وظيفة دائمة
(المنظر: غرفة الأستاذ مجدي السيد المحامي وهو يجلس
فيها ومعه أحد الموكلين.)
الموكل
:
أشكرك يا أستاذ على مجهودك.
مجدي
:
لا شكر على واجب يا عم حسين.
الموكل
:
مسألة الأتعاب يا أستاذ.
مجدي
:
ألم تكلم فيها عبد الباري أفندي؟
الموكل
:
كلمته فيها. يطلب كثيرًا، قلت أكلم الأستاذ عسى الله أن
يخفضها قرشين.
مجدي
(وهو يدق الجرس)
:
إن كانت الحكاية حكاية قرشين يا عم حسين فالمسألة
بسيطة.
الموكل
:
البركة فيك يا أستاذ.
(يدخل عبد الباري وهو شاب نحيف ذو وجه قريب من
المومياوات وفى أعلى رأسه بضع شعيرات يصر عبد الباري أن يلصقها
بالصابون.)
عبد الباري
:
طلبتني يا أستاذ.
مجدي
:
خذ عم حسين معك وأرحه في الأتعاب.
عبد الباري
:
إنه يا أستاذ يريد أن …
مجدي
:
عبد الباري، لا تطِل، أنا لا أناقش الأتعاب، خذه معك
وتفاهما.
عبد الباري
:
ولكن يا أستاذ …
مجدي
:
من غير لكن.
عبد الباري
:
أمرك يا أستاذ.
الموكل
:
أطال الله عمرك يا أستاذ، ترفَّق بنا يا عم عبد الباري
الدنيا غلاء.
عبد الباري
(وهو يأخذ عم حسين إلى الخارج)
:
يا عم حسين أنا عبد المأمور، تعال، تعال.
(يخرجان. يلتفت مجدي إلى التليفون ويهم بإدارة
القرص ولكن ما يكاد حتى يدخل عبد الباري مهرولًا في فرح
واضح.)
عبد الباري
:
البك وكيل النيابة يا أستاذ!
مجدي
:
أي وكيل نيابة؟
عبد الباري
:
البك وكيل النيابة زميل سعادتك.
مجدي
:
أيهم؟ لي زملاء كثيرون في النيابة.
عبد الباري
:
أنا لا أعرف اسمه يا أستاذ، وإنما رأيته بالأمس في الجنايات
وأنا أشاهد جلسة اﻟ…
مجدي
:
طيب، طيب انتهينا، سله عن اسمه وانتظر حتى أناديك.
عبد الباري
:
والبك وكيل النياﺑ…
مجدي
:
ألم تسمع ما قلت؟!
عبد الباري
:
سمعت يا أستاذ.
(يخرج ويدير مجدي قرص التليفون.)
مجدي
:
إلهام، ألم تخرجي بعد، ماذا قال الدكتور؟
مجدي
:
طيب، وسمير نام؟
مجدي
:
والحرارة انخفضت؟ طيب، أنا منتظرك بعد ساعة، لا تتأخري
وحياتك.
(يضع السماعة ويدق الجرس وبعد برهة يظهر عبد
الباري.)
مجدي
:
أعرفت اسم الزائر؟
عبد الباري
:
والله، لم أجرؤ على السؤال.
مجدي
:
كيف هذا؟
عبد الباري
:
اسأل وكيل النيابة؟!
مجدي
:
طيب قل له يتفضل.
عبد الباري
(صائحًا)
:
يا حسن قل للبك يتفضل. (يلتفت
للأستاذ) عندنا قضية سينظرها هو.
مجدي
:
اخرج.
عبد الباري
:
حاضر.
(يخرج عبد الباري وحين يرى وكيل النيابة داخلًا
ينحني وهو يزيد في فتح الباب.)
مجدي
:
من! أهو أنت، شكري كيف حالك؟ وحشتني والله. أين كنت طول هذه
المدة؟ آه! حقًّا لقد كنت في الصعيد. كلانا معذور إذن.
شكري
:
كيف حالك يا أستاذ مجدي؟
مجدي
(مندهشًا)
:
ماذا، يا أستاذ ماذا؟!
شكري
:
أسأل عن حالك.
مجدي
:
طيب، طيب، عرفت أنك وكيل نيابة فلا لزوم لهذه الكلفة.
شكري
:
آه، لا يا صديقي أنا لا أستطيع أن أفعل كما كنت فإن زمن
التهريج قد انقضى.
مجدي
(وكأنما لا يكلم شكري)
:
عجيبة!
شكري
:
عجيبة؟!
مجدي
:
إننا نعرف الوقار الذي يصاب به الموظفون بعد التعيين، وهو من
النوع الذي لا يدوم طويلًا ولكن يظهر أن إصابتك كانت شديدة،
بعض الشيء.
شكري
:
لا يا أستاذ مجدي إنما يجب أن يضع الإنسان نفسه في موضعه
الصحيح.
مجدي
:
وما موضعك الصحيح؟
شكري
:
أنا وكيل نيابة.
مجدي
:
تهنئاتي الحارة.
شكري
:
أما زلت تمزح! أهذا جزائي لأنني جئت إليك؟
مجدي
:
وكيف جئت؟
شكري
:
قرأت اللافتة بالأمس فعزمت على زيارتك، وقد أخبرتهم الآن في
المحكمة إنني سأكون عندك وجئت أزورك.
مجدي
:
شرف عظيم.
شكري
:
أتهزل؟!
مجدي
:
لقد حرت معك يا شكري، إن كلمتك كما كنت أكلمك في عهدنا الأول
قلت لي يا أستاذ مجدي، وإن بجَّلتك واحترمتك قلت إنني
أهزل!
شكري
:
يظهر أنك لا تفهم الأمر، افرض أنك جئت غدًا مع متهم في قضية
أحققها.
مجدي
:
فرضنا، وما البأس؟!
شكري
:
ما موقفي أنا؟
مجدي
:
أأنت هنا الآن في قضية تحققها؟!
شكري
:
لا ولكن.
مجدي
:
هل في المكتب متهم؟!
شكري
:
انتظر عليَّ.
مجدي
:
ماذا أنتظر؟ هل هنا النيابة؟
شكري
:
يجب أن أحترم نفسي في كل مكان.
مجدي
:
أي احترام ذاك! أأنت في بيتك هكذا، أيناديك أخوك بيا أستاذ
شكري! عفوًا أقصد بيا شكري بك؟!
شكري
:
الأمر مختلف.
مجدي
:
افرض أن أخاك محامٍ، ماذا تفعل؟
شكري
:
حينئذٍ أمتنع عن نظر القضية التي يوكل فيها.
مجدي
:
طيب هذا لأنه أخوك، ولكن أصدقاءك وزملاءك لو امتنعت عن كل
قضية يوكلون فيها فإنك لن تحقق في قضايا أبدًا!
شكري
:
ولكن يجب أن أحافظ على كرامتي.
مجدي
:
وهل أهان أحد كرامتك؟! إذا ناديتك باسمك أهنت كرامتك، اسمع
يا شكري إن بيننا صلة هي الشهادة التي أحملها أنا وتحملها أنت،
أما كرامتك فالمحافظة عليها تكون بالبعد عن مواطن الريبة
والارتفاع بمستوى أخلاقك تلك هي الكرامة يا صديقي.
شكري
:
وممن؟!
(يدق جرس التليفون ويرفع مجدي السماعة.)
مجدي
:
نعم، مكتب الأستاذ مجدي، شكري بك! لحظة (يلتفت إلى الأستاذ شكري)
التليفون يطلبك.
شكري
:
آلو، أنا شكري، ماذا؟! الوزارة سقطت ومن أدراك؟
…
شكري
:
ومن الذي سيؤلف الوزارة؟ الحزب الآخر؟
(يضع السماعة في يأس.)
مجدي
:
ماذا، أكنت مرشحًا للوزارة؟!
شكري
:
أرجوك يا مجدي.
مجدي
:
ما أهمية سقوط الوزارة بالنسبة إليك، ما الذي يجعلهم يطلبونك
في غير مكتبك ليبلغوك الخبر؟
شكري
:
الوزير، الوزير الذي بها.
مجدي
:
أي وزير؟
شكري
:
الوزير الذي كان سيشفع لي.
مجدي
:
أي وزير وأية شفاعة؟
شكري
:
لقد طلب إلي النائب العام أن أستقيل لأن هناك إشاعات
تتناولني عنده بسوء، ولي وزير في الوزارة، أقصد كان لي قريب
وزيرًا في الوزارة رجوته فوعدني خيرًا.
مجدي
:
وبعد.
شكري
:
وهل فيها بعد؟! استقالت الوزارة، استقالت يا أستاذ، يا مجدي
ليس هناك أمل.
مجدي
:
هون عليك يا شكري، هونها تهُن، هذه الإشاعات كانت
خطيرة؟!
شكري
:
بعض العلاقات والإشاعات كانت في حدود ضيقة يكتفي فيها
بالنقل، لكن …
مجدي
:
لا تدافع أمامي، ما دامت الإشاعات كانت في حدود ضيقة فسمعتك
ما زالت شريفة.
شكري
:
مجدي، أتقبلني عندك في المكتب؟
مجدي
:
ماذا تقول يا شكري؟
شكري
:
هل في هذا غرابة؟! أعمل معك بالأجر؟
مجدي
:
لا يا شكري أما هذا فلا أقبله.
شكري
:
أترفض طلبي وأنا في هذه الحال؟
مجدي
:
طبعًا أرفض يا أخي، إنك زميلي ولن تكون إلا زميلي دائمًا،
سوف تكون شريكي في جميع أرباح المكتب سواء في القضايا التي
تتولاها أو في غيرها.
شكري
:
ليس عندي الآن ما يكفي لمشاركتك مصاريف المكتب.
مجدي
:
وأنا على استعداد لقبولها عندما تتوافر لديك.
شكري
:
سبحان الله!
مجدي
:
ماذا يا شكري؟
شكري
:
كنت أظن أن الوظيفة التي شغلتها هي كل شيء! ظننتها الوظيفة
الدائمة الباقية وإذا الله يكشف لي في لحظة أن هناك وظيفة أدوم
وأبقى.
مجدي
:
أي وظيفة تلك؟
شكري
:
الصداقة، من استطاع أن يحافظ عليها فقد استطاع أن يحافظ على
الشيء الدائم في الحياة، أسأت إليك فأحسنت وتكبرت فكنت أخي
الأكبر.
(يدق جرس التليفون فيرفع مجدي السماعة.)
مجدي
:
نعم، شكري بك سيكلمك.
شكري
:
آلو، ماذا، لم تستقل، حسنًا، اسمع اكتب خطاب استقالة بالصيغة
المعتادة على ورق رسمي وأحضرها إلي هنا، أتعرف العنوان؟ أسرع،
لا شأن لك، فقط أسرع.
مجدي
:
انتظر.
شكري
(يضع السماعة)
:
ماذا أنتظر رجعت في كلامك؟
مجدي
:
لا، ولكن …
شكري
:
إن شعوري بأخوَّتك وتجربتي في هذه اللحظة البسيطة تساوي
وظائف العالم أجمع، لا يا عم لن أرجع إليها، لن أرجع إليها
أبدًا.
(يعانقه ويدخل عبد الباري فيجدهما متعانقين
فيظهر السرور على وجهه.)
عبد الباري
:
الست حرم سعاتك.
مجدي
:
دعها تتفضل، واسمع يا عبد الباري، اجعل الخطاط يكتب لافتة
باسم الأستاذ محمد شكري المحامي وعلقها على الباب.
عبد الباري
(في حزن شديد)
:
ماذا؟ من؟ البك وكيل النيابة؟
مجدي
:
افعل ما قلت لك.
عبد الباري
:
أمرك، ولكن، القضية!
مجدي
:
اخرج.
عبد الباري
:
حاضر.
شكري
:
أية قضية؟!
مجدي
:
سأقصها عليك فيما بعد.
(تدخل زوجة مجدي.)
شكري
(مسلمًا)
:
محمد شكري وكيل النيابة، أقصد المحامي.
مجدي
(ضاحكًا)
:
أهلًا إلهام، هذا زميلي الأستاذ شكري.
إلهام
:
أهلًا بالأستاذ.
مجدي
:
لقد قبل الأستاذ شكري بعد إلحاح أن يترك وظيفته كوكيل للنائب
العام ويشاركني في المكتب فتخيري مكانًا، نتعشَّى فيه الليلة
احتفالًا بهذه المناسبة.
إلهام
:
وهل هناك أحسن من البيت؟!
مجدي
:
وهو كذلك، إلى البيت إذن، إلى البيت يا زميلي العزيز.
(تسبقهم إلهام في الخروج.)
شكري
(في عينيه نظرة شكر عميقة)
:
ألف شكر.
مجدي
(رافعًا سبابته إلى فمه)
:
اسكت.