ثلاث أزمات تنتظرنا
أزمة المعلِّمين، وأزمة المنهاج، وأزمة أصحاب المدارس؛ ولذلك نحن قادمون على عام دراسي أهوج، وسنة سوداء، والكتاب يُقْرَأ من عنوانه.
أمَا بدأ أصحاب المدارس يرغون ويُزبدون، والمعلمون يزمجرون ويتوعَّدون، والتلاميذ ينتظرون إضرابات واسعة النطاق تبشِّرهم بالراحة، ثمَّ لا يفيقون من غمرتهم إلا في نوَّار، ولا ينصرم حزيران حتَّى نسمع البكاء وصريف الأسنان؟
التلاميذ متبرِّمون بمناهجهم، وخصوصًا منهاج البكالوريا، وسنعالج هذا الموضوع عجالى، ألا تسمع كلَّ يوم من يبشِّرك بانقضاء زيارته لك بقوله: حديثك لا يُملُّ.
حقًّا إنَّ حديث المدرسة لا يُمَلُّ؛ لأنَّه حديث الذُّريَّة، والذرية هي الخلود الملموس، وإن يكن بلزاك قال بلسان بطل روايته «الأب غوريو»: «أنا لست أريد الخلود بالمزلوم …» والمزلوم في لغة الزراعة هو قطعة من قضيب تُلقَّح به الأشجار، أو يغرس لتخرج منه غرسة جديدة من نوعه.
لست أعالج الآن غير أزمة المنهاج، أمَّا أزمة المدارس المستحكَمة المستعصية التي لا مثيل لها في القاهرة ودمشق وبغداد، فالجواب الصريح على تساؤل الأستاذ أسعد عقل هو أنَّ في تلك العواصم لا تعادُل بين الفرقاء، هناك أكثرية ساحقة وأقلية، طبعًا، مسحوقة، والكلمة للحكام وليست لرؤساء الأديان.
فالميزانية في تلك الدول التي ذكرها الأستاذ ليست للاقتسام، وليست لتنازع البقاء؛ فهل سمعنا أنَّ أحدًا هناك يقول: حصتنا في الميزانية أقلُّ مما يحق لنا؟
إنَّ هذا لا يوجد إلا في لبنان؛ ولكي ينجح لبنان دوليًّا عليه أن يجعل الدولة علمانية، ويكف أيدي رجال الدين من كل ملَّة، ويراقب أعمالهم حتَّى إذا أبدوا نشاطًا غير مشروع أوقفهم عند حدِّهم؛ ليعُطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فلا يتوسلوا بمنابرهم ومناسكهم التي أُعدِّت لكلام الله ليتطرَّقوا إلى السياسة.
كانت الكلمة لهم يوم كان الشعب قاصرًا، أمَّا اليوم فصار بالغًا رشيدًا.
إنَّ هذه الطائفية من الطرفين هي عقبة في كل سبيل، وما أشبه دولتنا اللبنانية بأبٍ له أبناء عيونهم عشرة عشرة على الحصص التي يوزِّعها عليهم أبوهم، وكلُّ واحد يرى أن أباه أجنف عليه، وأن أخاه أو إخوته نالوا أكثر منه.
- الشِّقُّ الأول: وهو المنهاج الذي نعدِّله نحن من سيئ إلى أسوأ، فنعسِّر حين نزعم أننا نيسِّر … وحكايتنا في تعديله مثل حكاية ذلك الذي حمَّلوه عنزة وهبط … فقالوا: حمِّلوه ثنتين.
- وأمَّا الشقُّ الثاني: فسببه عدم تدقيق المدارس في تعيين الصفوف، ومزاحمة بعضها بعضًا لكي تُعبِّئ ما في بناياتها من فراغ، بل فلنقل: إنَّ التعبئة عندنا حتَّى البشم والكظة، فهم لا يأكلون بثلث بطنهم، بل يتمنون أن يكون لهم ثلاثة بطون ليأكلوا بها كلها، ويقُشُّوا كل ما على المائدة.
نحن قومٌ عقلنا متحجِّر، وهو لا يتشكَّل ولا يتبلور مهما تصهره العناصر.
أرأيت إلى البزاقة في كوخها الذي تحمله وتسير؟ إنَّها لا تخرج منه قط، وأكبر همِّها أن تمطَّ وجهها قليلًا، وإذا اشرأبَّت فوق ذاك البوق فرُبع قيراط؛ لكي تعلن تلك المسكينة أنَّ لها قرونًا، ولكنَّها قرون هلامية لا تصلح للمساورة والنطاح … اسمها قرون، أمَّا مادتها فمخاطية.
من شروط العقل الفعَّال أن يكون قويًّا، يهدم ليبني. ونحن لا نجسر على فتح طاقة تَدْخل منها الشمس إلى بيتنا العتيق؛ ولهذا مصل دمنا وأصبح دمًا قنفذيًّا كأنه الصديد.
إنَّ المنهاج في نظر القوَّامين عليه والذين طبخوه في الخفاء شيء تافه لا يُؤبَه له، فكل غايتنا من تعديله أن تنفق كتبنا، وكلَّما ازداد عدد البيع زعمنا أنَّ ثقافتنا توطَّدت، ورحنا نتحدَّث عن الإشعاع، ويا له إشعاعًا بلا زيت!
وفوق ذلك نريد أن نكون أمة، ومن سمع ببيتٍ بلا أساس وشجرة بلا جذور؟!
لا أدري كيف يُشعُّ سراج، بل كيف يشعل وهو مخنوق في غرفة لا يدخلها الأوكسجين من خلف ولا من قُدَّام، ولا من فوق ولا من تحت؟ تلك حال طلابنا ومنهاجنا.
في سنة ١٩٣٣م، دُعينا لتعديل منهاج عام ١٩٢٩م، وكان ذلك المنهاج يحتوي على دراسة العصور وتاريخ العرب وثقافتهم، وأطوار الأدب، وأكثر من مائة كاتب وشاعر، فجعلنا عدد الكُتَّاب والشعراء تسعة وعشرين، ومع ذلك رأت الهيئات التعليمية والتلاميذ أنَّ الحِمل ثقيل، ويزيد في ثقله أنه مُضجر مملٌّ، فكنا إذا فرغنا من دراسة امرئ القيس تحيَّرنا ماذا نقول في شعراء الجاهلية الآخرين؛ فنقص على تلاميذنا أخبار هؤلاء المفارد، نوهمهم بذلك أننا ندرِّسهم الأدب، وما نكون وإياهم إلا كمن يتعلَّل بالعلك عن الطعام.
وإذا عثرنا عند أحد هؤلاء على صورة أو تعبير أو فكرة لم يقلها ذو القروح، هاجمناها بأساطيلنا وغواصاتنا ودباباتنا وطائراتنا، وشننَّا عليها غارات حرب صاعقة، زاعمين أنَّنا استولينا على المبادرة باكتشافنا كلمة جديدة عند شاعر.
إذا كان التعليم بناءً تربويًّا اجتماعيًّا، فماذا نحن نبني من هؤلاء الأطفال في القرن العشرين؟ وأي صرحٍ ممرَّد نرفع في عصر ناطحات السحاب؟
فلولا طرفة، وهو ليس أبعد رأيًا من معَّاز معاصر، لاحمرَّ وجهنا حين ندخل الصف.
وإذا بلغنا العصر الأموي رأينا ثلاثة شعراء سبَّابين شتَّامين نبشوا قبورَ جدودهم، وفضحوا النساء، وسبُّوا المشايخ، وأقلقت الجزيرة بذاءتهم، وما زادوا في نقائضهم على ما ينظمه اليوم قوَّالو العامة. بلاغتهم: سُبَّني وأَسُبُّك، والشاعر الفحل من سبَّ أحسن.
ولكي نُخفِّف قلنا: فلنحذف اثنين من هؤلاء الثلاثة، فانتصر النصارى للأخطل، والمسلمون للفرزدق وجرير، وكان برهان أحدهم: الفرزدق شاعر الفخر، وجرير له حلو الهجاء ومرُّه.
فأجبت: على رأسي وعيني، ولكن ماذا يفيد أولادنا فخر الفرزدق بجدِّه مُجاشع ذي البول الكثير، وإن كنت أتمنى أن يكون في كل مزرعة واحد مثله، فيغنينا عن السماد … وإذا قلنا فلنُلحِق ابن النصرانية بصاحبيه، انتفضت لِحَى البعض كما كانت لحيته تنفض خمرًا حين يدخل على عبد الملك بن مروان! ذكَّرني جدلهم بسهرات الزناتي خليفة ودياب بن غانم.
هاشوا علينا فخضعنا للأكثرية، وهكذا بقي هؤلاء ثلاثتهم عملًا بالمادة ٦ و٦ المكررة.
ويطلُّ علينا أبو جوان، دنجوان العرب، ابن أبي ربيعة؛ فتنبسط أسرَّة طلابنا، ولكن المعلم مكعوم لا يدري ما يقول، وإذا كان في صفِّه بنات يمشي تلغراف العيون اللاسلكي … واصبر يا أيوب …
ولا تفرغ جعبةُ آرائنا حتَّى يطلُّ بشَّار ابن قريش العجم، فيقول ما يشاء ولا يستحي، والحياء في النظر يستلهم محيطًا خصبًا وحضارةً لا بأس بها، تمدُّه نفس ذات فن أصيل على قذارتها، ثمَّ يُقبل الشاعر الماجن أبو نواس، فنصطدِمُ بشذوذه الصريح، وإن كان يحل العقد المحكمة الربط بلباقة المشعوذ وخفة البهلوان.
إنَّ الشوارع تُغنِي أولادنا عن تعلُّم آمالي أبي نواس.
ويعاودنا الضجر حين نبلغ أبا تمام والبحتري.
سألني تلميذ — ولعله خبيث: لماذا كان البحتريُّ يبيع غلامه ثمَّ يحاول استرداده؟
فقلت له تهرُّبًا: لم أكن قاعدًا في فكره.
فضحك التلاميذ ونجوت أنا.
ولا نتنفَّس قليلًا إلا في واحة ابن الرومي؛ حيث نرى نفسًا معقَّدة؛ فنُشغلُ بحلِّها وننسى فصاحتنا المعهودة.
ويتزحزح عن صدرنا الكابوس حين يقبل أبو الطيب، فنقرأ شعرًا يتصل بالحياة وتتصل به، شعرًا يحدِّثنا عن القومية ومقوِّماتها، والإنسانية ومعضلاتها، ويمد يده بحذَرٍ إلى ما وراء الطبيعة، فيُحدث ثقوبًا ينبعثُ منها نور وإن ضئيلًا، ثمَّ تنتهي المعركة الحاسمة عند دير العاقول، فنتركه ونمضي مسوقين، والمنهاج يهشُّ علينا بعصًا ليس فيها مآرب أخرى، فنسمع عويل أبي فراس في خرشنة، ونواح العجوز بمنبج، ثمَّ يعلو هزج الشعر الأندلسي فنصغي إلى رناته هُنيهة، حتَّى نبلغَ أحمد شوقي فنرى شاعرًا نفهم عنه، ويعنيه ما يعنينا، يحدِّثنا عمَّا يتصل بحياتنا أو اتصل بها، بعد أن سئمنا شعراء بيننا وبينهم فدافد ومهامه لا تبلغها القلاع الطائرة إلا مهيضة الأجنحة.
وفي النثر نلهو حينًا بوعيد الحجَّاج وتهديده، وترصُّن عبد الحميد وتبليده. وما كنا لنقف عند هذا لولا تلك الكلمة الفخارية: بُدئت الكتابة بعبد الحميد وخُتِمت بابن العميد، كما قيل في الشعر: بُدئ الشعرُ بملك وخُتم بملك.
أمَّا ابن المقفع والجاحظ فمؤلِّفان اختبرا الحياة، يجد الطالب عندهما لذَّة وفائدة، ولكننا لا نسلِّم عليهما حتَّى نودِّعهما لضيق الوقت.
ونبلغ مقامات البديع، فتحلو لنا الإقامة، فيتراءى لنا الحريري على جمر الانتظار ينتف عثنونه من الهوس، والأصبهاني يرقبنا ليمعن في إسناده وتمحيصه، ويروي لنا الخبر مرات. أمَّا ابن الأثير الذي يُنمِّي «مَثَلُهُ» الذوقَ الفني، فحظُّه أقلُّ من سواه.
وإذا بلغنا القرن التاسع عشر، فإنَّنا لا نرى أديبًا لبنانيًّا له رأي اجتماعي في منهاج بكالوريا يسمُّونها لبنانية.
إذا كان التعليم، كما يقال، وسيلة للتربية؛ فبماذا نتوسَّل نحن لنربِّي أبناءنا التربية القومية المطلوبة؟ أببعر الآرام في عرصات دار عنيزة، أم بحب الخمخم وسط ديار عبلة؟
ما شبَّهت «منهاجنا» إلا بحمولة قشٍّ على ظهر جمل، فلو سمعت وزارة المعارف — عفوًا وزارة التربية الوطنية — صيحاتنا العديدة وأعادت النظر في هذا المنهاج الثقيل لأراحت وأفادت.
هذا منهاج القِسم الأول، أمَّا منهاج القسم الثاني فغريبٌ عجيب: يدرس الطالب الأدب في سنين، ويتعلَّم الفلسفة في سنة واحدة، وكيف يصبح فيلسوفًا بسبعة أشهر؟ فهذا ما يحيِّرني، كيف يتعلَّم بسبعة أشهر علم النفس والمنطق والأخلاق، وما وراء الطبيعة، والفلسفة العربية وتاريخها، والتاريخ الطبيعي — وهنا البلية الكبرى — من حيوان ونبات، والكيمياء والفيزياء والفلك والتاريخ والجغرافيا، وكل ذلك عن ظهر قلب؟
هَبْ هذا المنهاج جنينًا، فهو لا يُتصوَّر في بطن أمه ويتمُّ في أقلَّ من تسعةِ أشهر …
إنَّ التلميذ اللبناني — عظَّم الله أجره وشكر سعيه بعد دفن الفلسفة في ذاكرته — أشقى طلاب المسكونة، وأعظمها جهادًا واجتهادًا؛ فهو وحده من ذوات المعدتين، يتعلَّم الآداب والفلسفة بلغتين، ونعنِّفه إن لم يخرج أديبًا عالمًا، فيلسوفًا، نحويًّا، صرفيًّا، لغويًّا، نباتيًّا، ميكانيكيًّا، تاريخيًّا، جغرافيًّا …
كان رجالُ لبنان القدماء رجالَ جدٍّ وعمل، كانوا حتَّى في القرن الثامن عشر يُحسنون اللغة العربية والسريانية والعبرانية واللاتينية والطليانية والفرنسية، ومع ذلك ترجموا اللاهوت الأدبي والنظري والحقَّ القانوني، وما يحتاجون إليه، وعلموه أبناءهم، ترجموا الأنطوين والليكوري والغوري، فكتب القدِّيس توما الأكويني، ولم يكلِّفوا كهنتهم تعلُّم اللاهوت باللغاتِ الأجنبية كما نفعل نحن اليوم.
إنَّنا نُحمِّل أبناءنا خرجًا فلسفيًّا، وخرجًا أدبيًّا، وخرجًا جغرافيًّا وتاريخيًّا، إحدى عينيه عربية، والأخرى فرنجية، ثمَّ نقول لهم: أسرِعوا عجِّلوا، أتقضون العمر في المدرسة؟ وبعدئذٍ نلومهم إذا قصَّروا وخرجوا من دروسهم خروج الشَّعرةِ من العجين … وكيف لا يقصِّر في العقبة من حُمِّلوا مثل هذا الخرج؟ بل هذه الأخراج؟
وبعد تلك الاحتجاجات والصيحات قالوا لنا: إنَّهم يُعدِّلون المنهاج، فانتظرنا وانتظرنا … وأخيرًا ظهر، ولكن كيف؟
أُعيد المنهاج سيرته الأولى.
كنا نشكو من تدريس تسعة وعشرين كاتبًا وشاعرًا، فعدنا نُدرِّس مائة وأكثر؛ لأنَّ المسيطرين على وزارة التربية هُمْ هُمْ، وأكبر همِّهم أن يعيدوا المنهاج إلى كيانه الأول الذي وُضِعَ عام ١٩٢٩م.
وكان الله في عون الطلاب، وكيف لا يسقطون ألوفًا في ساحة الامتحان يا أخي؟
إذا شئت أنْ تُطاع؛ فسل ما يُستطاع.
لقد ذهب الأستاذ صدقة وفي قلبه شيء من حتَّى، فعسى أن يوفَّق الأستاذ صوايا إلى تعديل المنهاج كما يجب.
إنَّ هذا المنهاج الذي حاول صدقة أن ييسره، ولم يُفسح له في المجال؛ فعسى أن يقدر عليه صوايا.
إنَّ ذلك ممكن إذا لم يصطدم بالانتفاعيين الانتهازيين الذين يحسبون وزارة التربية حقل تجربة واختبار، أو مزرعة يطبِّقون عليها قول المثل اللبناني: «كلٌّ يزرع حقله بعقله.» أمَّا التربية وعقول أبنائنا فليست في حسابهم.
الحساب يتطلب من يفكِّر برأسه، أمَّا هؤلاء فيفكِّرون بجيوبهم.