سماء ولا أرض
تأهبت الجيوش لحرب، ولم يطمئن الملك إلى قوَّاده؛ فهو يشرف على كل شأن. ولا حديث له إلا الجيش وما اكتمل من عدده، وعتاده، والمدينة قائمة لا تعرف قرارًا، والناس مضطربون، فمن لا يذهب منهم سيقدِّم ابنه أو أخاه أو أباه، يدفعون ضريبة الدم للوطن والدين، والألسنة كلها تدور في أفواه أصحابها لا حديث لها إلا هذه الحرب، والأعين كلها هالعة، خائفة، فهي تتجه إلى السماء داعية في خضوع، راجية في إلحاح، ثم ترتد إلى الأرض وقد هدأ هالعها واستقر مضطربها، ولكن إلى حين قريب، ثم ما تلبث أن تتجه مرة أخرى إلى السماء، وهكذا تظل مترددة بين لطف السماء، ورهبة الأرض، والجيش لاهٍ عن هؤلاء جميعًا، إلى الإعداد، والتفكير فيما يحتاجه في تلك الرحلة التي قد تطول حتى نهاية هذه الدنيا، وقد تقصر فهي إذن سنة أو بعض السنة، يلاقون فيها الموت ويخادعونه عن أنفسهم، ويقودونه إلى أعدائهم، والنساء باكيات، والقليلات منهن القليلات يقفن إلى جانب أزواجهن يلهمنهم العزيمة، ويوحين إليهم بالمصابرة، مصابرة النفس، ومصابرة العدو، ومصابرة الزمن.
ويصل الوحي إلى نفوس البعض، أو هو يرتد عن النفوس الخائرة التي تذهب إلى الحرب لأنها لا تملك إلا ذهابًا، ولعل ذلك الوحي يصل إلى نفوس بعض الجند فيجد ألا عمل له في هذه النفوس فهي مليئة بالإيمان، مفعمة بالثقة، وهبت نفسها لله وفي سبيله تحارب.
وكان في المدينة شاعر، أراد أن يذهب إلى تلك الحرب؛ فقد كانت العقيدة تملأ جوانب نفسه، وقد شبَّ لا أمل له إلا أن يحارب أعداء الله في سبيل الله، وقد كان الشاعر يعرف طريقه إلى قصر الملك، بل كان يعرف طريقه إلى جلسة الملك ذاتها، فهو يذهب إلى هناك ويجلس، وما هي إلا لحظات حتى ينتهي الملك من أوامره التي كان يصدرها متلاحقة قاطعة؛ فقد كان الجيش في سبيله إلى الرحلة إذا ما أقبل الصباح.
ويقف الشاعر فيلقي قصيدة رائعة، ثم هو يسأل الملك أن يسمح له بالذهاب مع الجيش فيقول له الملك: ولكنك الشاعر الفرد، لو فقدناك وجدنا لك عوضًا.
– أبقاك الله يا مولاي، أيمنعني هذا حقي؟!
– وأنا أخشى عليك.
– أتخشى عليَّ الموت يا مولاي ولا تخشى قولهم، قد جبن حين نفر الناس إلى الجهاد، وخاف حين همَّ القوم إلى النضال.
– إنك يا أخي لتقول الشعر فتهب النفس الخائرة قوة، وتلهم الروح الناكصة إقدامًا.
– شكر الله لك يا مولاي، فأين يكون مكاني إذن إن لم يكن بين قوم يناضلون، قد يتعرض لهم الموت فيصيب من عزيمتهم، ألا أكون أنا أجدر الناس بالذهاب إلى الحرب فأرد خوفهم شجاعة، وتراجعهم إقدامًا.
– لكم أتمنى أن تبقى، ولكنى لا أملك أن أبقيك فإليها أيها الشاعر، إلى حيث تريد لنفسك، وإلى حيث تريد لك نفسك من شوق، أما اليوم فإننا سنريح أنفسنا، من عناء ما كنا فيه، ونهيئ أرواحنا لما ستقدم عليه بليلة بيضاء، ينيرها الأمل في المستقبل والإيمان بالله، وما لا يغضبه سبحانه.
كان هذا النقاش يدور وقد جلست الجاريات ينتظرن انتهاءه حتى يقمن بالغناء، وكان من الجاريات بثينة، وكان شاعرنا يحب هذه الجارية حبًّا بعيدًا عن الأمل؛ فهو يعلم أن فقره يقصيه عن بثينة، وهو يعلم أن لها في القصر مكانًا، وأن لها في قلب الأمير مكانًا.
ولكن هذه الهوة البعيدة لم تمنع أحلامه أن تجمع بين أسوار عقله، وأن للأحلام جموحًا إلى المحال، ولا بأس عليها، فما هي إلا سرحه ثم تصبح تلك الأحلام هباءً لم يعرف بجموحها إلا صاحبها، وإنه لكاتم سرها لم يسمح لها يومًا أن تذيع، وهكذا كانت تثور أحلام شاعرنا شهاب به فتفكر في تلك السعادة التي قد تتهيأ له لو أن حبًّا مثل حبه وقع في قلب بثينة.
كانت بثينة إذن بين الجاريات، وسمعت ذلك النقاش بين الأمير والشاعر فاشتد إعجابها بالشاعر؛ فهي تعرفه شاعرًا ينشئ القصائد الرائعات، وهي تعرفه ينسج المعاني الخالدات، ولكن لم تعرفه رجلًا يبتكر الكريمات من الأخلاق، ويبتدع العظام من التضحية.
وكانت ليلة ثم كانت الحرب، فذهب إليها شهاب وأحلامه ما تزال تجمح به فيرد جماحها، وبقيت بثينة وإعجابها بالشاعر قد يصبح بجانبه إعجاب برجولته.
ويند في الجيش إلى الحرب، ويحمى الوطيس، وتهم الهزيمة أن تحيق بجيش شهاب فما يمنعها عنهم إلا الليل، الذي يرغم الأعداء أن يرتدوا إلى خيامهم قبل أن يتم النصر لهم، وإن كانوا قد وثقوا منه يكادون يحسون به بين أيديهم.
ويعود جيش الملك إلى جراحه يداويها، وقد انكسرت العزيمة وخارت النفوس، وأصبحوا ولا أمنية لهم إلا أن يرجعوا إلى ديارهم بتلك الفلول التي أبقى عليها الليل، ويرى الشاعر ما ألمَّ بجيشه فيعرف أنه قد آن للسانه أن ينطلق ليرد النفوس الخائرات إلى شجاعتها، ويعيد الأفئدة الهالعة قوة واندفاعًا، ويذكِّر بقية الجيش الهزيم أن الجنة تنتظر القادمين، وينطلق شهاب يخطب ولم يكن حوله حين بدأ إلا شرذمة ضئيلة استطاعت أن تخلص من أحزانها وخوفها لتقف قليلًا إلى ذلك الفتى الذي استطاع أن يملك زمام نفسه؛ فهو يدير الحديث في براعة وهو يبتكر المعاني النافذة آخذة سبيلها في قوة إلى قلوبهم، ولم تلبث هذه الشرذمة أن اتسعت حتى أصبحت تضم الجيش كله، وإذا الجيش لا يطيق أن يبيت ليلته على الهزيمة فهو يندفع في قوة عبقرية إلى الأعداء وكأنما هو جيش جديد غير ذلك الذي كان منذ صدر الصباح إلى غسق الليل، فهو إذن لم ينهزم، وهو إذن لا يعرف إلا أن الأعداء على مرمى القوس منه، وإنه ليس بينه وبين الجنة إلا أن يهزم هؤلاء الأعداء أو يموت.
ويندفع الجيش وصيحات شهاب ما زالت تدوي في جميع قلبه، وكانت جيوش الأعداء تحتفل بالنصر الذي أصبحوا منه أقرب من هذه الأرض التي يجلسون إليها. وكان احتفالهم بالنصر خمرًا معتقة تدير الرءوس التقت بها نشوة معربدة في نفوسهم من فرحة النصر.
وهكذا التقى جيش المسلمين يدفعه الحرص على الجنة، وجيوش الأعداء يقعد بهم الحرص على الأرض، التقت السماء والأرض، والحق مدعمًا قويًّا، بالقوة سكرانة لاهية، التقى الجمعان فكان نصر المسلمين حلمًا كاملًا، وما إن انبلج الصبح حتى كانت جيوش الأعداء تولي الفرار، وكانت جيوش المسلمين تتأهب للعودة إلى بلادها، النصر فيها، والفرح يحيط بها من كل جانب.
وجلس الملك إلى قواده وعرف منهم ما كان من أمر شهاب وخطبته، فهو يرسل في طلبه فما يلبث أن يجيء فيقول له الملك: هيه يا شهاب لقد كان والله لسانك أقوى من الجيش.
– بل كان إيماني يا مولاي أقوى من العالم.
– أريد يا شهاب أن أكافئك.
– إنما لا يكافأ المرء لمثل هذا يا مولاي، لقد كانت مكافأتي في العمل الذي أقوم به؛ فقد كنت أحس وأنا أخطب قومي وأرى استجابتهم أنني أسعد الناس جميعًا، ولن تستطيع يا مولاي أن تهب لي مثل هذه السعادة، أجل يا مولاي كان عملي نفسه هو المكافأة التي أتمنى أن أنالها.
– هو ما قلت يا شهاب وإنما أريد أن أعبر لك عن إكباري، ولن يكون هذا التعبير إلا هدية.
– وإن رجوتك أن تعفيني من قبولي الهدية.
– أمرتك أن تقبلها.
– وما لي إلى رد أمرك من سبيل يا مولاي.
– قد جعلت لك قطعة من الأرض، تلك التي تجاور بيتك، وجعلت لك بثينة جاريتنا، هي لك هدية.
– من يا مولاي؟!
– بثينة.
– تقصد ذلك القوام الأهيف، هاتين العينَين الصافيتَين، هذا الفم الملائكي، هذا الشعر الأليل، هذه …
– أجل إنها هي ومنذ الليلة هي ملكك.
ويخرج الشاعر من ديوان الملك، وقد ملك الغنى فما فرح به وملك بثينة، فهو لا يدري كيف يشكر الله على ما أنعم، ثم هو ما يلبث أن يحسب كل ما كان من أمر الملك وأمره حلمًا من تلك الأحلام الجامحة التي تثور به؛ فهو ينظر إلى الأوراق بيده فيرى فيها أن بثينة قد أصبحت على خالص ملكه، يراه حقيقة في يده لا تحتمل تكذيبًا فيضع الورقة في جيبه، ولكن هيهات لها أن تستقر فهي خارجة بعد برهة إلى يده وعينيه، وهكذا تظل الورقة بين طي المصدق ونشر المكذب حتى يصل شهاب إلى منزله فيهيئ أجمل ما يُهيَّأ منزل، هذا الحلم الجامح الذي أصبح حقيقة يراه بعينيه ويلمسها بيده بل يكاد يلمسها بفؤاده، ويبحث عن حديث ويطول البحث والجارية صامتة تنتظر ما تنفرج عنه هاتان الشفتان اللتان أصبحتا تتحكمان في كل خطوة كتب عليها أن تمشيها، وأخيرًا تنفرج الشفتان، شفتا شهاب فهو يقول: أتراك تعذرين فقري وتنظرين إلى غدي، أعلم أن الفارق بين ما كنت فيه وبين ما أنت فيه كبير، هل تعذرين؟
– يا لخيبة الأمل! حتى الشعراء ينظرون إلى الأرض، ليس الفرق في المكان يا سيدي.
– يعلم الله أن مكانًا أنتَ فيه هو الجنة، ولكني أردت أن أنظر من عينيك.
– أو هكذا تبصر عيناي؟!
– هكذا تبصر عيون النساء.
– بل قل هكذا تبصر عيون الإماء.
– أنا لم أقل …
– تريد أن تقول …
– أحسابًا على خافية الصدور؟!
– وهل الشاعر إلا صدره وما يخفي؟!
– أو شاعرة أنتِ؟!
– بغير شعر.
– وكيف؟
– ليخيل إلي أنك لست الشاعر، هل الشعر عندك هو تلك الألفاظ المرصوفة على وزن، منتهية بحرف متحد، ما أشبه الشعر إذن بطريق مرصوف تحده الحدود المستوية.
– بل الشاعر هو تلك الروح العالية، ترفع عن الناس عبء التعبير عن آلامهم وأفراحهم فتطلقها لهم في النغمة المتسقة واللفظ الكريم، الشاعر روح.
– فأين هي فيك؟!
– أفقدتها؟
– فإنني والله لأجدها في شعرك فألتذها، وأفتقدها من شخصك فأفقدها.
– أفقدت الروح!
– بل فقدها كلامك.
– كأنك لا تعرفين المحب إن لاقى الحبيب!
– فأين المحب وأين الحبيب!
– فإنني أحبك.
– أو رأيتني؟
– مرات.
– بين الجواري؟
– وما في ذلك؟
– فأنت تحب مني تناسق الوجه وانسجام القوام.
– وما في ذلك أيضًا؟!
– أو هكذا يحب الشاعر؟!
– فكيف يحب الشاعر؟
– يحب الروح السامية لا الجسم الممشوق، يحب التفكير الرفيع فيمن يحب.
– أو تفقدين الروح السامية، والتفكير الرفيع!
– لئن كنت أفقدهما فأنا لا أعترف.
– فإنني أراهما.
– كيف وأنت لا تكلمني إلا اليوم.
– أو يحتاج الحب إلى أيام؟
– بل إلى سنين.
– أي حب ذاك؟
– الحب الأصيل!
– أو عرفته.
– عرفته.
– لغيري؟
– لغيرك.
– وتريدين أن أتركك له.
– لم أقل.
– ألا تطلبين كثيرًا.
– إذا كنت إنسانًا ككل الناس فالطلب فادح، ولكنك الشاعر.
– ولكني أحبك.
– خيال، لو لم يهبني الملك لك ما أحببتني.
– أنت الوهم الذي أجسمه كلما تخيلت الحبيب.
– فأنت مخطئ، ما هكذا يكون الحب، ما هكذا يحب الشاعر!
– أليس الشاعر إنسانًا!
– بل هو الإنسانية في أرقى مدارجها، وما هكذا يحب، إن كان حبك لي ابن نظرة فما أشبهك بالحيوان يختار زوجة عندما ينظر إليها، ولكن الإنسان يختار حبيبه باتفاق الروح وانسجام الود، واتحاد المثل الرفيع.
– وحبي لك.
– وهم.
– أحبك، ولكن من ذلك السابق؟
– فتًى ككل الفتيان، ولكني أحبه، عاهدته وعاهدني فما حنث وما حنثت.
– أتحبينه وأنت لا تملكين نفسك.
– لقد كنت عند مالكي سلعة يشتريها ويهدي بها، أو يبيعها وله عليَّ حق الطاعة، ولكن قلبي لم يخطفه الخاطف بعد، وما اشتراه مني أو من خاطفي أحد.
– ولكن الفتى خطفه منك.
– بل أهديته إليه حبًّا بحب.
– فان تبين لك أنه كاذب.
– أعرض عنه، وأحبه.
– والجرح.
– أضم نفسي عليه، وأمنعه أن يلتئم فهو بقية حب كريم.
– أتأذنين لي في الخروج.
– إلى أين؟
– إلى حبيبك.
– أو تعرفه؟
– نعم.
– (ضاحكة) فما اسمه؟
– المحب المخلص.
– وما أدراك أنه مخلص!
– ليس في العالم إنسان يحبه كل هذا الجمال بكل هذا الإخلاص ولا يخلص، ولا يوجد غير مخلص واحد هو من تحبين.
– فأنت تبارك هذا الحب!
– إنما الإنسانية هي التي تباركه.
– فأنت تعتقني؟!
– وهذه أوراقك.
– فأنا حرة؟!
– ليس لمثلك الرق.
– فضل لا أنساه.
– أنت صاحبته، لقد عرفت منك — وأنا الشاعر — الحب كيف يكون؟!
ولا تنتهي الليلة حتى يكون فتى بثينة قد جاء إلى بيت شهاب ويتم زواجه بها ويخرجان، نعم لم يكن الأمر غير حلم جامح من تلك الأحلام الجامحة التي تعربد في ذهن شهاب، وإن يكن في هذه المرة قد خرج إلى عالم محسوس حقق به سعادة اثنين ثم عاد حلمًا، كما كان يربط إليه ذكريات فيها السعادة، سعادة النفس الكريمة تقدِّم الخير، وفيها الشقاء، شقاء الروح الشاعرة تحرم ممن تحب، ولكنه على الحالين حلم فرحان بالسعادة والشقاء جميعًا، اطمأن إلى صاحبه فضمه بين أحناء كريمة تزف إلى السماء فما تعرف الأرض.