الرحمة القاسية
دخل الساعي إلى لطفي أفندي يحمل إليه ظرفًا من النوع الرخيص الذي يلاقيك به أطفال الطريق، وقد كُتِب عليه الاسم «لطفي عبد الكريم» في حروف واضحة وأن كانت شوهاء.
وتناول لطفي الخطاب دون أن يلقي إليه اهتمامًا، وألقاه إلى جواره ريثما ينتهي من الأعمال التي لا بد له أن يقوم بها واستقر الخطاب في موضعه ينتظر لطفي أن يفرغ.
وفرغ لطفي من أعماله، وكاد ينسى الخطاب، لولا أن مرت بأذنه كلمة «البوسطة» ألقاها أحد زملائه إلى آخر فتذكر تلك المهمة التي أدتها له البوسطة في صباحه هذا وتذكر ذلك الخطاب الملقى إلى جانبه، فأخذ يبحث عنه حتى وجده، وراح يفتحه في كسل وهو لا يفكر فيما قد يحمله إليه الخطاب، ولا يحاول حتى أن يخمن فيمن يكون مُرسِله!
وانفتح الخطاب أخيرًا وبدأ لطفي يقرأ، ثم ما لبث ريقه أن جف وراح قلبه يخفق في وجيب متدافع صاخب، وتولت يديه رعشة ثائرة، وعلا وجهه شحوب قانطٍ أصفر، وانبعثت على جبهته قطرات من الماء، فما يدري أألقتها على جبهته يد صديق، أم ثورة الدماء في عروقه؟ أصبح لطفي في ومضة عين إنسانًا منفصلًا عن العالم الذي يحيا فيه فهو لا يحس من حوله شيئًا وإنما هو بجميعه يحيا في هذا الخطاب الرخيص الذي لقيه هذا اللقاء الفاتر.
لقد كان هذا الخطاب الحقير يحمل أمرًا كبيرًا.
وضع لطفي الخطاب أمامه وطلب إلى الساعي أن يحضر له كوب ماء، وانتظر حتى شربه وأغمض عينيه قليلًا ثم عاد إلى الخطاب ثانية يقرأ، لا، لم يفد كوب الماء، ولم تُجدِ هذه الإغماضة التي أصابها. فالخطاب ما زال يحمل نفس الكلمات، أو ما زالت هذه الكلمات تؤدي نفس المعاني، وإنها لمصيبة! زوجته خائنة! سميرة التي بذل لها أجمل أيام الحياة والتي ضمتها وإياه أحلى الأوقات، عرفها وهو لم ينتهِ بعد من دراسته فكانت له في هذه الأيام إشاراته تضيء له الطريق إلى المستقبل، وعرفته هي حين كانت آمالها في المستقبل حائرة مضطربة فوجدت فيه مرتعًا لآمالها وتجسيمًا لأحلامها، والتقت الآمال منهما والقبول من أسرتيهما، فكان الزوج.
ومشت بهما الأيام، لا يفكر يومًا أنه أساء إليها، ولا يذكر أنه مس كرامتها في شيء. نعم إنه يسمع عن هؤلاء الأزواج الذين يقبِّلون زوجاتهم كلما أصبحوا أو أمسوا، ويسمع عن هؤلاء الأزواج الذين لا يخرجون من بيوتهم إلا إذا وقَّعوا بشفاههم على وجوه زوجاتهم ولا يرجعون إلى بيوتهم إلا وقَّعوا مرة أخرى، ولكنه لم يأتِ مثل هذه السخافات وكيف يقبل أن يجعل من وجه زوجته دفتر حضور وغياب! مثل ذلك الذي تلزمه وظيفته أن يوقع عليه داخلًا وخارجًا. وهو يسمع عن الأزواج الذين يدللون زوجاتهم فيمتدحون ثيابهن مهما تكن ثيابهن تلك، ويمتدحون عقصة شعورهن على أية ناحية عقصن ذلك الشعر، ولكنه هو لم يفعل مثل ذلك مع زوجته.
لا، إنه لم يكن يدلل زوجته ولم يكن يُقبلها مصبحًا وممسيًا ولم يكن يمتدح ثيابها وعقصة شعرها، لقد كان يحترمها، وهو يعتقد أنها ترضى منه بذلك الاحترام فهو يعرف عنها الذكاء الذي لا يقبل الملق، والحصافة التي تأبى السخافات. نعم إنه يلحظ أنها كثيرًا ما كانت تغير الطريقة التي تصفف بها شعرها؛ فكانت تجعله كذيل الحصان حينًا، أو كانت تلمه في دائرة مكتملة وراء رأسها ولكنه لم يكن يلقي إلى هذه التصفيفات بالًا، ولم يهتم إذ ذاك أن يمتدحها لها، أو يذكر عنها شيئًا بخير أو شر؛ فقد كان يحب سميرة، سميرة التي عرفها يافعًا يدرج إلى الشباب وشابًا يصعد إلى المستقبل. وسميرة عنده أكبر من عقصة الشعر، ومن تغيير الثوب، ومن كل مظهر تتخذه، إنه يحب كيانها الذي أحبه يومًا وما زال.
أحب سميرة التي فضَّلته على جميع من سعوا إليها خُطابًا، والتي اختارته بقلبها وعقلها من بين الكثيرين الذين تقدموا لخطبتها حين كان هو يكمل دروسه بالجامعة! سميرة التي رفضت هؤلاء لتنتظره. حتى لقد رفضت ابن عمها نفسه وهو الشاب الواسع الثراء، الجميل، الأنيق، نعم لقد رفضت محيي الأدهم بكل ثرائه وجماله وأناقته لتختاره وهو، محيي الأدهم، ألا يكون محيي هو من أرسل ذلك الخطاب، وما له لا يكون، وما الذي يمنعه؟ إنه شاب حقير وإن يكن ثريًّا، ألم يجمع ثراءه من التجارب القذرة التي تستخفي من القانون والتي يعظم فيها الربح لعظم المخاطرة التي تحيط بها.
نعم إنه محيي الذي أرسل الخطاب. ومن يكتب هذا الكلام الحقير إلا حاقد حقير جاهل، ويعود لطفي إلى الخطاب مرة ثانية: «زوجتك تخونك، رجل يأتي إلى منزلك كل يوم، بعد خروجك. اسأل زوجتك عن هذا الرجل، مخلص.» ومن يكون المخلص إن لم يكن محيي، إنه مخلص للشر الذي يغتلي بنفسه، والحقد الذي يشتعل بقلبه منذ رفضته ابنة عمه حين تقدم لها وهو يعتقد أن ثراءه لا يجعل لفتاة فرصة لتتردد في قبول الزواج به. إنه محيي، من أرسل الخطاب وإنه لكاذب. وحينئذٍ أحس لطفي بعض الراحة تعاوده.
وأخيرًا يعود رويدًا رويدًا إلى تلك الحياة التي انفصل عنها منذ قرأ الخطاب. ثم أخذ يلوم نفسه على ذلك الشك الذي ساوره في زوجته الحبيبة المخلصة، وأحس أنه بلومه هذا لنفسه يعيد إلى قلبه الطمأنينة التي طارت منه، ويقر في نفسه الهدوء الذي زايلها، ثم جاوز تأنيب نفسه إلى السخرية منها، كيف يمكن أن يشك في سميرة ألا ما أضعف ثقته؟ أيكفى خطاب أحمق رخيص من ذلك النوع الذي يلاقيك به أطفال الطريق حتى تتزعزع ثقته في زوجته الوديعة، الأمينة! وأي رجل ذلك الذي تقبل سميرة أن تخون زوجها معه، إنه لا يرى فيمن حوله رجلًا يستحق العناية من سميرة، أتراه مثلًا ذلك الرجل الذي اتخذ المسكن المقابل لمسكنه؟! ذلك الرجل ذو الزوجة الدميمة الغنية، ولكن أي شيء فيه يعجب سميرة! ألأنه يمتدح ثوبها وتصفيف شعرها وحسن اختيارها لحذائها وانسجام الحذاء والحقيبة؟ ألأنه يلقي هذه الكلمات التافهة ينال الرضى من سميرة فتخون زوجها الذي تحققت فيه آمالها واستقر مستقبلها. لا، لا يمكن أن يكون الرجل هو ذلك الساكن ذو الزوجة الدميمة، إنه ليس الرجل وليس أي رجل آخر وإن سميرة لعفيفة.
وما إن بلغ لطفي بتفكيره إلى هذا القرار حتى دعاه التليفون، مَن؟ حمدي أفندي أبو سميرة مات، مات؟ كيف؟ كيف مات؟ وهل يحتاج الموت إلى إنذار؟ مات، فمن لسميرة بعده، لا أحد، لم يبقَ لها في هذه الدنيا العريضة غير زوجها، كيف يبلغها الخبر؟ لقد كانت تحب أباها إلى أقصى غايات الحب، كانت ترى فيه حياتها جميعها، فقد حُرمت أمها وهي طفلة ما تزال، فكان الأب منها أبًا وأمًّا. ولكم ألحَّت عليه أن يقيم معها حين تزوجت وكم ألحَّ هو عليه ولكنه أبى ذلك، وصمم على أن يعيش وحده لا يعينه إلا معاشه الصغير، مسكينة سميرة، كيف يبلغها الخبر؟!
ذهب إلى منزله وفتح الباب ودخل، ما هذا المعطف؟ إنه يعرف هذا المعطف، إنه معطف الجار الجديد. إذن فقد كان الخطاب صادقًا، إذن فسميرة خائنة، يقصد لطفي إلى غرفة النوم ويهم أن يدخل ولكن ما تلبث يده أن تتجمد مكانها، ماذا ينتظر أن يرى؟ وماذا تراه فاعلًا إن رأى ما يتوقعه. ومرت بذهنه أمثال تلك المشاهد التي قرأ عنها في الروايات والتي شاهدها في السينما، والتي تصور الزوج المخدوع. إذن فهو الزوج المخدوع! لماذا؟ لماذا تخدعه زوجته؟ وثاب لطفي إلى موقفه عل باب المخدع وقد تجمدت يده في منتصف طريقها إلى مقبض الباب، ثم ما لبث أن ترك مكانه وخرج هاربًا من البيت إلى حيث لا يدري وإنما هي خطوات تسوقه إلى مجهول من أمره وطريق يسير به ولا يعني منه شيئًا. لقد عاش طول عمره متكبرًا عن الصغار، عفيفًا عن مزالق الشباب، تأبى عليه كرامته أن يستخفى كما يستخفى إخوان شبابه، وما كان يمنعه عن ذلك إلا كبره واعتداده بكرامته، ثم ها هو ذا وقد أصبح على يد زوجته سميرة بلا كرامة على الإطلاق، ماذا يفعل؟ أيطلقها؟ فيعرف الناس جميعًا بزوال كرامته؟ أيقيم معها في منزل واحد فيظل أمام نفسه بلا كرامة؟ أي الأمَرين أكثر أهمية؟ أن يكون أمام الناس بلا كرامة أم أن يكون أمام نفسه بلا كرامة؟ وما الكرامة؟ أليست هي أقوال الناس ورأيهم؟ إذن فليبقَ حينًا ثم يصطنع غضبة ويطلقها، ولكنه لا يطيق أن يرى تلك الزوجة الخادعة فكيف يحيا معها يضمها بيت، بل وحجرة وفراش؟ أما الفراش فلا. فسينفصل عنها، والحجرة أيضًا، إنه سينام منذ اليوم في الحجرة التي كانت مخصصة لأبيها حين كان ينام بها في زيارة. وعلى ذكر أبيها، إنها لم تعرف بعد ما أصابها في أبيها وكيف كان يمكن أن ينبئها؟! وعلى ذكر أبيها أين تذهب سميرة إن هو طلقها اليوم؟ إلى الشارع فتعيش في البؤرة التي صنعتها هي لنفسها؟ لكن لماذا خانت؟ أيرضى أن يترك امرأة وحيدة بلا أب وبلا عائل في الطريق وحدها بلا معين؟ نعم يرضى، ولكن أليست هذه أنانية منه. إذن يظل معها طول عمره؟! طول عمره مع خائنة، خائنة دون أن يعرف سببًا لهذه الخيانة ومع مَن، مع رجل لا يحسن من أمور الدنيا شيئًا إلا أن يمتدح عقصة الشعر وقماش الفستان ولون الحذاء، وطراز الحقيبة، إذن فماذا يفعل؟ أيلقي بعمره جميعه لامرأة تافهة تصدق التعلق الكاذب مع عابر سبيل؟ نعم سيفعل. لقد طالما تغنى بالمثل العليا فليكن هو مثلًا أعلى في، في ماذا؟ نعم إن الناس سينظرون إليه في مثله الأعلى على أنه مغفل خانع غبي، ولكنه هو سينظر إلى نفسه على أنه رجل ضحى بكرامته ليستر زوجته ويحميها من طريق موحش تسير فيه وحدها تفترسها ذئاب الطريق وضواريه، فتقع يومًا في يد ذلك الجار وربما في يد ابن عمها محيي الذي أرسل إليه هذا الخطاب، ويل له من ذلك الخطاب! لم يكن الخطاب هو السبب في ذهابه إلى المنزل وإنما موت حميه. نعم، لقد مات حموه فلم يبقَ لزوجته إلا هو وسيظل لها وسيضرب عليها نطاقًا من الرقابة فلا تتنفس إلا وهو على علم بأنفاسها.
اتخذ لطفي قراره هذا وهو يحس بهول هذا القرار، فعاد أدراجه إلى بيته يحاول أن يخفي النار الهائجة في صدره ولكنها تتوقد وتشتعل فعيناه حمراوان، ووجهه مضرج باللهب وأنفاسه شعل. ويلتقي بزوجته فيكاد يصرخ في وجهها بما كشفه من خيانتها، ولكنه يجد خبر موت أبيها قد غلب عليه فيقذف به في وجهها قذفًا وتنهار سميرة فلا يدركها وإنما يصدر أوامره صارمة قاسية، وكأنما يشفى بما يعتريها من ذهول حزين جازع، وتذهل سميرة من موقف زوجها ذهولها من موت أبيها، ولكنه لا يحفل بذهولها هذا وإنما يدخل إلى غرفة النوم فيأخذ حاجياته منها ويخرج بها إلى الغرفة الثانية؛ فيزداد ذهول سميرة ولا تجد الوقت مناسبًا لتسأله عن تصرفه الغريب هذا! ولكنها في غمرة حزنها لا يفوتها أن تدرك أن شيئًا خطيرًا طرأ على زوجها.
ويمضي ذلك اليوم وتتبعه أيام وتجد سميرة نفسها في موجة عاتية من أوامر زوجها الحازمة الصارمة التي لا تحتمل تعليلًا في ظاهرها، وإن كانت في باطنها تحمل الشك الذي يكاد يصل إلى المصارحة. ففي اليوم التالي لانتهاء المأتم أخبرها أنه استأجر شقه في حي آخر، ألقى إليها النبأ دون أن يبدي سببًا ودون أن يجعل لها مجالًا للسؤال عن السبب. وأحست يومذاك أنه قد يكون متشككًا في أمرها. وانتقلت إلى البيت الجديد، كان يخرج إلى عمله ثم يفاجئها في ساعات مختلفة من اليوم ليرى ماذا تصنع؟ فأحست أن الأمر عنده بلغ مرتبة أعلى من الشك. وأصدر إليها الأوامر ألا تجيب طارقًا على باب، فأحست أنه يكاد يكون على يقين من أمرها، وكانت عندهما خادمة واحدة فإذا هي تجد البيت مليئًا بالخادمات فأصبحن ثلاث في خدمتها وهي تعلم أنه بخيل لا يحب أن يبذل هذا المال الكثير، فعرفت أنه على يقين من أمرها. وانتظرت أن يفاتحها ولكن الشهور مرت وهو صامت لا يتكلم ويقيم في حجرة غير حجرتها. بل بالبيت ساعات مختلفة من النهار فلم يعد له موعد معين أبدًا! هو يعلم إذن أنها خائنة، فلماذا يُبقي عليها، إن كبره وغطرسته يأبيان عليه أن يعلن إلى الناس أن زوجته تخونه ولكن، لا، إنها تعرفه، لقد كان خليقًا أن يطلقها فور علمه بخيانتها ولكنه لم يفعل، فلماذا؟ لعله يشفق عليها، نعم؛ إن هذا أقرب إلى تفكيره وهو أقرب لما تذكره من تغيره هذا المفاجئ والذي بدأ يوم مات أبوها، نعم إنها تذكرت ذلك اليوم، تتذكره جميعه.
إنه يوهم نفسه الآن أنه يضحي بنفسه ليضمن لها العيش، ولكن أي عيش هذا الذي تحياه في بيت هو السجن، زوجها فيه رقيب وليس زوجًا، يرقب أنفاسها التي تتردد في صدرها، يفتح باب غرفتها في المساء ثم يقفله ليرى إن كانت وحدها أم لا، يترك عمله مرات في خلال الأسبوع ليفاجئها من حيث لا تنتظر، يحيطها بالعيون الرواصد من الجواسيس ويطلق عليهم اسم الخادمات. لا، لا يمكن أن تظل على هذه الحياة، ولكن إلى أين؟
واضطرب لطفي في عمله، وأصبحت الحياة حوله شكًّا، فحيثما أدار عينيه وجد القلق والحيرة والهلع. يُخيَّل إليه أن جميع من يلقاهم يعرفون أنه زوج مخدوع، يفر من الطريق، يخشى أن يلقى فيه جاره القديم، أو ابن عم زوجته محيي، ويخشى أن يلقى أي جار لمنزله الأول الذي تمت فيه الخيانة، لا يستطيع أن يخلو بذهنه ليفكر في شيء غير الخيانة، لا يستطيع أن يخلو بإحساسه إلى شيء غير الشك، يعزم على السفر ويقطع التذكرة ويركب القطار ولكن قبل أن يتحرك القطار يكون هو قد قفز منه وسارع إلى بيته، يذهب إلى السينما ويهم بالدخول فيقطع التذكرة ولكنه يسارع بها إلى البيت.
وسميرة لا تخرج من البيت أبدًا! بل باقية لا تبرحه، ولكن ماذا تفعل في ذلك البيت؟! إنها تنظفه مرات ومرات ولكنه لا يستغرق مهما تنظفه إلا بعض الوقت ثم تفرغ إلى هذا الشقاء الذي يحيط بها في عودة زوجها المفاجئة، وفي تلك العيون المبثوثة حواليها من خادماتها، وذات يوم تتذكر سميرة أنها لم ترتب أوراق زوجها من زمن بعيد فتدخل إلى حجرته وتفتح أحد الأدراج فيروعها هذا العدد الهائل من تذاكر القطارات وتذاكر السينما وكلها جديدة لم تستعمل، وكأنما تمثلت هذه التذاكر أمام عينيها شقاء زوجها بها ولها. وكأنما رأت في هذه التذاكر السليمة جريمتها وعفو زوجها والعقاب الذي يقع عليها من جرَّاء هذا العفو في لحظة. فلا تكمل بحث الأوراق الأخرى وإنما هي تمسك قلما وتأتي بورقة وتكتب إلى زوجها خطابًا.
أعلم أنك تُبقي عليَّ لأنني لا ملجأ لي إذا تركتك، وأعلم أنك تقوم بتضحيتك هذه لترضى بها مثلًا أعلى أقمته لنفسك ولكنك نسيت شيئًا مهمًّا في تضحيتك هذه، أنا هو ذلك الشيء لقد قسوت أنت على نفسك — ما في ذلك شك — ولكن قسوتك عليَّ أشد وأعظم، أنت قاسٍ عليَّ برحمتك، قاسٍّ عليَّ بعطفك، قاسٍ عليَّ بسترك على ما تعلمه عني، أن تكن أنت قد قبلت لنفسك هذه التضحية فأنا لا أقبلها، وإن تكن ظننت الرحمة في نفسك حين تأويني في بيتك، فإني أرى الرحمة بي في أن أترك هذا البيت، إن تكن الرحمة عندك أن تضمنا جدران بيت على كره، فإنني أرى الرحمة بي تتمثل في الفراق بيننا؛ فإني أعلم منذ زمن بعيد أن لا حياة بين زوجين أحدهما خائن، ولا حياة بين زوجَين تقوم على العطف دون الحب. اعطف على اليتيم والمقطوع وابن السبيل أما زوجتك فأحببها أو طلقها.
لن تجدني في البيت حين تعود، وأرجوك أن تعود بعد أن تنتهي من عملك فلم يعد هناك ما يدعوك إلى قطع عملك للعودة المفاجئة فأنا لست بالمنزل. وأرجوك قبل أن تعود أن تمر بالمأذون وتطلقني. أما أنا فسأعمل خادمة، فإن لم أجد عملًا سأتسول على أبواب الأضرحة، وثق أنني بهذا أكون قد أنقذت نفسي من رحمتك القاسية.
وقرأ لطفي الخطاب وأعاد قراءته واغرورقت عيناه بالدموع. لقد حاول أن يضحي بشيء لا يمكن التضحية به — كرامته — لم يستطع أن يجعل من نفسه مثلًا أعلى، ولكنه سعيد بفشله هذا، سعيد بأنه غير ملزم الآن أن يترك عمله أو يقفز من القطار قبل أن يتحرك، أو يدخل البيت بتذكرة السينما كاملة بنصفيها، إنه منذ اليوم سيمشي في الشوارع مرحًا لا يبالي أي إنسان سيلقاه في الطريق، لقد تخلص من العار الذي حاول أن يقيم حوله تضحية ومثلًا أعلى.
وتخلص من تضحيته التي كلفته قطعة من حياته، وكانت الأيام فيها باهته حائلة اللون فمنذ اليوم، أهلًا بالحياة ووداعًا أيتها التضحية.