وزارة أوقاف
إذا كُنَّا نعدِّل قوانيننا وشرائعنا حتَّى العتيقة جدًّا جدًّا، ثمَّ لا نجعل تلك القوانين عامَّة شاملة، فجذور الطائفية تمتدُّ طُلوعًا ونزولًا.
وإذا عدَّلنا تقسيم المواريث لملة دون غيرها، صار عندنا ثلاث شرائع في مادَّةٍ واحدة.
فالوصية عند إخواننا الدروز لا قَيدَ لها ولا شرط فيها، فيهب الرجل جميع ما يملك لمن يشاء من الناس، وليس لبنيه وبناته ما يقولون.
أمَّا النصراني فلا تنفُذ وصيته إلا بجزء من تركته. هذا إذا نُفذت ولم يجد الورثة مغرز إبرة يطلُّ منه المحامي المجتهد لينقض ما أبرمه المورِّث، ناهيك أنَّ الأب المسيحي لم يعد يستطيع أن يَحرِم أحدًا من بنيه ولو كان عاقًّا كابيشالوم …
وإذا تحقَّق ما يقولون عن تعديل حقوق الإناث ومساواتهن بالذكور، فستصبح شريعتنا مدنية غربية.
ولكن يعزُّ علينا أن نفارق إخواننا المسلمين الذين اتبعناهم منذ أُنزلت سورة البقرة حتَّى الآن.
إنِّي لأعجب لهؤلاء النوَّاب الذين لا يفكِّرون إلا بما يخصُّهم، فكيف هم غافلون حتَّى اليوم عن وزارة أوقاف؟
ألا يربحون حقيبة وزارية جديدة؟
ووزارة الأوقاف سمينة، دسمة، يتولَّى صاحب حقيبتها الإشراف على ثُلُث أملاك لبنان.
للروم الأرثوذكس مجالس مِلِّيَّة يطَّلع فيها الشعب على «من وإلى» في دفاتر أوقافهم، وللمسلمين مجلس أوقاف أعلى ينتخبون أعضاءه هم، ولا يُفرض عليهم فرضًا، عملًا بالقول المأثور: «كلُّكم راع وكلكم مسئول.»
أمَّا الطوائف الكاثوليكية فيقضون بالأمر عنها وهي غافلة … ولو ظلَّ قيدنا في يدنا لسكتنا ولم نطلب شيئًا، ولكن راحت إسطمبول العتيقة، وحلَّت محلها إسطمبول جديدة، فصرنا لا ندري ماذا يصنعون؟ ولا ماذا ينفقون؟ ولا ما يقبضون؟ ولا كيف يتصرفون؟
إنَّ هذا لا يعنينا، فعلينا أن نُسلِّم ونطيع، وإلا عدُّونا هراطقة متمرِّدين.
اتُّهِمَ أحد رؤساء الرهبانيات المارونية، منذ سنوات، باختلاس ثمانين ألف ليرة؛ ولكي يبرِّئ نفسه ويرد لها اعتبارها، أذاع نشرة قدَّم فيها حسابًا للرأي العام، فلم تطالبه روميَّة، المرجع الأعلى، بالحساب، ولكنَّها لامته لأنَّه أدَّى الحساب للشعب، ثمَّ أُسقط عن كرسي الرئاسة العامة لهذا السبب، وإن ظلَّ يحتفظ بالتاج والصليب والخاتم.
فالشعب في الكثلكة لا يعنيه أن يعرف شيئًا، ولا يُؤدَّي له الحساب، فذاك سِرٌّ يظل مكتومًا مثل سرِّية المصارف.
قد يكون لسرِّية المصارف منفذ ينفِّس عنها، أمَّا الأوقاف الإكليريكية عندنا فلا منفس لها، ولتمت بدائها إذا لم يَمُنَّ الله عليها بالشفاء.
فنحن الآن نطلب أحد أمرين: إمَّا أن يكون لنا مجالس محاسبة كغيرنا من الطوائف الشرقية، وإمَّا أن نخلقَ وزارة أوقاف تسهر على البقية الباقية من تركة هذه الأرملة … وكما أنَّ تعديل المواريث يسري على المسيحيين وحدهم، كذلك فلتشرف هذه الوزارة على أوقافهم كلها بدون استثناء، من بكركي إلى آخر أنطوش.
في عام ١٩٠٨م، عملنا مجلسًا مِلِّيًّا، ولم يضيِّق وجود العلمانيين على أحد من الإكليريكيين، وظل الإكليروس بألف خير يأتيه رزقه رغدًا … فلماذا لا نفعل اليوم كما فعلنا أمس؛ كيما تزول شكوك الناس والتُّهَم، ويخف هذا البطر ولو قليلًا؟
يقولون: هذه شريعة رومية، فهي لا تؤدي حسابًا لأحد، ونحن تابعون لها.
ونحن نجيب: أيكون لنا ألف مرجع وليس لنا مرجع؟ إنَّ ثلث عقارات لبنان أرض موات ليس من يستعمرها، يكتفي المشرفون عليها باستغلال ما تيَسَّر استغلاله، وليس من يضرب فيها مِعولًا! لقد ذهب زمن العباءة والمداس، وجاء عصر النيلون، فليت الشعب يسهر ولا يترك ما أوقف عليه يذهب ضياعًا. إنَّ الأوقاف عندنا مثل الذي يسمُّونه دوليًّا بالمال الاحتياطي، فلولا بقيةٌ من السَّلفِ الصالح لكان أكبرُ هذه المراجع أفلس.
كان الأمر علينا هيِّنًا لو ظلَّ قيدنا في يدنا، ولكننا صرنا لا نقطع خيط قطن بدون إذن نستمدُّه من وراء البحر، فهل لدولتنا أن تنبري لمحاسبة أولئك الذين يأكلون من كيسنا، ويتأمَّرون علينا، ويقضون بالأمر عنا ونحن غافلون؟
وإذا كانت امتيازاتنا الشرقية قد ابتُلِعتْ، وتُبْتَلَع واحدًا خلف واحد، فلماذا لا تمدُّ دولتنا يدها إلى الصحن قبل أن يمعطوه ويلكِّحوه؟
فإمَّا وزارة أوقاف تبدأ من الأعلى فنازلًا، وإمَّا مجلس مِلِّي يحافظ على ثروة الأرملة المسكينة.
وكيل وقف القرية يحاسب تحت سنديانة الكنيسة على مسمع الكبار والصغار نساءً ورجالًا، فلماذا لا يُطبِّق «السادة الأجلاء» هذا التقليد عليهم؟
لماذا لا يحاسب الشعب أولياء الوقف الكبار على ما ينفقونه، وعلى كل عمل يقومون به؟