ذكريات جميزية كوبليانية
أخي الأستاذ فريحة.
أتذكُرُ ليلتنا في حلب؟ ففي تلك السهرة الطويلة العمر فهمت معنى قولنا: «عِشرة حلبية.»
كنت وحدي ضيفك. أمَّا شلَّتنا — وكانت مؤلَّفةً من عشرين خرزة عين — فكل واحدٍ منها كان ضيف كيسه …
في تلك الليلة كنت تتمايل في برد الشباب غصن بان، وكنت أنا جميزة — حسب تعبيركم الجديد.
جميزة كتلك التي صعد عليها زكا، رئيس العشَّارين؛ لأنَّه اشتهى أن يرى يسوع.
كان زكا قصير القامة، كما عبر لوقا في إنجيله، وكان يمشي مع الأرض، كما أُعبِّر أنا، فما وقعت عينه على يسوع لو لم يلتجئ إلى تلك الجميزة؛ لأنَّ الجماهير حالت دون ذلك.
فأنا في ذلك الزمان كنت أصلح رئيسًا بالتزكية لحزب الجمِّيز، وقد أعود جمِّيزة إذا شئت، ولكن ريجيم الدكتور حتَّى الصارم قد أذاب الشحم، وأخشى أن يقرضَ اللحم.
وفي رجعتي من حلب، طلبت في جبيل فرسًا، فقدموا لي بغلًا؛ لأنَّه أثبت من الخيل ظهرًا، وكانت المساومة على الأجرة؛ فاشتط المكاري فيها فقلت له: لا تظلمني يا إسماعيل، السعر معروف.
فتضاحك إسماعيل ورسم دائرةً واسعة بذراعيه، وقال: يا بارك الله! ادفع يا سيدي على الأقة، وهذا القبان حاضر.
فقلت له: نشكر الله على أنَّك جعلتني من مال القبان، لا من مال الغراز والكيس …
وأخيرًا اتفقنا ووصلنا إلى عين كفاع المحروسة.
وعادت بي الذكرى إلى حلب، فكَّرت بذاك الشاب اللبناني المتحفِّز للوثوب، وأيقنت أنَّ ساحة جريدة «التقدُّم» لا تَسَع هذا المصارعجي الذي عنده لكل ساقطة لاقطة، ثمَّ صرت أقرأ له في الصحف اللبنانية ما يبشِّر بأن يكون من عمالقة الصحافة؛ لأنَّه لهذا خُلِق.
ثمَّ كانت «الصيَّاد»، وأخيرًا كتاب «الجعبة» الذي استقبلته بترحاب يستحقُّه أسلوبُه الحي الجذَّاب، وذكَّرني حومانه حول المرأة وأسلوبه الشخصي الظريف بأحمد فارس الشدياق، وقد قلت في ذلك يوم كان «الصيَّاد» في بناية العسيلي: «وقد أعجبتني جدًّا غمزاته ولمزاته في سياحة إنكلترا، وذكَّرني بكشف المخبَّأ للشدياق، فأخونا سعيد وشيخنا الشدياق تشغل رأسهما المرأة دائمًا.»
وأخيرًا شاء «الموجِّه الأعظم» أن يتجاورا، فقامت «دار الصياد» في الحازمية تطل على قبر الشدياق، وصحَّ قولُ الشاعر:
فمِنْ شابٍّ هاجر إلى حلب الشهباء، فحلب أشطر الدهر بجهاده وطموحه وإيمانه برسالته إلى رجل مجاهد أمسى صاحب دار تَنطح السماء بقرنها؛ فلا عجب إذن إن رأيناه ينتصر لجاره، ويأبى أن يُمتهن قبرُه بمجاورته لواصا باشا، وابنة كوبليان أفندي، التي صح فيها قول النبي داود: «الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون!»
أنَّ الباشا واصا لم يكن من أهل اليسر، وكان مرتَّبه المورِدَ الوحيد له.
فقلت: وهل كانوا يرسلون إلينا متصرِّفًا من أصحاب الملايين؟ فأكثرهم كانوا كما قال الشيخ يوسف الخازن لبني عمه في مرسيليا — هذا غير الشيخ يوسف الخازن الكاتب والنائب — وخلاصة قصته أنَّه دخل دكَّان لحَّام في مرسيليا، وأطال القعود عنده يتحدَّث إليه ويتودَّد له، ونسي أنَّ رفاقه ينتظرون في الشارع؛ «فندهوه» وقال له واحد منهم: الوقفة في أسواق مرسيليا غير الوقفة في ساحة جونية يا شيخ يوسف.
فهرول نحوهم والضحكة ملء فمه وقال: الحق عليَّ، أنا تأخرت عنده من أجلك. أنت طالب وظيفة، ومَن يُدرينا أن هذا اللحَّام لا يصير عندنا قنصلًا، فأغنيكم عن وساطة هذا وهذاك من رجال الدنيا والدين؟
•••
«وفي الماضي لمن بقي اعتبار.» هكذا قال المتنبي؛ ولهذا أراني عندما أُلقي نظرةً على المسافات التي قطعتها من صحراء الأزل، أرى الماضين يمرُّون أمامي كقافلة يتبع بعضها بعضًا، وأشخاصها تكاد تكون مصبوبة في قالبٍ واحد.
كانوا في لبنان، وخصوصًا أبناء البيوت العتيقة الذين ذاقوا حلاوة الحُكْمِ، لا يتصارعون ولا يتنازعون إلا حول الوظيفة، تتحوَّل إليها أبصارهم كيفما دارت، كما تتحوَّل إبرة الحك نحو نجمة القطب، فلا عواصف ولا زوابع ولا تلبُّد الغيوم يضلِّلها …
وما زلنا حتى اليوم كما كنا سابقًا، تقف سكَّة الدولة عندما تصل إلى توزيع الوظائف، كلٌّ يريد تعديل الملاكات على هواه، فكل موظَّفٍ كبير يريد أن يُدخل محاسبيه في ملكوت الوظيفة.
فإذا عُدنا إلى الوراء، أخبرنا الثقات من جدودنا أنَّ أنصار المير يوسف تنادوا مرةً، وفتحوا صناديقهم وتضامنوا؛ ليشتروا الخلعة لأميرهم من الجزَّار … وكذلك كان يفعل «المناصب» أعوان المير بشير، حتى إذا قام قاموا هم معه، وتحكَّموا في رِقاب الشعب، واستحالوا دودًا علقًا يمتصُّ دمَه ميكروب قديم متأصل.
كانت تُقطع سُرَّة الإقطاعي على نية الحكم، ولو على ضيعة، كما اشتهى المتنبِّي أخيرًا … فلا يكاد يخرج ابن البيت من ذاك الوكر حتى تراود أمَّه الأحلامُ الوظيفية التي تتمناها له؛ لكي «يتمقطع» بالشعب. وهذا الفعل «تمقطع» اشتقَّه اللبناني من كلمة «الإقطاعي»، الذي لم يكن يهمه إلا اقتطاع ما يستطيع من أرزاقِ الشعبِ.
وزال الحكمُ الإقطاعيُّ من لبنان ولم يزَل معه الصراع حول الوظائف، وجاء المتصرِّفون الثمانية، ولم يرضَ عنهم إلا نفرٌ قليلٌ؛ لأن الوظائف محدودة، وميزانية جبل لبنان مثل بركة اليمونة، لا تزيد ولا تنقص … وكم من متصرِّف تألَّبوا عليه؛ لأنه فكَّر بزيادة ربع أو نصف قرش على مال الأعناق، أو مال الأرزاق، أو إحداث طابع بريد بقرش.
وهكذا ظلَّ اللبنانيون فريقين: فريقًا مع المتصرِّف، وهم الموظَّفون ومن يجيء على صوتهم، وفريقًا — وهو الأكثرية — يتألَّف من الطامحين إلى الوظيفة والمحرومين.
وكان لا ينتهي صراعٌ حتى يبدأ صراعٌ جديدٌ عند تسمية كلِّ متصرف؛ فتتجاوز الوسائط تُخوم لبنان، وتحومُ الطيورُ على أبوابِ القنصليات والمراجع الدينية، فتطير التوصيات إلى السفارات وفي إسطمبول؛ فيزوِّد السفراء المتصرف الجديد بأسماء أعيان الطوائف التي تؤيِّد نفوذ دولتهم، وتُمكِّن لها في أرض لبنان، ويدرك المتصرِّف أنَّ لبنان مرعًى يُدرُّ عليه اللبن فيتهيَّأ للتعبئة والضب …
يجيئنا كعصفور العابور ضعيفًا هزيلًا، ويغادرنا كعصفور التين …
علَّمه الاختبار أن اللبنانيين لا يرضيهم أحدٌ، فلماذا لا يُرضي هو عبه؟
الخمس السنوات مضمونة، فإذا أرضى الدولة والدول السبع الضامنة بروتوكول لبنان، يُعطى خمس سنوات أُخر، وهناك الرزق الحلال الزُّلال …
الصراع دائمٌ بين أعيان لبنان ووجوهه، وما عليه هو إذا استفاد من هذا البلد، الذي يعبد أهلُه الوظيفة، ويقدِّمون القرابين لمن يُمكِّنهم منها؟ … على هذه النية كان يأتي المتصرف لبنان، بلد التوصية والواسطة؛ ولذلك جاء في كلامنا المأثور: «الدنيا واسطة، والدعوى على قد الواسطة.»
إنهم لا يسألون عن نزاهة الحاكم وعدله، بل يسألون: «منو» مفتاحه؟ وعلى يد من ينام؟ …
وهكذا فسد المتصرِّفون الأخيرون؛ فبلعوا الجمل وحِمْله … وطغت الرشوة حتى صار لكل دعوى سعر، ولكل وظيفة ثمن، يوظِّفون اليوم ويعزلون غدًا.
ويذكرون عن متصرِّف مظفر باشا، أنَّ حَرَمه النظيفة الشريفة أقفلت عليه بابَ الحمَّام وما فتحته له حتى وقَّع «البيلوردي» وختمها، وهكذا عيَّنت الزائد الأخير قائم مقام على جزين.
ورُوي أنه كان لأحد الكهنة دعوى في أيام واصا باشا، وخاف هذا الخوريُّ أن يقف دولاب دعواه، أو يدور بالمقلوب إذا لم يُزيِّت البراغي، فسأل كالعادة عن «المفتاح»، فقالوا له: كوبليان صهر الباشا، فسار إليه وفي جيبه أصبع من الذهبات الرنَّانة.
وكانت المقابلة، فتمسكن الخوريُّ حين عرض ظلامته على كوبليان أفندي، ولمَّا استأنس الخوريُّ التمس انشراح الخاطر العاطر، فأجابه كوبليان: قضيَّتك تعني القاضي فلانًا؟
فأجابه الخوريُّ: الكل «بصاية» أفندينا، نرجو نظرك.
فهمْهَمَ كوبليان وهزَّ رأسه، ثم أطرق كالأفعوان حين أدخل الخوريُّ يده في جيبه.
وقام الخوري مودِّعًا واضعًا الأصبع الذهبي في يد كوبليان أفندي؛ فانتقض هذا وقال له بنزق: باباز أفندي — الخوري في التركية — ما كنت أنتظر هذا من كاهنٍ مثلك.
فتزعزعت آساس الخوريِّ، ثم اعتذر وخرج يطري نزاهة كوبليان، ويتغضَّب على الذين يتَّهِمونه بالرشوة، فقال له أحدهم: كم أعطيته؟
فقال: خمسين عسملية.
فقهقه ذلك الرجل وقال له: خذ له مائة، حسبت أنك تقدِّم له حسنة قُدَّاس؟ خذ مائة ترَ ما يكون.
واستعد الخوريُّ للمعركة الفاصلة وذهب.
ولمَّا رأى كوبليان أن ذلك الأصبع محترم يملأ العين واليد أخذه وقال للأب الجليل: حتى لا يزعل باباز أفندي نقبل الهدية.
وخرج الباباز وغرضه مقضي.
وكانت لتاجر غنم حمويٍّ دعوى مالية ذات قيمةٍ طال عليها الأمد؛ فقلق الرجل وخاف أن يخسرها، فالتجأ إلى تاجر من عملائه يسأله حلًّا لقضيته؛ فهداه إلى فلان النافذ عند واصا باشا وصهره كوبليان، فقصده التاجر وعرض عليه مشكلته، فقال الموظَّف للتاجر: لماذا أنت قلِق مهموم؟ ماذا يُهمُّك لو أهديت إلى كوبليان أفندي خمسين رأس غنمٍ مثلًا؟ أنت ميسور، ألا تشتري راحة بالك بمثل هذه القيمة؟
فقال التاجر: القصة بسيطة إذن، غدًا إن شاء الله.
وفي الغد كان راعٍ يسوق قطيعًا من الغنم بين دير القمر وبتدين يسأل في طريقه عن بيت فلان … وظلَّ كذلك حتى بلغ المَقَرَّ، وأطلَّ عليه الوسيطُ ابنُ الحلال فقال الراعي: هذه الأغنام هدية إلى كوبليان أفندي من معلِّمي … فانفجر السمسار كقنبلة وقعت على صخر، ولم يترك كلمةً من قاموس السُّبابِ والشتائم حتى رمَى بها ذاك الغنَّام المسكين، وأخيرًا صرخ في وجهه: دينك على دين معلِّمك، مَن قال إنَّ كوبليان أفندي يقبل هدية؟
ووقف الراعي متحيِّرًا، وأقفل الباب، فرجع من حيث أتى، وأخبر التاجر بما وقع.
وأخيرًا أشار عليه «الخبراء الفنيون» أن يبيع الغنم ويقدِّم ثمنها في خلوة لسمسار كوبليان، فهشَّ له وبشَّ وقال وهو يعدُّ الليرات الذهبية: «هذي أغنام لا تمعق.»
إن قصص كوبليان أطول من قصص الحيَّات، وكلها من الطراز العالي … وقد شاع مثل هذا الابتزاز بين كلِّ الموظفين، فلم يكن يُقضى أمرٌ إلا بالفلوس، فللمختارية سعر، ولمشيخة الصلح سعر، ولعصا النطَّارة ثمن.
ذاب نفوذُ المراجع الدينية عندما اتَّقدت نار الرشوة في الجبل، ومن هنا كان يهب الخصام بين الإكليروس وأكثر المتصرفين؛ أولئك يريدون أن يشْغَل أبناؤهم الروحيُّون مناصب المتصرفية، والمتصرفون يهمهم قبض أكبر مبلغ ممكن من المال للجخ ودعم المركز، فالمعتمدون على النفوذ لا يدفعون، ومن لا يدفع لا يصل …
عفوًا نسينا النَّعوة، فأنا عرفت مدير ناحية كان يقبض هو وضابطيته إذا حضر دفن وجيه، وكان يتفق مع الناعين على المبلغ قبل أن تتحرَّك ركابه.
واقتطعوا مرةً شيئًا من المبلغ المتفق عليه، فصار الدفع سلَفًا.
قد يقال: أي فائدةٍ كانت لأولئك الناس حتى يدفعوا ثمنًا موجعًا لموظف يؤاسيهم ويعزِّيهم في فقيد؟ وأي شأنٍ للمختار حتى يشتري مركزه هذا وذاك؟
قلنا: ثابت في علم النفس أنَّ الإنسان — مهما كان شأنه — يريد أن يكون شيئًا مذكورًا، ومن هنا كان تهافُت اللبنانيين على مثل هذه الشئون التافهة.
إنَّ جشع كوبليان لا يدانيه إلا جشع كوبليان. كان إذا عدِم الرزق لامتلاء المراكز — وقد كانت محدودة لا يستطاع خَلقُها مثل هذه الأيام — لجأ إلى خلْق دعاوى خطيرة؛ مثل سبِّ دين السلطان وغيرها؛ فيتدفَّق عليه المال من الأغنياء البسطاء الذين يخوِّفهم بهذه التهم.
الخلاصة: كان ذلك الرجل نبَّاش ينابيع، فتنبثق من تحت يده فوَّارة غزيرة.
حلق للبلاد «على الناشف ونظَّف»، فنبتت اللحى قليلًا في عهد نعوم باشا، فخلفه مظفر ونتفها نتْفًا.
إنَّ لابتزاز المال طُرُقًا جهنمية، كان يجيدها الموظَّفون الذين عملوا «الستاج» في العاصمة الشاهانية.
ولذلك قال إبراهيم اليازجي في قصيدته التي مطلعها «دع مجلس الغيد الأوانس»:
ولكي تسير الرشوة في الطريق الأمين فلا سائل ولا مسئول، ولا جمل ولا جمَّال؛ وضعوا المادة الشرعية القائلة: الراشي والمرتشي، والرائش بينهما، عقابُهم واحد، وهكذا كمَّموا الأفواه، فصالت الرشوة وجالت في طول البلاد وعرضها.
إنَّ ما نراه اليوم من الاختلاسات الضخمة لهو بقية جذورٍ متأصِّلة من أبعد العهود، ورءوسها تُطلُّ علينا كلَّما فاحت ريحة المنافع، فكأنها البزاق الذي لا يلوح بقرونه إلا عندما تُروى الأرض، فكم عندنا من كوبليان ولكن من أسلوب آخر …!
أظن أن مثل الزبيبة والعود يصوِّر حالنا أصدق تصوير، وقلَّ مَن لا يعرفه …