا ما وُضِعَت في سياقها الصحيح، فمثل هذا الكلام الفارغ لا يُقال عنه إنه خطأ؛ لأننا قد اصطلحنا على أن يكون معنى الخطأ اختلافًا بين الصورة التي يرسمها الكلام وبين الحالة الواقعة فعلًا، فماذا لو كان القول لا يرسم صورة كائنة ما كانت؟ عندئذٍ لا تكون موازنةٌ بين الحالة الواقعة وبين صورة ما؛ وبالتالي لا يكون حكم بخطأ، دَعْ عنك أن يكون الحكم بصواب.
وقد يجوز للقول الخاطئ — في حقيقة أمره — أن يعتقد في صوابه أحد الناس فيدافع عنه، وفي مثل هذه الحالة يحق — طبعًا — لمَن شاء أن يرد هذا المخطئ عن خطئه. أقول: إن ذلك جائز الحدوث؛ لأن هنالك حالة واقعة فعلًا، لا تعتمد في واقعيتها على عقيدة المتكلم الأول ولا على عقيدة المتكلم الثاني، وسبيل المناقشة بين الخصمَين هو أن يحاول كل منهما أن يفتح عين زميله على تلك الحالة الواقعة؛ لكي يبصِّره بحقيقة تفصيلاتها، فمَنْ وجد منهما أن كلامه عنها لم يكن صورة صادقة مطابقة لتلك التفصيلات؛ عرف أنه أخطأ، ثم ارتد إلى الصواب. فافرض مثلًا أن هنالك حالة واقعة فعلًا، هي أن الطمْي الذي يحمله النيل في فيضانه أثناء الصيف، آتٍ من هضبة الحبشة، ثم افرض إلى جانب ذلك رجلَين: أحدهما «يعتقد» في صدق العبارة الآتية: «النيل ينقل الطمي أيام الفيضان من أوغندة»، والثاني يعلم أن ذلك قول خاطئ، ويريد أن يردَّ صاحبه إلى الصواب؛ ها هنا يكون مدار المناقشة بين الرجلَين هو الحالة الواقعة فعلًا، والتي لا تعتمد واقعيتها على عقيدة أي منهما، وقد يستطيع الثاني أن يفتح عين الأول على تلك الحالة الواقعة، فيعلم أن الصورة التي كان رسمها بقوله: إن النيل ينقل الطمْي من أوغندة، لا تطابق الواقع فيرتد عنها إذا أراد لنفسه صوابًا.
من ذلك ترى أن المناقشة جائزة حين يكون القول خاطئًا، لكنها ليست بذات موضوع إذا كان كلام المتكلم فارغًا؛ لأنه لن يكون هنالك «صورة» مرسومة بالكلام، حتى نستطيع أن نوازن بين الأصل وصورته، لنرى إن كان بينهما تطابق أو لم يكن؛ هبني زعمت لك «أن المصريين أرباع مجسَّدة» فماذا أنت قائل إزاء هذا الزعم تأييدًا أو تفنيدًا؟ لا شيء؛ لأن الكلام لم يرسم صورة يمكن مقارنتها بأصل هناك، فلا تأييد ولا تفنيد. أعني أن المناقشة تنتفي من أساسها.
٢
إن الكلمات والعبارات التي تتألف منها اللغة: رموز اصطلح الناس على استخدامها بطريقة معينة ليتم التفاهم، فإذا وجدنا عبارة لا تؤدي هذا الذي خُلِقَت من أجله، أعني لو وجدنا عبارة قالها قائلها ليفهم عنه السامع، ثم تَبَيَّن أنها بحكم تركيبها يستحيل أن تنقل إلى السامع شيئًا، كان حتمًا علينا أن نرفض قبولها جزءًا من لغة التفاهم، وكان لا مندوحة لنا عن حذفها من جملة الكلام المفهوم.
على أن الكلام لا يكون مفهومًا عند السامع، إلا إذا كان في مستطاع هذا السامع أن يتصوَّر طريقة لتحقيقه وتصديقه إذا أراد؛ فإذا قلتُ لصاحبي: «إن في هذا الصندوق أربع برتقالات.» ثم إذا كان صاحبي هذا متفقًا معي على مدلولات «صندوق» و«أربعة» و«برتقالة» — فضلًا عن مدلولات الكلمات البنائية «إن» و«في» و«هذا» — كان في إمكانه أن يحقق هذا الذي أزعمه له، فإن وجد القول مطابقًا للواقع صدَّقه، وإلا فهو قول كاذب، وفي كلتا الحالين — حالتَي صدقه أو كذبه — يكون القول كلامًا مفهومًا؛ لأنه رسم لسامعه الصورة التي يتوقع أن يجدها في عالم الواقع.
- (١)
إن في هذا الصندوق أربع مشقرات.
- (٢)
الإنسان حرارة لها زاويتان قائمتان.
تجد أن العبارة الأولى غير ذات معنًى؛ لاحتوائها على كلمة «مشقرات» التي لا مدلول لها فيما اتفق عليه الناس من رموز دالة، فلا يعلم السامع ماذا عساه واجد في الصندوق إذا أراد أن يتثبت من صدق ما قاله القائل، والعبارة الثانية غير ذات معنًى كذلك، على الرغم من أن كل لفظة منها ذات مدلول متفق عليه؛ لأن الألفاظ قد وُضِعَت في غير سياقها الذي يجعلها ذات معنًى؛ فماذا أنت صانع مثل هاتَين العبارتَين لو صادفتهما فيما تقرأ أو تسمع؟ إنك لن تتردَّد في حذفهما وإهمال شأنهما؛ لأنه من العبث أن تقف عندهما متفكرًا متدبرًا.
وانظر إلى هذه الأمثلة الآتية مما يقوله الميتافيزيقيون، نسوقها لك متعجِّلين؛ ليتضح المعنى المراد، على أننا سنعود في بقية الكتاب إلى تفصيل القول في طرائق التحليل التي تكشف لنا عن خبيء العبارات الميتافيزيقية؛ لأنه كثيرًا جدًّا ما نتوهم للوهلة الأولى أن عبارة معينة ذات معنًى مفهوم، حتى إذا ما حلَّلتها وأمعنت في تحليلها؛ وجدتها منطوية على خلاء، بل على ما هو شر من الخلاء؛ لأنها تخدع خديعة إيجابية حين توهمنا أنها ذات معنًى ودلالة، وقد يستتبع معناها الوهمي كثيرًا من أوجه النشاط والعمل، والأمر كله ضلال في ضلال.
•••
•••
•••
إن أمثال هذه «المشكلات الفلسفية» المزعومة إنْ هي إلا لعب بالألفاظ؛ فنحن إذ نقول: «إن الشيء لا يوجد إلا وهو مُدرَك» إنما نستعمل كلمة «يوجد» بمعنى «يُدْرَك» فكأننا نقول «إن الشيء لا يُدْرَك إلا وهو مُدْرَك»، وهو تحصيل حاصل لا يفيد شيئًا.
•••
ومن هذا القبيل نفسه «مشكلة فلسفية» أخرى — وهو مَثَل رابع نسوقه لما تزعمه الفلسفة من مشكلات — وأعني مشكلة الإدراك الحسي لشيء ما، فهل يجوز لي أن أحكم بوجود الشيء نفسه في الخارج مع أن كل ما لديَّ منه حاضرات حسية؟ مثال ذلك: إنني أرى الساعة الآن قائمة على مكتبي، وأسمع دقاتها، فكل ما لديَّ منها انطباع لوني على عيني واهتزاز صوتي في أذني، فهل تمثِّل هذه الحاضرات الحسية شيئًا خارجها موضوعًا هنالك على سطح المكتب بعيدًا عني؟ أم أن حقيقة الساعة في هذا الانطباع اللوني والاهتزاز الصوتي لا أكثر؟
والحق أنك لو أمعنت في الأمر قليلًا، لما رأيت فيه إشكالًا؛ لأن المشكلة المزعومة هنا — كما هي الحال في المثل السابق — قد نشأت من طريقة استعمالنا الكلمات، وليست هي بالمشكلة التي تدور حول الوقائع ذاتها، ولكي تتصوَّر ما نريده، افرض لنفسك شخصَين اختلفا مذهبًا؛ أما أحدهما فيقول بأن الحاضرات الحسية معطيات جاءتنا من شيء خارجي، وأما الآخر فيقول بالمذهب الثاني وهو أن الحاضرات الحسية هي كل ما هنالك من حقيقة، ولا شيء خارجي هناك، فكيف السبيل لأحد الرجلَين أن يقنع الآخر كي ينحسم ما بينهما من خلاف؟ ليس هنالك من سبيل؛ لأنهما لا يختلفان على واقعة بذاتها، حتى يمكنهما الرجوع إليها في تصديق أحدهما وتكذيب الآخر، وإنما الاختلاف على «الاسم» الذي يطلقه كل منهما على تفصيلات الموقف الذي هما بصدده، والذي لا خلاف بينهما على تفصيلاته، فأحدهما يفضِّل أن يُسمِّيَ الموقف بلفظتَي «حاضرات حسية»، وأما الآخر فيؤثر أن يطلق على الموقف نفسه اسمًا آخر، هو «شيء خارجى». ولزيادة الإيضاح نقول: افرض أن رجلَين قد شاهَدَا — وهما سائران معًا في الطريق — حيوانًا معينًا، لا يختلفان على وصف ما يشاهدان منه، أي إنه لو طُلِب لكل منهما أن يذكر كل التفصيلات التي تتجمَّع لديه عن الحيوان المشاهَد؛ لجاء الوصف في كلتا الحالَين متطابقًا أتمَّ التطابق، ثم افرض بعد ذلك أن أحد الرجلَين قد أصرَّ على أن يُسمِّيَ هذا الذي يراه «ذئبًا»، بينما أصر الآخر على أن يسميه «ثعلبًا»، أفلا يكون الاختلاف بينهما على التسمية دون الخبرة التي يخبرانها؟ إنه إذا أراد أحدهما أن يصحِّح الآخر، فلا يرجع به إلى شيء من تفصيلات المشاهدة؛ لأنه لا اختلاف عليها، وإن جاز أن تقوم بينهما مناقشة في أمر اختلافهما، فينبغي أن تكون المناقشة في أي التسميتَين «أفضل». مثل هذا هو الاختلاف الذي يقوم بين الفلاسفة حين يقول فريق منهم: إننا ندرك الحاضرات الحسية وحدها، ويقول فريق آخر: بل إننا ندرك الأشياء الخارجية التي بعثت إلينا بتلك المعطيات الحسية. لا اختلاف بين الفريقَين على تفصيلات الخبرة، فما يقع في خبرة الفريق الأول هو نفسه ما يقع في خبرة الفريق الثاني، إنما آثَرَ الفريق الأول أن يسمي هذا النوع المعيَّن من الخبرة «حاضرات حسية»، بينما اختار الفريق الآخر أن يسميه «أشياء خارجية»، فإذا جاز للفريقَين أن يقوم بينهما مناقشة وبحث، فينبغي أن ينحصر الأمر في اختيار أفضل الاسمَين للدلالة على الموقف لا أكثر ولا أقل.
•••
لو قال لنا عالم بيولوجى إن اختلاف البيئة يؤدي إلى تطور الحيوان من حالة إلى حالة، رأيته يقول القول وفي كراساته الأدلَّة التي جمعها من مشاهداته؛ لأنه حين يقول مثل هذا القول لزملائه علماء البيولوجيا، لا يفترض أن هؤلاء الزملاء سيتلقون منه القول كأنه وحي أُوحِيَ به إليه من السماء، وفي مستطاع كل زميل أن يَدْحَضَ له قوله بمشاهدات أخرى إن كانت عنده مشاهدات أخرى من شأنها أن تدحض ما زعم، وهكذا يجري الأمر بين العلماء إثباتًا ونفيًا، فمَن يُثبِت منهم أمرًا فإنما يثبته بما قد شاهَد، ومن ينفي أمرًا فإنما ينفيه بما قد شاهد كذلك.
ولو قال لنا متحدث في الشئون اليومية إن إخراج الحكومة للتسعيرة قد أدى إلى تطور الأسعار من حالة إلى حالة، رأيته أيضًا يقول القول وعلى لسانه الأمثلة مما قد رأى في السوق، فقد كان البرتقال ثمنه كذا وأصبح كيت، ولك — إن أردت — أن تذهب إلى السوق لتثبت أو تنفي.
فما بال الفيلسوف يجيز لنفسه ويجيز له الناس — فيما يظهر — أن يرسل ألفاظه إرسالًا بغير حساب أو عقاب؟
ذلك لأني إذا طالبت «برادلي» بأن يشير لي إلى شيء من الأشياء التي أعرفها، أو في مستطاعي أن أعرفها إذا شئت، إذا طالبته بأن يشير لي إلى شيء يكون هو «المطلق» المزعوم، لأرى إن كان عاملًا من عوامل تطور العالم — كما زعم — أم لم يكن، أنكر عليَّ سؤالي؛ لأنه فيلسوف ميتافيزيقي كتب له الله في لوحه المحفوظ أن يعرج إلى السماء من حين إلى حين، ليعلم هناك أن «المطلق» يفعل هذا ولا يفعل ذلك.
لو طالبت «برادلي» بأن يشير لي إلى «المطلق» الذي يحدثني عنه، كان أقل ما يعترض به عليَّ هو أن ما يُشار إليه إنما يكون في مكان معلوم وزمان معلوم، أما «المطلق» فلا مكان له ولا زمان، وإلا لَما صح وصفه بأنه مطلق من القيود. كيف إذن عرفتَه يا صاحبي؟ إنك لا تعرف إلا الأشياء ذوات المكان المعين والزمان المعين، أم وهبك الله بابًا من أبواب المعرفة لم يفتحه أمامي؟ أليست حواسي وحواسك سواء؟
لا، لا يا صديقي — هكذا أتصوَّر المجيب قائلًا — ليس الأمر هنا موكولًا إلى الحواس من عيون وآذان وأصابع، بل الأمر طريقه «الحَدْس» أو العيان العقلي المباشر.
هذا جميل، ولست أريد أن أضيِّق عليك ما قد وسَّعه الله لك، فأَدْرِك بحدسك هذا آفاق السماء ما استطعت، لكنك الآن تحدثني أنا بما قد أدركت، وإذن فمن حقي عليك أن تترجم لي إدراكك هذا باللغة التي أفهمها، أنا الذي لم يهبني الله ما وهبك من «عيان عقلي مباشر»؛ فإن استطعت كان عيانك العقلي هذا اسمًا آخر على ما أسميه أنا الإدراك بالحواس، وإن لم تستطع، كان عليك أن تصمت، أو كان لي أن أسدَّ أذني فلا تسمع، إذ ما غناء موجة صوتية ترسلها شفتاك لا تدلني على شيء مما أفهم؟
إن كلمة «المطلق» لها معناها الذي اتفقنا عليه، فإن سألت الخادم: أربطت الكلب إلى سلسلته أم تركته مطلقًا؟ وأجابني الخادم: بل تركته مطلقًا؛ ارتسمت عندي صورة لما وقع، وفي مستطاعي أن أراجع الخادم فيما يقول، فأبحث عن الكلب لأرى أهو على الصورة التي رسمها لي الخادم أم هو على غيرها، وإن سألت التاجر: أأسعار الفاكهة مُقيَّدة بتسعير رسمي أم هي مطلقة؟ ثم أجابني بأنها مطلقة، فقد رسم لي صورة أستطيع أن أراجع الأمور الواقعة لأتبيَّن هل صَدَقَ في رسمه لصورة الواقع أم كذب.
هذا — أو شيء كهذا — هو معنى «مطلق» كما اتفقنا؛ فيجيء فيلسوف ميتافيزيقي ليزعم «أن المطلق يدخل في تطور العالم وتقدمه، لكنه هو نفسه لا يطرأ عليه تطور أو تقدم»، فلا يكون لعبارته معنًى؛ لأنه استخدم لفظًا متفقًا على معناه في غير السياق الذي يحفظ له ذلك المعنى، وإلا فحدِّثني ماذا عساي أن أجد في ظواهر الطبيعة كلها مما يثبت هذا القول أو ينفيه؟ هَبْنِي قلت لذلك الفيلسوف لا، بل المطلق لا يدخل في تطور العالم وتقدمه، أو قلت له لا، بل المطلق نفسه يتعرض للتطور والتقدم، فما الذي تغير في صورة الكون بين حالتَي الإثبات والإنكار؟ إن الكلام إذا كان له معنًى مفهوم فلا بد أن يكون هناك في عالم الأشياء الواقعة فرق بين إثباته ونفيه؛ فالفرق واضح في عالم الأشياء بين قولي: «إن الكلب مطلق» وقولي: «إن الكلب ليس مطلقًا»، فما دمت أدرك كيف تتغيَّر صورة الأشياء بين حالتَي نفي القول وإثباته، فالقول ذو معنًى مفهوم، وإلا فهو فارغ لا يدل على شيء.
٣
إن هنالك طائفة من الأفكار جعل الناس يتبادلونها في وصف تجاربهم وخبراتهم، تسليمًا منهم بأنها معلومة مفهومة، فتراهم يتحدثون عن هذا الشيء أو ذاك، عن المقاعد والنوافذ وما إليها، يتحدثون عنها فيقولون: إنها في «مكان» معيَّن، وإنها في اللحظة الفلانية من «الزمان» قد حدث لها كيت وكيت، وإنها «تتغيَّر» لهذا السبب أو ذلك؛ ثم يأتي العلم فيأخذ هذه الأفكار من الاستعمال اليومي ليستخدمها بدوره بغير تعديل كبير، فيستخدم فكرات «المكان» و«الزمان» و«التغير» و«السببية» وغيرها، كأنما هي واضحة المعنى لا تحتاج إلى تحليل وتفسير.
فالمهمة الأساسية للفلسفة هي أن تتناول أمثال هذه الفكرات التي نستعملها كل يوم في الحياة الجارية وفي العلوم، تتناولها بالتحليل الذي يحدد معانيها تحديدًا دقيقًا، وإنها لمهمة خطيرة؛ لأن المعرفة الواضحة الدقيقة بأي شيء كائنًا ما كان هي — ولا شك — خطوة إلى أمام في سَيْر الإنسان نحو العلم بما يريد العلم به، وليس هنالك من العلوم الأخرى ما يضطلع بهذه المهمة، فالكيمياء تستخدم فكرة «العنصر»، والهندسة تستخدم فكرة «المكان»، والميكانيكا تستخدم فكرة «الحركة» وهكذا، لكن لا هذه ولا هذه ولا تلك — باعتبارها علومًا طبيعية — من شأنها تحديد معاني هذه الفكرات، فهي تتخذها نقطة ابتداء، فالمكان في الهندسة — مثلًا — مفروض وجوده، وبقي أن نُقسِّمه إلى مثلثات ومربعات ودوائر، لنعرف خصائص كل شكل من هذه الأشكال.
وهنا قد يسأل سائل: ولماذا لا نترك توضيح معاني الألفاظ والعبارات في كل علم إلى أصحاب ذلك العلم؟ أليس العلماء أدرى بما يستخدمونه في علومهم من ألفاظ وعبارات؟
- فأولًا: ليس ثمة ما يمنع العلماء من القيام لأنفسهم بهذه المهمة، بل كثيرًا ما قاموا بها؛ غير أنهم إن فعلوا ذلك كانوا فلاسفة إلى جانب كَوْنهم علماء؛ فقد كان «نيوتن» فيلسوفًا في محاولته تحديد كلمة «كتلة»، وكان «أينشتاين» فيلسوفًا في تحديده لمعنى «الآنية»، وكان «رسل» فيلسوفًا في تحديده لمعنى «العدد»؛ ذلك لأن القضية العلمية هي التي تقول شيئًا عن ظاهرة من ظواهر الطبيعة، أما إن دار بحثك لا عن ظواهر الطبيعة مباشرة، بل عن «كلمة» أو عن «عبارة»، فإنك بذلك تدخل في نطاق آخر غير نطاق العلوم بمعناها الدقيق، وهذا النطاق الآخر هو ما اخترنا له كلمة «فلسفة».
- وثانيًا: إن العلماء في أغلب الأحيان لا يقومون بهذا التحديد لألفاظهم، فكثيرًا جدًّا ما يستخدمون كلمات مثل «مكان» و«زمان» و«مادة» بغير الوقوف عندها ليحلِّلوا معانيها؛ لأنهم قد لا يشعرون بحاجة إلى هذا التحليل فيما هم بصدده من استخراج للقوانين العلمية؛ وإذن فمن حسن الحظ أن رضيت جماعة من الناس لأنفسها أن تسير أمام عربة العلوم — أو إن شئت فقل إنها تسير وراءها — تتسقَّط الكلمات والعبارات التي يكون لها أهمية خاصة، فتجعلها موضوع بحثها، حتى إذا ما وضحت كلمة منها بالتحليل ردُّوها إلى العلم وأخرجوها من دائرتهم بصفة نهائية.
وذلك هو معنى قولهم إن الفلسفة كانت في بدء تاريخها تضم المعرفة الإنسانية كلها، ثم أخذت العلوم تنسلخ من حظيرتها علمًا بعد علم؛ لأن الألفاظ العلمية بدأت غامضة، فإذا كُنَّا نسمي مَن يحاول توضيح لفظ فيلسوفًا، إذن فكل محاولة في بداية تاريخ الفِكْر كانت فلسفة؛ ثم أخذت المصطلحات العلمية تتضح شيئًا شيئًا، وكلما وَضَحَ منها جانب أصبح علمًا قائمًا بذاته، ولا يزال الفلاسفة حتى اليوم مشتغلين بتوضيح ألفاظ غامضة في مجالات فكرية معينة، مثل الأخلاق والجمال والسياسة والنفس والاجتماع؛ ولذلك فهذه كلها ما تزال تُعَدُّ «علومًا فلسفية»، فهي من مجال الفلسفة بدرجة تقل أو تزيد بمقدار درجة التحديد والوضوح اللذين قد بلغتهما ألفاظها.
٤
غير أنها حين كانت تصبُّ بحثها على موضوعات شيئية، لم تكن «أشياؤها» التي جعلتها موضوع بحثها هي بذاتها الأشياء التي تبحثها العلوم الطبيعية، أو ربما كانت هي نفسها أشياء العلوم الطبيعية، منظورًا إليها من زاوية أخرى، ومبحوثًا فيها بمنهج آخر غير التجربة. فإن كانت العلوم الطبيعية تبحث في الصخور والمعادن والنبات والماء والهواء، فقد جعلت الفلسفة «أشياءها» التي تبحث فيها غير تلك، إذ جعلتها أحد نوعَين: فإما هي «أشياء» لا تقع لنا في الخبرة الحسية، مثل «الشيء في ذاته» و«المطلق» و«العدم» و«القِيَم»، وعندئذٍ كانت تُسمِّي بحثها بالميتافيزيقا، وإما هي «أشياء» مما نصادفه في مباحث العلوم الأخرى، كالإنسان والمجتمع واللغة والتاريخ والاقتصاد والمكان والزمان والسببية، لكنها تعالجها بغير الطريقة التجريبية التي تعالجها بها العلوم، وعندئذٍ كانت تسمي بحثها فلسفة طبيعية أو فلسفة التاريخ أو فلسفة اللغة … وهكذا.
من ذلك ترى أننا حين نختار للفلسفة أن تحصر نفسها حصرًا في التحليل المنطقي وحده، وأن تطرح كل محاولة نحو وصف شيء من العالم وصفًا إيجابيًّا تعتمد فيه على التأمُّل، فإننا في الحقيقة نختار لها إحدى المجموعتَين اللَّتَين جرى العرف على جمعهما معًا تحت اسم «الفلسفة»، وليس اختيارنا المجموعة المنطقية، وتركنا المجموعة «الشيئية» تعسفًا وجزافًا، بل هو قائم على أننا ننكر الميتافيزيقا إنكارًا تامًّا من جهة —كما سيتبيَّن خلال الكتاب — ونريد، من جهة أخرى، أن نترك «الأشياء» كالإنسان والمجتمع والتاريخ واللغة والطبيعة، إلى العلوم؛ لأن العلماء وحدهم، بما لديهم من أدوات ومناهج للبحث، هم القادرون على الوصول بهذه المباحث إلى نتائج يمكن الاعتماد على صدقها.
فإذا وضعنا نصب أعيننا هذه الحقيقة، وهي أننا نقبل الفلسفة على أساس انحصار عملها في التحليل، تقشَّع على الفور كثير جدًّا من نقد الناقدين الذين يحرصون على الفلسفة ولا يريدون لها الزوال تحت ضربات الوضعية المنطقية.
وانظر كذلك في عناية إلى النقد الآتي؛ لأنه — في رأينا — أخطر أساسًا من النقدَين السابقَين:
فيقول الناقدون تعليقًا على هذا الموقف؛ لكن هذه العبارة نفسها التي قالها هيوم لا هي تدليل رياضي يدور حول الكمية والعدد، ولا هي تدليل تجريبي يدور حول وقائع الوجود، فماذا هي إذن؟
وجوابنا هو أنها منطق؛ أي تحليل؛ أي فلسفة بالمعنى الذي نريد أن نحدِّد الفلسفة به.
فأمامنا عبارات يقولها المتكلمون والكاتبون، يقولونها لمَن؟ يقولونها لمَن يسمعونهم أو يقرءونهم، يقولونها لنا، أفلا يكون من حقنا أن نستوثق أولًا من أن ما يقولونه وما يكتبونه يمكن مراجعته لتصديقه على أساس سليم؟ فإذا سألتَ العالم الرياضي عن حقيقة ما يقوله، أجاب في اختصار: إنني أقدِّم لك معادلات، كل معادلة منها تقول الشيء الواحد بصيغتَين، وإنما أعتبر الصيغتَين متساويتَين على أساس كذا وكذا من الفروض، فعليَّ أنا بعد ذلك — إذا أردت التحقُّق من صدق زعمه — أن أراجع تلك الفروض لأتأكَّد أن كل معادلة من معادلاته متساوية الشطرَين حقًّا على أساس الفروض المزعومة المشار إليها.
وإذا سألت العالِم الطبيعي عن حقيقة ما يقوله؛ أجاب في اختصار: إنني أقدِّم لك قوانين تلخِّص بعبارة موجزة جملة مشاهداتي وتجاربي، فعليَّ أنا بعد ذلك — إذا أردتُ التحقُّق من صدق زعمه — أن أراجع العالم الواقع لأتأكد أنه قد شاهده مشاهدةً دقيقة وسجِّل مشاهداته تسجيلًا صحيحًا.
وليس أمامي إلا هذان الطريقان في التحقُّق من صدق ما يُقال: طريق مراجعة الاستدلال الاستنباطي في حالة العلوم الرياضية، وطريق مراجعة المشاهدات للعالم الواقع في حالة العلوم الطبيعية، ومن أجل ذلك قبلت ما يقوله الرياضيون وعلماء الطبيعة، ولم أكن في قبولي هذا عالمًا من علماء الرياضة ولا عالمًا من علماء الطبيعة، إنما كنت رجلًا من رجال التحليل، تناول ما يقوله هؤلاء وأولئك للتأكُّد من أنها أقوال ذوات معنًى مفهوم؛ فأين التناقض في مثل هذا الموقف؟
أإذا وقفتُ أمام كومة من أشياء مختلفة، بينها برتقال وكمثرى وأصناف أخرى، ثم جعلت غايتي جَمْع البرتقال والكمثرى وحدهما والقذف ببقية الأشياء، يُقال لي: لكنك لست برتقالًا ولا كمثرى، فماذا أنت؟ هذا هو بعينه موقفي حين أقف أمام كومة من أقوال العلماء، ثم أجعل غايتي هي جمع الأقوال ذوات المعنى المفهوم وحدها، والقذف ببقية الأقوال، فإذا حصلت في النهاية على مجموعة من أقوال مفهومة، ثم حلَّلتها فوجدتها صنفَين: أقوال رياضية وأقوال في العلوم الطبيعية، فانتهيت إلى الحكم الآتي: الأقوال المقبولة هي قضايا الرياضة والعلوم الطبيعية وحدها، فهل يجوز أن يُعترَض على ذلك بقولهم: لكن هذا القول نفسه لا هو رياضة ولا هو من العلوم الطبيعية. فماذا هو؟ لو قيل ذلك لأجبت بالجواب الذي أسلفته وهو: أنه منطق، وقد اعترفنا بالفلسفة إذا جعلت بحثها تحليلًا منطقيًّا، ولم ننكر هذا المعنى من معانيها، وما كان لنا أن ننكره؛ لأن المنطقي لا يقول شيئًا من عنده، إنما يحلِّل ما يقوله الآخرون وكفى.
ولزيادة التوضيح نسوق التشبيه الآتي: هَبْني قلتُ: «إن أعضاء النواب وأعضاء الشيوخ وحدهم هم المسموح لهم بدخول القاعة، وأما الزائرون فينبغي إخراجهم.» أفلا يكون لهذه العبارة معنًى ما دامت هي نفسها ليست عضوًا في النواب ولا عضوًا في الشيوخ ولا واحدًا من الزائرين؟ كذلك الحال فيما نحن بصدده: أمامنا أكداس من عبارات لغوية يقولها الناس في مناسبات شتَّى، فنقول: «إن العبارات المقبولة من هذه الحكومة كلها في القضايا الرياضية وقضايا العلوم الطبيعية؛ لأن هاتَين الطائفتَين هما وحدهما العبارات ذوات المعنى، أما العبارات التي لا هي من هذه ولا من تلك فينبغي حذفها؛ لأنها بغير معنًى» … لماذا يُعْتَرَض على هذا بقولهم: لكن هذه العبارة نفسها لا هي من قضايا الرياضة ولا من قضايا العلوم الطبيعية فينبغي حذفها؟ وحتى لو فرضنا جدلًا أننا حذفناها، فإن الموقف لا يتغير، إذ ستظل العبارات ذوات المعنى هي قضايا الرياضة والعلوم الطبيعية وحدها.
فاحذف إن شئت ما يقوله لك المذهب الوضعي المنطقي، احذفه باعتباره كلامًا هو في ذاته لا يدل على شيء من رياضة أو علوم طبيعية، لكنك إذ تحذفه ستكون قد بلغت ما أردنا لك بلوغه، وهو ألا تُبْقِي بين يديك من العبارات إلا قضايا الرياضة وقضايا العلوم الطبيعية، وقذفت بالبقية الباقية كلها في المهملات؛ لأنها كلام فارغ بغير معنًى.
٥
الفكرة التي نعرضها في هذا الفصل وندافع عنها، هي أن «الفلسفة» لا ينبغي أن تجعل غايتها شيئًا غير التحليل المنطقي لما يقوله سواها؛ إنها لا تتكلم بذاتها، بل تدع غيرها يتكلم بما قد كشف عنه من حقائق العالم، ثم تتقدم هي لتحليل هذا الذي نطق به غيرها في تصويره للعالم؛ كي تستوثق بأن الكلام الذي قيل قد كان كلامًا له معنًى، وليس من شأنها بعد ذلك أن تقول إن كان الكلام الذي قيل، والذي وجدته كلامًا ذا معنًى، ليس من شأنها أن تقول إن كان ذلك الكلام صادق التصوير لحقائق العالم أو غير صادق؛ لأن مراجعة الصورة الكلامية على الأصل الطبيعي من صميم عمل العلماء بما لديهم من أدوات المشاهدة والتجربة.
وقد يكون كلام الكِنْدي مما لا تألفه أذنك من الكلام، فخلاصة رأيه هذا هي أن الفلسفة تبحث إما في شيء لا يمكن أن يتصل بمادة وهو الله، أو في شيء قد يتصل بالمادة وقد ينفصل عنها بحيث يكون وجوده ذهنيًّا فقط مثل العدد، وعلمه الرياضة، أو في شيء يتصل دائمًا بالمادة ولا ينفصل عنها كالأشجار والنجوم والهواء، وعلمه الطبيعة؛ وبعبارة أقْصَر، يقول الكندي: إن موضوع الفلسفة ثلاثة: الإلهيات والرياضة والطبيعة.
والذي أريد أن أعترض به على أمثال هذا القول، هو أنك حين تبحث في الإلهيات فأنت من رجال الدين ولستَ بالفيلسوف، وحين تبحث في الرياضة فأنت رياضي لا فيلسوف، وحين تبحث في الطبيعة فأنت من علماء الطبيعة لا فيلسوف.
كلا، ليس للفلسفة موضوع، ولا ينبغي أن يُطْلَب إليها أن تصل إلى نتائج هي من شأن رجال الرياضة والعلوم الطبيعية، ولو طلبنا إليها ذلك كنا عابثين، ولو أخذ الفيلسوف على نفسه أن يصنع ذلك كان عابثًا واستحق سخرية الساخرين، إنما واجب الفلسفة الصحيح المفيد هو نقد وتحليل؛ نقد وسائل التعبير وتحليل معاني الألفاظ التي يستخدمها الرياضيون والعلماء؛ ليزداد الإنسان فهمًا لما يقوله الرياضيون والعلماء، بل ليزداد الرياضيون والعلماء أنفسهم فهمًا لما يقولون … ليس للفلسفة موضوع معين، وليس لها أن تنبئنا عن حقائق الكون؛ إنما هي طريقة بغير موضوع، كقولك عن الرجل: إنه وزير بلا وزارة، فيعمل في شئون العدل مرة وفي شئون الدفاع مرة؛ هي البحث عن معاني الألفاظ، لا كما تشرحها القواميس، بل هو تحليل يسير على أوضاع وشروط — سنفصِّل القول فيها تفصيلًا فيما بعد، حين نعرض طرائق التحليل عند «مور» و«رسل» و«كارنب».
لقد كان المذهب السقراطي في الأخلاق قائمًا على أساس أن الفضيلة يمكن أن تُلَقَّن بالتعليم، أي إنها معرفة كأي معرفة أخرى، يعلِّمها المعلم لتلاميذه، لكنه لم يتناولها بالشرح المفصَّل؛ ماذا تكون قضايا هذا العلم، لم يجهد نفسه في الوصول إلى «الحقائق» التي من مجموعها يتألف «علم الاخلاق»، كما يتألف علم الضوء مثلًا من مجموعة قوانين، لم يجهد نفسه في ذلك، على الرغم من يقينه بأن الأخلاق يمكن أن تستوي علمًا بمجموعة قضاياه؛ لأنه أنفق جهده في محاولة الإجابة عن سؤال آخر يأتي منطقيًّا قبل تقرير الحقائق الأخلاقية، وهو: كيف يمكن الوصول إلى علم ثابت يقيني في هذا الميدان المعين، ميدان الأخلاق؟ أعني أنه حاول أولًا أن يفكر في «المنهج» العقلي الذي من شأنه أن يوصل الإنسان إلى ما يريد أن يصل إليه من حقائق في ميدان بحثه هذا، حاول أولًا أن يتناول كلام الناس في هذا الميدان كما هو، فيأخذ منه عبارة كما اتفق، فيتناولها بالتحليل وتحديد المعاني ليرى إن كان ما تعوَّد الناس قوله في هذا المجال كلامًا متسقًا مفهومًا خاليًا من التناقض، فإن وجده كذلك صحَّ أن يضاف إلى قائمة الحقائق التي تكوِّن علم الأخلاق، وإلا فلا مندوحة عن مراجعته وتصحيحه وتقويمه.
والذي يستوقف النظر في هذا الصدد، مما له علاقة مباشرة قوية بموضوعنا، هو أنه لم يكن يعبأ بالوصول من تحليلاته إلى نتائج يقرِّرها، ولم يكن يشعر بشيء من خيبة الرجاء إذا ما وجد تحليله لم ينتهِ به إلى نتيجة؛ ذلك لأن غايته المقصودة باعتباره فيلسوفًا هي عملية التحليل في ذاتها، إذ الفلسفة فعل لا قول كما أسلفنا، هي فاعلية تحليلية وليست بتقرير لنتائج معينة وتوكيد لأحكام بذاتها في هذا الموضوع أو ذاك.
لا، لم يكن سقراط فيلسوفًا إذا كانت مهمة الفيلسوف أن يقول ويقرر هذه الحقيقة أو تلك عن ظواهر العالم كائنة ما كانت، لكنه كان نموذج الفلسفة الكامل، إذا حدَّدنا معنى الفلسفة بأنها فاعلية التحليل المنطقي لما يقوله الناس في ميادين الفكر المختلفة، وقد اختار هو لنفسه ميدانًا واحدًا من هذه الميادين، هو ميدان الأخلاق، فالمادة الخامة التي صبَّ عليها فاعليته الفلسفية، هي العبارات التي ينطق بها الناس في أحاديثهم المتصلة بالمعاني الأخلاقية كالتقوى والشجاعة وما إلى ذلك.
وماذا يكون «منطق» أرسطو إذا لم يكن محاولة جبارة أصيلة في التحليل؟ إنه بمؤلَّفه ذاك لم يُرِدْ بالطبع — لطبيعة المنطق الصورية البحت — أن يقرِّر حكمًا بذاته على أيَّة ظاهرة من الظواهر الطبيعية، إنه لم يرد أن يصف شيئًا — فيما عدا العبارات الكلامية — وإنما جعل موضوعه تحليل هذه الأقوال التي يقولها الناس في شتَّى نواحي القول، ليعلم القوالب الصورية التي تنحصر فيها أقوال الناس على كثرتها وتنوُّع موضوعاتها، فإذا قال أرسطو: إن القضية —كائنة ما كانت — تتألف من موضوع ومحمول، فهو إنما يحلِّل بذلك فِكْر الناس في عصره (وفي عصور طويلة تَلَتْ) بأن الإنسان ليس في مستطاعه أن يتحدث إلا إذا تحدث عن «شيء» ما، فيصفه بهذه الصفة أو تلك، وهو اعتقاد ينبني على اعتقاد أسبَق منه، هو أن في العالم عناصر ثابتة، لكل عنصر منها هوية يمكن تحديدها وتعريفها، ثم يمكن وصفها بنعوت مختلفة، كما أقول عن البرتقالة مثلًا: إنها مستديرة، أو إنها صفراء … إلخ، ولما تغير هذا الرأي في عصرنا الحاضر، ولم يَعُد فكرنا العلمي قائمًا على أساس الهوية الثابتة للأشياء، بل على أساس أن الشيء المعيَّن إنْ هو إلا تاريخه المؤلَّف من سلسلة حوادث، كل حادثة منها تقع في مكان معين وزمان معين، لم يعد شرطًا — في المنطق الحديث — أن يكون الكلام دائمًا مؤلَّفًا من موضوع ومحمول كما ظن أرسطو، لكن أرسطو لم يخطئ حين قال هذا الذي قاله في تحليل القضية؛ لأنه إنما يحلل الكلام الذي يقع له في أحاديث الناس تحليلًا يستخرج به ما يتضمنه من عناصر، وما ينطوي عليه من صورة.
ولسنا في هذا الموضوع نريد أن نؤيِّد أو نفنِّد ما يقوله هؤلاء الفلاسفة في تحليلهم للعبارات وما تنطوي عليه من عناصر ومعانٍ، فربما أصابوا هنا وأخطئوا هناك، أو ربما أخطئوا هناك وأصابوا هنا فذلك بحث آخر، لكن الذي يعنينا الآن هو أن نقرِّر هذه الحقيقة الآتية: وهي أن الفلسفة على أيديهم كانت عملية تحليلية، ولم تكن — في الأعم الأغلب — تقريرًا عن ظواهر الكون المختلفة بإثبات صفات معينة لها أو نفيها عنها، ولو فعلوا لكان الأجدر أن يُسلَكوا في جماعة العلماء الذين من شأنهم ملاحظة الطبيعة ووصفها.
إن الذي نتصدى لإنكاره في هذا الكتاب إنكارًا قاطعًا، هو إمكان التحدث عن «أشياء» غير مُحسَّة، وهو موضوع الميتافيزيقا بالمعنى الذي نرفضه، فإن قال لنا قائل: إن هذه هي مهمة الفلسفة الأساسية، أجبناه بأن الفلسفة عندئذٍ تفقد أساس وجودها ولا يعود لها كيان تقوم عليه؛ أما الفلسفة بمعنى التحليل، فهي شيء نرتضيه، ونستمد دعامة لنا تؤيِّد وجهة نظرنا من أعلام الفلاسفة: من سقراط، ومن أفلاطون في بعض محاوراته، ومن أرسطو في منطقه، ومن الفلاسفة التجريبيين الإنجليز، ولم نَقُل شيئًا عن «كَانْت» الذي جاء الشطر الأعظم من فلسفته «نقدًا» — أي تحليلًا — للأُسُس التي تقوم عليها العلوم.
لكن «كَانْت» أخطر مكانة في ميدان الفلسفة التحليلية من أن نذكره في إشارة عابرة، فلنجعل للحديث في فلسفته النقدية فصلًا بأَسْرِه، هو الفصل التالي.
وقد طُبِعَت المحاضرة في كتاب مستقل، ومما يجدر ذكره أن المؤلِّفة قد أشارت في بحثها هذا إلى أن هذه النقطة مشروحة شرحًا جيدًا في مقال نشره R. B. Braithwaite في Camb. Univ. Studies.