أمين وأبو أمين
حضرت دفن السيدة سعدى فارس الريحاني، فكدت أؤمن بشفاعة القديسين …
ضَحِكَ القبر من تزاحُم الإخوان، فقام أمين الريحاني من القبر ليوسِّع لأخته.
إنَّ من عاش في حِلٍّ ومرتَحَل يحلم بدنيا العرب متحدَّة، ويدعو الشرق ليقايض على فلسفاته وصوفياته بدبابات وطيارات، لم يجد مكانًا يسندُ إليه رأسه …
كان هذا الرجل يرى حلم يقظته كأنه أمر واقع، فما ضاع «أمله المنشود» إلا حين مات …
أُزعجت أمس عظامُه وتكدَّست أمام عيني في «سحَّارة»، وأحيلت على الاستيداع … بلا معاشٍ طبعًا.
لا ألوم الأخ ألبرت، شقيق أمين، فهو عاجز عن تشييد ضريح يخشع أمامه أكابر الناس من عشَّاق أدب أخيه وآرائه الإنسانية.
فأخونا أمين ما ترك غير الصيت الحسن.
لطالما كان يقول لأخته التي زاحمته اليوم في ضريح البيت: الكفن ما له جيوب يا سعدى؛ فلنُعطِ ما قدرنا.
وها هو يجود لها بمكانه، وترصف عظامه في صندوق كتب عليه اسمه.
سيُفتح هذا الصندوق يوم تذكر الأمة نوابغها، وتكون للمفكِّرين في لبنان نقابة، ولو كأصحاب الأفران …
وَجَمْتُ أمام هذا المشهد.
وتذكَّرتُ قرار مجلس النواب بصرف مبلغ خمسة وعشرين ألف ليرة؛ لتشييد ضريح للمرحوم رشيد نخلة.
قد كنت من مشيِّعي الفقيد الغالي المرحوم رشيد.
رافقته إلى ضريحه الفخم، فذكَّرني مثال قلعة بعلبك المصغر الذي صنعه نجيب الدبس، فقبر أبي أمين في الباروك، أولمب مصغر.
أمَّا أمين الريحاني الذي كان يردِّد حين تشتدُّ أزمة النضال:
فقد أعدِم قبرًا وما دَفَنَت الموتى موتاها …
ولهذا قلت: إنَّني أصبحت أؤمن بشفاعة القدِّيسين …
فلو لم يكن صديقنا أمين نخلة عضوًا في مجلس النواب، ما فكَّر نائب بتشييد قبر لوالده من مال الأمة، وما خطر على بال أحدٍ أنَّه يستحق شيئًا، وما تألَّفت لجنة «برلمانية» … لتكريمه.
إنَّه يستحق وكيف لا؟
أمَا نَظَم: «كلنا للوطن»؟
أمَا هو مُؤلِّف «محسن الهزان» والأزجال الأخرى؟
فليت المهتمين بتكريم أبي أمين وتمجيده يفكِّرون بأمين صاحب ملوك العرب، وقلب لبنان، وخالد، ورباعيات أبي العلاء، و… و… و…
ليست القضية قضية استحقاق، ولكنَّها شفاعة ابنه أمين. رزق اللهُ الريحاني، ورزقنا شفاعة آخر قدِّيس من هؤلاء الخمسة وخمسين …
كان على نوَّاب لبنان منارة الفكر التي تشعُّ حقًّا وجمالًا، كما يُقال في كل مناسبة، أن يفكِّروا بمأوى لفسفور عظام أمين؛ ليظلَّ يشعُّ أمام زوَّاره من رجال العرب والعجم.
ولكنَّها سياسة: حُكَّ لي أحكُّ لك.
وبعد، فليس لبنان وحده مسئولًا عن أمين، فالريحاني للعرب أجمعين، فلنتكاتَفْ جميعًا مستمدِّين شفاعة قديسي المجلس النيابي … فنشيِّدُ ضريحًا للمجاهد العظيم، فنكبر في عيون زواره الأجانب.
بنى مغتربونا قصرًا للمكرزل في الفريكة، أفلا يبني المقيمون من ملوك ورؤساء وزعماء وشعب بيتًا يستريح فيه أبو الجامعة العربية؟