ملاعب الصبا
على ضفاف الصحراء، جلس حمدان بن ربيعة يمد طرفه إلى الأفق البعيد، فلا يرى بعينيه غير انطباقة السماء على الرمال، فيخترق بفكره هذا الأفق ويوغل إلى ما وراءه، إلى هناك، إلى ملاعب الصبا، ومدارج الطفولة، هناك حيث انطبعت يومًا على الرمالات البيض آثار ركبته ويديه وهو طفل يحبو، وآثار قدميه الطفلتَين وهو حدث يتعثر في خطواته الأولى، وهناك حيث محت الرياح آثار قدميه الصغيرتَين وهو صبي يدرج إلى الشباب، وويل لحمدان من ذكرياته لأيام الصبا؛ فهي أولى ذكريات وعاها عقله، وهي أحلى ذكريات صنعتها له الأيام.
كان ذلك منذ نيف وعشرين عامًا، وكانت الحياة بين يديه لعبًا مع الأطفال من أترابه.
وكانت هي بينهم تلعب كما يلعبون، ويجرى عليها من أحكام اللعب ما يجرى عليهم لا يراعون أنها ابنة شيخ القبيلة، وما شأنهم بأبيها؟ إنما هي عضو في جماعتهم لا يعنيهم من شأنها إلا مرحها ولعبها وإتقانها هذا اللعب.
وهكذا عاش حمدان في جهالة الطفولة لا يدرك مقدار السعادة التي تتيحها له هذه الجهالة، وإنما يدرك قواعد اللعبة التي يمارسونها تمام الإدراك، ويتقن هذه اللعبة كل الإتقان.
وكانت هي — لمياء — تُعجب بمهارته، وتنضم دائمًا إلى الفريق الذي يضمه، سعيدة أن تراه إلى جوارها لا تعرف سببًا لهذه السعادة، سعيدًا هو أن يراها إلى جواره، لا يدرك باعثًا لهذه السعادة.
ومرت الأيام، وويل لحمدان في جلسته هذه حين يذكر مرور الأيام، لماذا مرَّت؟ ألا تعرف هذه الأيام شيئًا إلا أن تمر فتجعل من العقول الجاهلة الحالمة السعيدة عقولًا مبصرة واعية شقية، أما كانت تستطيع هذه الأيام أن تتوقف فلا تمر، أو تتمهل فلا تثب هكذا وثبًا عنيفًا يطيح بالأماني العذاب، ويقضي على الآمال الباكرة المشوقة إلى أن تصبح حقائق واقعة، مرت الأيام كالرحى الثقيلة تطحن سعادتنا الجاهلة، وأنسنا الساذج، مرت الأيام، فألقت على وجه لمياء حلاوة الشباب بعد عربدة الطفولة ولمست جسمها فإذا هي فارعة الطول هيفاء غيداء تخطر كالهواء، وتسعى كالأمل وتشرق كالشباب، ولمست الأيام عقل لمياء الطفل الجاهل فتفتح إلى أفكار الشباب، وصار يدرك سبب السعادة التي كانت تحسها، وأصبحت تخجل من هذه السعادة وتحاول ما وسعها الجهد أن تخفيها في عميق نفسها.
ومرت هذه الأيام نفسها على حمدان فعلمته أن ذلك الشعور بالسعادة إنما هو الحب الذي يتحدث عنه الشعراء ويتهامس به الشبان، علمته الأيام أيضًا أنه فقير، أبوه تابع لأحد وجهاء الحي، وعلمته الأيام أن دونه ودون لمياء المستحيل؛ فهي لن تصبح له في يوم من الأيام، بل إنه لن يستطيع أن يكشف لها عن حبه مهما يعظم، عرف حمدان هذا جميعه ولكن بعد فوات الوقت، بعد أن كان الحب قد تغلغل في نفسه فهو بعض من الدماء التي تجري في عروقه، وهيهات للشاب المسكين أن يسيطر على حب هو بعض من دمائه.
وكان الشبان من أبناء الأتباع يجتمعون فيتحدثون عن رجال الصحراء والكهوف حديثًا يملؤه الفخر وتحيط به هالات من التمجيد، وكان حمدان يستمع إلى هذا الحديث بأذن واعية وقلب خافق متطلع إلى المستقبل، وكانت النسوة يستمعن إلى هذا الحديث في تظاهر بالخوف لا يخلو من الإعجاب، ونظر حمدان إلى نفسه في قبيلته تلك فوجد نفسه ضائع الأصل، منهار الأمل، ووجد أترابه يتمتعون بالمستقبل المشرق، بينما هو بينهم تابع بلا أمل وتمكن اليأس من حمدان وامتلأت نفسه بالحقد على مجتمعه هذا الذي يحيا فيه؛ فهو ينظر إلى أصدقاء الملعب نظرة كلها الحسد، وينظر إلى لمياء في حسرة عنيفة، وينظر إلى مستقبله في مرارة قاتلة، ويراود ذهنه ذلك القصص عن قطاع الطرق، ومن خلال هذا الطريق المحفوف بالمخاطر يلمع لعينيه وميض أمل، وما يمنعه أن يصبح قاطع طريق؟! أهو غضب أبيه؟ وما يهمه غضب أبيه ذلك الرجل الخامل الذي لم يستطع أن يصنع لنفسه إلا هذه الحياة الحقيرة ليس فيها غير الشرف والعفة والفقر والحرمان؟ أتعوقه أمه؟ وما شأنها به وهي التي رضيت أن تشارك أباه حياته تلك المهينة؟ لا، إن شيئًا من هذا لا يمكن أن يمنعه، لعلها لمياء، لا، لا تستطيع لمياء أن تمنعه فهو إن بقي إلى جوارها سيظل التابع الفقير، وستظل هي ابنة الأكرمين وسيراها يوم تتزوج ولن يستطيع حينئذٍ أن يمد لها يدًا أو حتى نظرة، أما إذا رحل واتخذ سبيله في قطع الطرق فلعله، لعله يومئذٍ يستطيع أن يجمع مالًا يعوضها به عن ضعة أصله، ولعله، ولعله يومئذٍ يستطيع أن يختطفها ويذكِّرها بالملعب وأيام الصبا ويناشدها ذلك الحب الطفل.
واتخذ حمدان طريقه وهجر منازله وأحلام صباه وملاعب طفولته وبدأ يمارس مهنته الجديدة في عنف لم تسمع به العرب من قبل، وما أسرع ما تكوَّنت حوله عصابة ألقت إليه قيادها فهو يدبِّر للهجوم ويتزعمه. وبث لنفسه الجواسيس في الأحياء فهو على علم بكل قافلة تهم بالمسير، وهو يتخير من بين هذه القوافل أكثرها مالًا فينقض عليها، ولا بد له أن يصيب من أموالها ما يريد مهما تكن هذه القافلة منيعة الحراسة كثيرة العدد.
كان حمدان جالسًا على ضفاف الصحراء تمر بذهنه الأفكار عن أمسه الغابر وعن حاله هذا الذي صار إليه، وكان أفراد العصابة قد عرفوا فيه حبه لهذه الخلوة فلا يقطعونها عليه فهم جالسون أو نائمون داخل المغارة ينتظرون الجواسيس القادمين ليعرفوا منهم القوافل المعدَّة للسفر.
وجاء الجواسيس فتجمعت حولهم العصابة وألقى كل جاسوس بما يعرف من أنباء إلا واحدًا بقي مترددًا لا تبين عليه حماسة من يحمل أخبارًا فسأله حمدان: هيه يا عامر مالك صامتًا، ما أنباؤك؟
– ليست هناك إلا قافلة صغيرة.
– قافلة مَن؟
– قافلة لمياء.
– لمياء؟!
– نعم، لمياء بنت شيخ القبيلة، تم زواجها بالأمس وهي في طريقها إلى منازل زوجها.
– زوجها، أتزوجت، متى؟ ومَن زوجها؟
فأجاب عامر دهشًا من هذا الاهتمام المفاجئ: تزوجت بالأمس من عكرمة الحضرمي، وسترحل إليه يوم السبت القادم.
– ولكنك لم تخبرني أنها خطبت قبل اليوم؟!
– لقد تمت الخطبة والزواج أمس.
وأطرق حمدان مفكرًا، وكاد الدمع يفضح دخيلة نفسه، ولكنه سرعان ما تمالك عن البكاء، فسأله أحد أفراد عصابته: وما شأننا نحن بهذه القافلة الضئيلة، إنها ستخرج في يوم كثير القوافل وما أظنك ستترك القوافل الغنية الوفيرة الأموال لتأخذ قافلة هذه العروس.
ولكن حمدان كان يرى في قافلة هذه العروس آماله كلها قد تحققت فليس بينه وبينها إلا أن يمد بيده فإذا هذه الأوهام التي كانت تداعب خياله يوم ترك الحي قد أصبحت حقائق واقعة، وإذا حبه الذي كان أملًا مستحيل التحقيق قد وافى؛ فها هي لمياء بين يديه لم يمنعها عنه مانع من زوج أو أب أو قبيلة، إنها حبه وصباه وشبابه، وهو، وتردد حمدان قليلًا، أجل هو، أتراه أيضًا حبها وصباها وشبابها أم أن الأيام قد غيرت هذا الحب، نعم إنها لم تقل يومًا إنها تحبه، لم تقل ذلك بلسانها، ولكنه رأى من عينيها أنها تحبه، وسمع تلك البسمة التي كانت ترتسم على وجهها عند اللقاء إنها تحبه، ولكن أترى ما كان يسمعه حقًّا أم هي أوهام محب وخيال شاب؟! سوف يعلم، وينهي حمدان إلى عصابته إنه اختار قافلة لمياء فيطيعون أمره في صمت.
ومنذ ذلك اليوم وحمدان لا يعمل شيئًا إلا أن يترقب القافلة القادمة، وإلا أن يُهيِّئ للمياء كل وسائل الراحة حتى لا تضيق بحياتهم المقفرة؛ فهو يقيم لها خيمة من الحرير تملؤها الوسائد اللينة والبُسط النفيسة والأرائك الأنيقة.
وبدت القافلة في الأفق واستعد حمدان وعصابته، وما هي إلا بعض الساعات حتى كانت إغارة حمدان على قافلة العروس قد نجحت، فاختطفت العصابة لمياء وهرب أفراد القافلة جميعًا حين رأوا كثرة العصابة.
وأدخلت لمياء إلى خيمتها، واتخذت لنفسها مكانًا على إحدى الأرائك وبعد قليل دخل حمدان في أجمل ملبس، وانبعث في لهفة إلى لمياء يجثو تحت أقدامها.
– لمياء.
– مَن؟ اللص.
– لمياء؟ إنه أنا، أنا.
– ومن أنت؟
– أنا حمدان، ألا تعرفيني؟
– ومتى عرفتك؟
– أنا حمدان، صديق الصبا، أخو الطفولة، ماذا؟ أتراك نسيتني؟!
– أنا لم أعرفك حتى أنساك!
– إن وجهي لم يتغير كثيرًا منذ تركت الحي، فما هذا الجفاء، ألأنني اختطفتك؟ لقد حسبت أن هذا يزهيك، أما ترين أنني ما فعلت هذا إلا لأني أحبك، نعم، أنا لم أقلها قبل اليوم، وكيف كان يمكن أن أقولها وأنتِ في سماء بيتك، وأنا في وضيع حقارتي، أما اليوم فانظري حواليك، انظري هذه البسط وتلك الوسائد وهذه الأرائك، اليوم نعم، اليوم أقولها أحبك، اليوم أنت لي، أنت حبي وصباي وشبابي، حمدان يا لمياء، ألا تذكرينني، حمدان؟
– لا، أنا أعرفك، لقد كنت أعرف حمدان آخر، وجهه كوجهك وقوامه كقوامك، ولكن نفسه غير نفسك، لقد كنت أعرف حمدان آخر، عرفته ونحن أطفال وعرفته ونحن شباب فكان في الطفولة مرح النفس محببًا إلينا حين نلعب، قريبًا من نفوسنا جميعًا، وكان في شبابه رجلًا شريف النفس عفيف الخُلق، أما حمدان هذا الذي يجثو هنا، أما أنت فقاتل سفاك، قاطع طريق، أما أنت أيها الرجل فأنا لم أعرفك قبل اليوم ولن أعرفك.
– لقد ظننت، لقد خُيِّل إليَّ، يا لي من واهم مخدوع.
– لم يكن حمدان واهمًا ولا مخدوعًا.
فيجيبها حمدان في لهفة منتشية: إذن يا لمياء، هو أنا، أنا حمدان.
– بل لست هو ولن تكونه، لقد مات حمدان إلى غير رجعة.
– أتخادعيني؟
– بل لقد مات حمدان.
ويثور حمدان من ذلك الهدوء القاتل الذي تطالعه به حبيبته؛ فما هو بمن يطيق هذه المداورة فهو يقول في ثورة عنيفة: بل هو حي أمامك، وستكونين له شئت هذا أم أبيت، أنتِ هنا مِلكي، أنتِ جاريتي، أنتِ لا حول لك ولا قوة، أنا كل شيء لك أنا مستقبلك ولا مستقبل لك إلا بي، أفهمت؟
– لقد فهمت هذا منذ جئت إلى هذه الخيمة، نعم، أني جارية اختطفني اللصوص. فأنا ملك لمن اختطفني فما لك ثائرًا؟! أنت لم تقل هذا في أول الحديث، وإنما ادعيت أنني أعرفك وأنك تعرفني فكذبتك، أما أنني ملكك فهذا حق، أترى أيها اللص أنني لا أعارض في الحق أبدًا.
– لمياء، لمياء، بعض هذه القسوة …
– أي قسوة فيما أقول أيها اللص، لقد أردتني جاريتك، وها أنا ذا أطيعك، مرني بما تشاء أطعك، لن أخالف لك أمرًا مهما يكن.
– حتى لو طلبت إليك أن تهبي لي قلبك؟
وتجيبه لمياء في ضحكة ساخرة: أرأيت القلب يوهب بالأمر أيها اللص، لا، لا يمكن أن أطيع هذا الأمر، اللهم إلا إذا أردت أن تقتلني أو تسرق قلبي من بين ضلوعي.
– بعض السخرية يا لمياء.
– فبعض العقل أنت، أتأمرني أن أهب لك قلبي، حبي ويحك لقد أفرطت، أهب أحلام شبابي وآمال مستقبلي لقاتل، سفَّاك، وأهبها إطاعة لأمره. جهلت الحب يا فتى وادعيت كذبًا.
– أعرف أنني أستطيع أن أنالك، وأعرف أنني أستطيع أن آمرك فتصبحي لي وحدي، ولكن لم يكن هذا حلمي، لقد كنت أحلم بحبك لا بجسمك، فأنت حرام علي منذ اليوم.
– بعد أن اختطفتني وأنا في طريقي إلى زوجي؟! ألم تفكر فيما عسى أن يُقال عني، ألم يدُر بذهنك ذلك العار الذي ستلحقه بي؟!
– لا والله لم يدُر بذهني هذا؛ فقد كنت أحسب أنني سألقى فيك حبي القديم، أما اليوم، أما وقد ذكرت أنت هذا العار فلا وحياتك ما كنت لأجعل العار يلحق بك أبدًا، ويخرج حمدان من ثيابه خنجرًا لامع النصل فتجزع لمياء قائلة: ماذا أنت صانع؟
– سأجعل منك أعظم امرأة في هذه الأحياء، لقد طلب الرجال قتلي فلم يستطيعوا، لأكونن قتيلك، سأقتل نفسي بيدي، وقولي أنتِ لمن يسألك إنك قتلتني لتدافعي عن شرفك فأنقذته، فاذهبي أنتِ إلى السعادة في ظلال زوجك وحسبي أنا من الأيام ذكريات الصبا التي عشت بها ولها حتى اليوم.
وما إن يكمل حمدان قوله حتى يغرس الخنجر في قلبه في سرعة خاطفة وتذهل لمياء عن نفسها، لا تعرف ماذا تفعل فيسارع حمدان قائلًا في حشرجة: أسرعي بالهرب، أسرعي قبل أن يأتي أحد، أسرعي، واذكريني، اذكريني أنني قاتل وسفاك وقاطع طريق ولكنني، أحببت، ووفيت ومنعت اسمك أن يلم به السوء.
وركعت لمياء إلى جانب حمدان في لهفة ملتاعة: لماذا يا حمدان، لماذا فعلت هذا بنفسك؟! إنما أردت بكلامي أن ترجع عن طريقك هذا، أنا هي لمياء التي عرفتها يا حمدان، فارجع إلى الحياة لتعيش شريفًا نقيًّا كما عرفناك، حمدان، حمدان.
وجرت دموع لمياء غزيرة على وجه حمدان، دموع فيها حب قديم، وفيها حزن جديد، ولكن حمدان لم يحس بحب أو بحزن كان قد ترك الدنيا بكل ما فيها من مشاعر.
وخرجت لمياء تنفِّذ ما أمرها به حمدان في ذهول حائر، ودون أن تحس ولت وجهها إلى منازل أبيها، وما يأتي الصباح من الغد حتى تكون قد رجعت إلى الحي تقص عليهم ما كان من حمدان، لم تقل إنها قتلته بل روت الحقيقة كما هي، وكأنما أرادت بها أن تنال من قلوبهم الغفران للص الذي غسلت دماؤه خطاياه.