الطابق الأعلى
دس عبد الله أفندي يده في جيب صديريه وأخرج الساعة المعدنية «اللونجين» التي لا تخل دقيقة واحدة، فوجد عقاربها تشير إلى الثانية من بعد الظهر فرفع الطربوش عن رأسه في احتراس شديد، وأخذ ينفخ فيه بكل قوته، ومسح أركانه بكمه ثم أعاد الطربوش إلى رأسه، وثبته في مكانه معتدلًا قائمًا لا يميل يمنة ولا يسرة، ثم أمسك عبد الله أفندي بتلابيب نفسه، وأخذ ينفض «جاكتته» في قوة عنيفة، ثم نظَّف كميه كلًّا منهما بالآخر، ونظر إلى «الدوسيهات» القائمة أمامه فأخذ يرتبها في عناية شديدة، وجمع الأوراق التي كانت أمامه ووضعها في الدرج الأعلى من يمين المكتب؛ فإنها الأوراق التي سيعمل فيها في صباح الغد، ثم جمع أوراقًا أخرى ووضعها في الدرج الأعلى من يسار المكتب؛ فإنها الأوراق التي تم إنجازها وستأخذ سبيلها في الغد إلى رئيس القلم. وقام عبد الله أفندي بعد ذلك، وزرر جاكتته، وأمسك بأطرافها فجذبها إلى أسفل وأخذ طريقه إلى باب الغرفة في مشية متزنة لا هي بالبطيئة، ولا هي بالسريعة، وإنما هي مشية ذات خطوات مرسومة محسوبة لا تخطئ ولا تخل، فإن عبد الله أفندي رجل دقيق لا يخطئ ولا يخل.
وخرج عبد الله أفندي من الوزارة وجهته محطة الترام، وكان مشغول الفكر إذ ذاك بهذه الدروس التي عليه أن يؤديها في يومه هذا، وكان ضيق النفس غاية الضيق بهذه الدروس التي يعطيها لصغار التلاميذ. وكان في ذلك اليوم أشد ضيقًا من كل الأيام السابقة فإنه يفكر في عمره الذي سرقته معه هذه الدروس والذي انتهبته منه هذه الذرية التي توالت عليه منذ تزوج حتى عامه الفائت، ستة عشر عامًا هي شبابه، ضاعت كلها في إعطاء الدروس، ثم في إنفاق أجور هذه الدروس على الدروس التي يتلقاها أولاده هو، وهكذا أصبحت حياته كلها دروسًا في دروس، دروس تهب المال ودروس تتخطف المال، وهو بين الأخذ والإعطاء آلة حاسبة دقيقة كل الدقة، ولكنها أيضًا آلة ذات آمال وشباب، فهي آلة حزينة كل الحزن!
وهكذا أصبح عبد الله أفندي صارمًا في حياته لا يطيق فيها لهوًا ولا لعبًا، وهكذا أخذ نفسه بالدقة البالغة، لا يبتسم إلا بمقدار، ولا يضحك إلا عند الضرورة المُلحة، ولا تكون هذه الضرورة إلا عندما يلقي رئيسه في الديوان نكتة على مرأًى منه أو مسمع!
ودقته هذه تلازمه في كل شيء، في ملبسه، في مشيته، في عمله، في منزله في سريره، في بيته، وتزداد دقته في مسائل الدين، من صلاة إلى صوم إلى كل ما أمر به الدين ما عدا الزكاة.
وتقضي عليه الدقة ألا يسكن من العمارات إلا الطابق الأعلى، وتسأله عن السبب فيجيب: «حتى لا يمر صاعد أو هابط على العيال.» و«العيال» هنا هي زوجته بطبيعة الحال. وتقضى عليه الدقة أن يصدر إلى العيال، إلى زوجته، الأوامر بألا ينفتح الباب بحال من الأحوال وهو غائب، فإن طرق الباب طارق فليطرقه ولا تجيب هي، وزوجته — رعاها الله — سيدة وقور نزحت معه من الريف، وقد نزحت معها أخلاق الريف العفيفة. فأوامر زوجها تطاع في دقة، دقة حازمة، تلك الدقة التي يحبها زوجها ولا يحيد عنها أبدًا.
وقد امتدت هذه الأوامر إلى أولاده، وامتدت طاعة الأم إلى أولادها؛ فالأب يأمرهم فينفذون، لا يدرون للأمر معنى ولا سببًا إلا أنه واجب التنفيذ.
ولكن أمرًا واحدًا لم يستطع الأولاد أن ينفذوه، كان ذلك الأمر هو أن يكونوا أذكياء، وكيف لهم أن ينفذوه وهم لا يفهمونه! لقد أمرهم أبوهم: «كونوا أذكياء.» فقالوا: «حاضر.» ولكنهم لم يستطيعوا أن ينفذوا «حاضر» هذه أبدًا.
وكان عبد الله أفندي يأخذ أولاده بالشدة؛ فقد كان يرى فيهم لصوصًا لعمره الذي أضاعه في إطعامهم، وإلباسهم، وتعليمهم ولكنه لم يعترف لنفسه أن شدته على أولاده مبعثها أنهم أضاعوا شبابه، بل كان يقنع نفسه ويحاول أن يقنع غيره أنه لا بد للأولاد أن يؤخذوا بالشدة حتى ينفعوا في حياتهم، وكذلك كان عبد الله أفندي في دينه؛ فهو متعبد لأن العبادة لا تكلف صاحبها شيئًا ولكنه يقنع نفسه ويحاول أن يقنع غيره أنه متعبد حبًّا في الدين.
وكان أكبر أولاد عبد الله أفندي في الخامسة عشرة من عمره، وكان أمام أبيه مثالًا للطاعة العمياء، والأدب الجم، والحياء المفرط، فهو كسير العين، منطبق الفم إلا إذا أكل، ساكن الحركة إلا إذا أمره أبوه بإحضار شيء! حتى إذا خلا بنفسه وبأصدقائه أصبح عربيدًا لا يبارى في عربدته؛ فهو أضحوكة الإخوان ومسلاتهم، وهو من يتصدى عنهم لكل عبث يمنعهم عنه الحياء!
لم يطل انتظار عبد الله أفندي للترام في يومه هذا؛ فقد أخطأ السائق وجاء في موعده وركب عبد الله أفندي محاولًا الوقار، ولكنه لم يستطعه، فقد وجد نفسه في وسط كومه من الآدميين تصعد فصعد معها، وكان الوقار يقتضي أن يجد عبد الله أفندي مكانًا ليجلس فيه، ولكنه لم يجد فوقف مكرهًا وجاء «الكمساري» فأخرج عبد الله أفندي من جيبه ثمن التذكرة لا ينقص ولا يزيد مليمًا، فهو يعد لكل شيء عدته، ألم أقل لك إنه دقيق؟
ووصل عبد الله أفندي إلى البيت وصعد درجات السلم، أربعًا وثمانين درجة، لقد أحصاها ويحصيها كل يوم. كأنما يخشى أن تنقص درجة، وفتح باب منزله ونادى: يا أم سعيد.
– نعم يا عبد الله أفندي.
وكان الجواب آتيًا من المطبخ، وكانت زوجته هي المجيبة، فهي لم تكن تدعوه بغير «عبد الله أفندي»، وارتفع صوته ثانية: أين الغداء؟
– جاهز.
– أسرعي؛ فالساعة الثانية والنصف ودقيقتان.
– جاهز يا عبد الله أفندي، جاهز.
وخرجت زوجته من المطبخ تحمل الأكل الذي أعدته، وجلسا إلى المائدة، وقبل أن يمد يده إلى الطعام قال: اليوم يوم الاثنين.
– نعم.
– فأين سعيد؟
– لم يجئ بعد.
– لم يجئ؟ كيف؟
– الله يعلم.
– كيف هذا؟ لقد طالما نبَّهت عليه ألا يتأخر في الطريق.
– لعل لديه عملًا بالمدرسة.
– لا يمكن.
– على كل حال كُل أنت ولن يلبث سعيد أن يجيء.
وقبل أن ينفذ عبد الله أفندي نصيحة زوجته، طرق الباب فقام عبد الله أفندي ليرى من الطارق، وفتح الباب فطالعه شرطي طويل عريض سأله في غير مبالاة: أنت عبد الله أفندي عبد السميع؟
– نعم أنا.
– تعال معي إلى القسم.
– القسم؟ لماذا؟
– ابنك محبوس.
– ابني؟ ابني أنا؟ ابني مَن؟
– ابنك سعيد عبد الله عبد السميع.
– محبوس؟ لماذا؟
– ضبط وهو يعاكس إحدى الفتيات في الطريق العام.
– ابني يعاكس إحدى الفتيات؟! لا بد أنك مخطئ! هل أنت متأكد؟
– والله أن كان في هذه العمارة شخص آخر اسمه عبد الله عبد السميع، وله ابن اسمه سعيد عبد الله عبد السميع أكون غير متأكد.
– طيب اذهب أنت.
وينصرف الشرطي، ويتلفت عبد الله أفندي إلى زوجته: أسمعتِ؟ أرأيت ابنك؟ هذا آخر تعبي وشقائي! ابنك يعاكس النساء في الطريق، أرأيتِ؟
– يا أخي ألا يجوز أن يكون مظلومًا؟ اذهب إليه أولًا وانظر ماذا فعل.
– أنا أذهب إلى القسم؟ ماذا أقول لهم، أنا الرجل المحترم الذي لم أخالف الدين يومًا، ولن أخالف القانون أبدًا، أنا عبد الله عبد السميع الموظف بالدرجة السادسة أذهب إلى القسم من أجل ولد ضائع يعاكس النساء؟ والله لن يكون هذا أبدًا!
– وابنك؟ تتركه محبوسًا؟ ابنك يا عبد الله أفندي؟
– لا تتعبي نفسك، لن أذهب يعني لن أذهب!
ويتركها عبد الله أفندي باكية ساخطة حائرة، ويذهب إلى المنضدة التي أمر بها أن تكون مكتبًا فكانت، ويأخذ من عليها حقيبة الدروس، ويخرج تاركًا زوجته ملهوفة لا تعرف ماذا تفعل!
وخرج عبد الله أفندي إلى الشارع قاصدًا إلى الدرس الأول، وكان مكان التلميذ في أقصى الجيزة، فركب عبد الله أفندي، وركب حتى وصل إلى بيت التلميذ «ماجد فتحي» النجل الأصغر للوجيه الثري الأستاذ فتحي الدرملي، وكان عبد الله أفندي يرجو ألا يجد والد ماجد في المنزل؛ فهو لا يطيق مزاحه في يومه هذا.
وصل عبد الله أفندي متقدمًا عن ميعاد الدرس خمس دقائق فرأى أن يقطعها بالمشي أمام الدار. ولعله لم يرَ في حياته أشقى من ذلك الوقت الذي قضاه في هذه الدقائق الخمس! فهو جزِع متألم ساخط، غاضب من هذه البلوى التي انساقت إليه من جراء ابنه العربيد الذي يعاكس النساء في الشوارع، ولم يكن عبد الله أفندي متشوقًا إلى شيء قدر تشوقه إلى هذا الدرس؛ فهو يريد أي شيء حتى وإن كان درسًا لينتزعه من التفكير في هذه المصيبة التي حلت على دماغه في يومه هذا.
ومرت أربع دقائق ونصف دقيقة فاتجه عبد الله أفندي إلى باب المنزل، وضغط الجرس، وخرج له الخادم، ولما أراد الدخول قال له الخادم إن ماجد لن يأخذ الدرس لأنه مريض، وإنما كانت هذه مصيبة أكبر من وجود ابنه في السجن! ولم يجد زوجته ليفرغ فيها غضبه فانصرف عن الخادم دون أن يلقي إليه التحية التقليدية التي عودته دقته أن يلقيها، وقبل أن يخرج عبد الله أفندي إلى الشارع وقفت سيارة أما الباب، ونزل منها السيد فتحي، وتقدم عبد الله أفندي من السيد وسلم عليه في أدب، وسأله: خيرًا؟ ماذا أصاب ماجد؟
– لا شيء مجرد برد بسيط ولكن أمه تدلله.
– شفاه الله، طيب استأذن أنا.
– بل تعالَ. فإنك لم تأخذ مرتب الشهر.
– في فرصة أخرى.
– بل تعالَ، ولماذا فرصة أخرى؟ تعالَ.
وكان السيد فتحي قد تعوَّد أن يمزح كثيرًا مع عبد الله أفندي وكان مبعث ضحكه الأكبر، ذلك الوقار الذي يأخذ عبد الله أفندي به نفسه، وقد رآه في ذلك اليوم أشد وقارًا من أي يوم سابق، فأراد أن ينتهز الفرصة ليضحك منه.
ويدخل الاثنان إلى المنزل، وما يكادان حتى يدق جرس التليفون فيرفع السيد فتحي السماعة، ويقول لفظة واحدة في صوت مرتفع هي «آلو»، ثم ينخفض صوته إلى الهمس الخافت فما يسمع عبد الله أفندي إلا بعض كلمات، «عندي شخصية مدهشة». «سأحضره»، وينظر عبد الله أفندي حوله فلا يرى أحدًا. فيكاد يظن أنه هو هذه الشخصية المدهشة! وما يلبث السيد فتحي أن يضع الساعة، ثم ينظر إلى عبد الله أفندي قائلًا: أنت حظك هائل يا عبد الله أفندي!
– حظي أنا؟!
– طبعًا أنت، سأصحبك معي في جلسة رائعة.
– جلسة؟ أنا يا سيدى لا أنفع في جلساتك أبدًا!
– لا شأن لك، تعال.
واختل نظام عبد الله أفندي جميعه، فهو لا يطيق أن يرفض أمرًا لوالد تلميذ له، ولكنه يبذل محاولة أخيرة: يا سيدي أنا عندي دروس أخرى.
– سأعوضك عنها جميعًا، وسأرفع مرتبك الشهري، ما رأيك؟
– أمرك.
ويجد عبد الله أفندي نفسه خارجًا مع السيد فتحي، ثم يجد نفسه في سيارة، ثم في منزل! ثم يجد عبد الله أفندي نفسه آخر الأمر مع سيدة غاية في الجمال! جمال كان يسمع عنه، ولكنه لم يرَه في حياته! فهي شقراء، بيضاء ذات عينين خضراوين، وقوام مليئ لا هو بالنحيف ولا هو بالسمين، تمامًا كما يجب أن تكون.
وينسى عبد الله أفندي ابنه الذي يرسف في السجن، وينسى تلاميذه الذين ينتظرونه وينسى السيد فتحي الذي يقهقه قهقهة عالية صاخبة، ينسى كل شيء ولا يذكر إلا أنه أمام جمال صاعق لا يمكن للعين أن تظل ناظرة إليه، ولا يمكن للعين أن تنصرف عنه، ويضحك هذا الجمال من منظر عبد الله أفندي، وقد زادته الدهشة استدعاء الضحك ويتكلم هذا الجمال: ما لك؟ اقعد، ما لك لا تتكلم؟
فيجيب عبد الله في ارتباك شديد: نعم، نعم أقعد.
وتبدأ الجلسة، وتأتي السيدة الشقراء بالخمر، وحينئذٍ يفيق عبد الله أفندي إلى نفسه قائلًا: ماذا؟ خمر؟
– لا، «ويسكي».
– أنا لا أشرب الخمر يا سيدتي.
– لأجل خاطري.
– لا يا سيدتي.
– خاطري أنا.
– أشرب.
ويشرب، وتنفك عقدة لسانه فيتكلم عن دقته في الوزارة وعن أعماله كلها، عن جهاده وعن ذكائه، وعن لباقته، وكلما تكلم ضحك السامعان، وكلما ضحكا ظن أنهما معجبان به.
وفجأة سألته الغانية: قل لي يا عبد الله أفندي، هل أنت متزوج؟
– نعم.
– وهل عندك أولاد؟
وما إن يسمع عبد الله أفندي هذا السؤال حتى ينخرط في بكاء شديد!
ويذهل الجالسان! ولكنه لا يبالي دهشتهما، ويقوم المخبول مهرولًا إلى باب الشقة وينزل في سرعة مجنونة إلى الشارع لا يجيب الأسئلة التي تلاحقه، وما إن يلمح أول تاكسي حتى يناديه وهو ما يزال يبكي.
وقبيل المغرب كان عبد الله أفندي يسير معتمدًا على ولده سعيد ناسيًا كل شيء عن دقته، فخطواته مضطربة تسرع حينًا وتتمهل حينًا، ووجهه مضطرب يبتسم حينًا ويعبس حينًا، وحديثه إلى ابنه مضطرب، ولكنه لا يعنف في هذا الحديث أبدًا، ولا يلقي فيه بأوامره وإنما هو حديث سلمي، ميسور، ولكنه مضطرب.
وصعدا معًا إلى الطابق الأعلى دون أن يعد السلالم، ودون أن يراعي أي رقم في صعوده.
ومنذ ذلك اليوم لم يذهب عبد الله أفندي إلى منزل السيد فتحي أبدًا، ومنذ ذلك اليوم تعلم عبد الله أفندي ألا يلقي لأبنائه بالأوامر الصارمة، وإنما هو يناقش ويبحث ويُفهمهم ما يريد في غير صرامة، وفي غير عنف، وفي غير دقة.