مادحو أنفسهم
من الناس من يفاجئك بمدحه وتقريظه لك؛ طمعًا في أن تردَّ له الكيل كيلين، ويستوفي ما له منك بالفائدة الموجِعة، فكأنه ذلك الزارع يطرح في الأرض حبة لتعيدها إليه مائة، وإذا لم تقع في الفخِّ الذي نصبه في طريقك، راح يذمُّ كلَّ ما تذكره له، تارةً بالقلم العريض، وحينًا بالإيماء والرمز، وطورًا بالتغاضي والاستهزاء، وكأنَّ لسانَ حاله يقول لك: «أين جميع هؤلاء مني؟» إنَّ الدهر ظالمٌ، كافرٌ، وناسه أكفر منه وأظلم، ولو عدل الدهر وأنصفت الناس لكان هو سيد القلم وإمام الساسة، وأغدق عليه الزمان من خيراته ما تستحقُّه خِصالُه العبقرية، وشخصيته الفذة.
وإذا قلت له: «يا هذا، إن أردت أن تكون لك قيمة ووزن فلا تبخس الناس أشياءهم.» اقعنسسَ واحرنْجَمَ، وقطَّب وجهه كأنَّك طلبت إليه ما طلب المتنبي من كافور.
وكيف يقول في واحد من البشر كلمة وهو يعتقد أنَّه متى اعترف بفضل سواه ضاع من فضله شيءٌ لا يُعوَّض؟
وقد صوَّر لنا صاحب الجوائب مثل هذا الرجل في جمله الأدبية، فقال: «من الناس من يبالغ في مدح وطنه، فيصف مروجه ورياضه، ووهاده وجباله، وربوعه ودياره، وهواءه وماءه، فيزعم أنَّ شهرًا فيه خير من ألف عام في غيره، ثمَّ يزفر زفير الهائم الولهان: ألا إنَّ حبَّ الوطن من الإيمان.
بلادي هي البلاد التي تغزَّلت بها الشعراء قديمًا وحديثًا، فاسمع ما قيل في جداولها ونواعيرها، وبلابلها وعصافيرها، وفي أريج آفاقها ونضرة حدائقها، ويأخذ في رواية ما حفظ حتَّى إذا قلتَ له: كيف جارك الأدنى؟
قال: ويلي! إنَّه شرُّ جار، وهو على البلاد عار.
وإذا سألته: فكيف جاره الذي يليه، عسى أن يكون ممن توالفه وتصافيه؟
صاح: ويلي! إنَّه شرٌّ من أخيه.
وإذا قلت: فكيف أهل الحي طُرًّا؟ صرخ: إنَّهم كانوا كلهم عليَّ شرًّا.
– وكيف أهل البلد أجمعين؟ أجاب: ويلي! ما منهم أمينٌ ولا معينٌ، فما كأنَّهم خُلقوا من ماء وطين.
– وكيف حال التجار؟ أجابك: إنَّهم عبيد الدرهم والدينار.
– وكيف أهل المدن والأمصار؟ هتف: ويلي! إنَّهم ذوو غبن وغش، ما تُعامِل أحدًا منهم إلا ويُمْنيكَ بالكرب والخسار.
– وكيف أهل الجبال، عسى أن يكونوا خيرًا من أولئك؟
صرخ: ومن أين لهم الخير والصفاء، وقد فُطِروا على الشراسة والجفاء، فابتَعَدوا عن الآداب حتَّى كادوا أن يُحصَوا مع الذئاب، يقتل أحدُهم أخاه برغيف ليسدَّ بها جوعه. هذه حالة سكان البلاد؛ فلا تكثرن السؤال.»
فقلت في نفسي: إنَّ امرَأً يحسب جميع أهل بلاده دونه لجديرٌ بأن يذيعوا فنونه وجنونه. ويا للعجب ممن يمدح وطنه ليرجع المدح إلى نفسه! وممن لا يعجبه شيء مما يقال إلا إذا كانت ذاته وصفاته هي ذلك الموضوع الذي يدور حوله الحديث!
ألا ترى يا صاح أنَّك تكون ثقيلًا على المحضر إذا كان لا يعنيك إلا أن تروي لنا طرائف ما فعلت في زمانك، وأنَّ قولك كنت وكنت لا يرفع من مقامك، بل يُضحك الناس منك، ولا تدلُّ إلا على خفَّةِ عقلٍ لو كانت في رِجْلك لسبقت الغزال والأرنب.
كثيرون من إذا التقيتهم يسدُّون عليك الطريق بالصدر والباع، ويحاولون جرَّك إلى الحديث عن أعمالهم وآثارهم، وخصوصًا إذا كان صدر عنهم ما يعدُّونه حسنة، فإنَّهم يستدرجونك إلى الكلام عنها.
وإذا رأوك تجهلها أو تتجاهلها تولُّوا هم بالنيابة عنك الثناء على أنفسهم، فيمثِّلون معك دورَ بطلِ بديع الزمان في المقامة المضيرية، حتَّى إذا حاولت أن تهربَ كما هرب أبو الفتح من تلك الدار، تشبَّثوا بأذيالك كأنَّ لهم عليك دينًا، ثمَّ لا يُخلون سبيلك إلا بعد أن يُشبعوا أنفسهم مدحًا.
أنا لا أرجو استئصال دابر هؤلاء؛ فهم أكثر من الجراد، ولكنَّني أصفهم لقارئي حتَّى إذا كان من طرازهم ارتدع وأراح الناس من غفلته …