هو الله
كانت معربدة مجنونة في رأس عالم يجب أن تكتب له الشهرة، ويصعد إلى قمة المجد ولم يسكت العالم عن التفكير وإنما أخذ يذيع بين إخوانه العلماء هذه الفكرة التي سيطرت عليه، وأراد العلماء الناشئون أن تكتب أسماؤهم كمساعدين لذلك العالم الكبير فيقفزون بذلك سلالم كثيرة إلى سماء المجد الذي يحلمون به.
كانت الفكرة عجيبة! فهو يريد أن يصنع الآدميين خارج الأرحام ولكن، ما الروح؟ هو يعلم أن الجسم متكون من خلايا، وهو يعلم عمل كل خلية في كل جزء من أجزاء هذا الجسم، بل إنه يعلم ما تكون هذه الخلية، ولكن كيف تسير، وكيف تؤدي المهمة التي ألقتها عليها الحياة؟ لم يكن يعرف، ما هي الروح وكيف يستطيع الإنسان أن يحيا، ويسعى، ويشعر ويحس ويتكلم، ويفهم، ويفرح، ويحزن، كيف؟ لم يكن يعرف! وهل إذا وضع العناصر التي يتكون منها الجسم بعضها إلى بعض تنتج تلك المعجزة الضخمة التي حيَّرت العقول؟! كان يعلم أن وضع هذه العناصر وخلطها لن يؤدي به إلا الفشل الحاسم السريع.
وعجب العالم من هؤلاء الذين ينكرون الله! كيف ينكرونه وينكرون معجزاته وهم في أنفسهم معجزات لم يصل أحد إلى إدراك كنهها بعد؟! وهداه عجبه هذا أن يحاول بعض الناس أن يثنيه عن فكرته جميعًا؛ فالنسل في ازدياد والمشكلة تحل بالإقلال منه لا بالزيادة، ولكن العالم ركب رأسه وأراد أن يثبت عبقريته.
وأصبح تفكيره منحصرًا في أن يهيئ في قوارير زجاجية جوًّا مماثلًا لجو الأرحام يضع فيه الحيوانات الإنسانية تسعة أشهر ثم تكون الولادة.
واستمر في تجربته تلك السنين، ومساعدوه من حوله ينتظرون وفي كل مرة يرى سببًا لفشل التجربة، فيزيله، وتمر الأعوام والأرحام الزجاجية عاقر ما تزال، لا تهب البنين ولا البنات.
ثم شاء الله سبحانه وتعالى أن يسخر من هذه الحشرة المتعالمة فأمر وقال للقارورة كوني فكانت.
وكانت التجربة تُجرى على قارورتين فأخرجت إحداهما ولدًا ذكرًا وأخرجت الأخرى الأنثى.
وفرح صاحب الفكرة وأذاع في العالم نجاح تجربته وارتقى إلى سماء المجد في لحظة واحدة، لحظة أن بكى الطفل وبكت الطفلة.
وتسلق العلماء الصغار حبال المجد التي علَّقها كبيرهم، واطمأنوا نفسًا وقرُّوا عينًا، لقد نجحوا في أكبر تجربة عرفها التاريخ وأرادوا أن ينسوا لحظهم أنهم لم ينشئوا إنشاء وإنما هيئوا جوًّا، وتركهم ربك في غيهم يمرحون.
ولكن شيئًا واحدًا كان يعكر على العالم الظافر فرحته المجنونة، ذلك أنه كان حين يضع سماعته على موضع القلب من الطفل أو الطفلة لا يسمع تلك الدقات المنتظمة التي يجب أن يسمعها، وإنما كان يسمع هديرًا كهدير البحر الصاخب، ويحاول أن يجد لذلك من العلم تعليلًا ولكن هيهات! فسكت عن الأمر وحبسه حتى عن مساعديه لينال المجد كاملًا، والتهنئات خالصة، حتى إذا خفت صوت المجد وهدأ صخب الناس، وفرغ إلى معمله مرة أخرى بعد ضجيج الصحافة والإذاعة والتليفزيون والسينما همس إلى مساعده الأول بتلك الظاهرة التي تطالعه من هذين المخلوقين، وحمل المساعد هذا السر في إحساس بالخطورة وشعور بالرهبة واقترح على أستاذه أن يضعا الطفلين تحت الأشعة.
وفي تكتم شديد أعدت أجهزة الأشعة ووضع قلبا الطفلين موضع البحث، ولكن ما هذا؟ نظر العالمان كل إلى الآخر نظرة ملؤها الدهشة والذهول ثم نظرا مرة أخرى إلى تلك الصورة التي ظهرت لهما في الأشعة، لكم سخر الإله منهما، إن الطفلين بغير قلب، لقد شاء الله أن تقوم الشرايين مباشرة بدون القلب، ومحا القلب من أولاد القوارير، إن حب الأمومة والرحمة التي يفيض بهما قلب الأم هي التي تضع القلب في الطفل في رحم الأم، أما الزجاج البارد الأخرس فهيهات أن يهب القلب! لقد استطاع العالم أن يجعل جوه مثل جو الرحم، ولكنه لم يستطع أن يجعل فيه رحمة الأمومة.
كتم العالمان الخبر عن الناس فقاما على الطفلين يهيئان لهما الغذاء الأمثل حتى درج الطفلان وتعلَّما الكلام وفهماه، ثم ذهبا إلى المدرسة وهناك سمعا إخوانهما يتكلمون عن أمهاتهم فتعجبوا! ما معنى هذه الكلمة؟ ما الذي تهدف إليه؟ سألا العالمين في المنزل فشرحا لهما الأمر فتعلماه، درساه كدروس المدرسة في الجغرافيا والتاريخ ولكنهما لم يحسا به.
وحين علم إخوانهما أن لا أم لهما، أخذهم العجب، بل إن الأساتذة أنفسهم قد عجبوا من أمرهما، فهم قد سمعوا أن شخصًا يولد فلا يعرف أباه، وأمه! وسمع الطفلان فيما سمعا أن شيئًا في الحياة اسمه الرحمة، وبآخر اسمه الحب، وآخر اسمه الحنان، وآخر اسمه الفرح، وآخر اسمه الحزن، وآخر اسمه السعادة، وآخر اسمه الشقاء، سمعا هذا جميعه وألحَّت هذه الألفاظ على أسماعهما، فإذا سألا قائلها عن معناها حار كيف يصفها، ثم لا يجد مخرجًا من حيرته إلا أن يقول هذه الأشياء لا يعرفها الناس في الألفاظ وإنما هي إحساسات تضطرب بها النفس، إحساسات؟! ما معنى هذه الكلمة أيضًا؟! وهكذا لا يجد الطفلان أحدًا يسألانه إلا العالمين بالمنزل؛ فيحاول العالمان أن يترجما لهما ويحاولان أن يضعا التعاريف مثل تلك التي يعرفون بها النظريات العلمية ولكن هيهات أن يفهم الطفلان، ولا يستطيع العالمان الكبيران أن يفهماهما، ولا يجدان أخيرًا شيئًا يقولانه إلا أنه إحساسات وتزداد حيرة الطفلين ولكن قليلًا ما تمكث هذه الحيرة.
إلا أن اسمًا معيَّنًا كان يسمعانه كثيرًا فلا يفهمانه مثل كل ما لا يفهمانه، الله! إنهما يسألان العالمين عنه فيقولان الله الذي خلق كل شيء، وخلقنا.
– وخلقكما.
– فلماذا يحمده من تصيبه سيارة في الطريق ولماذا يحمده من ينال مالًا كثيرًا.
هو نفسه الله يحمدونه عندما يقع لهم ما يسمونه حزنًا، ويحمدونه عندما يتم لهم ما يسمونه فرحًا.
– لأن الناس يؤمنون به.
– يؤمنون! كيف يؤمنون؟!
– يؤمنون به أن يهبهم الصبر عند المصيبة، ثم هم يشكرونه عند الفرح.
ويسمع ولدا القوارير هذا الكلام فيضعانه من عقليهما حيث يضعان كل ما لم يفهماه من قبل، إلا أن ذلك ترك فيهما غُصَّة، ولكن العالمين يضطران آخر الأمر أن يشرحا لهما إنهما مختلفان عن الناس جميعًا، ويرويان لهما كيف جاءا إلى هذه الدنيا فلا يصيب هذا من نفسيهما شيئًا ولا يفسر لهما شيئًا.
وتمر الأعوام ويبلغ الطفلان مطالع الشباب الأولى فتتحكم النزوة فيهما، نزوة لا تتحكم فيها عاطفة ولا شعور ويخشى العالمان على مصيرهما فيزوجان الفتاة من الفتى، ويقيمان المراسيم الدينية ولكن الفتاة والفتى لا يفهمان من هذه المراسيم شيئًا وإنما يفهمان أنهما سيتزوجان، ويفهمان هذا المعنى مجردًا عن كل روحية فيه، لقد سمعا أن الناس فيما بينهم يتحابون ثم يتزوجون ولكن ما هو الحب؟ لم يعرف واحد منهما إنما قد عرف الرغبة، فكان الزواج، ثم كان لهما أطفال وكان الأطفال يموتون الواحد تلو الآخر فلا يحسان لذلك ألمًا ولا حزنًا إنما هو شيء جاء فما فرحوا به ثم ذهب فما حزنوا عليه، ويريان الناس من حولهما يحزنون ويريانهم يدمعون ويبكون لمصابهما فيعجبان من الناس.
وتمر الصور أمامهما كثيرة متلاحقة فهما يريان الناس تفرح وتحزن وتغضب وتنبسط وتتألم وتصح وتشقى وتسعد ويريان الحياة أمامهما تضطرب وتموج بهذه الإحساسات والمشاعر، وهما عنها بمنأى، بعيدان عن كل ما تزخر به فيثب خاطر واحد إلى رأس كليها فما يلبثان أن يذهبا للعالمين فيقول الفتى: قلتما لنا أنتما اللذان سعيتما لمجيئنا في هذا العالم.
– نعم.
– فنحن نريد أن تخرجانا منه كما أدخلتمانا فيه.
– ولماذا؟!
– لأننا نعيش فيه ولا نحبه لأننا نأكل كما يأكل الناس، ونشرب كما يشربون ونتعاشر كما يتعاشرون ولكننا لا نحس كما يحسون، إننا مشتاقان إلى الإيمان، إلى السعادة، إلى الشقاء، إلى الألم، إلى الفرح، إلى الحزن، إلى كل هذا الذي نراه يضطرب في إحساس الناس ولا يضطرب في أجسامنا، لأننا لا إحساس لنا. نريد أن نموت، ليس هذا العالم لنا، إننا هنا غلطة، إننا هنا سخرية، لقد أراد الله أن يسخر منكما فكنا نحن، ألم تقولا إنكما حاولتما أن تصنعا مثلنا فما أفلحتما؟ نحن سخرية العالم منكما، ألم تقولا إن من يموت يختاره الله إلى جواره؟ نريد أن نذهب إلى هذا الجوار فهناك سيعطينا الله ما حرمنا منه هنا.
ويقول أكبر العالمين: ولكننا لا نستطيع، إن موتكما ليس من عملنا.
– ولماذا؟! إن الذين تقولون عنهم إنهم مجرمون يقتلون في كل يوم فاقتلانا مثلما يفعلون.
– إننا لسنا مجرمَين.
– بل أنتما أشد إجرامًا منهم، ألم تفكرا حين قمتما بتجربتكما، أي شيء هذا الذي تفعلان وتزعمان أن لكما قلوبًا، وتزعمان أن لكما إحساسًا، إننا نحن — ونحن بلا قلب ولا إحساس — نفكر في العواقب، أما أنت أيها العالم العبقري فلِمَ تفكر في مصير إنسان ليس بإنسان؟ لقد أراد الله أن يسخر منك فكنا نحن، فاقتلانا.
– لا نستطيع.
– إذن نقتلكما نحن.
وأخرج الفتى من جيبه سكينًا وأراد أن يطعن به العالِم الكبير ولكن كان يعرف ما ينتويان، فسرعان ما يخرج غدارته وسرعان ما يسقط ولدا القوارير صريعين مضرجين بدماء هي في أصلها تنتسب للإنسان وإن كانت قد ربيت في بيت من زجاج ليس فيه من الإنسانية عرق، وتمت كلمة ربك واختار الفتى والفتاة إلى جواره وتكسرت القوارير، فالرحم وحده هو الذي اختاره الله ليخرج منه الحياة، والروح — قبل — من عنده سبحانه، هو الله.