هؤلاء رهبانك يا مار مارون
لا تخف، أيُّها القطيع الصغير، فالراعي الأعظم رءوفٌ بخرافه، ومتى سمع صوتها فلا يُقسِّي قلبه.
إنَّ النبأ الذي أذعتموه لمراسلكم الباريسي تحت عنوان: «انتداب فوق الانتداب»، وفيه نعي استقلال الطائفة المارونية الذي قضت عليه رهبانها وعرائضهم، قد جرح كلَّ ماروني في شغاف قلبه.
ليست هذه أول مرة في التاريخ يفعل الرهبان ما فعلوا — إنَّنا نظلم الرهبان فلنَقُل رؤساءهم — ليس الذنب ذنبهم، بل ذنبنا نحن الذين نتركهم يرعون ويبطرون، ولو راعوا حرمة أمتهم قُلنا: «فليأكلوا هنيئًا مريئًا.» ولكنَّهم أناخوا بكلكلهم على أوقافنا، لا لشيءٍ إلا عبادة الله ونذر الطاعة والعفة والفقر.
أمَّا العفة فليس لي فيها ما أقول، فكلهم — والحمد لله — عفيف القلب.
أمَّا الجيوب فكثيرًا ما رأيناها وارمة حتَّى الانفزار.
وأمَّا الطاعة فقد برهنوا عنها في كلِّ زمانٍ كانوا يتمرَّدون فيه على أبي الطائفة وسيدها، وقلَّما خلا زمن من تمرد.
فمن عهد مرتينوس الأمس إلى مرتينوس اليوم، والمؤامرات على سلامة دستور الطائفة — المجمع اللبناني — يُدبِّرها هذا اللفيف المُنقطِعُ لعبادة الله، ولكنَّ الملة اليوم غير أمس، فستحاسبهم حسابًا صارمًا إذا داموا على هذا الكيد لها ولأبيها الأعظم الذي لا تعترف بسلطان لغيره عليها.
فإن صَحَّ النبأ؛ فسيكون دويُّه عظيمًا حتَّى تسمعه رومة بأذنيها.
ولكنَّني لا أصدِّق، فرومة جربَّت مرارًا أن تدغِمَ هذه الكنيسة الشرقية، ولكنَّها لم تنزل يومًا عن شرقيتها، ولم ترض بها بديلًا، فللموارنة ولَعٌ وفخرٌ بهذا الاستقلال الطقسي، وهم لا يرتاحون إلى غيره، إنَّهم يشاركون رومة في الجوهر، وأمَّا العَرَض فستتركه لهم إن شاء الله.
إنَّ الطائفة اعتمدت منذ نشأتها معمودية الدَّمِ، ومعمودية الدم تفتح باب الملكوت بلا إذن ولا حساب.
ومعاذ الله أن تَسلبَ رومة — وهي أم المؤمنين — ما وهبناه إياه التقليد والتاريخ، وأقرَّنا عليه جهادنا.
وإن زيَّن لها أحدٌ — وخصومنا كثر، وهم ممَّن أحسنَّا إليهم وأجَرْناهم — أنَّ دفن مجمعنا سهل، فإنَّنا نقول للناس أجمعين: «هذا فقيدٌ عظيمٌ، لا بدَّ من القيام ليالي يعلم الله ما تلد.» فليس في يد أحد، حتَّى ولا صاحب الغبطة أيضًا، أنْ يقول لنا: «تنازلوا عن استقلالكم واخضعوا.» لأنَّنا لا نتنازل ولا نخضع إلا كارهين، ولا إكراه في الدين.
أكتبُ بهذا الوضوحِ، بل بالقلم العريض؛ ليعلم مَن يعنيهم الأمر ما عندنا، ويتأكَّدوا أنَّ بلْعَ هذه الحسكة غير هيِّن، وإن هوَّنه بعضهم فسيرى أنَّه ليس كما ظن، والآتي قريب.
فإذا كان هؤلاء الرؤساء يريدون أن يخرجوا من حظيرة الطائفة؛ فلهم ذلك، أما الأوقاف فهي لنا.
إنَّنا لم نقفها لتكون سلاحًا في أيديهم يحاربون به استقلال ملَّتهم بعد أربعة عشر قرنًا … ولا زعيم طائفتهم؛ لأنَّه رجل يخاف الله ويسهر عليهم كأناس يؤدون حسابهم، ولا ليمحو دماء ثلاثمائة وخمسين شهيدًا لبسوا قبلهم الإسكيم، وماتوا على رجاء القيامة.
وما أظن جمهور الرهبان — وما أكثر الصالحين فيهم! — يرضون عن أعمال الذين يقومون بهذا الشَّغب الذي يُسخط ويشكِّك القريب.
إنَّ الطائفة غير الأشخاص، الأشخاص يزولون، أمَّا العقيدة المارونية فخالدة خلود الكنيسة الجامعة، وستماشيها أبد الدهر.
ليست التقاليد المارونية بنت يومين ليدفنوها وينْفُضُوا أيديهم من ترابها غير آسفين، إنَّها كنيسة مجاهدة حاربت الملوك في سبيل عقيدتها الرومانية، فلا تكافئها رومة بهذا الاعتداء.
إنَّ طائفةً تحفظ بالفخر مدائح الباباوات القديسين لها، لا تترك بين ليلةٍ وضحاها ميراثًا اشترته بدماء شهدائها.
لا ننكر أنَّ دود الجبن منه وفيه؛ فليستيقظ الغافلون ويجابهوا الخطر المداهم، فهو يأتيهم كاللص ليلًا؛ فليسهروا حتَّى صياح الديك.
فلتنصب الطائفة المصالي للجرذان التي ترقص في أقبيتها؛ فقد حان أن نشاركهم في كل شيء، ونشرف على ما يعملون إن كان هذا ما يدبِّرونه لنا.
وإنَّني لأتمثل رومة تطلُّ علينا من العاصفة ويصرخ بنا سيدها: «أنا هو لا تخافوا.»
لقد خفنا يا سيد فقُلْ كلمتك. فليُترك لنا المجمع نُدبِّره كما نشاء، ودعونا نهتف في تلك الساعة الرهيبة كما هتف آباؤنا وأجدادنا: «إيمان بطرس إيماني.»