شهادات زور
إن لبنان معوَّد على هذه النَّكسةِ الثقافية، ولكنَّه كان يتعافى فيما بعد.
فبعد الكهنة والأساقفة الذين كانوا منارةَ ثقافة وعلم — كالأسقفَين: فرحات والسمعاني، والكاهنَين: التولاوي والحاقلاني — أخذت الثقافة القديمة تنهار شيئًا فشيئًا.
وبعد أن كان لا يبلغ درجة الكهنوت إلا صاحبُ العقل والعلم والمعرفة، أمسى الكهنوت كهنوت خبز، وطمِعَ فيه كلُّ جاهل.
وإليك هذه الحكاية التي وقعت في أواخر القرن التاسع عشر:
أرسل أحد الكهنة وَلَدَه إلى رئيس أساقفة بعد قِطافِ الزيتون، وزوَّده برسالة يسأل فيها سيادة المطران أن يُعلِّم ولده اللاهوت والسريانية والعربية، ويعيده إليه كاهنًا قبل موسم القَزِّ؛ لأنَّه يحتاج إليه في ذلك الوقت.
وكان سكرتير الأسقف — الخوري مخايل غبريل — من أصحاب النكتة، فأراد أن يمتحنَ ذلك الشاب الذي يريد أن يتعلَّمَ اللاهوت، ويصير كاهنًا في أربعة أشهر … ففتح أحد الكتب وقال له: اقرأ يا حبيبي.
وراح الشاب يعلك، فكان تارةً يكرج، وطورًا يتهجَّى، حتَّى بلغ هذه العبارة: «هذا من جهة، وأما من جهةٍ أخرى.» وأخذ يتمخَّض بها ويقول: وأمَّا من جهة أﺧ… من جهة أﺧ… ناظرًا إلى الأسقف وكاتب سرِّه نَظَر مُستَحٍ، ففقع السكرتير من الضحك وقال له: انطق يا ابني انطق، لا تستحِ من سيدنا؛ هذي غير هاتيك …
نعم، لقد وصلت البكالوريا التي حملها بعضهم إلى مثل هذه الحالة.
أذكر أنَّني كنت أمتحن تلميذًا «مُوصًّى به»، وهو يعرف أن ظهره قوي، فسألته مسألة، فقال لي كالساخر: أنت احزر يا أستاذ.
فقلت له: أنا حازر أنَّك لو كنت تعرف العربية ما فررت من الشام وشرَّفتنا … وسوف تفوز بالبكالوريا اللبنانية غصبًا عن رقبتي.
وهكذا كان!
جميل جدًّا جدًّا رفع مستوى البكالوريا اللبنانية، شرط ألا تقفل الأبواب بوجه الظامئين إلى الِعلمِ، فبين مواليد ابن البشر من لا تفتح مواهبه إلا ببطء وفي سِنٍّ معلومة.
إنَّ رفع المستوى الثقافي لا يكون بأن نضعَ على الممتحنين شروط المسكوب على السلطان … بل في التدقيق والعدل، وليرسبْ مَن شاء.
وعلى المعاهد والطلاب أن يضطلعوا بمسئولياتهم.
إنَّ إحرازَ علامة كذا في المادة الفلانية شيء كنا نقرره عند هبوط المستوى يوم كنا نمتحن طلاب البكالوريا ولم يعترض عليه أحد.
ليس للطلاب حقٌّ في معارضة من لا يُحرز ٢٠ / ٥ في لغة أجنبية، و٢٠ / ٧ في اللغة الأمِّ؛ فالبكالوريا إذ ذاك لا تنفع حاملها. إنَّها كحوالة بدون مئونة أو بندقية فاضية.
أمَّا علامة الرياضيات فيجب ألَّا نضع لها حدًّا أدنى في الفرع الأدبي؛ لئلا يكون عملنا تعجيزًا، ومثل هذا، بل أشرُّ، منْعُ الطالب من التقدُّم إلى الامتحان بعد الرسوب رابع مرة.
كان يقول لي جدِّي: «الحبل مع الأيام يقطع خرزة البير.» ويخبرني حكاية مار إفرام الذي كان في مطلع عمره طلطميسًا، وما حمله على الدرس بعناء إلا رؤيته خرزة البير.
إنَّ تقنين العلم لا يجوز؛ فلندع الناس وشأنهم.
قرأت مؤخَّرًا أنَّ امرأةً أميركية في الثمانين أنهت دراستها الثانوية ودخلت الجامعة. تُرى ماذا يقال لها لو طلبت الالتحاق بجامعتنا؟
وبعدُ، فأنا لا أثق أنَّ بيد من يقوِّمون مسابقات التلاميذ ميزان الدينونة … إنَّ الامتحان محنة، ويكون محنة على محنة إذا كان المميز غير خبير؛ فليس الصحفي ولا الشاعر ولا الأديب صالحًا لهذه المهمة، ناهيك أنَّ الامتحانات لا يصح أن تكون مقياسًا للقدرة والكفاءة، كما أنَّ المميز الحاكم بأمره لو قدم امتحانًا في المادة التي يحقِّقها ربَّما لا يُحرز علامة أعلى من علامة الطالب الذي امتحنه، وخصوصًا إذا كان الامتحان كامتحان البكالوريا يعتمد على الذاكرة.
وأخيرًا لقد بدأت وزارتنا في رفع مستوى الثقافة من فوق، مع أن المخل يوضع من تحت، والأساس يُبنى قبل السقف، فهل فكَّرت الوزارة في هدم هذا المنهاج الذي ما زلنا ندور في حلقته المفرغة منذ وضعت البكالوريا؟
هل أدركت الوزارة أنَّه معمول طبقًا لكتاب معلوم لتظل دفاتره رائجة؟
وإلا فما هذه النُّتَف المطلوبة في المنهاج العتيد؟
إنَّ العنكبوت المعشِّشة في زوايا وزارة التربية يجب أن تُكنس، ثمَّ يُنظر في المنهاج بعد هذا التنظيف، وإلا فتعديل المنهاج لا يخرج عن النطاق الذي ضُرب حوله.
والامتحانات يجب أن تجري بمعزِل عن كل العوامل الخارجية، أقول هذا لأنَّني مارست ذلك، وعرفت ماذا كان يُطلب.
قال أحد الكهنة يعظ أبناء رعيته: يا أولادي المُبارَكين، لا تخلوا الصبيان والبنات يسرحوا سوا، نحن كنا وليدات مثلهم «ومنعرف» …
نعم، أنا كنت من الممتحنين، وأعرف جميع المداخلات، عليا وسفلى؛ فلتحارب الوزارة الجليلة على هذه الجبهة إذا شاءت أن تربحَ المعركة.
وقبل وبعد، فجميع هذه الشهادات حتَّى الليسانس والدكتوراه، لا تقوم دليلًا قاطعًا على الثقافة المُثلى.
ورُبَّ شهادة ما شهدت لصاحبها في ميادين الأعمال …