الأيام الخضراء
أحببتها وأنا لا أدري ما الحب، عرفه الناس معنًى أو عرفوه شجوًا وأسًى وألمًا، أو لعلهم عرفوه خيالًا وأحلامًا ورؤًى، أما أنا فعرفته لعبًا في الملعب، وتقاذفًا بالكرة، وقفزًا وجريًا وضحكًا، ولهوًا عابثًا، كنت ألقاها لم أغيِّر من ملابس المدرسة شيئًا اللهم إلا تلك المريلة التي كانوا يضعونها فوقي، وكانت تلقاني هي أيضًا بلا تجمُّل أو زواق اللهم إلا أن تخلع هي أيضًا تلك المريلة التي كانت توضع عليها، ثم نلتقي في فناء منزلها أو في فناء منزلنا بغير ميعاد مُدبر أو اتفاق سابق، وإنما ينزل كل منا إلى صاحبه، ويكون اللعب في أقرب فناء من اللقاء.
أحببتها يوم ذاك وأحبَّتني، أحببتها كما أحب الكرة التي كنا نلعب بها، أو كما أحب الحبل الذي كنا نقفز من فوقه، وأحبتني هي أيضًا كحبها لهذه الأشياء، وما كنا ندري من الحب إلا حبنا لهذه الأشياء.
كان كل منا يرى الآخر مكملًا للعبه، كما يرى الكرة والحبل مكملين للعبه. كان كل منا يحب الآخر كجزء من مرح الطفولة وحلاوة اللعب وعربدة اللعب.
لم تكن تعرف من أنا بالنسبة إليها وما كنت أدري، قصارى الأمر بيننا أنني كنت أعرف أنها بنت لأنها ترتدي ملابس البنات، وأنها كانت تعرف أنني ولد لأنني أرتدي ملابس الأولاد. لم أكن أعرف الأنثى فيها، ولم أكن أعرف معنى الأنوثة جميعًا، بالنسبة إلى الرجل، ولم تكن تعرف الرجل فيِّ ولا معنى الرجولة الذي أمثِّله، لا ولم تكن تعرف الرجل بالنسبة للأنثى.
لم يكن هذا الجهل يمنعني أن أقدمها على نفسي، وأترك لها فرصة أن تغلبني في بعض الأحيان، وليس في كل الأحيان، وأن أهفو إليها مسرعًا إذا سقطت، وتسارع هي إليِّ إذا وقعت، ولكن أكان هذا قبل أن ندرك شيئًا عن الهوى؟ أم أنه كان بعد أن أدركنا شيئًا من معناه؟ أكان هذا الاهتمام بها ونحن في الطفولة الأُولى البلهاء أم أنه كان ونحن في أواخر الطفولة مشرفان على الوعي أو بعض الوعي؟
أتراه حين كنا في الطفولة الواعية التي تحسُّ ولا تُبين ولا تشعر ولا تعبِّر وتخفق ولا تنطق؟! أتراه كان كذلك، وكيف لي أن أذكر؟
لقد شبَّ حبي معي فاختلطت أدواره وتمازجت أيامه فما أدري كيف عرفته؟ وكيف استبان في كامل الوعي مني؟ أتراني عرفته حين كنت ألقاها ونحن في بواكير الشباب فتعلو وجهها الحمرة، وتمسك بلساني لعثمة فتمر بي وأمر بها لا يحيي الواحد منا صاحبه إلا بهذه الحمرة، وإلا بتلك اللعثمة، لا، لقد عرفت الحب قبل ذلك، عرفته وجيبًا وخفقًا في الفؤاد شديدًا إن أنا ذكرتها، وإن أنا خلوت إلى نفسي؛ فقد كنت أذكرها كلما خلوت إلى نفسي، وعرفته هائم الفكر حذرًا أخشى أن يكون حبها وهمًا من الأوهام. قرأت عن الحب وسمعت به من الرفاق، وعرفت ما الرجل وما الأنثى ورحت أنطلق في فسيح الفضاء لا أفكر إلا فيها، أخشى كلما فكرت في حبها أن يكون وهمًا من الأوهام.
وفي يوم لقيتها وقد خلا بنا الطريق، وعلت الحمرة وجهها وأمسكت اللعثمة لساني، ولكن الطريق خالٍ بنا نسير في اتجاه واحد متباعدَين، فوجدتني أثوب إلى نفسي بعض الشيء ووجدتني أقترب منها، ووجدت حمرة الخجل تزداد وضوحًا على وجهها، ولكني كنت قد جمعت بعض نفسي، وكنت قد درَّبت لساني طويلًا على الجملة التي سينطلق بها، فما إن اقتربت حتى ألقيت جملتي مفككة المقاطع متباعدة الكلمات ولكني نطقتها وسمعتها وأجابت، وأود لو أجابت بغير لسانها إلا إنها أجابت على أية حال، نعم أذكر ما قلت: «ماشية وحدك يا هناء.»
وأومأت برأسها أن نعم، ثم ترابطت الكلمات فرحت أحادثها، وراحت هي تضحك أو تبتسم أو تسكت لا تقول شيئًا، لا شيء على الإطلاق اللهم إلا قولتها في آخر حديث لي: أخاف أن يرانا أحد.
فأتلفت حولي مذعورًا وما إن أثق من خلو الطريق حتى أقول لها: لا تخافي.
ثم أعود إلى حديث طويل ما زلت أدرج فيه من موضوع إلى آخر حتى استطعت آخر الأمر أن أرجوها لتسمح لي بانتظاري لنقطع هذا الطريق سويًّا، ولم تجب إلا بجملتها الوحيدة: أخشى أن يرانا أحد.
ولكني ظللت مع الأيام ألتقي بها في الطريق، وأحكي لها وتستمع هي، لم أقل لها — أحبك — فقد خشيت إن أنا قلتها ألا تراني بعدها أبدًا، لقد كان الطُّهر الذي يشيع حولها مخيفًا يمسك لساني بل يمسك عقلي أن يفكر في التصريح بحبي لها، وينقضي الطريق، وأعود إلى الوحدة، وأعود إلى خوفي ألا تكون مُحبةً لي، ولم أخلص من حيرتي وخوفي إلا بالمذاكرة العنيفة؛ فقد انتهيت إلى أنني ما زلت في المرحلة الثانوية وأنها قد تتزوج قبل أن أحصل أنا على شهادة التوجيهية؛ فذاكرت ومنَّيت نفسي أنني إذا صرت في الجامعة قد أجد بعض الجرأة أن أخطبها ونتزوج، ذاكرت كما لم أذاكر من قبل، وأصبحت أعد السنين عدًّا، وأطارد الزمن في عنف وإصرار حتى أصبحت في التوجيهية، وسمعت همهمة تدور حولي أن هناء معرضة للخطبة، ولقيتها في الطريق وسألتها فازداد وجهها احمرارًا وتلعثم لسانها وهي تقول: نعم.
– وماذا فعلت؟
– رفضت الخطبة.
– صحيح؟
– صحيح.
ولم أسأل لماذا رفضت؛ فقد أبى حبي أن يجعل للرفض سببًا إلا أنها هي تحبني، وألهيت الزمن بالمذاكرة، كنت لا أفيق من الكتاب إلا في موعد عودتها من المدرسة، لا أفكر إلا في أن أحصل على الشهادة لأصبح جديرًا بها، وكنت أفكر إذ ذاك في شيء آخر طالما ضقت بالتفكير فيه، لقد كان أبي خريج جامعات أوروبا وكان أمله أن يرسل بي إلى جامعته لأنال فيها الشهادة التي نالها، وقد كنت توَّاقًا إلى تحقيق أمله هذا؛ فقد كان أملي أيضًا، ولكني كنت كلما فكرت في اغترابي عن هناء بعيدًا، بل بعيدًا عن حبها، بل بعيدًا عن مصر كلها، لا أشم النسمة التي تداعب شعر هناء، ولا أتنفس الهواء الذي تتنفسه، ولا أشرب الماء العذب الذي جرى في دمائها والذي يتحول على وجهها حمرة خجل كلما لقيتها، كلما فكرت في ذلك أحسست شيئًا قويًّا عنيفًا يُهيب بي ألا أسافر.
كان التفكير فيها وفي السفر يعسر عليَّ كثيرًا من الكتب فأسرح وأطيل التفكير، حتى لقد كان صديقي أشرف ينتبه إلى انصرافي عن المذاكرة فيسألني عما بي، وقد كتمت عنه حبي فترة طويلة من الزمان؛ فقد كنت أخشى أن يجعله سخرية ويجعل مني ضحكة له، ولكنه اكتشف حبي حين رآني معها في الطريق، فلم أستطع الكتمان وألقيت إليه بخبيئة قلبي في جدٍّ حازم جعله يأخذ مأخذًا لا مجال فيه لغير المشاركة العنيفة، ولكن هذا لم يمنعه أن يحثني على المذاكرة بدلًا من السرحان؛ فنفضت إليه خشيتي أن تتزوج قبل أن أحصل على الشهادة، وخشيتي أن أُسافر إلى الغرب، وكان يقول: هل تتردد في السفر من أجل هذا؟ إنك إن لم تسافر وتزوجتها لظللت طول عمرك تكرهها لأنها كانت حجر عثرة في سبيل مستقبلك، ولظلت هي طول حياتها تكره نفسها وتكره زواجها بك لأنه منعك من المستقبل اللائق بك، لا، اخطبها وسافر. ولكن لا بدَّ لك أن تسافر.
وحصلت على الشهادة وراح أبي يجهز لسفري، ورحت أنا أتحيَّن الفرصة لأحادثه في أمر خطبتي، ولكن كيف؟ كنت طفلًا كبيرًا في السابعة عشرة من عمري أحس أنا أني كبير وأفهم كل شيء، بل لعلي كنت معتقدًا أنني أفهم ما لا يفهمه أبي نفسه، ولكن من يعترف معي بكبري هذا وعقلي وحكمتي؟! كان أبي وأمي يعاملانني كأني طفل لا أزال، حتى لقد فكَّرا أن يرسلا معي خادمًا إلى الخارج ليرعى شأني، ويقوم على أموري فما استطعت أن أصرفهما عن هذا التفكير إلا بشق الأنفس وكثير اللجاج، بل وبالبكاء أيضًا، نعم بالبكاء فقد كنت حتى ذلك الحين أبكي إن أصرَّ أبي على أمر لا أريد تنفيذه.
كيف إذن أحدثهما عن حبي، وعن رغبتي في الخطبة وهما يريان أنني ما زلت محتاجًا إلى …!
لم أجد من أُلقي إليه بما أنا فيه إلا صديقي أشرف الذي عرف حالي جميعًا أثناء المذاكرة، قصدت إليه في بيته وظللت أقول وأقول، وأُبين له كيف أنهم يجهلون في بيتي قدري، وكيف أنهم يستصغرون شأني ويستهينون بعبقريتي، وكان أشرف يكبرني بعض الشيء فانتهز الفرصة وراح يقف مني موقف المرشد الناصح، وأنا أضيق بحديثه غاية الضيق حتى لم أطق أن أكمل الجلسة، وخرجت من عنده وأنا أشد ضيقًا مما كنت حين قصدت إليه.
وتحدد موعد السفر، وما لبث هذا الموعد أن حلَّ، وأصبحت في اليوم الذي سأسافر في مسائه، وقد عزمت أمري على مفاتحة أبي، وقد هيَّأ لي الوهم أنني ما إن أخبره برغبتي في الزواج حتى يسارع إلى أهل هناء فيخطبها لي في نفس اليوم، بل في نفس الساعة.
قصدت إلى حجرة أبي وقد أعددت نفسي إعدادًا تامًّا، ولكن لم أجد أبي؛ فقد انصرف في باكر الصباح ليكمل ما أحتاج إليه، وأخبرهم في البيت أنه لن يرجع إلا بعد الظهر.
ولم أطق أنا البقاء فخرجت عازمًا ألا أعود أنا أيضًا إلا بعد الظهر.
وبعد الظهر عدت، وما كدت أصل إلى الحي حتى تدافعت إلى أذني زغاريد تنبعث من بعيد ويقترب صداها كلما اقتربت إلى البيت، ماذا ترى بعث هذه الزغاريد؟ ليس هناك إلا سبب واحد.
لا بد أن أشرف أخبر أبي برغبتي في الزواج من هناء، وأراد أبي أن يفاجئني بهذه المفاجأة الهائلة الرائعة العظيمة، كم هو عظيم أبي هذا! كم هو وفيٌّ أشرف صديقي! أحقًّا تحققت الأحلام؟ أحقًّا هدأ لي مضطرب الفؤاد واستقرت بي نفسي الحائرة؟ وتزداد الزغاريد قوة وكأنها تجيب أن نعم، نعم، لقد تم لك ما تريد.
وبلغت مصدر الزغاريد، إنه بيت هناء، إذن فهو ما فكرت فيه، وإذن تحققت الآمال، ووجدت بالباب سيارات وقومًا متجمعين، ووجوها يطيب البشر من قسماتها، ولكن أين أبي من هؤلاء؟ أين سيارته؟ وأين سائقنا؟ أين نحن في هذه الجموع؟ لا، لم يكن هناك، عدوت جريًا إلى منزلنا فوجدت أبي جالسًا في مكتبه، ورأى اضطرابي وأدركه، ولكن لم يلفت أمره ولم يسألني، «ما لك؟» بل قال في صوت شوق عاطف: أين أنت يا أخي؟ أتترك البيت في هذا اليوم وسيأتي الناس لتوديعك، وأمك تهفو أن تقضي معك هذه الساعات التي تسبق سفرك؟
– والله كنت … كنت … كنت أودع أصحابي … أبي …
– نعم.
– أبي …
– نعم.
– ما هذه الزغاريد؟
– يا سيدي هناء تُخطَب اليوم، وأنا ذاهب لأهنئ أباها فقد دعاني الرجل وألحَّ عليَّ أن أذهب، وهو يريدك أيضًا، أتأتي؟
وتلعثمت وأنا أجيب أبي بأسًى قانط مرير: لا، لا يا أبي فإني سأنتظر مع أمي، وأنتظر المودعين. وابتسم أبي ابتسامة وجدتني أمامها عاريًا من سِري الكبير، لقد كان الرجل يعرف كل شيء، قال لي ذلك، قالها دون أن ينطق كلمة واحدة، قالها في ابتسامته تلك التي ترقرقت على محياه، وخرج.
وخلوت أنا إلى حجرتي، لم أنتظر المودِّعين، ولم أجلس إلى أمي، وإنما لجأت إلى الكذبة التي يستعملها الجميع إذا شاءوا أن يخلوا إلى أنفسهم، نعم ادعيت مرضًا وصداعًا، وخلوت إلى حجرتي، أستعيد الأيام، أيام الفناء والكرة والحبل والطريق واللعثمة والحُمرة، والأحاديث، ذهب هذا جميعه، هذه الخائنة، ولكن ما ذنبها؟! وهل تملك من أمر نفسها شيئًا؟ بل هل أملك أنا من أمر نفسي شيئًا؟! ها أنا ذا مسوق إلى السفر، مرغم على السكوت حتى لا أستطيع أن أنبث بخالجة نفسي ورغبتي، ما ذنبها؟ إنما يحكم عليها من يحكم علي، آه من الآباء! فكرت ألا أسافر، ولكن ماذا أقول، وكيف أعصي أبي، لا إني سأسافر لا لأني خائف من أبي، ولكنني سأسافر لأني زعلان من أبي، ولماذا أزعل منه؟! هل أخبرته بشيء؟ لقد كان يعلم، وماذا كنت أنتظر؟ أن يأتي هو إليَّ ويقول لي سأخطب لك هناء، وما له! ولماذا لا يفعل؟ نعم سأسافر لأنني زعلان.
وسافرت ومضت السنون بي في أوروبا، وخطابات أشرف توافيني بأخبار هناء فتحيي في القلب حبًّا كان خليقًا أن يضعف.
رأيت المرأة في الغرب، رأيتها في أوضح صورها بشاعة، وكانت رؤيتي لها تعيد حبي لهناء إلى شبابه الأول، أرى العيون الفاجرة، فأذكر عيونها المسبلة! وأرى الوجوه البريئة فأذكر حمرة وجهها! وأرى الأجسام الفائرة فأذكر جسمها الذي لا يبعث إلى ذهنك إلا فكرة الورود تتفتح عنها أكمامها في حياء وفي زهو وفي كبر، أرى النسوة عاريات وإن سترت أجسامهن الملابس، فأذكر ذراعيها العاريتين يسترهما جلال الحياء فيها وبراءة الأجواء التي تشيع من حولها. ورأيت الغرب فعرفت المرأة فازداد حبي لحبي الطفل الذي تركته في مصر بين أيدٍ غريبة عني وعنها وعن طفولتنا وصبانا ومطالع شبابنا.
كنت قد أوشكت أن أنتهي من دراستي حين جاءني خطاب من أشرف يحمل إليَّ نبأً عجيبًا، لقد مات زوج هناء، مات، يا لفرحتي! ودوى عن الفرحة ضمير بريء يستجدي أن يفرح للموت، عدت إلى خطاب صديقي، يا له من مقصِّر! ألا يذكرني إن كانت هناء تعيسة بموته وما مدى تعاستها، ولم يذكر الخطاب أين تسكن، أوحدها أو مع والديها؟
ولم يحن موعد عودتي إلى مصر إلا وأنا أعلم كل شيء عن هناء؛ أين تسكن، ومتى تخرج، ومقدار حزنها، ومدى تمتعها بالحياة.
عرفت كل شيء.
ووصلت إلى مصر، فكان أول ما عملت أن اتصلت بها بالتليفون.
– أتراك تذكرينني؟
– أعرف الصوت ولا أصدق أذني، أتراك هو؟
– أنا هو.
– أنت …
– أنا … عرفتني؟
– وهل تتصور أن أنساك؟ وهل تتصور أنني نسيتك؟
– أكلمك لأعزيك.
– شكرًا، متى أراك؟
– وتلعثمت وأنا أقول: ترينني؟!
– طبعًا، ما لك هكذا وكأنك لم تسافر إلى الخارج. لا تزال اللعثمة تعتريك!
– متى أراك؟
– كما تحب!
– الآن؟
– الآن.
واتفقنا على الموعد وذهبت إليه، غير أن في الصوت جرأة، وفي الحديث امرأة وفي اللهجة إقبال، ماذا ترى حدث؟ أن تدعوني هي إلى اللقاء وقد كانت لا تلتفت إليَّ وأنا أحدثها في الطريق، هذا الصوت، وهذه اللهجة ليست غريبة عليَّ، إنني أعرفها، سمعتها، ولكن بلغة غير اللغة، نعم لقد كن هكذا يحادثنني في الخارج، ترى ألم تصبح هناء … هناء.
وأقبلت في الموعد، امرأة، ربتة العود عالمة العينين خبيرة النظرات، متجملة الوجه، متأنقة الملبس، وجلست.
وتحادثنا، كنت أحادثها عن أيام الطفولة والصبا، وراحت تحادثني عن الأنوثة التي التقيت بها في أوروبا، راحت تسألني في جرأة عارية عما فعلت في أوروبا، بل راحت تنبئني عما فعل بها زوجها.
ذعرت، ليست هذه هناء، إنها امرأة، عرفت مثيلاتها الكثيرات، ليست هذه حبي، ليست هذه طفولتي، لا ولا هذه أحلامي، أرجعوا الأيام، أعيدوا إليها طفولتها، وصباها وبواكير شبابها لأرى طفولتي وصباي وبواكير شبابي.
كان لقاؤنا الأول هو الأخير، حاولت أن تدعوني فما زادني هذا إلا بُعدًا، لقد فقدت هناء التي عرفتها؛ فما خلقت إلا امرأة، امرأة كاملة ولكن ليس لي فيها ذكريات ولا آمال.