وأنا … ما ذنبي
لا، لست فقيرًا، فلو كنت فقيرًا فلعلي كنت أسكت أو أرضى بما كتب لي. ولست جاهلًا، فلو كنت جاهلًا لما أحسست بهذا البلاء الذي قُدِّر لي، ولا أنا أبله أو مجنون ولا ضعيف أو قبيح الوجه، لا لست واحدًا من هؤلاء جميعًا، إنه عيب واحد الذي أعرفه في نفسي، لم أصنعه، ولا يد لي فيه ولو كنت أعرف طريقة للتغلب عليه لبادرت إلى اتِّباعها، ولكن ليست هناك طريقة، عيب واحد أعرفه في نفسي، هو أمي، نعم أمي، ماذا أصنع؟! هل أنا الذي اخترتها، أو أنا صنعت بها ما هي عليه، لا، لقد تم صنعها منذ زمن بعيد، صنعها أبوها، أو صنعتها أمها، أو صنعت هي نفسها، لا أدري ولكني أدري أنني لم أصنعها! وأدري أيضًا أنني لم أخترها لتكون أمي، بل إن أبي هو الذي اختارها من بين نساء العالمين لتكون أمًّا لأبنائه، ثم وجدت نفسي واحدًا من هؤلاء الأبناء.
لن أنالها بشرٍّ ولن أذكر عنها أي سوء فهي تحبني، ولا شر بها أو سوء إلا أنها تحبني غاية الحب، وحبها من نوع عجيب أوقع بي إلى ما أنا فيه اليوم!
إنها تحبني حبًّا عارمًا مجنونًا، لا تطيق عني بُعدًا، وهي منذ أول ما وعيت لا تطيق أن أصنع بيدي شيئًا، وإن أعجب ما أعجب له أنني نجحت ونلت الشهادة العالية برغم هذا التدليل الذي كانت تسكبه هي سكبًا فياضًا بلا تفكير، ومنذ ذلك الوعي الأول — رأيت لها صديقة لا تفارقها في نهار ولا ليل حتى تقتضي الضرورة الملحة، أو تفترقا لترى كل منهما شأن بيتها ثم تعودان لا تفترقان. ومنذ ذلك الوعي الأول رأيت لهذه الصديقة ابنة أكبرها بسنوات قلائل، وقد كانت الابنة ترافق أمها في زياراتها، محمولة على الأكتاف في أول أمرها، ثم ساعية بخطوات متعثرة، أذكر أنني كنت أضحك منها، ثم استقامت خطواتها وأصبحت عربيدة لا يقر لها قرار.
وكنت في ذلك أشكر نفسي أن ألهو مع الطفلة، ولا أرضى لنفسي أن تشاركني في لهوي ولكني كنت أراها دائمًا فلا أجد لرؤيتها صدًى في نفسي غير أنها كانت تتعثر في خطاها وكنت أضحك من تعثرها.
ودار الزمان دورته وأصبحت الابنة المتعثرة الخطوات فتاة ريانة الصورة! فيها جمال لا يبهرك في النظرة الأولى ولكنك تدركه مع طول التأمل، ومع بعض التفكير، وهي مؤدبة حسنة الحديث إذا تحدثت، لا يروعك منها خيال جامح، أو فكر متوثب، وإنما هي عقلية أكثرت من القراءة وأحسنت فهم ما قرأته، كانت هكذا سامية.
وحتى أصبحت هكذا كنت أنا قد انتهيت من دراستي وخلفت ورائي الجامع لأستقبل الحياة. ولكن الحياة لم تشأ أن تستقبلني وحدي، أو أن أمي لم تفك قيودي وتطلقني لأستقبل الحياة وحدي بلا رباط يربطني بها. ففوجئت بها يومًا وأنا أهم بالخروج.
– انتظر يا سميح فإني أريد أن أكلمك في أمر مهم.
وقعدت بجوارها.
– نعم.
– أنت — الحمد لله — كبرت وأريد أن أفرح بك.
– تقصدين الزواج؟!
– نعم.
– يا أمي ولماذا العجلة، إني لم أكَد أنتهي من الكلية وأريد أن أستريح قليلًا.
وابتسمت أمي وهي تقول: وهل الزواج تعب؟!
– أريد أن أجد وظيفة أولًا وتستقر أموري ثم أتزوج.
– لا شأن لك بأمورك سأعطيك كل ما تحتاج إليه.
– نعم يا أمي ولكنك لا تعرفين لذة المال الذي يكسبه الإنسان بعمله.
– ما هذا الكلام الفارغ؟!
– أهذا الكلام فارغ؟!
– طبعًا، ابحث لك عن حاجة أخرى.
– أمرك يا أمي، إذا وجدت فتاة تعجبني قلت لك لتخطبيها لي.
– ولكنك خطبت فعلًا.
– أنا؟
– نعم أنت.
– وذعرت أن يكون كلامها جادًّا لا مزاح فيه، ولو أني استبعدت أن يكون كذلك فاغتصبت ضحكة منعها من الانطلاق بقية خوف ما زالت تتردد في نفسي.
– متى كان ذلك يا أمي؟! أنا خطبت!
أنا يا أمي؟!
– نعم أنت.
– أجادة أنتِ؟
– كل الجد.
– كيف يا أمي؟!
– خطبت لك.
– كيف خطبتِ لي؟!
– وما لي لا أفعل، لقد كنت أعمل كل شيء لك، ألا تسمح لي أن أخطب لك!
– شريكة حياتي؟! المرأة التي سأقضي معها العمر كله! ألا اختارها؟! لقد صنعت لي كل شيء ولكنك تسمحين لي أن أختار رباط رقبتي وقميصي وحلتي، ألا تسمحين لي أن أختار زوجتي؟!
– لقد اخترتها وانتهى الأمر.
– تقولين إنك خطبت لي وأنا في الخامسة من عمري ولا بد أن أهل خطيبتي اعتبروا كلامك هزلًا ونسوا ما كان.
– أنت واهم فقد ظللت أجود خطبتك كل يوم منذ أنت في الخامسة من عمرك حتى اليوم، خمسة عشر عامًا وأنا أذكر الخطبة بخطبة جديدة، وتريد أنت أن تهدم هذا جميعه؟!
– أهدم ماذا؟ ما شأني أنا؟!
إنها ليست خطيبتي، أنا لم أخترها، لقد اخترتِها أنتِ فتزوجيها أنتِ.
– أنصت، إنها فتاة من أجمل الفتيات وأبوها غني واسع الغنى، وأمها غنية هي الأخرى وليس لها إلا هي، فأنت بذلك ستأمن على مستقبلك ومستقبل أولادك.
– إذا كان المستقبل هو غنى أبيها وغنى أمها فهو مضمون لا شك، وما المستقبل إن لم يكن المال؟!
– المستقبل هو الحياة جميعها، المال جزء فيها ولكنه جزء لا يزيد، من هي هل أحبها أم لا؟ هل تتوافق روحانا، هل؟
– لا تخرِّف، إنها سامية بنت عديلة وأنت تعرفها وستتزوجها.
– لا لن أفعل.
– بل ستتزوجها، وعليك أن تختار بين الزواج بها أو الافتراق عني إلى الأبد.
– عنك أنتِ؟!
– عني أنا، فلو أن أصبعي هذا عصى أمري قطعته.
– نعم، أعرفك إنك تفعلين هذا.
– ستتزوجها إذن.
– أتزوجها.
وتزوجتها، مسكينة، لو أنني أنا الذي اخترتها، لو أنني الذي خطبتها لعشنا معًا في أهنأ حياة، ولكني لم أخطبها ولم أخترها وإنما تزوجتها. كنت أرى فيها أمر أمي وتهديدها وعسفها بي وظلمها لي، كنت أرى فيها حرماني من أن أختار أنا شريكة حياتي، كنت أرى فيها جانبًا مظلمًا من جوانب شبابي، جانب اختياري أنا لزوجتي، فقدت هذه المتعة ففقدت إشراقة من إشراقات الشباب الكبرى، ثم أصبحت زوجًا دون أن تصحب زواجي ذكريات من نظرة التقت بأخرى، أو ابتسامة أو تفكير. وويل للشباب يمضي دون أن يصحب معه ذكريات! ذكريات الحب والاستخفاء والتفكير فيمن يحب، وفي هذا تحبني هي أيضًا، لا ذكريات لي، أنا زوج بلا ذكريات، إن زواجي حتمًا لا يحمل معه تلك الذكريات المادية المعروفة، لم أقصد إلى أمي لأقول لها في خجل فرحان «أريد أن أخطب فلانة» لم تقصد هي إلى العروس، لأنتظرها بما تحمل من أخبار، لم أرَ أبي يفكر بعض الشيء ويتردد بعض الحين ثم يقول: ألا ترى أنك متعجل بعض الشيء؟! على كل حال مبروك، لا، لم يتردد أبي؛ فقد كان أبي لا يتردد في أمر تصدره أمي، لا ذكريات لي من الزواج إلا أمران: تزوجت إلا أنني وجدت نفسي زوجًا، زوجًا لفتاة لا عيب فيها إلا أنها تمثل أمرًا مفروضًا عليَّ أن أنفِّذه لا ذنب لها وأعرف ذلك، ولكني أنا أيضًا ما ذنبي، أصبح البيت جحيمًا لي وأنا الشاب في ريعان العمر وهي الفتاة في إشراقة الشباب، أنا هنا في الحان مع صديقتي التي اخترتها أنا، والتي استخفى بها والتي أحقق بها ما حرمتني أمي من تحقيقه.
أنا هنا في الحان ألجأ إليه بعد عمل، لا أرى زوجتي ولا تراني إلا مخمورًا في آخر الليل، إن كانت في آخر الليل صاحية، أو مصدوعًا في أول النهار، إن كانت في أول النهار خالية.
مسكينة سامية، لقد كانت جديرة بزوج رائع، بل لقد كانت جديرة بأن أحبها أنا لو أنني أنا الذي اخترتها، ولكن أمها وأمي دبرتا المؤامرة فقضت علينا أن نحيا حياة؛ الموت خير منها.
لقد فكرت أمها وأمي في أن يتروج الابن من الابنة ولم تفكر منهما في الابن أو الابنة، إنها رغبة اشتعلت في نفس كل منهما فكنا نحن وقودها وكانت حياتنا الحريق.
أنا هنا في الحان أشرب مع صديقتي، وزوجتي بالبيت لا أدري ماذا تفعل؟! أعلم أنها مسكينة لا ذنب لها، ولكن أنا، ما ذنبي؟!