تمهيد
أسفل منِّي يمتد البحر الكاريبي، ومن ورائي مغامرة حول العالم غيَّرت حياتي وأسلوب معيشتي، وأمامي تمتدُّ دولة هندوراس حيث بدأ فيها كل شيء قبل ست سنوات.
لقد تغيَّر وجه العالم منذ آخر مرة زرتُ فيها هندوراس ووقفت أمام المصنع الذي صُنع فيه التي-شيرت المُفضَّل لي.
خرجت الطبعة الأولى من هذا الكتاب إلى النور في نوفمبر ٢٠٠٨. على الأرجح أنت تذكر هذا الوقت باعتباره الوقت الذي فقدتْ فيه استثماراتك نصف قيمتها فجأةً. كما فُقِدَت وظائف أيضًا، وواصلت قيمة العقارات هبوطها الحاد. بعبارة أخرى: كانت فترة «رائعة» لنَشر كتاب.
ولعلَّ التحذيرات جاءت من جانب صديق ذي تسريحة غريبة يقول: «العالم يُشرِف على نهايته. من الأفضل أن تشتري كميات كبيرة من الأسلحة النارية والذهب لتأمين المستقبل! أوه، بالمناسبة هل سمعتَ عن هذا الكتاب الذي ألفه رجل يُدعى كيلسي تيمرمان، سافر إلى بنجلاديش لأنَّ ملابسه الداخلية تُصنَع هناك! الكتاب ثمنه ٢٥ دولارًا فقط! ذلك المبلغ يَعدل تقريبًا نفس المبلغ الذي فقدتْه محفظتك الاستثمارية في الدقائق الخمس الأخيرة.»
ارتفعت مبيعات الذخائر النارية في الولايات المتحدة بنسبة ٤٩ بالمائة، في حين انخفضت مبيعات الكتب بنسبة ٩ بالمائة، إلا أنَّ تأثير انهيار الاقتصاد أوسع نطاقًا بكثير من تأثير صناعة النشر وحياة الكتَّاب الذين يُؤلِّفون كتبًا لأول مرة. لقد أثَّرت الأزمة المالية العالمية على كل شخص التقيتُه أثناء رحلتي حول العالم لمقابلة صنَّاع ملابسي. ارتفعت أسعار الأغذية ارتفاعًا مفاجئًا. وفي تلك الآونة، اضطُرَّت عريفة، الأم العزباء لثلاثة أبناء التي التقيتُ بها في بنجلاديش، لإنفاق أكثر من نصف دخلها لشراء الأرز من أجل أسرتها. وقَع أربعة وستون مليون شخص في براثن الفقر المُدقع؛ إذ عاشوا على دخل يقلُّ عن ١٫٢٥ دولار في اليوم. وعانى أكثر من اثنين وثمانين مليون شخص من ويلات المجاعات.
انخفضت طلبات الشراء على كل شيء تقريبًا، وزاد مُعدَّل البطالة العالمية ليَصل إلى ٣٤ مليون عاطل. وأُغلق مصنع بنطلونات الجينز الأزرق الذي كانت تعمل به ناري وآي؛ وهما اثنتان من العاملات التقيتُ بهما في كمبوديا. وثمَّة تقارير أفادت بأن العاملات، وبخاصة اللاتي في مرحلة عمرية تَتراوح بين أواخر سن المُراهقة وأوائل العشرينيات، اتَّجهنَ إلى ممارسة البغاء. هل كانت ناري وآي وأُخريات التقيتُ بهنَّ في رحلتي ضمن هؤلاء؟
تغيَّرت خزانة ملابسي، ولكن ليس بنفس قدر ما اعتراني شخصيًّا من تغيير.
كنتُ قد تزوجتُ وأنجبت طفلَين بعد آخر مرة جلست فيها في طائرة متجهة إلى مدينة سان بيدرو سولا في هندوراس. وها أنا الآن أرى العالم بعيون الأب؛ عيونٍ تنساب منها الدموع عندما أُشاهد فيلم «حكاية لعبة ٣» (توي ستوري ٣) مع ابنتي هاربر؛ عيونٍ تَتطلع إلى مستقبل يتخطى حدود مُستقبلي؛ عيونٍ ترى المشهد على نحو أفضل بخصوص وضعي كمواطن محلي يَعيش في مسقط رأسه بمدينة مونسي في ولاية إنديانا، وبخصوص وضعي كمواطن عالمي. هذه الطبعة الثانية من الكتاب تَتناول بالأساس التضحيات التي يُقدِّمها الآباء والأبناء بعضهم لبعض على أمل توفير حياة أفضل. قبل أن أضع طفليَّ في الحسبان، لم أكن أرى العالم إلا بعيون الابن العنيد. غيَّرني إنجاب الأولاد، وكذلك غَيَّرَ الأمهات والآباء والإخوة والأخوات الذين التقيتُ بهم في رحلتي لتعقُّب مَنْ يصنع ملابسي وأين تُصنَع.
تحدثتُ مؤخرًا على خشبة مسرح إحدى الجامعات التي اختارت هذا الكتاب ضمن برنامج القراءات المفتوحة لطلاب الفرقة الأولى. قرأ جميع الطلاب المُستجدين الكتاب وناقشوه، وهي تجربة مُدهشة بالنسبة لي كمؤلف. فرضَتْ هذه الجامعة عليَّ ارتداء عباءة التخرُّج؛ رداء أشبه بعباءة هاري بوتر مزوَّدة ببطانة للكتفين، ولكن يَنقصها العصا السحرية. حاولتُ أن أُقنع الجامعة أن يَمنحوا المؤلف درجة الدكتوراه الفخرية بما أنهم جعلوه يَرتدي عباءة التخرج، ولكنهم لم يقتنعوا (ولو فعلوا لكنتُ تشكَّكتُ في نزاهتهم على أيِّ حال). شعرت بالسخف. وما إن وقفتُ بالفأرة على أول شريحة من شرائح العرض التقديمي، وكانت عبارة عن صورة طولية لفتاة تُدعى عريفة في بنجلاديش، حتى نسيت تمامًا المناسبة والظروف التي جمعتني بها.
عندما التقيتُ بعريفة في بنجلاديش، لم يكن لديَّ أدنى فكرة أنه سيكون بإمكاني عرض قصَّتها على النحو الذي قدمتُه في الكتاب. لم يكن هناك شيء يَعِد بتأليف كتابٍ وخروجه إلى النور. ولكن ها أنا ذا أقف أمام ١٥٠٠ طالب وعضو من أعضاء هيئة التدريس، وجميعُهم يَعرفون اسمها كما يَعرفون قصتها. لقد وقفتُ على خشبة مسرح جامعات ومدارس ثانوية أخرى في مختلف أنحاء البلاد، ولم يملَّ الجمهور من قصتها مُطلقًا. وكان لي الشرف أن أَعرض قصتها وقصص جميع العُمال الآخَرين على جمهور القراء.
عندما اتصل بي ريتشارد، المُحرِّر الذي أعمل معه، يَطلب مني تحديث هذا الكتاب كنت بصدد تنظيف أسنان ابنتي بالفرشاة. سألني عما إذا كان لديَّ أيُّ أفكار جديدة بخصوص مادة جديدة مُناسبة للكتاب. ويحك، بالتأكيد لديَّ جديد!
لطالَما ساوَرني شعور بأن هذا الكتاب يَنقصه شيء. لقد بَدأتُ التجربة برمَّتها في هندوراس حين تتبعتُ المُلصق الموجود على التي-شيرت المفضَّل لي. في البداية، كانت هذه حُجة للسفر والترحال. قمتُ برحلات في الأدغال سيرًا على الأقدام، ومارستُ رياضة الغوص، وعلَّمتُ أهالي قرية بأكملها لعبة البيسبول. ولكني حين وقفت أمام المصنع والتقيت بأحد العاملين فيه ويُدعى أميلكار، كنتُ مُتخوِّفًا ومتردِّدًا تمامًا. لم أطرح الأسئلة التي رغبت في معرفة إجابتها: هل هذه الوظيفة تُوفِّر حياة أفضل لك ولأسرتك؟ كم الراتب الذي تَتقاضاه؟ وكيف تبدو ظروف العمل؟ وهلمَّ جرًّا. أظن في قرارة نفسي أنني لم أكن أرغب حقًّا في معرفة الحقائق الخاصة بحياة أميلكار، ولذا لم أسأل عن شيء.
لم أكن أدري أن ما بدتْ عليه حياة أميلكار أو حياة أي عامل آخر من عُمال تصنيع الملابس في مختلف أنحاء العالم أخَذ يشغل تفكيري فعلًا؛ ومن ثمَّ سحبتُ كومة من الملابس وشددتُ الرحال إلى بنجلاديش وكمبوديا والصين، ولكن في هذه المرة بهدف طرح الأسئلة التي رغبتُ في معرفة إجاباتها.
ولكن ماذا عن أميلكار؟ لقد بدأَت القصةُ كلها من عنده. وعلى الرغم من أن لديَّ فكرة أفضل نوعًا ما بخصوص ما قد تبدو عليه حياته، فإنني ما زلت لا أعرف حقًّا.
ولكنني الآن بصدد الاكتشاف.
كان بجَعبتي صورتان (٥ × ٧) لأميلكار غير واضحتَين؛ كان فيهما يرتدي التي-شيرت المصنوع في مصنعه ويَعلو وجهه ابتسامة تقول: «ها هو شخص أجنبي يَقطع كل هذه المسافة آتيًا إلى هنا كي يُعطيني هذا التي-شيرت، وها هو يقف إلى جواري عاري الجذع بلا تي-شيرت!» الصورتان في حوزتي، كما أنَّني أعرف اسمه وأعرف المكان الذي كان يعمل فيه قبل ست سنوات. هذا كل ما في الأمر!
بالإضافة إلى تفاصيل رحلتي الاستقصائية عن أميلكار، أضفتُ في هذه النسخة تحديثات في نهاية كل قسم بخصوص ما تبدو عليه الحياة بالنسبة إلى العاملِين الذين استطعتُ الحفاظ على التواصُل معهم، وكذلك ما «قد» تبدو عليه الحياة بالنسبة إلى مَنْ لم أَستَطِع التواصُل معهم. ولقد أضفت أيضًا المزيد عن مغامراتي نحو التحول إلى مُستهلِك مُؤثِّر؛ تلك المغامرات التي أخذتني بعيدًا للسفر إلى إثيوبيا لزيارة مصنع أحذية هناك، وأخذتني قريبًا على بُعْد بضع بنايات من منزلي لزيارة متجر جودويل. ولقد ألقيتُ الضوء على عددٍ آخر من الشركات التي تُغيِّر وجه العالم تدريجيًّا، وأدرجتُ بضع نصائح جديدة لمساعدتك في رحلتك نحو التحول إلى مُستهلِك مُؤثِّر، وجمعت خطوطًا إرشادية لمناقشة فصلٍ بفصل لمساعدتك في توجيه مناقشات نادي القراء الخاص بك أو المناقشات الدراسية.
بصورة ما تُعد هذه المغامرة توضيحًا لما تعلمتُه من دراستي الجامعية. إن شهادة تخرجي مُعلقة على الحائط بمكتبي — فأنا حاصلٌ على درجة ليسانس آداب في علم الأنثروبولوجيا من جامعة ميامي — وقيمة الشهادة أقل من قيمة البرواز الذي يُحيط بها؛ وذلك لأنني لم أعمل بشهادتي مطلقًا. ورغم ذلك، فإن للفضول، الذي ألهمتْني إياه دراستي لاستكشاف العالم من حولي، والشعور بالتعاطف مع الآخرين الذي تعلمتُه من دراسة علم الأنثروبولوجيا، قيمة لا تُقدر بثمن؛ فقد ساعَداني على أن أهتدي إلى طريقي. ومع ذلك، أسترجع تجربة دراستي الجامعية وأنا أَشعُر ببعض الندم؛ ومِن ثم كتبتُ في نهاية هذا الكتاب جزءًا بعنوان «رسالة لي»، وهي بمنزلة رسالة تشجيعية قوية كنتُ أتمنَّى أن أتلقاها وقت أن كنت طالبًا مُستجدًّا. ونظرًا لوجود عدد كبير من الطلاب المُستجدين في جميع أنحاء البلاد يبدءون مشوارهم الدراسي في الجامعة بقراءة هذا الكتاب، فإنني أتمنَّى أن يستفيدوا منه.
لقد غيرتِ المغامرة التي خضتُها لتأليف هذا الكتاب من نظرتي للعالم ومن الطريقة التي أتبرَّع وأتطوَّع بها والطريقة التي أتسوق بها. ألهمني الأشخاص الذين التقيتُ بهم التغيير لكي أكون أفضل حالًا كجارٍ ومُستهلِك ومُتبرع ومُتطوع، وأفضل حالًا كذلك كمواطن (على المستويَين العالمي والمحلي). كما تعلمت أننا لا يمكننا دومًا السيطرة على تأثير القوى الخفية — مثل العولمة — على حياتنا، إلا أن بإمكاننا أن نُسيطر على تأثير حياتنا على العالم. وكل هذا بدأ بأميلكار في هندوراس.
جزء منِّي يَتمنى العثور على أميلكار، ولكنَّ جزءًا آخر لا يتمنى ذلك؛ إذ يُساورني القلق حيال ما فعلتْه السنوات الستُّ الأخيرة فيه. وأينما يكن الآن، فلقد بلَغ من العمر ٣١ عامًا، ولعله يعول الآن أسرة، ولعلَّه لا يزال يعمل في مصنع الملابس. لعله ولعله! شبح «لعله» يحوم حولي منذ ذلك اليوم الموعود عام ٢٠٠٥ حين التقيتُ بأميلكار أول مرة.
تَفحَّصت الملاحظات التي دوَّنتها سريعًا حين كنت في السادسة والعشرين من عمري، وحدَّقت في البحر الأزرق الممتد أمامي. ثم عدت لأُحدِّق في صورة أميلكار الفوتوغرافية ٥ × ٧ مرة أخرى.
ربما حان وقت الاستكشاف!