الفصل السابع
الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: التحليل عند رودلف كارناب
١
«عملنا هو التحليل المنطقي لا الفلسفة»، هكذا يقول كارناب في تقديمه لمجموعة «وحدة
العلم».
١
والفلسفة التي يبرأ منها «كارناب» هي الميتافيزيقا بالمعنى الذي يجعل الميتافيزيقا
بحثًا في أشياء لا تقع في مجال الحِسِّ، مثل: «الشيء في ذاته» و«المُطلَق» و«المُثُل
الأفلاطونية» و«العِلَّة الأولى للعالم» و«العدم» و«القِيَم الأخلاقية والجمالية» وما
إلى ذلك.
٢
غير أن «كارناب» إن تبرَّأ من الاشتغال بالفلسفة بهذا المعنى الميتافيزيقي، فلا ضَيْر
عنده من قبول كلمة «الفلسفة» على شريطة أن تُفْهَم الكلمة بمعنى التحليلات المنطقية
للعبارات اللغوية، «فكل مَن يشاركنا وجهة نظرنا المعادية للميتافيزيقا، يتبيَّن له أن
جميع
المشكلات الفلسفية بمعناها الحقيقي إنْ هي إلا تحليلات لتركيبات لغوية»،
٣ ولمَّا كانت التركيبات اللغوية التي تُعنَى الفلسفة بتحليلها، هي في الأغلب ما
تقوله العلوم المختلفة من قضايا، أمكن أن نقول عن الفلسفة إنها منطق العلوم، أي تحليل
القضايا العلمية تحليلًا يُبرِز طريقة تركيبها وصورة بنائها ليتَّضح معناها.
فليست الفلسفة منافسة للعلوم في موضوعات بحثها، بل هي تخدم تلك العلوم بتوضيح
قضاياها، ومعنى ذلك أنه إذا كان عمل العلوم هو أن تقول أقوالًا عِدَّة في وصف الأشياء
الطبيعية على اختلافها، فعمل الفلسفة هو البحث في منطق تلك الأقوال العلمية لتَجْلِيَة
غامضها، فعلم الحيوان — مثلًا — يبحث في الحيوانات نفسها من حيث خصائصها وعلاقاتها
بعضها ببعض، وعلاقاتها بما ليس حيوانًا … إلخ، وأما الفلسفة في هذه الحالة فمهمتها تحليل
العبارات التي قيلت في الحيوان،
٤ ولقد رأى «وتجنشتين» في الفلسفة هذا الرَّأْي نفسه، إذ قال: إن «العمل الفلسفي
هو في جوهره توضيحات، فليست مهمة الفلسفة أن تنتج لنا عددًا من القضايا [التي تصف
الأشياء] بل مهمتها أن تجعل القضايا واضحة.»
٥ وتعليقًا على قول «وتجنشتين» هذا، يقول «كارناب»: «إني أوافق وتجنشتين على
أن منطق العلم (أي الفلسفة) ليست له جُمَل خاصة به، إذ ينصبُّ كلامه كله على طريقة تركيب
الجمل التي قالها العلم، وإذن فمنطق العلم (= الفلسفة) لا تضيف إلى ميادين العلوم
ميدانًا جديدًا.»
٦
وهذه التفرقة بين العلم وفلسفة العلم، القائمة على أساس أن العلم قضاياه تصف الظواهر
الطبيعية وصفًا مباشرًا، وفلسفة العلم قوامها البحث في قضايا العلم من حيث هي تعبيرات
لغوية؛ أقول: إن هذه التفرقة بين العلم وفلسفة العلم هي التي أخذ بها الأستاذ «آير» إذ
قال في فصل عَقَدَه لشرح فلسفة العلم ما يلي: «الكتاب العلمي يتألَّف في جوهره من عبارات،
والكثرة الغالبة من هذه العبارات تتحدث عن أشياء … لكنك يغلب أن تجد فيه كذلك عبارات
…
[لا تصف أشياء] بل تُفسِّر طريقة استعمال ألفاظ معينة، أو تُعلِّق على العلاقة المنطقية
القائمة بين عبارات أخرى واردة في الكتاب، كأن تُقرِّر عبارة ما بأن نظريتَين مختلفتَين
متعارضتان أو غير متعارضتَين، أو أن مجموعة من العبارات تأتي لتشهد بصدق مجموعة أخرى،
فهذه العبارات التي لا تشير إشارة مباشرة إلى مادة العلم الذي هو موضوع البحث، بل تشير
إلى مُدرَكاته [الواردة في الجُمَل التي تصف الأشياء وصفًا مباشرًا]، أو تشير إلى عبارات
أخرى يمكن القَوْل عنها بأنها هي فلسفة العلم.»
٧
إذن فالمهمة التي تضطلع بها الفلسفة عند الوضعيين المنطقيين — ومن بينهم «كارناب»
الذي نحدِّثك الآن عنه، هي التحليل؛ تحليل أيَّة عبارة مما يقوله الناس بصفة عامة، وتحليل
العبارات العلمية بصفة خاصة، وفي رأيهم ألَّا شأن للفلسفة بالعالم وما فيه من أشياء؛
لأن
ذلك من عمل العلماء، كل عالِم في المجال الذي اختص به وتخصَّص فيه، فكما يقول «جون وِزْدَم»
في
عبارة مختصرة يصف بها الفلسفة اليوم: «لأن تتفلسف معناه أن تُحلِّل.»
٨
٢
ولعل أبرز طابع يميِّز العمل الذي أداه «كارناب» في مجال التحليل هو اشتغاله بالسميوطيقا
٩ — أو علم الرموز — فقد أنفق في ميدانه شطرًا كبيرًا من جهده، ووضع فيه
المؤلَّفات الفنية، التي تحتاج دراستها إلى تخصُّص وانقطاع، إذ لم يَعُد أمر «الفلسفة»
—
باعتبارها تحليلًا من هذا الطراز الرمزي المُعقَّد الدقيق — صفحات تقرؤها وأنت مسترخٍ
على
كرسيك، تأخذ منها ما تشاء وتدع ما تشاء.
والسميوطيقا — أو علم الرموز — تنقسم ثلاثة أقسام، هي:
- (١)
البراجماطيقا،
١٠ وهي تبحث في المتكلم نفسه باعتباره أداة الكلام.
- (٢)
السمانطيقا،
١١ وهي البحث في مدلولات الألفاظ.
- (٣)
السنتاطيقا،
١٢ وهي البحث في العبارات اللفظية نفسها من حيث تركيبها وتكوينها،
بغضِّ النظر عن المتكلم وبغضِّ النظر أيضًا عمَّا تشير إليه الألفاظ من
مدلولات.
وسنعرض لك الآن كل قسم من هذه الأقسام في كلمة موجزة تشرحه:
(١) البراجماطيقا
من أمثلة البحث البراجماطيقي في الرموز وطرائق استخدامها، التحليل الفسيولوجي
للعمليات التي يؤدِّيها الجهاز العصبي والتي تؤدِّيها أعضاء الكلام كاللسان والأحبال
الصوتية والحنجرة، ثم التحليل السيكولوجي للعلاقات التي تربط بين عملية الكلام — وهي
ضرب من سلوك الإنسان — وبين سائر ضروب السلوك، ثم الدراسة السيكولوجية أيضًا للمفهومات
كيف تختلف للَّفظ الواحد عند مختلف الأشخاص الذين يستخدمون ذلك اللفظ، ثم الدراسات
البشرية والاجتماعية لاختلاف المجموعات البشرية كالأُمَم المختلفة والقبائل المختلفة
والأعمار المختلفة والطبقات الاجتماعية المختلفة واختلاف الجنسَين: الرجال والنساء، وما
إلى ذلك في عادات الكلام، إذ من الواضح أن طبائع هؤلاء في طرائق التعبير ليست
سواء.
فالبراجماطيقا هي — كما ترى — البحث في الرموز اللغوية وهي ما تزال محصورة في الإنسان
الذي يستخدمها، أعني البحث فيها وهي لا تزال صورة من صُوَر السلوك البشري، بغضِّ النظر
عن
مدلولات تلك الرموز، فنحن ها هنا نبحث في عادات بشرية وطبائع، كأننا نبحث — مثلًا — في
طرائق الناس المختلفة في الأكل ولُبْس الثياب.
وأهم ما يهمنا نحن من البحث البراجماطيقي للُّغة، هو تعبيرها عن «عقائد» قائليها؛
لأنك
إن قلت جملة لتصف بها أمرًا واقعًا، كانت العلاقة بين الجملة ومدلولها الخارجي علاقة
سمانطيقية، أما إن قلتها لا لتصف شيئًا في الخارج، بل لتعبِّر عن اعتقاد معين لديك،
فالعلاقة هنا بين الجملة وبين الاعتقاد الداخلي الذي جاءت الجملة لتعبِّر عنه، هي علاقة
براجماطيقية؛ إذ هي عندئذٍ علاقة بين الجملة وبين حالة عقلية، أو مَيْل شخصي عند قائلها،
والجملة الواحدة يقولها متكلمون مختلفون، قد تعبِّر عن حالات عقلية مختلفة مع أن مدلولها
الخارجي واحد دائمًا؛ ذلك لأن شخصَين قد يقولان جملة معينة، حين يقصد أولهما إلى قول
الصدق، على حين يقصد الآخر إلى قول الكذب، فعندئذٍ تكون الجملة بالنسبة إلى الحالة
النفسية عند القائل الأول مختلفة عنها بالنسبة إلى الحالة النفسية عند القائل الثاني.
١٣
٣
(٢) السمانطيقا
كان أول ما اتجه إليه «كارناب» من ميادين البحث، هو الدراسة «السنتاطيقية المنطقية»
وحدها، أعني الدراسة التي تُعْنَى بتحديد العلاقات التي تقوم بين الكلمة وسائر الكلمات
التي تشترك معها في بناء الجملة الواحدة، إذ البحث «السنتاطيقي» ينصرف إلى البناء
اللفظي للُّغة دون الالتفات إلى ما وراء هذه الألفاظ اللغوية من مدلولات خارج المتكلم
أو
داخله، وأما وصفنا للبحث السنتاطيقي الذي قام به «كارناب» في أول مراحله، بأنه كان
«منطقيًّا» — إذ أسميناه بالسنتاطيقية المنطقية — فنقصد به إلى القول بأن «كارناب» لم
يُعْنَ بالتركيب اللفظي للغة معينة بذاتها — كاللغة الإنجليزية أو الفرنسية مثلًا — بل
حاول أن يبحث التركيب الرمزي العام، الذي تشترك فيه أيَّة لغة كائنة ما كانت، كأنما أراد
بذلك أن يقول إن اللغة مهما تكن لا بد منطقيًّا أن تجيء عباراتها مُركَّبة على الصورة
الفلانية والصورة الفلانية، لكي تصلح أداة للتفاهم.
لكن «كارناب» لم يلبث أن وسَّع ميدان البحث في اتجاهَين آخرَين، بحيث أصبحت اتجاهات
بحثه ثلاثة، إذ راح يبحث في اللغة من حيث مدلولات الألفاظ والعبارات، ثم راح يبحثها
كذلك من حيث علاقة العبارة بقائلها، وإذن فلم يَعُد بحثه مقصورًا على بحث العبارة اللغوية
من حيث كيفية بنائها كما كانت الحال عند المرحلة الأولى من حياته العلمية، بل جاوز ذلك
إلى مدلولات اللغة من جهة، وإلى ارتباطها بالمتكلم من جهة أخرى.
والأرجح أن «مورس»
١٤ كان أول مَن دعا إلى توسيع نطاق البحث اللغوي المنطقي في هذَين الاتجاهَين
الجديدَين، إذ يقول: إن «الرمز» يكون دائمًا ذا علاقات ثلاث:
- (١)
فهو مُتعلِّق أولًا بالشخص الذي يستخدمه ليرمز به إلى شيء ما.
- (٢)
وهو مُتعلِّق ثانيًا بالشيء الذي يُرمَز إليه.
- (٣)
وهو مُتعلِّق ثالثًا بالرموز الأخرى التي قد تشترك معه في بناء صيغة أو
عبارة. وهذه العلاقات الثلاث يطابقها ميادين ثلاثة في البحث، هي على
التوالي: (١) البراجماطيقا. (٢) السمانطيقا. (٣) السنتاطيقا.
وما اللغة إلا مَثَل من أمثلة الرموز، فالبحث فيها — إذن — لا بد أن يتناول هذه
الميادين الثلاثة إذا أُريدَ له أن يكون وافيًا شاملًا.
ومن هنا اتجه «كارناب» وجهته الجديدة في بحثه اللغوي المنطقي، فبعد أن كان قاصرًا
على
بحث العلاقة القائمة بين الرمز اللغوي وغيره من الرموز التي تشترك معه في عبارة ما
(وهذا هو السنتاطيقا)، أخذ يوسِّع من نطاق بحثه إلى حيث يتناول الفرعَين الآخرَين، وهما
«السمانطيقا» و«البراجماطيقا»، فهو يقول في كتابه «المدخل إلى السمانطيقا»: «إنني الآن
أرى كثيرًا من الأبحاث والتحليلات السابقة غير كاملة — ولو أنها صحيحة — ولا بد من
إتمامها بتحليل سمانطيقي يقابلها، إذ إن مجال الفلسفة النظرية لم يَعُد مقصورًا على
السنتاطيقا، بل إنه كذلك يشمل كل تحليل آخر للُّغة، بما في ذلك السنتاطيقا والسمانطيقا،
بل ربما شمل البراجماطيقا أيضًا.»
١٥
ويقول الأستاذ «كورنفورث» عن هذا التطوُّر في البحث عند «كارناب» ما يلي: «لقد نجح
كارناب بادئ ذي بدء في تناوله لفلسفة اللغة [من حيث تكوين عباراتها] متجاهلًا تجاهلًا
تامًّا أن للكلمات التي يبحثها معانِيَ، أما الآن فلم يَعُد يقتصر على بحث القواعد التي
تتحكَّم في البناء الصوري للغة، بل أضاف إلى ذلك محاولة أخرى، هي البحث في القواعد التي
تجعل للعبارات معنًى، فبناؤه الفلسفي قوامه قواعد يزعم أنها تنطبق انطباقًا عامًّا
وضروريًّا على أيَّة لغة كائنة ما كانت، وإذا فهمت هذه القواعد، فقد فهمت طريقة استخدام
اللغة على الوجه الصحيح، وبالتالي فقد عرفت كيف تجتنب الأخطاء الناشئة عن سوء استخدام
اللغة.»
١٦
وما دام «كارناب» لا يريد ببحثه أن يقتصر على هذه اللغة المعينة أو تلك، بل يريد
له
أن يكون عامًّا وضروريًّا، ينطبق على أيَّة لغة تصلح للتفاهم، فلا بد أن يجول في تجريدات
صِرْف؛ لأنه لا يتناول لغة قائمة بذاتها، بل يتناول لغة مُجرَّدة، ومن ثَمَّ اتجه ناقدوه
إلى
التقليل من شأن عمله، بأن وصفوه بأنه شبيه باسكولائية العصور الوسطي، «فجوهر طريقته
الفلسفية هو أن يُحوِّل الفلسفة إلى أبحاث اسكولائية خاصة ببناء وقواعد شيء ليس بذي وجود
حقيقي، وأعني به اللغة بصفة عامة، فلا شأن لها بأيَّة لغة حقيقية ولا بالحياة أو المجتمع.»
١٧
والحق أن «كارناب» يُفرِّق منذ بداية بحثه السمانطيقي
١٨ بين ما يُسمِّيه «بالسمانطيقا الوصفية»،
١٩ وما يُسمِّيه «بالسمانطيقا المُجرَّدة»،
٢٠ أما الأولى فتتناول اللغات التي وُجِدَت فعلًا، والتي تمَّ بها التفاهم فعلًا
بين أبناء هذه الأمة أو تلك — سواء ما كان منها قائمًا إلى اليوم وما انقضى وانقرض —
وهذه الدراسة كأيَّة دراسة تجريبية أخرى، إنْ هي إلا بحث في كائن موجود، نسجِّل أوصافه
وقوانينه وفق ما نلاحظه، وهذه الدراسة التجريبية للُّغة هي أقرب إلى «البراجماطيقا» منها
إلى «السمانطيقا» بمعناها الصحيح؛ لأنها تبحث في الرموز اللغوية بالنسبة إلى طائفة من
الناس يستخدمونها فعلًا، أو استخدموها فعلًا في زمن مضى، فالسمانطيقا الوصفية تتناول
من
اللغة ألفاظها ونحوها وصرفها … إلخ.
وأما «السمانطيقا المُجرَّدة» — وهي موضع الاهتمام والعناية عند كارناب — فهي التي
لا
تتعلق بلغة معينة بذاتها، بل تصدق على كل لغة يمكن أن يتصوَّرها الإنسان أداة للتفاهم،
وإذن فهي بحث منطقي لا تجريبي، فكما أنه في بحثه للسنتاطيقا قد انصرف إلى الجانب
المنطقي منها، بمعنى أنه لم يقف عند تحليل البناء اللغوي للغة معينة، بل أراد أن يحلِّل
البناء الرمزي لأيَّة لغة يمكن تصوُّرها أداةً للتفاهم، فكذلك هو الآن مهتم بالجانب المنطقي
للسمانطيقا.
والبحث السمانطيقي يتناول كيفية الدلالة التي تكون للألفاظ، كما يتناول البحث في معنى
الصدق، والبحث في الاستنباط المنطقي، أي كيف نستنبط قضية صادقة من أخرى صادقة.
٤
ولكي نبحث في كيفية الدلالة التي تكون للألفاظ، ينبغي أولًا أن نفرِّق بين نوعَين
من
الكلام، أو نوعَين من اللغة، يُسمِّيهما «كارناب» على التوالي: «بلغة الأشياء»
٢١ و«لغة الشرح»،
٢٢ فلغة الحديث العادية هي «لغة أشياء»، أي إن الناس يستخدمونها ليتحدثوا عن
الأشياء التي يريدون أن يتحدثوا عنها، كما يقول المتكلم لسامعه: «الكتاب على المنضدة»،
وأما إذا تحدثنا عن هذه اللغة نفسها، كأن أقول مثلًا عن اللغة العربية: «إن ألفاظها لا
تخرج عن أن تكون اسمًا أو فعلًا أو حرفًا.» كانت هذه اللغة الجديدة «لغة شارحة»، أو إن
شئت فقُلْ إنها لغة للُّغة لا لغة للأشياء التي من أجل وصفها والحديث عنها خُلِقَت اللغة
بمعناها الأول.
«فإذا كُنَّا نبحث ونُحلِّل ونَصِفُ لغةً ما (ولنرمز لها بالرمز «ل
١»)
فإننا بحاجة إلى لغة أخرى (ولنرمز لها بالرمز «ل
٢»)، نصوغ فيها
نتائج بحثنا في «ل
١»، أو نصوغ فيها قواعد استخدام
«ل
١»، في هذه الحالة نُسمِّي «ل
١» لغة الأشياء، ونُسمِّي
«ل
٢» لغة الشرح. فلو كُنَّا نصف بالإنجليزية التركيب النحوي
للغة الألمانية الحديثة أو اللغة الفرنسية الحديثة، أو إذا كنا نصف التطوُّر التاريخي
لصُوَر الكلام، أو نحلِّل المؤلَّفات الأدبية في هاتَين اللغتَين، عندئذٍ تكون الألمانية
والفرنسية بالنسبة لبحثنا لغتَي الأشياء، وتكون الإنجليزية لغة الشرح، وكل لغة كائنة
ما
كانت يمكن اتخاذها لغة أشياء، وكل لغة فيها تعبيرات صالحة لوصف معالم اللغات يمكن
اتخاذها لغةً شارحة، وقد تكون اللغة الواحدة لغة أشياء ولغة شرح في آنٍ واحد، مثال ذلك
حين نتحدث بالإنجليزية عن النحو الإنجليزي أو الأدب الإنجليزي … إلخ.»
٢٣
والسمانطيقا من حيث هو بحث في دلالات الألفاظ والعبارات على معانيها، يشتمل على
الدراسات التي تترجم لغة الأشياء إلى لغة شارحة، وبعبارة أبسط: السمانطيقا هي دراسة
معاني العبارات اللغوية، وإذن فمحور السمانطيقا هو دلالة اللفظ على مُسمَّاه، وهذه الدلالة
إنْ هي إلا علاقة قائمة بين اللفظ وبين شيء آخر مرموز له يقع خارج حدود اللغة، فكلمة
«العقاد» تدل على شخص بين الناس معين بصفات خاصة، وواضح أن هذا الشخص المُشار إليه ليس
كلمة من كلمات اللغة، إنما هو شيء في عالم الأشياء، فالسمانطيقا إذن هو ربط العلاقة
الدلالية بين الكلمة أو العبارة، وبين الشيء أو الحادثة المُشار إليها في عالم خارج عن
حدود اللغة بكل ما فيها من كلمات وعبارات.
فإذا أردنا بناء لغة محدَّدة الدلالات، جعلنا رمزًا خاصًّا لكل مُسمًّى على حدة، ولمَّا
كانت
المُسمَّيات — أي الأشياء — ثلاثة أقسام: أفراد، وصفات تصف الأفراد، وعلاقات تربط كل
فرد
بغيره من الأفراد؛ أمكن أن نتصوَّر رموز لغتنا مُقسَّمة إلى مجموعات ثلاث على النحو
الآتي:
س١، س٢، س٣،
س٤ … إلخ وهي أسماء المفردات.
ص١، ص٢، ص٣،
ص٤ … إلخ وهي أسماء الصفات.
ع١، ع٢، ع٣،
ع٤ … إلخ وهي أسماء العلاقات.
حتى إذا ما تمَّ لنا ذلك، كانت كل عبارة لغوية مؤلَّفة من مجموعة من هذه الرموز، وأمكن
في
كل عبارة أن نطابق بين التركيبة الرمزية وما تدل عليه خارج حدود الرموز.
٥
بعد أن نفرغ من وضع رموز دالة على مفردات الأشياء جميعًا — والأشياء إما ذوات فردة
أو
صفات أو علاقات — فإننا نكون بذلك قد مهَّدنا الطريق واضحًا جليًّا لوضع قواعد الصدق
لأنواع الجمل المختلفة، فالجملة «(ص١)
س١» — ومعناها الفرد المعين س١
موصوف بالصفة المعينة ص١ — تكون صادقة لو كان الفرد المعين
المرموز له بالرمز س١ في عالم الأشياء موصوفًا حقًّا بالصفة
المعينة المرموز لها بالرمز ص١، فإذا لم نجد للرمز مرموزًا له
كانت العبارة باطلة، وإذا وجدناه لكننا رأيناه غير موصوف بالصفة
ص١ كانت العبارة باطلة أيضًا.
على أنه ليست العبارات اللغوية كلها من هذا النوع البسيط، بل كثيرًا ما تكون العبارة
مركَّبة من عِدَّة أجزاء بسيطة، كأن نصل عبارتَين بسيطتَين برابطة العطف أو بكلمة «أو»
في مثل
قولنا: «إما أبيض أو أسود»، أو بكلمة «إذا» في مثل قولنا: «إذا غربت الشمس أَضَأْت
المصباح.» … إلخ إلخ، فإننا لِنحكم بالصدق على عبارة مركَّبة وجب أولًا أن نحلَّها إلى
عناصرها البسيطة، ثم نطابق بين كل عنصر بسيط ومُقابِله في عالم الأشياء، على النحو الذي
أسلفنا ذِكْره.
ومن هنا جاءت النظرية السمانطيقية في معنى «الصدق» حين نصف عبارة ما بأنها «صادقة»،
٢٤ فكلمة «صدق» كلمة زائدة لا ضرورة لها؛ لأن قولك عن عبارة إنها صحيحة مساوٍ
لقولك العبارة مجرَّدة عن ذلك الوصف، فقولك — مثلًا — «(القمر مستدير) عبارة صادقة»،
مساوٍ
لمجرَّد قولك «القمر مستدير».
ذلك لأننا إذا ما نطقنا بعبارة، كان هنالك أمامنا شيئان: الشيء الذي نشير إليه
بالعبارة التي نطقنا بها، والعبارة نفسها، والمفروض هو أن العبارة تصوير للشيء، كأننا
وضعنا أمامنا شيئًا وصورته، وأصبحت كلمة «صادقة» بغير مدلول؛ لأن الشيء المُصوَّر ليس
فيه
جزء اسمه «صدق»، وإذن فهي اسم بغير مُسمًّى، أعني أنها رمز لا موجب له، فيجب حذفه.
٢٥
وواضح أنه لو اقتصر باحث في بحثه على التشكيلات اللغوية وحدها، أعني لو أنه اقتصر
على
بحثه للطريقة التي تتكوَّن بها العبارات اللغوية، والطريقة التي يمكن بها اشتقاق عبارة
من
عبارة (وهذان هما قوام السنتاطيقا) لما كان هنالك حاجة إلى استخدام كلمة «صدق» أو كلمة
«كذب» إطلاقًا، إذ تبدأ الحاجة إلى استعمال هاتَين الكلمتَين، حين نلتفت إلى عالم الأشياء
والوقائع؛ لنرى هل التركيبة اللفظية المعينة تُصوِّر أو لا تُصوِّر شيئًا من الواقع،
ولعل هذا
هو ما حَدَا ﺑ «كارناب» أن يضيف بحثه السمانطيقي إلى بحوثه الأولى في السنتاطيقا، أي
حَدَا به إلى إضافة طريقة إدراك المدلولات إلى بحوثه الأولى التي اقتصرت على تحليل
التكوين اللفظي للعبارات، بغضِّ النظر عن مدلولاتها الخارجية.
لكن إذا كان صدق العبارة معناه مطابقتها للشيء الخارجي أو للواقعة الخارجية، فماذا
نقول في صدق قواعد المنطق نفسها، مع أن هذه القواعد صدقها ضروري يستحيل عليه الخطأ؟ خُذْ
— مثلًا — قاعدة أن النقيضَين لا يجتمعان، فلا يجوز قبول عبارة كهذه «س ولا س»، هذه
قاعدة «صادقة» بالضرورة، فما معنى «صادقة» هنا، مع أنه ليس هناك في عالم الأشياء ما
نرجع إليه لنطابق بينه وبين قولنا: إن «س ولا س لا يجتمعان»؟
هنا يقول «كارناب»: إن قواعد المنطق صادقة بمعنى أننا اتفقنا عليها حين اتفقنا على
رموز اللغة وطريقة استخدامها،
٢٦ فقواعد المنطق مختارة مِنَّا اتفاقًا، وصدقها اتفاقي،
٢٧ كأن يتفق اثنان — مثلًا — على أن يتفاهما برمز معين مثل هذا الرمز «—» على
أنه يعني عدم وجود الشيء الذي يجيء هذا الرمز سابقًا لاسمه، فإن قال أحدهما «— س» فهم
الآخر أن س غير موجود، فإذا وجدا بعد ذلك أن الرمز «—» يدل دائمًا على معنًى معين، لَما
جاز لهما أن يَعْجَبا؛ لأن دوام معناه ودوام صدقه هو نتيجة اتفاقهما، وقد كان في مستطاعهما
أن يتفقا على خلاف ذلك، كأن يتفقا — مثلًا — على أن الرمز نفسه دال على وجود الشيء الذي
يجيء الرمز سابقًا لاسمه، فقولنا عن العبارتَين الآتيتَين: «نابليون وُلِدَ في كورسكا»
و«نابليون لم يُولَد في كورسكا» إنهما جملتان متناقضتان، أي إن الواحدة منهما تنفي الأخرى
منطقيًّا، معناه أننا اصطلحنا بحكم القواعد التي تواضعنا عليها في اللغة واستعمالها،
على أن كلمة النفي «لم» إذا وُجِدَت في جملة، كان معناها أن الجملة تصبح متناقضة مع نفس
الجملة إذا خَلَتْ منها، بحيث يستحيل صدقهما معًا أو كذبهما معًا.
٢٨
ولقد تعرَّض الأستاذ «آير» لهذه النقطة فشرحها شرحًا واضحًا
٢٩ نلخِّصه فيما يلي:
إن مما أدَّته الحركة التحليلية في الفلسفة خلال الخمسين سنة الأخيرة، هو أنها أزالت
الإشكال الذي كان يُظَنُّ أنه ملازم لقضايا المنطق الصوري والرياضة البحتة، إذ كان الرأي
مجمعًا على أن هذه القضايا صادقة بالضرورة، لكن نشأت الصعوبة حين أرادوا معرفة كيف أُتيح
للإنسان أن يعلم عنها أنها صادقة بالضرورة، لماذا يكون العالَم منطقيًّا؟ كيف أُتيح لنا
أن نوقن بأن قوانين المنطق لن تخالف الواقع؟ الجواب هو أنه لا معنى لقولنا: إن العالم
منطقي أو غير غير منطقي، إذ الشيء الوحيد الذي يمكن أن يوصف بكونه منطقيًّا أو غير
منطقي استدلال عبارة من عبارة أخرى، والاستدلال المنطقي هو ما نجرِّبه وفق قوانين المنطق،
وقوانين المنطق هي قواعد وضعناها لإجراء مثل هذا الاستدلال.
٣٠
إن قوانين المنطق يستحيل أن تتعارض مع الواقع؛ لأنها في ذاتها لا تقول شيئًا عن
الواقع، إننا بتطبيقنا لقوانين المنطق نستطيع أن نشتق عبارة صحيحة من عبارة أخرى صحيحة،
لكن المنطق وحده ليس هو الذي يقول عن العبارة الأولى إنها صحيحة؛ لأن ذلك مَوْكول إلى
الخبرة وحدها، كل ما يستطيع المنطق أن يقوله هو أنه إذا صدقت عبارة — أو مجموعة عبارات
— وصفية، فلا بد أن تصدق كذلك عبارة وصفية أخرى هي كذا وكذا.
لكن لماذا نلزم أنفسنا باشتقاق العبارة الثانية من العبارة الأولى؟ الجواب هو أننا
إذا سلَّمنا بالعبارة الأولى الصحيحة ورفضنا أن نسلِّم بالعبارة التي تلزم عنها، فإننا
نكون بمثابة مَن يناقض نفسه.
والسؤال الآن هو: ولماذا ينبغي لنا أن نجتنب مناقضة أنفسنا؟ أليس ذلك لأن العالَم
مُكوَّن
على نحو يستحيل معه أن يصدق النقيضان معًا؟ وإذا كان أمر العالم كذلك، فهو إذن عالم
يجري على اتفاق مع قوانين المنطق … لكن الجواب على هذا كله هو أنه ليس ثَمَّة ما يُلزِمنا
بألا نقبل التناقض،
٣١ إنما هو اتفاق بيننا نشأ عن اتفاقنا على طريقة معينة نستخدم بها لغة
التفاهم، إننا اتفقنا على أن يكون لأداة النفي «لا» معنًى معين، بحيث إذا قلنا عبارة
كهذه «ق ولا ق» جاءت عبارة بغير معنًى، أي لم نجد لها مدلولًا في عالم الأشياء، وليس
ذلك
لأن في طبيعة العالم نفسه ما يأبى ذلك، بل لأننا نحن الذين صنعنا لغتنا على نحو يجعل
ضَمَّ
القضية إلى نقيضها لا يفيد وصفًا لشيء.
إن قولنا: إن «عدم اجتماع النقيضَين» قانون من قوانين المنطق، مساوٍ لقولنا: إننا
اتفقنا على استخدام معين لأداة النفي، وكان يجوز لنا أن نبني نسقًا منطقيًّا آخر يخرج
على هذا القانون — قانون عدم اجتماع النقيضَين — إذ يجوز لنا مثلًا أن نبدأ بناءنا
المنطقي الجديد باشتراطنا صدق «ق ولا ق»، ثم نأخذ في استدلال النتائج من هذا الاشتراط
الأوَّلي، وعندئذٍ يكون اجتماع النقيضَين هو الصحيح، وهو الذي نرتِّب على صدقه صدق القضايا
التي تُستدَل منه، وإذا بَدَا هذا القول مُشكِلًا غريبًا، فلأننا نظن أن علامة النفي
ستظل
في البناء المنطقي الجديد المقترح، محتفظة بمعناها الحالي، مع أنه واضح طبعًا أننا لو
أبقينا لها معناها الحالي الذي يجعل عدم اجتماع النقيضَين صحيحًا؛ استحال أن يكون اجتماع
النقيضَين صحيحًا أيضًا.
٣٢
إننا في تكويننا للغة التي نقرِّر فيما بيننا أن تكون أداة للتفاهم، نكون عندئذٍ
أحرارًا
في أي القواعد نضع لهذه اللغة كي تكون أداةً صالحة مستقيمة وافية موفية لأغراضها، حتى
إذا ما تمَّت هذه الخطوة لم يَعُد لنا مجال للاختيار، وها هنا — كما يقول كارناب — لا
تظل
مبادئ المنطق أمرًا جُزافًا، بل تصبح ضرورية الصدق، ويرجع صدقها الضروري هذا إلى أن
القواعد السمانطيقية، التي استخدمناها في بناء العبارات ذوات الدلالة تكفي وحدها لبيان
صدقها،
٣٣ فمبادئ المنطق الصوري نتائج تَلزَم بالضرورة عن القواعد السمانطيقية التي
وُضِعَت لتخلع على العبارات اللغوية معانيها، ولمَّا كانت هذه القواعد السمانطيقية ثابتة
أبدًا، كانت النتائج المترتبة عليها — أعني مبادئ المنطق الصوري — صادقة هي الأخرى
صدقًا لا يخطئ.
خُذْ لذلك مثلًا هذا المبدأ الآتي من مبادى المنطق الصوري: «إذا كانت كل
ص
١ هي أيضًا ص
٢، ثم إذا كانت كل
ص
٢ هي أيضًا ص
٣، فإن كل
ص
١ تكون أيضًا ص
٣»، هذا مبدأ نقول
عنه إنه صادق بالضرورة، لماذا؟ لأنه مترتب على المعنى الذي اتفقنا عليه لكلمة «كل»
ولكلمة «إذا»، وإذن فالصدق الضروري للمبدأ المنطقي السالف الذِّكْر، هو نتيجة تلزم حتمًا
عن قاعدة سمانطيقية وضعناها لاستخدام بعض الكلمات،
٣٤ إن مبادى المنطق الصوري لا تتطلَّب — من أجل تصديقها — رجوعًا إلى الخبرة
والملاحظة لما يجري في العالم الخارجي، إذ فيمَ الخبرة وعلامَ الملاحظة إذا كنا لم نَعْدُ
استخلاص نتيجة من قاعدة وضعناها نحن لتستقيم لنا معاني كلماتنا وعباراتنا؟
٦
وما دمنا في معرض الحديث عن صدق المبادئ المنطقية الصورية، فيجدر بنا — استكمالًا
للموضوع — أن نذكر رأيًا ﻟ «كارناب» جديرًا بالنظر والبحث.
يفرِّق «كارناب» بين شيئَين هما: (١) «الوصف الشامل لحالة العالم».
٣٥ و(٢) «مدى صدق الجملة».
٣٦
أما «الوصف الشامل لحالة العالم»، فقد يكون وصفًا للحالة الواقعة فعلًا في لحظة زمنية
معينة، وقد يكون وصفًا لحالة ممكنة الوقوع في أيَّة لحظة زمنية، وسواء كان هذا أو ذلك،
فلا بد أن يكون الوصف قوامه جملة مركبة من قضايا بسيطة كثيرة، كل واحدة منها تصف فردًا
من أفراد الكائنات بما له من صفات أو علاقات، فافرض مثلًا
٣٧ أن اللغة التي نستخدمها ليس فيها إلا ثلاثة أسماء لثلاثة أفراد، هي: أ، ب،
ﺟ، وأن هنالك في العالم صفتَين اثنتَين هما صفتا «أزرق» و«بارد»، إذن فمن الممكن أن تكون
صورة العالم متمثِّلة في «الوصف الشامل» الآتي: أ أزرق ولكنه ليس باردًا، ب أزرق وبارد
معًا، ﺟ لا هو أزرق ولا هو بارد.
وبديهي أنه إذا كان هذا هو «الوصف الشامل لحالة العالم»، فهنالك جُمَل تصدق فيه
وجُمَل أخرى تكذب فيه، فمثلًا الجملة القائلة بأنه «إما أ بارد أو ﺟ بارد» صادقة، بينما
تكذب جملة كهذه «أ وﺟ كلاهما بارد».
وهنا تأتي فكرة «المدى»، فلكل جملة مدًى من الصدق، يتسع لبعض الجمل ويضيق لبعضها،
«ومدى صدق الجملة» يقرِّره عدد «الأوصاف الشاملة لحالة العالم» — الفعلي منها والممكن
على
السواء — التي تكون الجملة صادقة فيها، فمثلًا مدى صدق الجملة «أ إما أزرق أو بارد» أوسع
من مدى صدق الجملة «أ أزرق وبارد معًا»؛ لأن عدد «الأوصاف الشاملة لحالة العالم» التي
يمكن أن تتصوَّرها، والتي تصدق فيها الجملة الأولى أكثر من تلك التي تصدق فيها الجملة
الثانية، ويمكن القول، على وجه العموم، إن مدى صدق الجملة يتناسب تناسبًا عكسيًّا مع
إمكان تنفيذها، أي كلما اتسع إمكان خطئها ضاق مدى صدقها.
وبهذا الذي قلناه نستطيع أن نفرِّق بين الصدق التجريبي والصدق المنطقي، فقولها: إن
«سكان مصر عشرون مليونًا.» صادق صدقًا تجريبيًّا، ومعنى ذلك أنه قول يطابق الحالة
الواقعة، لكن يمكن تصوُّر حالات لا حصر لعددها ممكنة الوقوع، ويكون فيها هذا القول
خاطئًا، فقد كان يمكن أن يكون سكان مصر فعلًا ثلاثين أو أربعين أو خمسين مليونًا أو أي
عدد شئت، وفي كل حالة من هذه الحالات الممكنة يكون قولنا: إن «سكان مصر عشرون مليونًا.»
قولًا باطلًا، فالجملة التجريبية تصدق في حالة واحدة فقط، هي حالة مطابقتها للحالة
الواقعة فعلًا.
وأما الصدق المنطقي فيكون حين لا يمكن تصوُّر حالة من الحالات الممكنة تنقضه وتفنِّده،
فالجملة الصادقة صدقًا منطقيًّا، تصدق في أي وصف يمكن تصوُّره للعالم،
٣٨ أي إن «مدى صدقها» يبلغ أوسع نطاق ممكن، فقولنا مثلًا: «إذا كانت أ أكبر من
ب، وب أكبر من ﺟ، كانت أ أكبر من ﺟ» قول صادق صدقًا منطقيًّا؛ لأنه يصدق في كل حالة
ممكنة من حالات العالم، فليس هناك «وصف شامل لحالة العالم»، بحيث تكذب فيه هذه
العبارة.
وقُلْ هذا نفسه عن الجملة التي تكون باطلة منطقيًّا، كالجملة التي يكون فيها تناقض،
فهي
جملة باطلة مهما يكن وصف العالم الذي تتصوَّره.
جملة مثل «أ إما أن تكون باردة أو ليست باردة» صادقة صدقًا منطقيًّا في كل عالم
ممكن، وجملة مثل «أ باردة وليست باردة معًا» باطلة بطلانًا منطقيًّا في كل عالم
ممكن.
ونحن نحكم على الجملة الصادقة صدقًا منطقيًّا بضرورة صدقها في كل الحالات، دون حاجة
منا إلى مراجعة العالم الواقع، لا لأن فيها سرًّا عقليًّا دفينًا يجعلها لغزًا من
الألغاز، بل لأن القواعد السمانطيقية التي وضعناها للغتنا تقتضي ذلك.
٧
(٣) السنتاطيقا
قلنا إن ميادين البحث اللغوي المنطقي عند «كارناب» ثلاثة، هي: البراجماطيقا التي
تبحث في القول بالنسبة إلى قائله من حيث الحالة الجسمية والنفسية التي صاحبت النطق به،
والسمانطيقا التي تبحث في القول بالنسبة إلى دلالته وإلى صدقه وصدق ما يُشتقُّ منه،
والسنتاطيقا التي تبحث في القول بالنسبة إلى علاقة رموزه بعضها مع بعض، بغضِّ النظر عن
قائله، وبغضِّ النظر عن دلالته وصدقه.
وقد أسلفنا القول في الجانبَين الأول والثاني، وسنوجز القول الآن في الجانب
الثالث.
يقول «كارناب»: إن اللغة تتميَّز من ناحية بنائها وتكوين عباراتها — أي من الناحية
السنتاطيقية — بمجموعتَين من القواعد تسير وفقهما: (١) قواعد التكوين.
٣٩ و(٢) قواعد التحويل.
٤٠ الأولى تُبيِّن كيف تتركب الجملة من الرموز اللغوية الجزئية، والثانية تُبيِّن
كيف نشتق جملة من جملة أخرى.
فمن قواعد التكوين نعرف كيف نبني الجملة البسيطة التي تتحدث عن جزئِيٍّ واحد في واقعة
واحدة، فها هنا لا بد من رمز يرمز إلى فرد معين وليكن «س»، ثم لا بد من رمز آخر يرمز
إلى صفة معينة يتصف بها ذلك الفرد وليكن «ص»، أو إلى رمز ثالث يرمز إلى علاقة تربط ذلك
الفرد بفرد آخر أو أفراد أخرى، وليكن رمز العلاقة «ع»، ورمز الفرد الآخر هو «م»، وبعد
أن نفرغ من وضع الرموز لنُسمِّيَ بها الأفراد والصفات والعلاقات، يتسنى لنا أن نبني الجملة
البسيطة بصورها المختلفة، فنقول مثلًا «(ص) س» — أي إن الفرد «س» موصوف بالصفة «ص»، أو
نقول «س ع ص»، أي إن الفرد «س» مرتبط بالعلاقة ع مع الفرد ص.
ثم من قواعد التكوين أيضًا نعرف كيف نبني الجملة المركَّبة من جمل بسيطة، بواسطة
الروابط المنطقية مثل «أو» و«و» و«إذا»، كأن نقول مثلًا: «إما (ص) س أو (ح) س»، أي إن
الفرد س إما موصوف بالصفة ص أو بالصفة ح، أو أن نقول: «(ص) س، و(ح) ك»، أي إن الفرد
س
موصوف بالصفة ص، والفرد ك موصوف بالصفة ح، وما دمنا قد رسمنا الطريق لتكوين الجملة
البسيطة والجملة المركَّبة من رموز نضعها للأشياء والصفات والعلاقات، فقد رسمنا الطريق
لتكوين العبارات اللغوية كلها.
تلك هي قواعد «التكوين»، أما قواعد «التحويل» فهي التي تُخوِّل لنا أن نشتق جملة من
جملة، فمثلًا إذا كان لدينا هاتان الجملتان: (١) «إما س أو ص». و(٢) «ليس س». جاز لنا
أن
نشتق العبارة ص.
ومن قواعد التكوين وقواعد التحويل معًا، نستطيع أن نُلِمَّ باللغة كلها من حيث مبنى
عباراتها، وعلاقة الرموز اللغوية بعضها ببعض في الجملة الواحدة، وعلاقتها بعضها مع بعض
في الصيغ الرمزية المختلفة، وواضح بالطبع أننا ما دُمْنا نحصر أنفسنا في دائرة هذه
القواعد وحدها، فسنظل في عُزْلة عن عالم الأشياء والحوادث، سنحدِّد أنظارنا بحدود العبارة
اللغوية وأجزائها، فلا نجاوز هذه الحدود إلى ما وراء العبارة اللغوية من مدلولات تجعل
العبارة صحيحة أو كاذبة، وفي هذه الحدود السنتاطيقية حصر «كارناب» نفسه أول الأمر، ثم
خرج عن هذه الحدود حين وسَّع من نطاق بحثه، بحيث شمل الجانبَين الآخرَين: جانب السمانطيقا
الذي يربط فيه بين العبارة ومدلولها الخارجي، وجانب البراجماطيقا الذي يربط فيه بين
العبارة وقائلها، وبذلك تكمل جوانب البحث في منطق اللغة.
٨
يفرِّق «كارناب» بين ثلاثة أنواع من العبارات، هي:
- (١)
عبارة شيئية، أي تتحدث عن شيء ما مباشرة دون توسُّط اسم ذلك الشيء، كأن تضع
على الورق بقعة خضراء، وتكتب إلى جانبها كلمة أخضر، على اعتبار أن يفهم
القارئ مما يراه جملة: «هذا أخضر».
ومن قبيل ذلك أيضًا تكتب — مثلًا — الرقم ٤ وإلى جانبه تكتب عبارة «عدد
زوجي»، فعندئذٍ العبارة الوصفية «عدد زوجي» تصف الشيء الموصوف مباشرة وهو
«٤».
- (٢)
عبارة سنتاطيقية، وهي التي تتحدث عن كلمة من كلمات اللغة، كأن تقول
مثلًا: «يكتب مُكوَّنة من أربعة أحرف.» «الهرم اسم يُطْلَق على أثر مصري قديم
في الجيزة.» «المقعد كلمة تُقال عن أي شيء مُعَدٍّ للجلوس.»
- (٣)
عبارة تتذبذب بين النوعَين السابقَين، فهي مصوغة على نحو يوهِم بأنها تتحدث
عن شيء ما مباشرة (كأنها من النوع الأول)، بينما هي في حقيقة أمرها تنتمي
إلى النوع السنتاطيقي (النوع الثاني)، و«أمثال هذه العبارات سنطلق عليها
اسم (عبارات تتحدث عن أشباه أشياء)».
٤١
«إلى هذا النوع [الثالث] الذي يقع وسطًا [بين العبارات الشيئية والعبارات
السنتاطيقية] تنتمي مسائل كثيرة وعبارات كثيرة متصلة بالأبحاث التي يُقال عنها إنها
أبحاث فلسفية».
٤٢
«خُذْ مثلًا بسيطًا لهذا، فافرض أننا في مناقشة فلسفية عن فكرة العدد، أردنا أن نُقرِّر
أن
هنالك فرقًا جوهريًّا بين الأعداد من جهة والأشياء (الطبيعية) من جهة أخرى … فقلنا هذه
الجملة: «خمسة ليست شيئًا لكنها عدد.» (ج
١) فظاهر هذه الجملة هو
أنها تصف العدد خمسة بوصف معين، شأنها ذلك شأن هذه الجملة الآتية: «خمسة ليست عددًا
زوجيًّا بل هي عدد فردي» (ج
٢) مع أن الجملة الأولى
(ج
١) في حقيقة الأمر لا تقول شيئًا عن العدد خمسة، بل هي
خاصة بالكلمة (لا العدد) خمسة، ويتبيَّن هذا من الصيغة الآتية
(ج
٣) التي يمكن أن نُحلَّها محل الجملة الأولى
(ج
١): ««خمسة» ليست كلمة دالة على شيء، بل هي كلمة دالة على
عدد.» فبينما ج
٢ عبارة شيئية بالمعنى الصحيح [أي تتحدث عن شيء
ما مباشرة دون وساطة كلمة دالة عليه] ترى أن ج
١ عبارة تتحدث عن
شبه شيء [أي توهم بأنها تتحدث عن شيء والحقيقة هي أنها تتحدث عن كلمة].»
٤٣
إنني أدعو القاري إلى حصر انتباهه جيدًا في هذه التفرقة التي يبرزها «كارناب»، أعني
التفرقة بين العبارة التي تتحدث عن شيء، والعبارة التي ليست كذلك، فتوهم بأنها تتحدث
عن
شيء مع أنها تدور حول كلمة، فهذا الصنف الثاني صنف زائف من الكلام، وهو هام في بحثنا
هذا؛ لأن ما يُسمَّى بالمشكلات الميتافيزيقية كله من هذا اللون الزائف الذي يدور الحديث
فيه عن «أشباه أشياء»، على حين أنه يوهم بغير ذلك.
ولتوضيح هذه التفرقة بين الصِّنفَين، سنسوق عِدَّة أمثلة مما أورده «كارناب» في هذا
الصدد:
(ج
١) «محاضرة الأمس كانت عن بابل.» هذه عبارة ظاهرها هو أنها
تُقرِّر شيئًا عن بابل، ما دام اسم بابل واردًا فيها، مع أنها في حقيقة الأمر لا تقول
شيئًا على الإطلاق عن مدينة بابل، بل تقول ما تقوله عن محاضرة الأمس، وعن كلمة «بابل»،
فعلمنا بصفات مدينة بابل نفسها لا يتأثَّر قط بكون ج
١ صادقة أو
كاذبة، ومما يدل على أن ج
١ تحدثنا عن شبه شيء (لا عن الشيء
نفسه) أنها يمكن ترجمتها إلى العبارة الآتية ج
٢: «في محاضرة أمس وردت كلمة «بابل» أو
ورد تعبير مرادف لهذه الكلمة.»
٤٤
وتحويل الكلام على هذا النحو — من صورته الغامضة إلى صورته الواضحة — يُسمِّيه «كارناب»
تحويلًا للعبارة من الأسلوب المادي
٤٥ إلى الأسلوب الصوري، ويقول إن العبارات الفلسفية [الميتافيزيقية] كلها
ينكشف أمرها بهذا التحويل، فعندئذٍ ترى أن كل ما يُسمُّونه بالمشكلات الفلسفية ليس إلا
حديثًا عن هذه اللفظة أو تلك، وليست هي بالحديث عن هذا الشيء أو ذاك، بحيث يمكن مراجعة
الأشياء لقبول الحديث أو رفضه.
وهاك عِدَّة أمثلة لترجمة العبارات من أسلوبها المادي إلى أسلوبها الصوري.
٤٦
-
مثل ١: (الأسلوب المادي) كانت محاضرة الأمس عن بابل.
(الأسلوب الصوري) في محاضرة الأمس وردت كلمة «بابل» أو ما يرادفها.
-
مثل ٢: (الأسلوب المادي) كلمة «الليث» تدل على الأسد.
(الأسلوب الصوري) كلمة «الليث» وكلمة «الأسد» مترادفتان، أي يمكن إحلال الواحدة مكان
الأخرى أينما وجدناها.
لاحظ أن الأسلوب الصوري في هذا المَثَل يوضِّح لنا كيف أن العبارة الأولى (في أسلوبها
المادي) لا تعني منطقيًّا وجود شيء في عالم الأشياء، فلو ثبت أنْ ليس هنالك «شيء» في
الخارج يقابل كلمة الأسد، لظلَّت العبارة قائمة، وهي أن كلمة الليث مرادفة لكلمة
الأسد.
-
مثل ٣: (الأسلوب المادي) كلمة luna في اللغة
اللاتينية تدل على القمر.
(الأسلوب الصوري) هنالك ترجمة للُّغة اللاتينية إلى اللغة العربية، يمكن بها إحلال
عبارات اللغة الأولى مكان عبارات اللغة الثانية، وفي هذه الترجمة كلمة «قمر» في اللغة
العربية هي التي تقابل كلمة luna في اللغة
اللاتينية.
-
مثل ٤: (الأسلوب المادي) الجملة «…» في اللغة الصينية معناها أن القمر كُرِّي.
(الأسلوب الصوري) هنالك تقابُل في الترجمة بين اللغتَين: الصينية والعربية، بحيث تكون
الجملة العربية «القمر كُرِّي» مقابلة للجملة الصينية «…».
-
مثل ٥: (الأسلوب المادي) هذا الخطاب خاص بابن العقاد.
(الأسلوب الصوري) في هذا الخطاب تَرِد عبارة «ابن العقاد» أو ما في معناها، لاحظ في هذا
المَثَل أن العقاد قد لا يكون له ابن، ومع ذلك تظل هذه العبارة صادقة، والذي يكذب هو
الخطاب نفسه، مما يدل على أننا كثيرًا ما نَصْدُقُ طالما نحن محصورون في حدود العبارات
اللغوية نشير ببعضها إلى بعضها الآخر، حتى إذا ما خَطَوْنَا خطوة أخرى وحاولنا مطابقة
هذه العبارات على الواقع الخارجي وجدناها لا تُصوِّر شيئًا.
هكذا يأخذ «كارناب» في سرد الأمثلة التي توضِّح ما يعنيه بالأسلوبَين: المادي والصوري
في
الحديث، وكيف أن الأسلوب الصوري يكشف عن الزَّيف المستور في الأسلوب المادي، والذي يهمنا
من هذا كله أن العبارات التي نقولها كثيرًا ما توهمنا بأنها تتحدث عن أشياء، وإذا هي
لا
تخرج عن كَوْنها حديثًا عن كلمات، وإذن فلا يكون لنا الحق — بناءً على تلك العبارات وحدها
— أن نزعم شيئًا عن الواقع الخارجي.
وهذا واضح بصفة خاصة في العبارات الفلسفية، «فالحق أنه كثيرًا ما تنشأ مواضع للغموض
في الكتابات الفلسفية، وذلك راجع إلى حد كبير إلى استخدام الأسلوب المادي في الحديث
بدل الأسلوب الصوري؛ إذ العبارات الزائفة [التي تتحدث عن أشباه أشياء] تضلِّلنا فتوهمنا
بأنها تعالج أشياء خارج نطاق اللغة، مثل الأعداد والأشياء والصفات والخبرات والوقائع
والمكان والزمان وما إلى ذلك، مع أن حقيقة الموقف الذي نعالجه هي أن الأمر كله أمر
عبارات لغوية وما بينها من روابط، وإنما يخفى ذلك عن أبصارنا بسبب استخدامنا للأسلوب
المادي في الحديث، ولا تتضح حقيقة الأمر إلا بترجمة ذلك إلى الأسلوب الصوري، أو بعبارة
أخرى: ترجمته إلى عبارات سنتاطيقية تتحدث عن اللغة التي نستخدمها.»
٤٧
وينشأ الغموض في استخدامنا الأسلوب المادي؛ لأن هذا الأسلوب يجعل المُدرَكات التي
يتحدث
عنها مُطلَقة، كأنما هي مُدرَكات تحتفظ بمعانيها بالنسبة إلى كل لغة مهما تكن، مع أنك
— لكي
يكون حديثك واضحًا دقيقًا — لا بد من تعيين نوع اللغة التي تريد أن نفهم كلامك بالنسبة
إلى قواعدها ومواضعاتها؛ لأن الكلام قد يكون خطأً إذا نسبناه إلى لغة الحديث الجارية،
صوابًا إذا نسبناه إلى لغة العلم المتفق عليها بين العلماء.
وكثير جدًّا من مشكلات الفلسفة ينشأ بين المذاهب المختلفة؛ لأن مُتحدِّثًا في مذهب
ما
يقصد إلى استعمال لغة معينة، بينما المتحدث في المذهب الآخر يقصد إلى استعمال لغة أخرى،
وبهذا يكون الخلاف بينهما اختلافًا في طريقة التعبير، لا اختلافًا على حقيقة موضوعية
خارجية.
خُذْ مثلًا هذا الخلاف المشهور: هل الشيء الذي أدركه — كالقِطِّ الذي في يدي الآن
مثلًا —
مُركَّب من معطيات حِسِّية، أم هو مركب من ذَرَّات مادية خارج حواسي؟
لو أننا وضعنا أقوال المذهبَين في أسلوب صوري يوضِّح نوع اللغة المستعملة في الحديث؛
لتبيَّن ألا تناقض بين الرأيَين، فالرأيان هما:
(أ) الأسلوب المادي |
(ب) الأسلوب الصوري |
(١) الشيء مُركَّب من معطيات حسية. |
(١) كل جملة ترد فيها لفظة دالة على شيء تساوي مجموعة من الجمل الخالية
من الألفاظ الدالة على أشياء، إذ تشتمل فقط على ألفاظ دالة على معطيات
حسية.
|
(٢) الشيء مركَّب من ذرات. |
(٢) كل جملة ترد فيها لفظة دالة على شيء تساوي مجموعة من الجمل المشتملة
على إحداثيات مكانية زمانية (بالمعنى المفهوم في علم الطبيعة).
|
هذان رجلان، يقول الأول قولًا، ويقول الآخر قولًا آخر، فلو اقتصرا على استخدام
الأسلوب المادي لظهر بينهما خلاف، أما إذا استخدما الأسلوب الصوري لتبيَّن ألا تعارُض
بين
قولَيهما؛ لأن الأول بمثابة مَن يقول: أنا أستطيع أن أُحوِّل الجملة التي فيها لفظة «قلم»
إلى مجموعة من الجمل أستغني فيها عن لفظة «قلم»، وأستعمل بدلها المعطيات الحسية التي
أُدرِكها، من لون وصلابة وشكل … إلخ، وأما الثاني فهو بمثابة مَن يقول: إني أستطيع أن
أُحوِّل
الجملة إلى مجموعة جمل أستغني فيها عن لفظة «قلم»، وأستبدل بها أبعادًا مكانية ووزنًا
… إلخ، إنه لا تعارض بين الرجلَين، كل ما في الأمر أن كلًّا منهما يتحدث بلغة تختلف عن
اللغة التي يتحدث بها زميله، الأول يقصد بلفظة «قلم» غير ما يقصده الثاني، فكل منهما
صواب بالنسبة إلى اللغة التي يتحدث بها.
٤٨
وخُذْ مثلًا آخر مشكلة ميتافيزيقية أخرى، تعجب أشد العجب كيف استنفدت من الفلاسفة
كل
هذا الجزء الذي استنفدته، وأعني بها مشكلة العلاقات، فهل العلاقات التي نراها قائمة بين
الأشياء حقيقية أم وهمية؟ فأنا أرى الآن ساعة على مكتبي، وهي قائمة إلى يمين المصباح
وهكذا، والسؤال مرة أخرى هو: أحقيقة أن العالم مُكوَّن من عِدَّة أشياء بينها علاقات
على
نحو ما أرى؟ أم أنه في حقيقته كائن واحد لا كثرة فيه، وبالتالي لا علاقات بين أجزائه،
وإذن فهذه العلاقات التي أراها بين الكثرة الموهومة هي أيضًا وهمية من خلق
الإنسان؟
أما أنصار المذهب المثالي
٤٩ فيأخذون بهذا الرأي الثاني الذي يُنكِر الكثرة ويُنكِر العلاقات بينها،
وطريقتهم في تأييد مذهبهم هذا هي أن يبيِّنوا لك أننا لو فرضنا جدلًا وجود العلاقات بين
الأشياء لوقعنا في تناقُض، مثال ذلك:
والد العقاد مرتبط ارتباطًا ضروريًّا بالعقاد؛ لأنه محال أن نتصوَّر الوالد بغير تصوُّر
الولد، على أن والد العقاد هذا قد يكون مالكًا لأرض وقد لا يكون، فملكيته للأرض صفة
عَرَضية، ثم انتقل إلى هذه القطعة من الأرض التي أمامنا، فمالك هذه الأرض مرتبط ارتباطًا
ضروريًّا بهذه الأرض، إذ يستحيل أن نتصوَّر المالك دون أن نتصوَّر ما يملكه، على أن مالك
هذه الأرض قد يكون والدًا للعقاد وقد لا يكون، فأُبُوَّته للعقاد صفة عَرَضية.
غير أنه ربما اجتمعت الصفتان في شخص واحد بعَيْنه، فيكون شخص معين والدًا للعقاد
ومالكًا لهذه الأرض في آنٍ معًا، وها هنا يقول أصحاب المذهب المثالي: إننا في هذه الحالة
نجد أن صفة امتلاك الأرض أصبحت بالنسبة لهذا الشخص الواحد صفة ضرورية وصفة عَرَضية في
وقت
واحد، وهذا تناقُض، ولا نجتنب هذا التناقُض إلا بإنكار ما افترضناه أولًا، أي بإنكار
أن
هنالك كثرة من أشياء بينها علاقات.
وموضع الخطأ عند أصحابنا المثاليين في هذه المشكلة، هو استخدامهم للأسلوب المادي
في
الحديث، ولو استعملوا الأسلوب الصوري لانكشف لهم الغطاء عن حقيقة الموقف؛ فالحقيقة هي
أن كلمة «العقاد» — لا العقاد نفسه — هي التي ترتبط بعبارة «والد العقاد» لا بالوالد
نفسه، وكذلك عبارة «هذه الأرض» لا قطعة الأرض نفسها، هي التي ترتبط بعبارة «مالك هذه
الأرض»، فالأمر كله روابط بين ألفاظ وعبارات لا بين الأشياء التي تُمثِّلها هذه الألفاظ
والعبارات، وبالتالي فلا إشكال هناك عن حقيقة العالم الخارجي.
٥٠