المعضلة المارونية الرومانية
بين بطركين: إلياس وأنطون
منذ مئات السنين وحرب هذه المعضلة قائمة على ساقها، بطاركة الموارنة لا يتقيَّدون بما تحدثه روميَّة إلا بعد أن يُجيزه بطريركهم الأنطاكي.
يدعون في قُدَّاسهم لبابا روميَّة ولبطريركهم معًا، ويمارسون طقوسهم التي رسمها بطاركتهم الأوَّلون، فهم طائفة شرقية يتمسَّكون بقانون الإيمان الكاثوليكي، ويموتون مكرِّرين هذه العبارة: «إيمان بطرس إيماني.»
لم يحِد الموارنة في تاريخهم العريق في القدم عن هذا الإيمان قيد شعرة.
الطائفة المارونية دولة في قلب دولة؛ فهي لا تخضع لبابا روميَّة إلا بالإيمان الكاثوليكي، ولا للدولة العثمانية في إدارتها الداخلية.
وهو كذلك، ولكنَّ الغرباء عن أورشليم يحسبون الموارنة الذين اشتهروا بالطاعة العمياء لرؤسائهم يقادون لرومية بخيط قطن، وما دَرَوا أنَّ صراع البطاركة من أجل استقلال طائفتهم الديني كان مستمرًّا منذ كان كرسيُّهم في يانوح وميفوق وغيرها من قرى بلاد جبيل. فهذا البطرك يوسف حليب العاقوري يعقد سنة ١٦٤٤م مجمع حراش — نسبةً إلى دير حراش في كسروان — ويرشق بالحرم الكنائسي الكهنة اللاتين، الذين يُقدِمون على سماع اعترافات الموارنة، ومناولتهم القُربان المقدَّس من غير تفويض من البطريرك، وحرَّم أيضًا الموارنة الذين يقتبلون هذين السرين المقدسين من أيدي أولئك الكهنة.
ورفعت روميَّة صوتَها محتجَّة على عمل البطريرك الماروني، وأرسل مجمع نشر الإيمان المقدَّس رسالة إلى القاصد الرسولي أمره فيها أن ينذرَ بطرك الموارنة، أنَّه ما كان له ولا عليه أن يتعدَّى حق الكرسي الرسولي، ويرشق بالحرم الموارنة عند أخذهم الأسرار من مرسلي الكرسي الرسولي «المشرق سنة ٢٩، ص٨٣٨ و٨٣٩».
أرأيت أنَّه منذ القديم ورومية تمدُّ يدها إلى شئون الموارنة الداخلية، وبطاركة الطائفة يقولون لها: «لميها. نحن في هذا مستقلون، ولا سلطان لك علينا فيه.»
ورأت روميَّة أن تقيِّد استقلال الموارنة، فأرسلت إليهم واحدًا منهم هو السيد يوسف سمعان السمعاني الحصروني، العلَّامة الماروني الأشهر، فجاء مستنابًا عن البابا؛ ليضع دستورًا دينيًّا للطائفة المارونية، فكان ذلك، وعُرِف هذا الدستور بالمجمع اللبناني، وهو يعترف باستقلال الموارنة في انتخاب بطريركهم، وسيامة أساقفتهم وكهنتهم، وإدارة كنائسهم وأوقافهم، وأبقوا لقداسة البابا حق منح البطريرك — بعد ثبوت صحة انتخابه — درع التثبيت «الباليون»، وللبطريرك السلطة المطلقة في إدارة طائفته لا يرجع إلى روميَّة إلا بما أعطاها المجمع من حقوق دينية كبرى.
وظلَّت روميَّة تمد يدَها عند سنوح الفرص، وكان كلُّ بطرك واقفًا لها بالمرصاد.
وفي عهد البطرك إلياس الحويك، سام قداسة البابا، الخوري نعمة الله بو كرم مُطرانًا، وهذا من حقه؛ لأنَّ المجمع اللبناني أجاز له سيامة مطران ماروني على بلدة طليانية، ومع ذلك سخط البطرك إلياس وقعدتْ جفونه، واستقبل المطران في جبيل بغضب، ولم يعطِه يدَه ليقبِّلها، بل سحبها من يد المطران بعدما استلمها، وتركه جاثيًا مع المطران دريان الذي جاء معه للحصول على رضا البطريرك.
كان ذلك في بيت الشيخ بان الخازن، مدير جبيل، حيث كُنَّا مدعوين للغداء مع صاحب الغبطة.
غضب البطرك إلياس لأنَّ روميَّة سامت أسقفًا ولم تنبئه، فلم يشأ الاعتراف به، وظل ذاك المطران العلامة الفاضل كالغريب في طائفته؛ لأنَّ الموارنة عدُّوا سيامته اعتداء على استقلالهم.
ولجأت روميَّة إلى وسيلة أخرى، فكانت في كل فترة تحاول أن تجعل البطرك الماروني كردينالًا، وكان البطرك الماروني يأبى، فتلجأ نكايةً به إلى بطرك أصغر طوائف لبنان الكاثوليكية وتسميه كردينالًا، ويظل البطرك الماروني رافلًا بأرجوانه وصولجانه.
وجاء الأسطول الفرنسي إلى الشرق قبل الحرب الأولى، ورست دارعاته وغواصاته في ميناء جونيه، وأدَّت التحية لسيد بكركي، ثمَّ استقبل البطرك إلياس عندما ردَّ الزيارة للأميرال استقبال الملوك، حتَّى سأل البابا بيوسُ العاشرُ المطرانَ بطرسَ الفغالي عندما أوفده البطرك إلياس إلى روميَّة في أحد الاحتفالات الدينية: كيف حال البطرك الملك؟
في ذلك الزمان كتبتُ مقالًا في الجريدة التي كنت أحرِّرها في جبيل فحواها: «لماذا لا يكون بطركنا كردينالًا؟ وهل البابوية إرث للطليان؟» فاستدعاني — رحمه الله — إلى بكركي وقال لي: بدَّك تعملني كردينال يا مارون؟
فقلت: يا سيدنا هذا حق.
فأجاب: هذا حقٌّ يا ابني، ولكنَّه حقٌّ يضيِّع الحقوق، تريد أن يصير بطرك الموارنة ميرالاي مثل الشيخ بربر؟ اليوم عينَّاهُ وبكرة نقلناه من لبنان إلى البندقية مثلًا، وأخيرًا أحَلْناه على التقاعد؟ بطرك الموارنة يا مارون مثل البابا: يموت في كرسيه بطريرك طائفته. الكردينال في الفاتيكان مثل مطارين الكرسي، بل الخوري فلان — وسمَّاه — له أُبَّهة أكثر من كردينال.
وحاولت روميَّة — والبطرك في آخر العمر — أن تعيِّن له معاونًا معه، فأبى ذلك عليها محتجًّا بأن البابا لاون مات في الثالثة والتسعين ولم يعاونه أحد.
وأخيرًا قال للقاصد جيانيني: «افحصوني إذا كنتم تظنون أني خرفت.»
وهكذا انتهى البطرك إلياس والمجمع اللبناني لم يُمسَّ.
وخلفه البطرك أنطون.
انتخبوه لأنَّه «درويش»، كما قال له المطران مبارك في الخطبة التي ألقاها بين يديه إثر سيامته.
ولكن هذا الدرويش أراد أن يكون بطركًا كما يكون البطرك الماروني، فوضع الأمور في نِصابِها: أعطى كل ذي حقٍّ حقه، وضبط الكرسي أيَّما ضبْط، وفَّى ديونًا باهظة ركبت الكرسي، وظلَّ يبني ويشيِّد ويفي ديون الأوقاف الأخرى حتَّى مات، واقِفًا ما بقي من ماله على عمل البِرِّ والإحسان.
قد يقول القارئ: ومن أين لهذا البطريرك هذه الملايين؟ وعن هذا القول نجيب: كان البطرك أنطون مواطنًا عاملًا، فأسس شركة شكا المشهورة. وعندما زار روميَّة أسقفًا قال له البابا: إنك تتاجر.
فأجابه على الفور: عملًا بقول الإنجيل: وأسأل الله أن أكون كصاحب الوزنات الخمس.
عاش البطرك أنطون مريضًا طول عمره، ومع ذلك جاز التسعين.
يقولون: إنَّ المعدة بيت الداء، ومرضه كان في معدته، ومع ذلك ظلَّ قبل مرضه لا يجاريه شابٌّ رياضي: إذا مشى يفر فرًّا، ويصعد الدرج ثلاثًا ثلاثًا.
كان إذا فرغ من عمله الإداري يحمل المنجل والمجز، ويعْصُبُ رأسه بفوطة كفلاح لبناني، ويمضي في تشحيل حرش بكركي حتَّى إذا عاد وقعد يسنُّ الفأس والمنجل كأنَّه أجير لا بطرك.
رآه رجلٌ على هذه الحال والزي فسأله — وهو يحسبه الراهب الذي يسمِّيه الإكليروس «ريس الحقلة»: يا «خَي»، البطرك في الكرسي؟
فضحك البطرك ضحكته البريئة: أنا البطرك.
فبُهت الرجل ثمَّ هوى على يده يقبِّلها، فقال له: ضروري أن يظلَّ البطرك على الكرسي حتَّى يكون بطركًا، ماذا تريد؟
فقال الرجل: أنا من الشيعة الفلانية، احترق بيتي، وما معي مال حتَّى أسقفه.
فقال البطرك: لا تطوِّلها ولا تقصِّرها؛ هات لي شهادة من خوري الرعية بواقع حالك، وتعال خذ أسقف بيتك.
فأجاب الرجل: الشهادة معي، قالوا لي: إذا اعتقد البطرك أنطون أنَّك محتاج يمدُّك بما يقدر عليه.
فضحك البطرك أنطون وقال: ما أقدر عليه! أنا أقدر على الكثير، ولكن كل يوم يجيئني عشرة مثلك، كم يكلِّف سقف بيتك؟
فوجم الرجل، فقال البطرك: قل الصحيح، وإذا كذبت راحت عليك.
فقال الرجل: ثلاثمائة ليرة.
فقال البطرك: «بس!» اسبقني إلى الكرسي.
وهناك دفع له المبلغ.
كان — رحمه الله — لا يضيِّع فرصة يكسب فيها المال الحلال، ولكنَّه كان يعطي كل يوم.
يُحتفل بيوبيل والحرب قائمة؟ فإذا أرادوا أن يُكرِّموني فليصلُّوا من أجلي لأقدر على عمل الخير والإحسان.
كان عالمًا حرَّ الضمير والفكر، صارمًا جدًّا في أحكامه.
ولمَّا كان كاهنًا عُهِد إليه بامتحان المرشَّحين للكهنوت، فجاءه وجيهٌ بابنه ليمتحنه؛ فكانت نتيجة الامتحان: رُح ارْع المعزى، أنت لا تصلح لرعاية البشر.
وكان من طبعه الإصرار على عمل ما يعتقده أنَّه حق، ولكنَّه كان يرجع حالًا عن غلطه عندما تتضح له الحقيقة.
كان — رحمه الله — وطنيًّا مجاهدًا قويَّ الذاكرة، أنعم الله عليه بما لم يُنعم به على سلفه إلياس.
فإلياس لم يكن يعرف إلا من يحتكُّون به كثيرًا، ويترك تصريف الشئون للأساقفة، أمَّا أنطون فكان لا ينسى من رآه مرة، ويسميه باسمه؛ ولهذا كان — قبل أن أقعده المرض — يُصرِّف الشئون، ويدير الأمور غير معتمِدٍ على أحد، حتَّى أصبحت مطارنة الكرسي بلا عمل تقريبًا.
اجتمع الإيمان والعقل والعلم في شخصية البطرك أنطون، فكنتَ ترى في غرفته كتب العلم إلى جانب الكتب الدينية، فكتاب اللاهوت إلى جانب كتاب «لاروس ماديكال».
وإيمانه القوي لم يحُل دون تحكيم عقله في القضايا الدينية، فعندما كان أسقفًا احتجَّ على عبارة في كتاب رتبة العماد: ينفخ الكاهن في وجه الطفل ويقول: «اخرج منها أيُّها الروح النجس.» فكبُرت هذه الكلمة عنده وقال: «من أين جاء الروح النجس إلى هذا الملاك؟»
فاستغرب الناس أن يحتجَّ أسقف على ما أقرَّته الكنيسة، ولكن أنطون الصريح لم يتنازل عن رأيه.
وفي عهد بطركيته رأى أنَّ أخبار كتاب الشهر المريمي التي تُقرأ في الكنائس المارونية أشبه بالأساطير، فألَّف كتابًا أخذ أخباره من عجائب سيدة لورد الثابتة علميًّا وتاريخيًّا.
كان قصده أن يريح الآذان من أخبار أورياما الغريبة العجيبة التي صنَّفها الأب موزارللي اليسوعي.
أمَّا الصراع بينه وبين رومة فابتدأ منذ صار بطريركًا.
كانوا يطلعون عليه كل يوم بجديد، وهو يقول: لا، ويمضي بطريقه.
ودعته رومة لحضور حفل ذكرى مرور مائتي سنة على المجمع اللبناني، فأجاب: ادفنوه بغيابي؛ لا أريد أن أحضرَ احتفالَ هَضْمِ حقوق طائفتي.
صمد إلياس بوجه رومة فحالَ دون مسِّ المجمع اللبناني؛ لأنَّ مطارينه مصنوعات وطنية، والبطرك أنطون صمد، ولكنَّه لم يَحُلْ؛ لأنَّ أكثر مطارينه شغل البلاد …
ومع ذلك لم يعترف البطرك أنطون باللجنة الرسولية ولم يذعن لها، بل ظل يقضي ويمضي حتَّى أقعده المرض.
أمَّا كيف بدأت رومة ترسم مطارنة موارنة، وتنقلهم من أبرشية إلى أبرشية؛ فكان هكذا:
المطران بولس عوَّاد الذي صرخ بجيانيني، القاصد الرسولي، حين جاء بكركي يوم انتخاب البطرك أنطون: «ما لك شغل معنا.» ولم تُفتح له بوَّابة بكركي، فعاد على أعقابه، هو الذي شقَّ الطريق للفاتيكان حين رفع استقالته من أبرشية قبرص إلى قداسة البابا، بدلًا من أن يرفعها إلى نسيبه البطرك أنطون، فصار من حق روميَّة أن تسيم هي أسقفًا محله، فكان المطران فرنسيس أيوب. واليد متى امتدَّت يصعب ردُّها، ومع ذلك مات البطرك أنطون مؤمنًا بحق طائفته، مات ولم يلِن.
فضَّل أن يموت والبابوية غير راضيةٍ على أن تقول الأجيال الآتية: البطرك أنطون هدم استقلال طائفته.
ومن يقرأ وصيته يرَ في البند الأول إعلان إيمانه وخضوعه لشرائع الكنيسة ولرئيسها البابا المعصوم.
وفي البند الثاني — وهو بيت القصيد — يغفر لكل من أساء إليه عملًا في هذه الحياة.
لا شك في أنَّه يعني — رحمه الله — مَن انتزعوا سلطانه البطريركي — والله أعلم — ويوصي أن يُدفن في مقبرة البطاركة بالديمان، وأن تؤخذ النفقة من ماله الخاص.
هذا أول بطريرك ذي مال.
أغنى البطركية المارونية في حياته، وموَّلها بعد مماته لتصنع خيرًا.
كان — رحمه الله — عدوَّ التقاليد البالية، ديمقراطيًّا إلى أبعد الحدود، لا يبالي بما رسمه له السلف، فكان يروح ويجيء غير مبالٍ بالتقاليد البطريركية، لا يعنيه إلا أن يكون ربُّه راضيًا عنه، ولو كان أنطون يعتقد أنَّه يرتكب إثمًا بعصيانه؛ دفاعًا عن استقلال طائفته؛ لكان خضع وانتهى كلُّ شيء.
تُرى من يعدُّ المطران طوبيا عون، سلف المطران يوسف الدبس، عاصيًا؛ لأنَّه لم يرفع تمثال القديس يوسف في الكنيسة، وظلَّ في أحد الأقبية حتَّى أيقظه المطران الدبس؟
وهل نعدُّ جدِّي عاصيًا لأنَّه احتجَّ على عيد قلب يسوع وقال: «اليوم نعيِّد لقلبه، وبعد حين نعيِّد ليده ورأسه؟» ثمَّ مات ولم يعيِّد إلا ليسوع كله.
لعلَّ روميَّة تريد أن تحقِّق قول الإنجيل، فنكون رعية لراعٍ واحد، ولكن الرعية لا تعرف غير صوت راعيها، نرعى أنفسنا في حقل قانون الإيمان.
الموارنة حجر من حجار الكنيسة البطرسية، وإذا كانوا يريدون أن ينحتوا هذا الحجر نحتًا لاتينيًّا، فقد فات الأوان، والموارنة أبناء الجيل العشرين لا يرضون أن يكونوا أقل استقلالًا من أبناء القرون الأولى.
واعجباه! يقول المسلمون: «كلكم راع وكلكم مسئول.» والدول الكبرى أعطت الشعوب الصغيرة حق تقرير مصيرها، فما بال روميَّة تحاول أن تنتزع استقلالَ الموارنة؟
لقد صارع الآباء البطاركة القدماء في كلِّ حين حتَّى يصونوا دستورهم، ولا تنعدم شخصيتهم الشرقية في بحر الكنيسة اللاتينية.
إنَّهم يأبون أن تنصل صبغتهم الشرقية العتيقة، فالماروني الأصيل ينظر إلى الخوريِّ الماروني المتبرنط وكأنَّه دخل في التجرية، ولكنَّ الذين يربُّون ناشئتنا الإكليريكية، يحاولون أن يجعلوا منهم إكليروسًا أوروبيًّا، ولا يبعد أن تأتي ساعة يستحيل فيها قاووق الخوري الماروني إلى «كاسكات» مثلثة القرون …
فيا أيُّها البطرك العظيم، لقد أبيتَ أن تحضرَ دفنَ المجمعِ اللبناني، فعسى ألَّا يكون أُجِّل دفنه إلى ما بعد دفنك.
نم مستريحًا، فالغاب ما خلا من أُسده، والمردة الموارنة صلاب العود، وقناتهم لا تلين، وما أحلى القول في هذا المقام:
وعسى ألَّا يرضى أي مطران كان أن يصعد إلى السدة على جثة المجمع اللبناني …
قيامة الميت: «رومية والمجمع اللبناني»
لم أكن أعلم عندما تحدَّثت عن المعضلة المارونية أنَّ المجمع اللبناني مات وتخَّت عظامه، ولو عرفت، كنت — على الأقل — قمت بواجب تعزية الطائفة التي أنا منها، وأين أهرب واسمي مارون؟!
أما موتة المجمع اللبناني فحكاية غريبة عجيبة، تدُلُّ على ما أعجز عن نعته، وأعيذ المجمع المقدَّس للكنيسة الشرقية وأمين سر نيافة الكردينال تيسران ألا تكون لهما الجرأة الكافية لإعلان موت مجمعنا اللبناني في حينه.
هذا ميت عزيز على أهله، ولهم الحق في أن يبكوه، والبكاء على رأس الميت حلو — كما يقولون — فكيف أضاعوا هذه الفرصة علينا؟
ليس فقيدنا كبعض المهاجرين الذين يموتون في ديار الغربة، ويُكتم موتهم عن ذويهم برهة، إنَّه أكبر من ذلك، ونحن لا يروِّعنا الموتُ بقدر ما يهمنا القيام بالواجب.
مات المجمع اللبناني في العاشر من أيار سنة ١٩٥٢م، وكُتِمت وفاته ثلاث سنوات وعشرة أيام، لم تُعلَن إلا بعد أربع ساعات مرَّت على وفاة الجبَّار المتمرد بالحق البطرك أنطون.
أمَّا الدفن فكان في الثامن والعشرين من أيار، حين عيَّنَ الكرسي الرسولي بطريركًا للطائفة المارونية، وهكذا أتبعوا الحبل بالدلو.
أعاضنا الله بطول بقاء الموارنة.
استشهدوا بالمئات وصبغوا أرض لبنان بدمائهم من أجل العقيدة البطرسية. حافظوا على لونهم الجبلي المحلي خمسة عشر قرنًا أو أكثر. وها هو ذاك الصباغ الأرجواني ينصل اليوم بجرَّة قلم؛ لأنَّ المجمع الشرقي في روميَّة هكذا شاء.
نرجو أن يبلغ مسامع قداسة الحبر الأعظم ما نقول، وأن يُترجَم له ما نكتب:
فإذا سلَّم غيرنا من الطوائف بأن يندمج اندماجًا كليًّا بالإكليروس اللاتيني، فنحن يصعب علينا ذلك، أولئك لم يتركوا مثلنا مئات الشهداء في ساحة الدفاع عن إيمان بطرس وكنيسته الرومانية.
فيا أيُّها الموارنة، امحوا بعد اليوم الكلمة المكتوبة على شعار بطركيتكم، امحوا كلمة: «مجد لبنان أُعطي له.» واكتبوا بدلًا منها: «خجل لبنان وذوى!» أليس كلتا الآيتين من أشعيا؟
وعلى ذكر شعار الطائفة المارونية: «مجد لبنان أعطي له.» أذكُر الآن — وما أكثر ما أذكر! — ما دار بيني وبين البطرك أنطون عندما زُرْتُه في مكتبه بالجانح الذي بناه في الديمان من مال أخيه المتبرع.
رأيته قد رسم الشعار البطريركي على الحائط، فقرأت بصوتٍ عالٍ العبارة السريانية المكتوبة فيه: «أيوقورو دلبنان نتياهاب ليه.»
فصاح بي وكأني قد كفرتُ إذ كسرتُ حركة وقال: «ناتيهب ليه. مارون، نسيت السرياني؟!»
فقلت له: لا يا سيدنا، أنا فتحت حرفًا واحدًا، ولكن أخاف أن يكسر ساداتنا الحروف كلها ويصلُّوا باللاتيني.
فرسم على وجهه إشارة الصليب وقال: «أوف. دائمًا نكرزة يا مارون! إذا مات البطرك أنطون وانقطعَ الموارنة يصير ذلك، وما دمنا نقول: لا نرضى فلا يصير شيء.»
فقلت له: من أيام قصاد هندية إلى زمن لوديفيكوس وجيانيني والحركة قائمة قاعدة بيننا وبين رومية، والنهاية متى تكون؟
فأجابني بآية الإنجيل المشهورة: «من يصبر إلى المنتهى يخلص.» ثمَّ استطرد قائلًا: الماروني يطيع ولكن بالحق.
ولسنا في حاجة، أيُّها الإخوان الأجلاء، لنؤكِّد لكم أنْ ليس في نيتنا أن نُدخلَ — بهذه الطريقة الاستثنائية في تولية الكرسي البطريركي — أيَّ تعديلٍ على حقكم في انتخاب البطريرك، وهو حقٌّ أقرَّه الكرسي الرسولي.
ليست هذه البراءة البابوية بضاعة دبلوماسية ليخامرني الشك في بعض عباراتها، وأقول: المجمع اللبناني لا يكرِّس حق انتخاب البطريرك فقط، بل هناك أشياء كثيرة من الحقوق التي يجب أن يظلَّ البطرك الماروني متمتِّعًا بها كأسلافه العظام. وهذا ما تكله الطائفة إلى عميدها، وهو الأمين الأكبر عليه.
فالبطرك بولس المعوشي حَبرٌ أحبُّه وأقدِّره؛ لأنَّه شعبيٌّ غير أرستقراطي، وهو الذي تمنيت له البطركية. أعترفُ بها علنًا على مسامع لداتي وأصحابي من الأساقفة.
فالرجل عالمٌ فاضل، وأديبٌ كفء؛ لأنَّه يمثِّلُنا، وإذا شاءت الظروف الاستثنائية وكان بطركًا معيَّنًا لا منتخبًا، فأمامه المجال الواسع ليعيد إلى طائفته حقوقها المنتزعة، إن لم تكن أعادَتْها كلَّها البراءةُ الرسولية الجديدة.
إنَّ هذا الاستعمار لا يُنقص من إيمان الموارنة مقدار ذرَّة، ولكنَّه يشعرهم بذلَّة المستعمَر «بفتح الميم»، ويحملهم على مخاطبة روميَّة، وخصوصًا نيافة الكردينال تيسران السامي الاحترام، بقول شاعرنا العربي:
فيا صاحب الغبطة، البطرك بولس المعوشي: ثقْ أنْ لا غبطة لكم ولطائفتكم إلا بإعادة الحقوق إلى أصحابها كاملةً غير منقوصة.
إنَّ البابَ مفتوحٌ أمامك، فقداسته قال منذ ثلاثة أعوام: إنَّه قد أوقف — لهذه المرة — مراسيم المجمع اللبناني، ثمَّ في البراءة الرسولية التي نحن في صددها. قد قال ما مرَّ ذكره؛ فهلمَّ إذن إلى العمل المثمر.
الطاعة العمياء، أيُّها السيد المغبوط، تكون في العقائد لا في الحقوق التي أقرَّ لنا بها الأحبار؛ فلا تحملنا على الصراخ مع زكريا: افتح أبوابك يا لبنان فتأكل النار أرزك، ولول يا سرو لأنَّ الأرز قد سقط، ولا مع النبي أرميا: أيَّتها الساكنة في لبنان، المعششة في الأرز، كم يشفق عليك عند المخاض!
هكذا قال أرميا، فما عساكم تقولون أنتم؟
أمَّا الخوريُّ منصور عواد، المحامي الكنسي، فقد دافع عن طائفته غير مأجور، وإذا لم يربح الدعوى فما خسر الأجر، وكأني بلسان حاله يقول: «حاكمك ربك.» أو قول المتنبي:
إنَّ كاهنًا له هذه الجرأة والعلم ليستحق الاحترام؛ لقد فقأ الدُّمل وكفى الناس الانتظار، فلا تطيلوا أمدَ قصاصه؛ لئلا يقطعَ رباطه ويلقي نيره، كما قال داود.
إنَّه لم يكن إلا معبِّرًا عن فكرة الطائفة.
البابا وبطريركية الموارنة الأنطاكية (شتان ما بين التعيينين: مطرانان يرسمان مطرانين – انتخاب بطركين)
أيُّها الملحد!
لعينيك يا هذا، فإذا كنا لم نمحص حياءً ومهابة، فها نحن نُلقي الشبكة ونضع النقاط على الحروف. لستُ أخاطبك بيا محترم؛ لأنَّك غير محترم — على ما يظهر — ولو كُنتَ كاهنًا حقًّا كما وقَّعت لي؛ لما قلت في ختام رسالتك الظربانية: «لستُ أسلِّم عليك.» أمَا أمرك سيدُك أن تسلِّم على الجميع، وسلامك يرجع إليك إذا ألقيته على مَن ليس أهلَ السلام؟
يقطع السم يا خوري ي. ن.
عجيب! كيف يدفع خوري أجرة رسول إلى عالية، فور صدور «الصياد»؛ ليُحمِّله رسالة لا يجرؤ أن يُذنبها باسمه الصريح!
لا أعجب أن تكون خوريًّا وتلميذ «البروباغندا»؛ فكلُّ وجعنا من القويسة، كلُّ مصيبة الموارنة أنَّ كهنتهم لا يَتَرَبونَ في مدارسهم.
وبعدُ، فماذا تعلَّمت في روميَّة؟
طبعًا الفلسفة واللاهوت الأدبي والنظري والحق القانوني.
قد تعلَّمت كلَّ شيء إلا تاريخ طائفتك، وأنَّك مارونيٌّ شرقي.
فيا ضياع الخبز الذي أكلته في المدينة الأزلية. إنَّه مال وقفٍ طبعًا، ومال الوقف لا يمري.
اسمع يا بُنيَّ، وإن كنت أنت الأب وأنا الابن، بالعُرف الماروني، أمَا قال المثل: «أكبر منك بيوم أخبر منك بسنة؟»
تقول لي: «أمَا قرأت البراءة؟ فبناديكتوس الرابع عشر رسم البطرك سمعان.» وأقول لك الآن: من قولك «رسم» عرفت أنَّك خوري وتلميذ روميَّة!
الأسقف، يا ملفان، لا يُرسمُ مرتين، والبطرك أسقف مرسوم، وما رتبته هذه في السلك الديني إلا وظيفة. راجع براءة بناديكتوس التي كتبها بمناسبة اختياره المطران سمعان عواد.
إنَّ براءتَي بناديكتوس وبيوس متشابهتان نصًّا وموفدًا، ولكنَّهما ما تشابهتا في الأساس، وأيُّ حادثٍ خطير دعا إلى مداخلة بيوس ليبرِّر به عمله؟
فلو تشابهت الأحداث التي دعت البابا بناديكتوس إلى اختيار المطران سمعان عواد بطريركًا لقلنا: إنَّ التاريخ يعيد نفسه، ولكن تعيين البطرك سمعان له مبرر — وهو قانوني — فليس لقداسة البابا بيوس الثاني عشر أن يبرِّر به موقفه اليوم منَّا؛ فالبطرك سمعان عواد انتخبه المطارين، فأبَى هو قبول انتخابه زهدًا وتعفُّفًا، فانتخبوا بقرعةٍ ثانيةٍ المطران إلياس محاسب الغسطاوي.
وكان المطران طوبيا الخازن وقت الانتخاب غائبًا، ولمَّا عاد رفض انتخاب المطران إلياس محاسب ابن مقاطعته، واتفق مع المطران جبرائيل من طائفة السريان، ورسما مطرانين من الرهبان؛ هما: القِسُّ عبد الله حبقوق، والقِسُّ جرمانوس صقر الحلبي. وهذان المطرانان انتخبا المطران طوبيا الخازن الذي سامهما ليربح بهما الأكثرية.
ولأول مرَّة في تاريخ الموارنة يُنتخبُ بطركان في آنٍ واحد؛ أعني: إلياس محاسب وطوبيا الخازن، ثمَّ عرض أمر انتخابهما على الكرسي الرسولي، فنظر فيه وألغَى الانتخابين، وأقام البابا بناديكتوس الرابع عشر بأمره المطران سمعان عواد بطريركًا؛ لأنَّه انتُخِب أولًا ورفض، ولمَّا أمره البابا أطاع، وطاعة الموارنة مشهورة.
وأرسل بناديكتوس قاصدًا رسوليًّا من قِبَله هو البادري يعقوب دي لوكا الفرنسيسكاني، المحافظ على جبل صهيون في القدس، ومثله فعل أمس البابا بيوس الثاني عشر، فأرسل سفيره في القدس جريًا على خطوات سلفه بناديكتوس.
والبابا بناديكتوس الرابع عشر قال في براءته: «أمَّا في هذه البراءة فقد أوضحنا مصرحًا أنَّ انتخابنا هذا البطريرك لم يصدر منَّا لتبطيل حقوق الأساقفة الموارنة على انتخاب بطاركتهم فيما سيأتي من الأزمنة المستقبلة.»
لقد اعتمدنا على اقتفاء آثار سلفائنا في مثل هذا الأمر، فإنَّهم حدَّدوا أولًا أنَّه لا يتلف حق أحد، ولا يعدمون حقَّ الانتخاب القانوني الحاصلين عليه.
أمَّا البابا بيوس المالك سعيدًا فيقول: «إنَّ حقَّ تولية البطريركية في الحالة الحاضرة نُقل استنادًا إلى التدبير الاستثنائي بكليته إلى الكرسي الرسولي.»
أمَّا هذا التدبير الاستثنائي فقد أجراه البابا الحالي بكلمة منه لتيسران، وحجته أن كنيستنا «كانت تمتحن بصعوبات خاصة لأسباب متعددة.» ولذلك هدموا بيتها على رأسها وقالوا لها: نامي.
وبناءً على ما أقول: إنَّ تدخُّل قداسته وانتخابه لنا بطركًا لا يشبه قط ظروف البطرك سمعان، وإذا قالوا — كما قرأتُ في صحفٍ شتَّى: «إنَّ للحبر الأعظم أن يستردَّ ما وهبه أسلافه.» فأنا أجيب هؤلاء القائلين: «لا تنسوا كلمة: القديم على قدمه، والحق المكتسب لا يؤخذ من صاحبه.» فالبابا بناديكتوس هو الذي أثبت المجمع اللبناني، ثمَّ أمر بأن حقَّنا لا يؤخذ منَّا كما تقدَّم.
وأخيرًا، فلنحسبه دَيْنًا مرَّ عليه الزمن ومات، فالرسائل المتبادلة تُحيِيه، ثمَّ لا ننسَ أن البطركية زعامة، وما كان الموارنة إلا قبيلة يربطها برومية الدينُ، وزعيمها بطريركها. وهذا هو معنى بطريق.
ألا يعني البابا في قوله: «كنيستنا المهدَّدة بالأخطار.» أنَّ بطركنا أنطون لم يتنازل عن حقوقه، وأنَّ المطارنة حزبيون.
ومتى كانوا في حياتهم ودهرهم غير حزبيين؟
ومع ذلك ما خرجوا يومًا إلا منتخبين، وإذا شعر وجوه الطائفة أنَّ الخلاف يهدِّد الانتخاب طوقوهم حيث هم مجتمعون، وأجبروهم على الاتفاق كيلا تلتجئ روميَّة إلى حقِّها في التعيين.
كان في إمكان صاحب القَدَاسة أن يدعَهم وشأنَهم إلى الوقت الذي يحدِّده المجمع اللبناني، وإذا لم يتفقوا آلَ الحقُّ إلى قداسته.
كان بإمكان قداسته أن ينتظرَ مدة اثني عشر يومًا تسفر نهايتها إمَّا عن بطرك منتخب، وإمَّا عن بطرك مختار طبقًا لنصوص المجمع اللبناني.
وأخيرًا نعود إلى بطرك عين كفاع، فبصفتي المزيَّفة هذه إنِّي أباركك كما بارك البطرك إلياس صحيفة كانت تهاجمه بلا هوادة. مرَّ من أمام مركز إدارتها فرفع يده وبارك، فسأله نائبه البطريركي المرافق له في العربة: من باركت يا سيدنا؟
فأجابه: الجريدة التي مررنا من قُدَّام بابها؛ عملًا بقول السيد: باركوا لاعنيكم.
وتقول في رسالتك التي لم تُنشر كلها: أليس لقداسة البابا أن يأخذ ما أعطى؟
وأنا أجيبك: لا، للبابا الحقُّ في أن يحطَّ البطرك الماروني عن رتبته، ويعيده أسقفًا إذا أذنب، وقد جرى ذلك مرة في تاريخنا، ولكن ليس له أن يحرمَ الموارنة حقَّ انتخاب رئيسهم، فملكات الجمال تنتخب اليوم …
أمَّا بطريركنا الجديد فقد أعربت عن رأيي فيه، ولا حاجة إلى التكرار، وليتني أعرفك لأُبدي رأيي فيك، لقد تم الآن كلُّ شيء، وما حملت السلم بالعرض إلا لأنوبَ عن الطائفة الساكتة؛ لئلا يقال غدًا: لم يرتفع صوتٌ في لبنان ممن يدَّعون أنَّهم أحفاد المردة.
المعضلة المارونية الرومانية: «حديث الرهبانية»
المعضلة المارونية الرومانية يظهر لها كل يومٍ ذنبٌ جديد، ولعلَّ الفاتيكان — وهو الباب العالي في هذا الزمان — يعمل بمَثَلِنا القائل: «مصَّ القصب عقدة وعقدة.» فما إن فرغ من دفن المجمع اللبناني بواسطة اللجنة الرسولية حتَّى عاد اليوم إلى الرهبانية — وهي علَّةُ عِلَلِ استقلال الطائفة المارونية — فوضعوا في رجليها القيد. وهذا أقل ما تستحق جزاء عقوقها لأبي الطائفة وحبرها الأعظم.
في ١٧ / ١ / ١٩٣٨م كتبت مقالًا عنوانه: «هؤلاء رهبانك يا مار مارون»، حين أذاع مراسل البيرق الباريسي نبأ موت المجمع اللبناني؛ دستور الطائفة المارونية.
كان عنوان مقال البيرق: «انتداب فوق انتداب». أمَّا اليوم فقد مضينا من الانتداب إلى الاحتلال فزوال الاستقلال، والعوض بالله.
لم يبقَ لهذه الملة المناضلة أقل سِمة تُعرف بها، ولا علامة فارقة في بطاقة هويتها، فقد امَّحت شرقيَّتها، وطُمست معالمُ استقلالها.
تبرنط إكليروسها، وستأتي ساعة يلبسون فيها الشورت، ولا يبقى لهم علامة تميزهم غير «سكسوكة». لعلَّها علامة التذكير التي أشار بها ابنُ الرومي على البحتري.
ليس الذنْب ذنْب هذا النفر، ولكنَّه ذنْب الطائفة التي تركتهم يرعون ويبطرون، فلو رعوا وسكتوا لقلنا لهم: «كلوا صحتين وعوافي.» ولكنَّهم أناخوا على أوقافنا باسم عبادة الله وخلاص نفوسهم، ونذر العفة والطاعة والفقر. أمَّا العفة فليس لي ما أقول فيها، أمَّا الفقر فهو أبعد ما يكون عنهم، وكيف يكون فقر والدير الذي يملك الضياع الخصبة التي تسقيها الينابيع الغريزة ليس فيه إلا بضعة رهبان؟
وأمَّا الطاعة فقد برهنوا في كل عصر من عهد لوديفيكوس إلى زمان جيانيني إلى هذا الزمان على أنهم كانوا سوسًا ينخر جذع الطائفة المارونية: يكيدون لبطريركهم، ويتآمرون على أحبار الطائفة ورؤسائهم، وقد ظلُّوا ينخرون خشبة صليب الطائفة حتَّى سقطت أعمدة البيت عليهم وعلى أعدائهم يا رب.
أجل، لقد وصل الموس إلى لحاهم، فبينما كانوا يمشطونها للانتخاب إذا بروميَّة تقول لهم: «صطوب!» وعلى الباغي تدور الدوائر.
لقد كانوا لروميَّة مثل «سكيكة» جحا.
قيل: إنَّ جحا باع بيته، ولكنَّه أبقى له فيه وتدًا لم يتنازل عن ملكيته، فكان كلَّ يوم يدخل على المالك الجديد ليعلق في ذلك الوتد إمَّا جِرابًا، وإما حذاءً، وإما حبلًا، ورومية أبقى لها المجمع اللبناني حقَّ الإشراف على الرهبانيات كما هو العرف في جميع أقطار المسكونة، فاستعملته كما استعمل جحا وتده، وكان البطاركة ينازعونها في هذا الحق، فلا يتصرَّفون في عقارهم تصرُّفًا هادئًا مستمرًّا حسب تعبير المكتب العقاري. فمن البطرك مسعد إلى يوحنا الحاج، ومن البطرك الحويك الجسور إلى البطرك عريضة القديس العنيد، وهذه الحرب لم تضع أوزارها، فإذا كان البطريرك صلبًا وله من أساقفته أنصار كُثر تصرَّف تصرُّف المالك لعقاره، وإذا كان أعوانه دروعًا لروميَّة عضَّ على جُرحِه وصبر.
طلب البابا بيوس العاشر، والذي خلفه من البطرك إلياس الاندغام، بل الانعدام الطائفي في بحر الكرسي الرسولي، فأجابه بلباقة: دعوا هذه البحيرة وشأنها، فهي صغيرة هادئة تذكركم ببحيرة طبريا … وهَبْ أنِّي رضيت أنا، فالطائفة — يا صاحب القداسة — قد تشذُّ، ولا أريد أن أسوِّد تاريخي بهذه الوصمة.
أمَّا ما أصاب هذا البطرك في آخر عهده؛ فهذه النادرة تصوِّر لك واقع أمره:
خرج من الجانح البطريركي، بعد القيلولة، فرأى مطارين الكرسي وكهنته ملتفين حول رجل، فأومأ إلى المطران عقل، ابنه الوفي، متسائلًا؛ فأجابه: صائغ بيَّاع صلبان، إذا كان يلزمك شيء.
فارتفع شارِبا غبطته وبانت سنُّه، وقال مشيرًا إلى الأساقفة: لا، صلباني «كتار» …
أما البطرك أنطون فعندما انبرى مناضلًا عن هذا الحق، حاولوا في روميَّة أن يُكفِّروه ويحطُّوه عن وظيفته البطريركية، ويخلصوا من عناده وإصراره، ولكن نيافة الكردينال تبوني انتصر له، وقال للحبر الأعظم: هذا بطرك قديس، وإذا أصرَّ كرادلة المجمع على إقرار ذلك كان ظلمًا وعدوانًا.
فقال له البابا الحالي القديس: أنت منهم، فعارِض ليعود الحكم لي.
وُلدتُّ مارونيًّا، وعشت مارونيًّا، وأموت مارونيًّا، إيمان بطرس إيماني.
قد يقول القارئ البعيد عن هذا الموضوع: ماذا يعنينا من هذه القضية؟
وأنا أجيبه: الأخ ملزوم بأخيه، وهذا عدوانٌ على كاثوليك الشرق.
وقد يقول أيضًا: قد كتبت أكثر من مرة في هذه القضية، والآن ماذا جدَّ؟
قلت: طابخ السمِّ آكله، فبعد أن أَعطى الكرسيُّ الرسوليُّ الرهبانَ الموارنة حقَّ انتخاب رئيسهم العام ومدبرهم، وبينا كانوا يمشطون لحاهم للرئاسة؛ أخذ الكرسي الرسولي هذا الحق بدون سابق علمٍ أو إنذار.
قال لهم القاصد: انتخبوا وهاتوا الأوراق مختومة لنرسلها إلى روميَّة حيث تفرز وتأتيكم النتيجة …
تمامًا كما فعلوا في انتخاب المطارنة؛ انتخبوا أربعة فعادوا ثلاثة، منهم واحد رُفِض، واثنان لم يُنتخبا، بل عيَّنتهما روميَّة كما عيَّنت البطريرك من قبل، وواحد فقط من الذين اختارهم المجمع.
ورُبَّ معترض قال: إذا فرزت الأوراق في روميَّة، ألا يكون هذا انتخابًا؟
قلت: بلى، ولكن هذا امتهانٌ لكرامتنا الشرقية، فإمَّا أنَّ هؤلاء رهبان صالحون كما يُفترض في الراهب أن يكون، وإما أنَّهم لا يُؤتَمنون فيجب أن ينصرفوا إلى بيوتهم.
هذا أولًا، أما ثانيًا فالملدوغ يخاف من جرَّة الحبل؛ ففي سنة ١٨٧٥م جمعوا الرهبان للانتخاب، وكان المجمع في حريصا — مركز القصادة صيفًا — ولمَّا أصابت القرعة الأب نعمة الله القدوم المعروف بالكفري، وقف القاصد لوديفيكوس وقال: الأب مرتينوس الغطساوي رئيسكم، وإنَّنا نسأل الله ألا تتكرَّر المأساة في المدينة الأزلية.
وإن جرؤ كاهن أو مطران أو بطرك على دحض، أُثبت له ذلك بالوثائق الزجلية التاريخية التي قالها الخوري يواكيم القدوم مُفَصِّلًا فيها الوقائع التاريخية، وسوف تُقرأ النصوصُ كاملةً في كتابنا: «الاحتلال الروماني».
قد يقول بعضهم: تريد روميَّة أن تكون الرعية كلها لراعٍ واحد.
وأنا أقول لهذا البعض: ليست هذه روح الآية، فلكل قطيعٍ لون، كما أنَّ الرعاة يكونون متفقين إيمانًا، مختلفين وجوهًا.
أيكون للمارونيِّ في ذلك الزمان حقُّ انتخاب خوريِّ ضيعته، ويكون للأبرشية حق انتخاب مطرانها، ويكون للمطارين حق انتخاب بطركهم، ويكون للرهبانية حق انتخاب رؤسائها، واليوم ينتزع منَّا هذا الحق مَن يُمثِّلون الذي قال لتلاميذه: تعرفون الحق والحق يحرِّركم؟
ما أصدق المثل الذي ضربه الإمام علي! وما أطبقه على هذه الحالة! كان ثوران أبيض وأسود يرعيان في حِمى أسد، فجاع الغضنفر وشاور سرًّا الثور الأسود في أكل الثور الأبيض؛ لأنَّ لونه فضَّاح، فوافق الثور الأسود على ذلك، وذهب الثور الأبيض إلى ملاقاة ربه، وبعد حين جاع الأسدُ وهمَّ بالثور الأسود، فقال هذا للأسد: اسمح لي أن أُرسل كلمتين مِن على هذه الرابية وكُلْني بعد ذلك، فرضي الأسد بذلك، وصاح الثور الأسود: يا سامعين الصوت، إني أُكلت يوم أُكل الثورُ الأبيضُ.
وهذا ما صحَّ اليوم بالرؤساء الموارنة الذين تآمروا على استقلال صانه أربعة وستون بطركًا من يوحنَّا مارون إلى أنطون.
كنا نطالب رؤساءنا بما تغاضوا عن تنفيذه من بنود المجمع اللبناني، مثل المجلس الطائفي ومجمع الأبرشية، وكانوا يعلِّلوننا بالآمال محتجِّين بأنَّ هذا المجلس قد يسبِّب تفكُّكًا في الطائفة، كما قال لي البطرك إلياس، وكنا عزمنا على طبع المجمع التريدنيتي في جبيل، فاستدعاني البطرك ليلًا حين قرأ الإعلان في جريدة «الحكمة»، وقال لي: «قل لصاحبك سليم وهبة إنَّني أُحرِّم المجمع التريدنيتي وإن أقرَّته الكنيسة؛ فنحن لنا مجمع هو دستورنا، ولا نتعرَّف على غير المجمع اللبناني.»
هاتيك أيام وهذي قبالها. كان الله في عون الموارنة.
وبعدُ، فليس في يد أحدٍ — لا بطرك ولا مطران — أن يتنازل عن حقوقنا المُسجَّلة والمعمول بها عُرفًا منذ أربعة عشر قرنًا، فالشرع يقول: المعروف عُرفًا كالمشروع شرعًا.
ليس لأحدٍ أن يقول للموارنة: قد تنازلت عن هذا الحق فاخضعوا؛ لأنَّنا لا نتنازل ولا نخضع، هَبْ أنَّ جميع الموارنة رضوا بالأمر، فأنا لا أرضى، والحقُّ عادةً لا يكون نصيره أولًا إلا واحد.
فإذا كان هؤلاء الرؤساء الذين تختارهم روميَّة أرادوا أن يخرجوا من حظيرة تقاليد الطائفة؛ فلهم ذلك. أمَّا الأوقاف فهي مارونية لبنانية، لا إيطالية رومانية.
إنَّ جدودنا لم يقفوها لتكون سلاحًا في أيدي هؤلاء ليقتلوا بها طائفتهم وكرامتها.
عندما شاخ البطرك — مع أنَّه ظلَّ أصلب عودًا من الشباب، وأوفر عقلًا من الكهول — شاع أنَّه لا يقطع خيط قُطن بدون استشارة جيانيني، والحقيقة غير ذلك؛ لأنَّ القاصد بلَّغ مرةً المطران يوحنَّا مراد أمرًا رسوليًّا، فركض ذلك المطران إلى بكركي يخبر البطرك إلياس، فانتفض وقال لمطرانه: في رجعتك إلى كرسيك في عرامون دربك على حريصا، فحوِّل وقل لجيانيني: ليس من حقِّك أن توجِّه إليَّ أمرًا؛ فهذا يعني بطركي، فخاطبني بواسطته.
ومع ذلك، فكل هذه الجرأة لم تكن تُرضينا حتَّى رُوِّينا عن الشيخ خليل الخازن، ميرالاي الجند اللبناني في زمن الانتداب، أنَّه كان جالسًا في مقهى أبي عفيف، وكرجت من أمامه سيارة القاصد جيانيني، فسأله أحدهم: «منو» هذا المطران؟
فأجاب الشيخ وهو يشير إلى المستشار الفرنسي «بوافان» الذي كان يقضي ويمضي عن الشيخ خليل: هذا يا عمي «بوافان» البطرك.
إذا دلَّت هذه النُّكتة الخازنية على شيء، فهي تدل على أنَّ زعماء الموارنة يرفضون حتَّى الاستشارة، ولكن أين الزعماء اليوم؟
وإنَّي لأعجب كيف أذعنوا واستكانوا حتَّى لم نسمع صوتَ أحدٍ، فمنذ قرون هذا الصراع قائم على قدمٍ وساق، وما الذي حدث من تدخُّل إلا غيمة عابرة.
أمَّا الآن، فليعلم أبناء مارون أن دودَ الجبن منه وفيه. فلتنصب الطائفة المصالي للجرذان التي ترقص في أقبيتها، فتتقاتل الفيران على كشك الجيران كما يقول المثل.
لقد حان، بل حُقَّ لنا أن نشارك هؤلاء الرؤساء في كل شيء، ونُشرِف على ما يعملون، ونحاسبهم على إسرافهم وبطرهم حسابًا عسيرًا.
ولنقل كلمة أصرح، فهذا وقتها: فلنضع أيدينا على أوقافنا؛ لنسيِّرها إلى غاياتها.
وبعدُ، فمن الخير للحقيقة وللقارئ ألا يظلَّ فم مارون عبود مكمومًا.
أما الرهبان، فأسألهم أن يعتبروا بالمثل اللبناني الذي صحَّ فيهم: مثلما تعمل العنزة بالعفصة، العفصة تعمل في جلدها.