شعراء المناسبات والشِّدياق
ثمَّ وصلني منه أمس رقيمٌ خاص على كفِّ ورق من القَطْع الكبير. أمَّا صنف الورق فمن نوع أكياس الصرِّ.
نحن لا نغتر بالظهارة؛ فالكتاب قيِّمٌ، كلُّه إرشادات نفيسة وعظات مرصَّعة بألقاب شريفة … لا يُحسِن إهداءها إلا صاحبي ومن كان مثله.
إنِّي أعجب لهذا الرجل البطَّال كيف يضحِّي بماله ووقته ليتشفَّى من غيظه!
ولقد أكثرنا الكلام في شعر المناسبات، وتناولناه مِرارًا، فقبل النظر في محصول هذه الأيام — وهو قليل كالحِنطة في البلاد، وإن لم يغلُ سعره مثلها — فإنَّني أترك الكلام لنابغة الجيل الغابر؛ أحمد فارس، الذي نظر إليه منذ قرن كما ننظر نحن إليه اليوم، ولكنَّ الآذان كانت — ولا تزال — مسدودة.
رحم الله الشِّدياق؛ فقد سبق عصره سبق جواد النابغة، المستولي على الأمد، فحمل على شعراء المناسبات، وإن يكن قاله مثلهم، فبينَه وبينَهم فَرْقٌ بعيد.
كان الشدياق شاعر السلاطين والملوك والأباطرة والأمراء، وبالشعر تبوَّأ عرشًا من الشهرة والنفوذ، حسده عليه أعاظم رجال عصره، وهاك نُكتة من نكاته التي لا تُحصى:
حدَّثني الأستاذ واصف البارودي، مفتش التربية الوطنية في الجمهورية اللبنانية — وهو جدير بهذا الاسم؛ لأنَّه أول من كتب في التربية عندنا — حدَّثني عن عمه المُحدِّث الشيخ الجليل محمد الحسيني، قال: كنا نجتمع في حلقة من شباب العرب حول أحمد فارس أفندي في قصره بالآستانة نسمع حديثه، فدخل علينا يومًا ولدُه سليم يحمل حقَّة مذهبة، وقال: يا أبي، مولانا السلطان عبد الحميد منحك الوسام العثماني الأول.
فنهضنا — نحن الشباب — نرى الوسام، وهو قِطَع لا قطعة، فأدهشَنا بريقه ولمعانه، فانتَظَرَنا الشيخ حتَّى عُدنا إلى مجالسنا ومضى في حديثه.
ولمَّا انتهى من كلامه قال: طوَّل الله عمر مولانا السلطان؛ يظننا أولاد مدارس فيبرطلنا بالنياشين.
أجل، لقد توكأ أحمد فارس على شعر المناسبات، فقاله في سلاطين بني عثمان، ونابليون، ومحمد علي، وباي تونس، وتهادى بين قصائد المديح حتَّى بلغ أسمى المنازل، كما قال فيه أحد شعراء زمانه:
ومع ذلك ما اطمأنَّ أديبُنا الخالد إلى هذا الأدب المقيت، ورأى فيه حطة للأديب الصحيح، فقال لنا عن نفسه:
فهل يتعظ أصحابنا في هذا الزمان، الذي ضاع فيه النصح، بما قرءوا ويقرءون لزعيم أدباء العرب؟
إنَّهم لن يفوزوا بشيءٍ مما فاز به، وما جائزتهم غير ابتسامة تنضح استهزاءً وسخرًا، وإن لم يصبهم في الحضرة ما أصاب البحتري حين أنشد الميمية، ففي غيبتهم يحرِّمون ذلك، فليستحوا من الناس.
كان لي أستاذ كنت أعدُّ نفسي سعيدًا يوم أُقبِّل يده.
لم يكن في أستاذي من عيبٌ إلا أنَّه يريد أن يقول شعرًا، فسيم المطران بصبوص أسقفًا، وعرج على مدرسة الحكمة في طريقه إلى بتدين كرسي أبرشيته، فأنشده أستاذي الكبير سعيد الشرتوني قصيدةً من روائعه، فلاطفه صاحب السيادة وأعطاه ليمونة، فقال في ذلك قرنُه الأدبي المعلمُ عبد الله البستاني:
إن أصحابنا اليوم يبيعونه «بصفقات»، ولكنَّها خاسرة، وقليلًا ما يذوقون الليمون في هذا الغلاء.
كأنِّي أسمع بأذني — بعد هذا الاستطراد — شيخنا الشدياق يقول لي: اسكت يا ولد؛ أما جاءت نوبتي؟
قُلت: عفوًا يا شيخ، إنَّ الحديث شجون؛ فلنتعاون عليه.
ومن كان قد قرأ بعض أشعارٍ وسمِع من أهل العلم — مثلًا — أنَّ الشعر منقبة سَنيَّة؛ تصدَّى إلى أيِّ نَظْمٍ كان؛ فإذا رأى طائرًا في الجو نَظَم فيه قصيدة، وإذا تزوَّج أحدٌ في بلده نظم فيه «تواريخ»، وإذا تُوفِّي أحدٌ قال: قد غاض بحر الكرم، ودُكَّت أركان المعالي، وذوت رياض الفضائل، وأفل نجم الهدى، وخسف بدر المجد، وكسفت شمس الفضل، ثمَّ لا يزال يطلع في عاجلة النبي إلياس حتَّى يصل إلى الفلك الأثير، ويعدد جميع ما هنالك من النجوم، وينتزع منها كفنًا لمرثيه.
أمَّا الغريب المضحك فتقرؤه في «الفارياق» حين يصف لك كيف يمدح شاعر «السري» كل حركة من حركاته، وكيف كان ينظم الشعر عند قدوم كل بشير، وما أكثر مبشريه!
لا أستطيع أن أنقلَ لك كلَّ ما كتبه الشيخ في هذا الموضوع؛ فعُدْ إلى كتابه واقرأ. لا شك أنَّك تقول معي: الله أكبر يا أحمد.
أمَّا الآن فاسمع ما قاله في مدح السريِّ — إنِّي أترك لك التعليق على كل بيتين لتقرأه في الفارياق — قال:
ثمَّ قال في خروج السري إلى الحمام مع السرية:
ثمَّ قال في خِلْعةٍ خلعها السريُّ على شاعره المكرم:
وبلغه أن السريَّ حكَّ جسمه؛ فقال في ذلك:
وحلق السريُّ يومًا، فقال:
وتنحنح السريُّ وسعل، فقال فيه شعرًا، ثمَّ عطس عطسةً أشبه بعطسة المرحوم عمنا الذي في الضيعة. ولا أظنك — أيُّها القارئ — نسيت حكاية عطسته المشئومة التي كان يُعقِبها: «يقطع ضهرك»، فقال الشاعر في السريِّ:
وأخيرًا مشى بطن السري، فقال شاعره فيه:
وقبل أن أسْهَل السري حدثت طبعًا عواصف وزوابع فيها رعود وصواعق، وصفها الفارياق؛ فاطْلُبها في مكانها.
قد تركت كثيرًا مما قاله، فارجع إلى الفارياق تقرأ شعرًا ونقدًا طريفًا يُضحكك ويُفيدك، وإن كنت شاعر مناسبات؛ فوالله تتوب.
قد يفعل الشِّدياق في هؤلاء ما لا يفعله مارون عبود الذي بُحَّ صوته — وهو أبحُّ خلقة — من كثرة ما نادى شعراء الظل ليخرجوا إلى النور، ويروا وجه الشمس التي تلوِّح وجوههم، وتقوِّي دماءهم التي أمست مصلًا وقَيحًا.
لقد تبحبحنا كثيرًا في شعر المناسبات؛ فأعفونا منه وكفُّوا عنا.
إنَّني أسألك أيُّها القارئ، بل أسترحم — كما كنا نقول في العهد العثماني — أن تُمسك كل شاعر مناسبات بأذنه، ولا تتركه حتَّى ينتهي من قراءة هذا الفصل في الفارياق، فهو في «الصفحة ٢٢٥»، طبعة باريس، وفي «الصفحة ٢١٦ من طبعة مصر»، قل له: اقرأ يا أعمى ما كتبه نقَّادة عصره منذ قرن، ولا تُخرِج من معملك هذه البضاعة، فالناس يسدُّون أنوفهم — ولو كانت أطول من أنف ابن حرب — عندما تهفُّ ريحها في الأسواق.
وإذا قلتم شعر مناسبات، فبثُّوا فيه روحًا فيحيا، وانبذوا التملُّق والتدليس؛ فالناس لا يحترمون الإمَّعة.