عودة السيد سكر
نعم فإن اسمه السيد سكر، والسيد اسم، أطلقه عليه أبوه قبل أن تُلغى الألقاب لتحل كلمة السيد محلها، وأما السكر فهو اسم صنعته له القرية، ولم يكن ذلك عن بله من أهلها ولا غفلة، وإنما كان ذلك في الحرب الأخيرة، حين أصبح السكر من المواد التي تشرف الحكومة على التصرف فيها، فلا يُعطى إلا بإذن، وتصدى السيد للتجارة ولم يكن له بها شأن، وإنما رأى تجارة التموين رابحة، ففتح دكانًا خاصًّا لتجارة السكر، واستصدر رخصة للتجارة، وهيمن على كل شيء حلو في البلدة؛ فأصبح لا يستطيع أي إنسان في القرية أن يشرب قهوة أو شايًا بسكر إلا إذا أذن له السيد، وأصبح لا يستطيع أي إنسان في البلدة أن يصنع فطيرة حلوة أو أرزًا بلبن إلا إذا كان صديقًا صدوقًا للسيد.
وفي القرية كثير ممن حاولوا مصادقة السيد، فأباها عليهم، فلم يجدوا شيئًا ينفسون به عن غضبهم إلا أن يطلقوا عليه «السيد سكر» فصحبه الاسم منذ ذلك الحين، وهو فرح به، راضٍ عنه، يكاد يوقع به ما يضطره الأمر إلى توقيعه، وقد نشأ جيل ما بعد الحرب لا يعرف أن للسيد سكر اسمًا آخر كان له قبل أن يلتصق به السكر ويصبح جزءًا منه لا يتجزأ.
لم تقف تجارة السيد سكر عند السكر وحده، بل تجاوزته إلى مختلف أنواع البقالة، وأصبح كثير الذهاب إلى البندر ليشتري حاجيات دكانه، وكان يذهب في كثير من الأحيان إلى المعلم حسونة وهو من كبار التجار هناك، وكان يشتري منه ما يحتاجه دكانه الصغير من بضاعة.
توطدت الصداقة بين السيد والمعلم حسونة؛ حتى لقد دعاه المعلم إلى زيارة بيته هو في القرية.
ولكنه كان منذ صباه يحب أن يظهر بالغنى والكرم، وقد اقتضاه هذا الكثير من المال، ولم تصده قلة المال عن التظاهر بالكرم والغنى.
وهكذا وجد نفسه آخر الأمر وبعد دعوات كثيرة أجابها للمعلم حسونة، وجد نفسه مضطرًّا إلى أن يقتطع بعضًا من رأس ماله يجدد به منزله ويشتري أدوات مائدة، استعدادًا لدعوة المعلم حسونة.
حتى إذا أتم أهبته، تجرأ وتقدم للمعلم حسونة، ودعاه أن يشرِّف بيته في القرية، هو والعائلة.
وشرَّف المعلم حسونة مصطحبًا معه ابنته وابنه، وكانت الابنة غاية في الجمال، ولم يكن السيد قد رآها قبل يوم دعوته هذه، فما إن رآها حتى بهره جمالها.
وقضى الضيوف يومهم يمرحون، ولكن المضيف قضى يومه خائرًا ملتهب الخاطر مشتَّت الفؤاد مصعوقًا بجمال الابنة، سكينة.
وكثرت زيارات السيد للمعلم حسونة، وازدادت الصلة وقويت، والسيد يهم في كل يوم أن يخطب سكينة من أبيها، ثم يمسك بلسانه خجل لا يبارحه.
نعم لم يكن السيد يعرف عن سكينة إلا أنها جميلة، ولكنه أيضًا لم يكن يعرف أن هناك شروطًا أخرى إلى جانب الجمال، لا بد من توافرها في زوجته، لا، لم يكن يعرف ولم يهمه أن يعرف عن سكينة إلا أنها جميلة، وإلا أنها بنت المعلم حسونة.
وأخيرًا لم يطق صبرًا فتكلم، ولكنه لم يكلم المعلم حسونة، وإنما قصد إلى خاله هو: خال.
– خير يا ابني.
– أريد يا خال أن تخطب لي.
– وما له يا ابني ما أحب إلي أن أفعل، أتريد أن أختار لك أم أنك اخترت؟
– والله يا خال أنا اخترت.
– من العروس؟ أظنها فاطمة ابنة عمتك، فأنت تميل لها منذ كنتما طفلَين.
– والله يا خال الزواج قسمة ونصيب، وأنا اخترت من البندر.
وقال الخال ملهوفًا: من البندر؟!
– نعم يا خال.
– يا ابني وما لنا نحن وما للبندر، ألم يعجبك أحد من أقاربك أو من البلد كلها حتى تختار من البندر؟
– والله يا خال القسمة.
– وأي قسمة؟ إننا ما زلنا على البر، إن شئت خطبت لك فاطمة.
– لا يا خال.
– يا ابني بنت البندر لا ترضى عن عيشتنا.
– لا عليك يا خال فأظن أنها سترضى؛ فقد جاءت هنا مع أبيها وأعجبتها البلدة.
– أمرك يا ابني أخطب لك مَن تشاء.
وهكذا ذهب السيد سكر إلى المعلم حسونة وقد اصطحب خاله ليكون لسانه — بدلًا من لسانه هذا الذي أعيته الحيلة — ويخطب له سكينة.
وتكلم الخال وخطب سكينة في لباقة أدهشت السيد، وتم الأمر في يسر، وما هي إلا بضعة شهور حتى شهدت القرية فرحًا رائعًا للسيد وهو يزف إلى عروسة من البندر.
واستقرت الحياة بالسيد، وأخذت تجارته تتسع بعد أن أصبح حموه يعينه بالمال والبضاعة، واشترى السيد راديو وأصبح دكانه مجلس الصفوة المختارة من أهل القرية، وكثر عند السيد الإوز والبط والفراخ، وهيَّأت له سكينة عيشًا رضيًّا، واستطاعت أن تحببه فيها، إلا أن بقاءها في القرية لم يكن يرضيها أبدًا! ولكنها لم تشأ أن تفاتح زوجها في ذلك؛ لأنها تعرف مدى تعلقه بالقرية.
وكانت سكينة خليقة أن تظل على صمتها مدة أطول من الزمان، لو لم تظل أمها تستحثها أن تذهب إلى البندر لتكون بجانبها، حتى لم تجد سكينة بدًّا من أن تكلم زوجها.
– سيد.
– نعم يا سكينة.
– ماذا تنوي أن تفعل؟
– فيمَ يا سكينة؟
– في حياتك.
– وأي شيء يمكن أن أفعل فيها؟ ألست مبسوطة؟
– مبسوطة والحمد لله، ولكن …
– ولكن ماذا يا سكينة؟
– ولكن ألا تفكر أنك قد تصبح أبًا، ويحتاج ابنك إلى المدرسة.
– أحقًّا ما تقولين يا سكينة؟
– والله لست متأكدة.
– على الله يا سكينة.
– ليس هذا ما أسألك عنه.
– ففيمَ سؤالك؟
– سؤالي عن مستقبلك، لقد أصبحت تاجرًا كبيرًا في البلدة.
– الحمد لله.
– ألا تريد أن تصبح أكبر من ذلك؟
– ومن هذا الذي لا يريد أن يكبر يا سكينة؟
– أنت.
– أنا؟ ولماذا؟
– وماذا تنتظر في هذه القرية؟ إنك تاجر كبير مارست السوق وعرفت أسراره وخبرت كل خفية فيه، لعلك تصبح أكبر من أبي نفسه.
– أصحيح يا سكينة؟
– طبعًا وسأكلم أبي ليبحث لك عن دكان بجواره وتصبح من تجار البندر.
وكان الدكان موجودًا؛ فقد أعدته أم سكينة منذ زمن بعيد، وما هي إلا أيام حتى شهدت القرية عربة نقل تحمل بضاعة السيد، وعربة أخرى تحمل أثاث السيد وحقائبه والإوز والفراخ والبط، شهدت القرية أيضًا السيد يحمل الراديو معه خشية أن تصيبه العربة بالعطب، كما شهدت القرية أيضًا دكان السيد يقفل أبوابه على فراغ فيه، ثم شهدت القرية هذا الموكب ينزح عنها ورأس السيد يتلفت خلفه في حنين، وينظر إلى الأمام في حيرة، وأحس الناس أن السيد يترك الاستقرار إلى حيث الحيرة والدوامة التي لا يعرف لها قرارًا.
ونزل السيد في بيته الجديد بالبندر بجوار بيت المعلم حسونة وزار دكانه أيضًا فرضي عنه، وبدأ يضع بضائعه.
وواجهت سكينة مشكلة الغذاء، وخافت أن تطلب من السيد نقودًا لتشتري لحمًا وخضرًا وخبزًا، كما يفعل أهل البندر فقد كانت في القرية تذبح من الفراخ والحمام إذا أرادت أن تأكل لحمًا، وكانت حديقة المنزل الصغيرة تمدها بالخضر، وكان الفرن يمدها بالخبز.
ولكنها لم تفكر كثيرًا، فسرعان ما سحبت السكين، وقصدت إلى حيث انزوت الفراخ والإوز والبط ولكن هالها أن وجدت الفراخ كلها ميتة، ووجدت الإوز والبط يترنح، فأعملت السكين فيها جميعًا.
وظل السيد أيامًا عديدة كلما عاد إلى المنزل وجد زوجته تقدم له الإوز والبط، وعجب من حالها هذا، ولكنه كان في غمرة من الكساد التي استقبلته به المدينة، فنسي أن يسأل عن هذا الإسراف، نسي هو وظلت الزوجة على عادتها، ولكن التسمم لم ينسَ أن يسري في الإوز، وكانت ليلة! فقد سعى التسمم أيضًا إلى السيد وسكينة، فما استطاعا أن يبلغا بيت المعلم حسونة إلا بشق الأنفس، وسارع المعلم بهما إلى المستشفى، وبقيا بها أيامًا يدفعان ثمن الأكل الدسم المحلى بالسم.
وعاد الزوجان إلى البيت بعد شفائهما، فوجداه قاعًا صفصفًا، حتى الراديو لم يبقِ عليه اللصوص، كل شيء أخذوه حتى بقايا الإوز والبط، كل شيء، لم يبقَ في البيت شيء.
وفي الصباح الباكر من اليوم التالي شاهدت القرية عربة واحدة تحمل بضائع السيد وحدها بلا حقائب ولا أثاث ولا أوز ولا بط ولا فراخ، وشاهدت القرية السيد يمشي وراء البقية الباقية من بضائعه وزوجته أمامه، ويده فارغة، لا تحمل الراديو.
وبلغ الزوجان البيت، وجلست سكينة على الحصيرة، والتفت إلى السيد.
– سيد.
– ماذا تريدين؟
– ستصبح أبًا يا سيد.
– وما له.
– أين سألد؟
– هنا، هنا سيولد ابني، وهنا سيتعلم ابني، وهنا سيعمل ابني في الغيط أو في الدكان، أو في أي شيء، ولكن هنا ستكون حياته، وهنا سيكون مماته، هنا على هذه الأرض في هذه القرية.