رحلة مُستهلك إلى العالمية
أَجْرَتْ دفعة ١٩٩٧ بمدرسة ميسيسناوا فالي الثانوية تصويتًا وقع الاختيار عليَّ من خلاله للفوز بلقب «الفتى الأنيق». هذه المعلومة لا أُخبر بها الآخرين عادةً؛ لذا يجب أن تشعر بالفخر لأنني أخبرتُك بذلك. لكن لا تبالغ في إعجابك بي؛ لأن دفعة ١٩٩٧ كانت تتألَّف من ٥١ طالبًا، منهم ٢٩ فتًى فقط، كما أن ريف ولاية أوهايو ليس عاصمة الموضة على أيِّ حال.
كنت أتمنى الفوز بالجائزة تقديرًا لمجموعة التي-شيرتات الرائعة المطبوع عليها شخصيات مسلسل سكوبي دو ومغني الروك إريك كلابتون، ولكنَّني أعرف ما الذي جعلني أفوز باللقب؛ يَرجع الفضل في ذلك إلى ذوق والدتي التي كانت تختار ملابسي وأنا في المرحلة الإعدادية؛ حيث إنني كنتُ أرتدي بالأساس ملابس ماركة باجل بوي. لعلك لا تتذكر ماركة الملابس المعروفة باسم باجل بوي ولكنَّك تتذكر، على الأرجح، إعلانها؛ إذ تقود فتاة مُثيرة سيارة رياضية عبر الصحراء ثم تتوقَّف على الطريق لتسأل شابًّا قائلة: «معذرة، هل سروالك الجينز هذا من باجل بوي؟» كانت جميع ملابسي الجاهزة من باجل بوي آنذاك.
تتوقف معرفة مُعظم المُستهلِكين عند حقيقة شراء الملابس من المتاجر؛ فهم لا يرون سلسلة عمليات النقل والتصنيع التي تحدث قبل أن تصل السراويل إلى أَرفُف المتاجر. بل كانت تأتيني الملابس في مرحلة مُتأخِّرة عن ذلك؛ حيث كنت أتلقى الملابس في صناديق الهدايا للتهنئة بالإجازات أو أعياد الميلاد، أو كانت تظهر بطريقة سحرية على فراشي وعليها ملاحظات لاصقة مكتوب عليها:
«كيلسي، جرِّب هذه الملابس وأخبرني إن كانت تُناسبك أم لا. ماما.»
لم أكن أهتم كثيرًا بالملابس إلى أن تُصبح مريحة تمامًا في ارتدائها من وجهة نظري — عندما تظهر الثقوب في السروال الجينز ويتحوَّل التي-شيرت الأسود إلى الرمادي — ثم يحين الوقت للتوقف عن ارتداء هذه الملابس على أيِّ حال. وإذا وصلت الملابس إلى هذه المرحلة البالغة من الراحة، فعادةً ما يَنشأ بيني وبينها نوع من الارتباط العاطفي وأَحتفظ بها في مكان سري.
كانت خزاناتي وأدراجي بمنزلة متحف لي.
في المرحلة الثانوية، أتذكَّر كاثي لي جيفورد، المذيعة المحبوبة للبرامج الحوارية النهارية، وهي تَصيح على شاشة التليفزيون أثناء مواجهتها للمزاعم التي ادَّعت أن مصنعها لإنتاج الملابس يَستغلُّ عمالة الأطفال في هندوراس. وأتذكر أيضًا أن مصنع ديزني لإنتاج الملابس تعرَّض لانتقادات مُماثلة، إلا أنني لم أكن أرتدي ملابس من أيٍّ من المصنعَين. في تلك الأيام، كنت أواجه مشكلات أكبر مثل إيجاد وقت لغسيل سيارتي المتَّسخة أو كيف سأطلب مُراقَصة آني، الطالبة النشيطة بالصف الثاني ولاعبة خط الدفاع وهدافة فريق كرة السلة ذات العينين البُنِّيتَين الواسعتين، في حفل الخريجِين السابقِين للمدرسة الثانوية.
كانت العولمة مشكلة دخيلة وكنتُ أجهلها لحسن الحظ. كنت أعرف أنها مشكلة قائمة وكنت أدرك أنني مُعارض لها. كان الجميع معارضين لها؛ فلقدْ فَقَدَ أصحاب والدي وظائفهم ومعاشات تَقاعُدهم حين أُغلقت المصانع أو اسْتُحْوِذَ عليها بالشراء. درَّاجات هافي التي كانت تُصنع في «مقاطعة» أمريكية بالشمال صارت في تلك الفترة تُصنع في «دولة» بالجنوب. انصبَّ اهتمامنا على شراء المنتجات الأمريكية، ومن أجل ذلك اشترينا من متاجر وول مارت؛ المتجر الأمريكي الخالص — الأمريكي حتى النخاع — بمنتجات أمريكية خالصة.
لم أكن أعرف شيئًا عن الجوانب الأخرى المرتبطة بالعولمة حتى التحقتُ بالجامعة. لم يكن الأمريكيون يَفقدون الوظائف وحسب بسبب الشركات غير الوطنية التي نقَلت نشاطها خارج البلاد، وإنما تعرَّض الفقراء — الذين احتفظوا بالوظائف — للاستغلال أيضًا. كنا نجلس في تراخٍ على مقاعدنا بمُحاضرة مادة «مقدمة إلى علم الاجتماع»، نتحدث عن المصانع المُستغِلة؛ المؤسسات الصناعية الخبيثة والمُرهِقة والفاسدة والمهينة واللعينة. كانت منتجات نايكي سيئة الجودة، وفي فترة ما صارت شركة وول مارت غير أمريكية. شعرتُ حينها بأنني ذو أفضلية أخلاقية لأنني كنت أرتدي منتجات أسيكس. لحُسن الحظ، حقيقة أن شقتي بها مكتبة تليفزيون مصفَّحة ورخيصة الثمن اشتريتها من وول مارت لم تكن شيئًا يتعين عليَّ إخبار باقي الفرقة الدراسية به.
إن الحصول على درجة علمية في علم الأنثروبولوجيا واختيار التخصص الفرعي في الجيولوجيا أشعلا حماسي لمقابلة أناس، من مختلف الخلفيات الثقافية، يَعيشون في مناطق بعيدة تمامًا عن حقول ولاية أوهايو المنبسطة والمترامية الأطراف. وبينما كان زملائي يَستعدُّون لخوض مقابلات العمل كنت أحجز تذاكر الطيران. لقد رأيتُ العالم على صفحات الكتب الدراسية، وتلقَّيتُ محاضرات مطوَّلة عن هذا الأمر، ولقد حان الوقت أن أرى العالم بنفسي على أرض الواقع. استمرت الرحلة الأولى لمدة ستة أشهر، واستمرَّت كلٌّ من الرحلة الثانية والثالثة لمدة شهرين. عملت مُدرِّسًا لرياضة الغوص في مدينة كي ويست بولاية فلوريدا في الفترات التي كانت تفصل بين الرحلات.
تولَّد لديَّ حبٌّ للسفر ولم يَنطفئ وهج هذا الحب مطلقًا. لم يكن الأمر أشبه برغبة طائشة، بل أقرب لكونه ركيزةً ثابتة. لم أكن بحاجة إلى مُبرِّر للذهاب إلى أي مكان.
ثم ذات يوم، بينما كنت أُحدِّق في كومة ملابس ملقاة على الأرض، قلت في نفسي: «ماذا لو سافرتُ إلى كل الأماكن التي صُنعت بها ملابسي وقابلت الأشخاص الذين صنعوا هذه الملابس؟» لم يكن السؤال بمنزلة إلهام رائع هبط عليَّ من السماء أثناء التفكير في وضعي المحظوظ في السوق العالمية، وإنما كان سببًا آخر لأرحل وأُؤجل الالتزام بعلاقتي بآني، طالبة السنة الثانية ولاعبة فريق كرة السلة التي صارت صديقتي الحميمة لمدة ١٠ سنوات والتي أخذ صبرها يَنفد. سافرتُ لأنني بكل بساطة لم أرغب في أن أكبر فأتحمل المسئولية.
كنت أُخزِّن مؤن السفر والترحال — مثل الأشرطة اللاصقة ولفائف أوراق التواليت الصغيرة وأقراص تنقية مياه الشرب والأحذية والسراويل المُقاوِمة للماء للوقاية من لدغات الثعابين في الغابات والأحراش — حين التقيت صدفةً بزميل من المدرسة الثانوية يعمل في قسم مُستلزمات التخييم بمتجر وول مارت.
قال لي وعلى وجهه ابتسامة مُرحِّبة تشي بقضاء سنوات طويلة في العمل بمتجر وول مارت: «حسنًا، سمعتُ أنك تتسكَّع على الشواطئ الآن.»
ما الذي يمكنك أن تقوله لترد على هذا؟
سألني قائلًا: «ما وجهتك التالية؟»
قلت له: «هندوراس.»
فسألني: «وماذا في هندوراس؟ المزيد من الشواطئ؟» لقد تغيَّر لقبي من «الفتى الأنيق» إلى «مُتسكِّع الشواطئ».
قلت له: «كلا، إنها الدولة التي صُنع بها تي-شيرتي. سأزور المصنع الذي صنع التي-شيرت وألتقي بالأشخاص الذين صنعوه.» ثم أخبرته بالقائمة الكاملة لملابسي والأماكن الأخرى التي كنتُ أنوي زيارتها.
فرد قائلًا: «يا إلهي، ستزور المصانع المُستغِلة.»
كان هذا الرد الذي سمعته مرارًا وتكرارًا. فعندما تخبر شخصًا عاديًّا لديه وظيفة عادية أو لديه إيجار أو قرض عقاري وقسط سيارة بأنك تُنفق آلاف الدولارات لتُسافر إلى إحدى الدول لأنك تريد أن تذهب حيثما صُنع تي-شيرتك، في البداية يظن أنك مجنون، ثم بعد ذلك يقول لك على الأرجح شيئًا بخصوص المصانع المُستغِلة.
كنتُ أتفهم أن الأشخاص الذين صنعوا ملابسي لم يَعيشوا على الأرجح حياة مُترَفة، ولكنني لم أفترض تلقائيًّا أنهم يعملون في مؤسسات صناعية مُستغِلة. في الواقع، وجدت هذا الافتراض التلقائي مزعجًا جدًّا. وأغلب الأشخاص الذين تحدثت إليهم، وحتى أعضاء البرامج النقابية الأهلية الذين يُعدون تقريرًا عن فقراء العالم، افترضوا أن جميع ملابسي صُنعت في المصانع المستغلة. وبدا وكأنَّ الأمر مُسلَّم به: القائمون على صناعة ملابسنا يَتلقون أجورًا متدنية ومعاملة سيئة. ونظرًا لأن عددًا قليلًا مِنا يصنعون ملابسهم أو يشترون المُستعمَل أو يُنادون بالتعري، يبدو أنه ليس في مقدورنا القيام بشيء حيال ذلك، بل إننا لا نهتمُّ بالأمر حقيقةً. بالإضافة إلى ذلك وفَّرنا بضعة دولارات.
فيما يخصُّ التسكع على الشواطئ، كانت رحلتي إلى هندوراس ناجحة للغاية، ولكن فيما يخص السبب الذي سافرتُ من أجله إلى هندوراس، لم تكن ناجحة. ذهبتُ إلى المصنع وقابلت أحد العاملين، ولكنني لم أسترح بمعرفة المزيد عن حياته واخترتُ التخلِّي عن رحلة البحث والاستكشاف. عدت إلى وطني، وإلى التسكُّع على الشواطئ كما كنت أفعل تمامًا قبل السفر. وحاولت أن أنسى كل شيء عن هندوراس والعامل الذي قابلتُه وكومة الملابس وملصقاتها المكتوب عليها «صُنع في»، ولكنني لم أستطع؛ لأن ثمة بذرة قد غُرست بداخلي.
غيَّرتني الأحداث. وخطبتُ آني، وتحوَّلت الصديقة الحميمة النافدة الصبر بمرور الوقت، التي دامت صداقتها لعشر سنوات، إلى خطيبتي. اشتريت منزلًا، وشرعت في أن أصير شخصًا أمريكيًّا تقليديًّا؛ أي مُستهلكًا مدينًا برهنٍ عقاري ولديه ثلاجة وتليفزيون بشاشة مُسطَّحة. وبدأت أتكيَّف مع حلمي الأمريكي، وتكيَّفتُ بارتياح مع هذا الوضع. غير أن كومة الملابس ظهرت من جديد، واستحوذ عليَّ هاجس أين تُصنع ملابسي مرة أخرى.
بدأتُ أقرأ كتبًا عن العولمة وتاريخ صناعة الثياب، ولكنني شعرت بأن ثمة شيئًا مفقودًا بشأنهما. لم أكن أرغب في التعرُّف على قوى العولمة وعملياتها والاقتصاديات والسياسات المرتبطة بها وحسب، بل تعين عليَّ التعرُّف على المُصنِّعين الذين مثَّلوا نقطة الارتكاز عند الطرف المقابل من سلسلة الإنتاج. ووسط الإحصائيات، ضاعت حياة صُنَّاع ملابسنا وشخصياتهم وآمالهم وأحلامهم.
قررتُ أن أستأنف رحلتي لمقابلة هؤلاء الأشخاص. ولكي أُموِّل هذه الرحلة، فعلت أكثر شيء ذي طابع أمريكي فعلته على الأرجح في حياتي كلها: أخذت قرضًا عقاريًّا ثانيًا!
الآن، اتضح لك على الأرجح أنني لست توماس فريدمان، كاتب العمود الصحفي بصحيفة «نيويورك تايمز» ومؤلِّف أفضل الكتب مبيعًا عن العولمة مثل كتاب «العالم مسطح»؛ فلست أتحلى بفهم مُتعمِّق لاقتصاد العالم. لم يَستقبلني أحد في المطار حين وصلت إلى البلدان التي تُصنع فيها ملابسي. لم يكن في انتظاري رئيس تنفيذي لإحدى الشركات، ولم يكن لديَّ حساب نفقات، ولم يكن لديَّ جهات اتصال ولا حاشية ولا حجوزات لغرف بفنادق. غير أنه كان لديَّ الكثير منها في الخيال.
لم أكن إلا مُستهلِكًا في رحلة بحث. ولو سألتَني عما أفعله، لقلتُ لك شيئًا بخصوص سد الفجوة بين المُنتِج والمستهلك. الأرجح أنك تظن أنني مجنون يُهدر الوقت والمال في طيش وتهوُّر بينما كان حريًّا بي أن أمكث في الوطن لسداد أقساط الرهن العقاري والعمل بشهادتي الجامعية. وأنا لا ألومك على ظنِّك هذا.
ولكنني عشت تجارب ثمينة لا تُقدر بثمنٍ غيَّرتني وغيَّرت رؤيتي للعالم من حولي. سافرتُ إلى بنجلاديش مُتخفيًا كمشترٍ للملابس الداخلية، وحاولَتْ شركة ليفايس في كمبوديا التودُّد إليَّ، وشُوِّهت صورتي على يد نائب مدير شركة بالصين تورد منتجات إحدى العلامات التجارية الأمريكية الشهيرة.
لقد بذلتُ قصارى جهدي للعثور على المصانع التي تصنع ملابسي. وإذا لم يكن مسموحًا لي بزيارة المصنع من الداخل، كنت أنتظر العمَّال بالخارج. خلعتُ حذائي ودخلت شققهم الصغيرة. وأكلت أطباق الأرز المطهوِّ على موقد الكيروسين أثناء انقطاع التيار الكهربائي. وعلَّمت أولادهم اللعب بأطباق الفريسبي، وركبتُ مع بعضهم لعبة الأفعوانية في بنجلاديش. ودخلت في تحدٍّ على لعبة شرب البيرة مع عم ثمل في الصين. واصطحبت مجموعة من عاملات الملابس للعب البولينج في كمبوديا. لم تَرُق لهنَّ اللعبة؛ كان ذلك واحدًا من أشياء كثيرة اكتشفت أنها مشتركة بيننا.
وأدركت، على طول الطريق، أن صناعة الملابس تتضمن أعدادًا ضخمة من العِمالة أكثر مما كنتُ أتخيل. وفي صدارة اهتمامات العولمة يأتي البحث المستمر عن العمالة الرخيصة التي تتمتَّع بالثقة للوفاء بالمعايير الصارمة للصناعة. ويَميل النشطاء في مجال حقوق العمَّال نحو صبِّ اللعنات على الصناعة، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة. يُشير بعض الاقتصاديين إلى الأمر باعتباره سلَّمًا يساعد على انتشال الناس من براثن الفقر ويُمكِّن المرأة، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة كذلك.
فواقع حياة العمَّال قاسٍ.
صحيح أن العمَّال يسعدون بالوظائف، حتى وإن كانوا لا يَتقاضون سوى ٥٠ دولارًا كراتب شهري. إنهم لا «يريدونك» أن تقاطع منتجاتهم احتجاجًا على ظروف عملهم، ولكن (حين سألتُهم عن مطالبهم) قالوا إنهم يودُّون أن يعملوا عدد ساعات أقل ويَتقاضَوا راتبًا أعلى.
الأسرة هي كل شيء، إلا أنَّ إعالة هذه الأسرة أهم، في الواقع، من الوجود معها. ولقد رأيت أمورًا جعلتْني أُفكر في المستحيل: ربما لا تكون عمالة الأطفال سيئة دومًا؛ وذلك بالوضع في الاعتبار ظروف معيَّنة وقلة الخيارات المتاحة.
ثمة سلسلة طويلة من اللاعبين تمتدُّ بين المُنتِج والمستهلك. وتتألف هذه السلسلة من العمال وموردي العمال والمصانع والمُقاولين من الباطن والنقابات والحكومات ووكلاء البيع والشراء والوسطاء ووسطاء الوسطاء والمُنظَّمات غير الحكومية والمُستورِدين والمُصدِّرين والعلامات التجارية والمتاجر مُتعدِّدة الأقسام وأنا وأنت. وكلٌّ منهم يحصل على حصة. والبعض منهم يَلعب وفقًا للقواعد والبعض الآخر يَخترق هذه القواعد. ويُمكن أن يحدث الاستغلال على أي مستوًى، باستثناء مستوًى واحد: ألا وهو أن العمَّال ليسوا في موضع يُمكِّنهم من استغلال أحد.
•••
مثلما كان جيمس بوند يُكافح الشيوعية، كافحها جدِّي بالملابس الداخلية!
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، قرَّرت وزارتا الحرب الأمريكية والخارجية الأمريكية إعادة بناء صناعة النسيج في اليابان؛ لأنك حين تُسقِط قنبلتين ذريتين على دولةٍ ما يكون من الجيد تجنُّب مساعدة تلك الدولة في إعادة بناء الصناعات التي يُمكن أن تتحول بسهولة لإنتاج الأسلحة؛ نظرًا لأن شعب هذه الدولة لا يزال يشعر بالغضب والحنق على الأرجح.
فكان من المُهمِّ أن تقيم الولايات المتحدة علاقات متينة مع اليابان؛ لأننا لو لم نفعل ذلك لفعَل الشيوعيون ذلك على الأرجح، ومن ثم أرسلنا لهم السفن مُحمَّلة بقُطننا، وأرسلوا هم لنا ملابسنا الداخلية. وهذا كان يَعني أن جدِّي كان قادرًا على شراء ملابس داخلية رخيصة الثمن.
كان يُنظر إلى تحرير التجارة في أوروبا وآسيا باعتباره طريقة لاستمالة الناس نحو الديمقراطية ومنع انتشار الشيوعية من الصين وكوريا والاتحاد السوفييتي. لم يكن هذا قرارًا اقتصاديًّا وإنما كان قرارًا سياسيًّا.
لاحظتُ أنه لا توجد دولتان بهما مطعم ماكدونالدز خاضت كلٌّ منهما حربًا ضدَّ الأخرى منذ افتتاح مطعم ماكدونالدز على أرض كلٍّ منهما … فعندما تَبلغ إحدى الدول مستوًى معيَّنًا من النمو الاقتصادي بحيث يوجد فيها شريحة كبيرة من الطبقة الوسطى بما يكفي لدعم شبكة مطاعم ماكدونالدز، تصير هذه الدولة دولة ماكدونالدزية. لم تعد شعوب الدول الماكدونالدزية تُحبِّذ الدخول في حروب، بل يُفضِّلون الانتظار في طابور مشترين شطائر البرجر … ونظرًا لأنَّ هذه الدول انخرطت في نسيج التجارة العالمية ومُستويات المعيشة المرتفعة، وهو ما تُمثِّله شبكة سلسلة مطاعم ماكدونالدز، صارت تكلفة الحرب باهظة جدًّا بالنسبة إلى الفائز والخاسر على حدٍّ سواء.
بعبارة أخرى، نشرت الرأسمالية وصناعة الملابس السلام وشطائر البرجر بالجبنة في ربوع العالم.
ولكن سيطر الاقتصاد على كل شيء في نهاية المطاف. وظهَرت لدى الدول النامية رغبة في الاستحواذ على مشروعاتنا التجارية، ونمت لدينا رغبة في شراء منتجاتهم الرخيصة؛ ومن ثمَّ اتجهت صناعة الملابس داخل بلادنا إلى حيثما وُجدت أرخص عمالة وأقل عدد من القوانين واللوائح، مثلما أظهر التيار المُتدفِّق من الشمال إلى الجنوب الذي عانى من الكساد الاقتصادي في فترة الستينيات من القرن العشرين. ومن ثمَّ ليس من المُستغرَب أن تتحرَّر التجارة العالمية أكثر، وتُصبح مستوياتنا المعيشية أفضل، وتتخطى الصناعة حدودنا وتسعى وراء ظروف أقل تكلفة في الخارج.
وعلى الرغم من الجهود التي يَبذلها أنصار مذهب الحمائية لإبقاء الصناعة داخل حدود الولايات المتحدة، ثمَّة سباق نحو القاع قد بدأ. وصار مصطلح المصانع المُستغِلة مصطلحًا دارجًا يُلهب حماس الناشطين في مجال حقوق العمال، ويَجعل المُستهلِكين يتردَّدون في الشراء، ويُسبِّب حرجًا للعلامات التجارية.
•••
العولمة تؤثر علينا جميعًا؛ فهي تفرض التغيير على حياتنا سواء أكنا على استعداد له أم لا. وللعولمة وجهان: وجه جيد ووجه سيِّئ. إنها أشبه بجدال دائر في الكتب والسياسات وغرف الاجتماعات والجامعات وأذهان المتسوقين. وهو جدال لا نهاية له.
في عام ٢٠٠٧، طُرح قانون ظروف العمل اللائقة والمنافَسة العادلة داخل الكونجرس ولاقى دعمًا من جانبِ قطبَي المشهد السياسي بأمريكا، بمن فيهم السيناتور شيرود براون (من الحزب الديمقراطي بولاية أوهايو) الذي يُمثِّل ولايتي. عُرف مشروع القانون أيضًا باسم مشروع قانون «مناهَضة المصانع المُستغِلة» الذي اقتَرح حظر استيراد بضائع تلك المصانع والمؤسَّسات وتصديرها وبيعها. ومثلما حدث عند طرح مشروع القانون السابق في دورة الكونجرس السابقة، لم يمر مشروع القانون الحالي بسلام من لجنة التشريعات بالكونجرس.
واحتدم النقاش داخل أروقة الكونجرس.
لقد طوَّرت معظم الشركات قواعد السلوك المهني من أجل تعهيد تصنيع منتجاتهم في الخارج. وعدلت بعض الشركات أوضاعها لتتماشى مع الهيئات الرقابية والجماعات المُدافعة عن حقوق العمال. وجاهدت من أجل الموازنة بين ما هو صائب وما هو مُربِح. ولكن نادرًا ما تجد شركة ترغب في أن يُفكر عملاؤها في مكان تصنيع منتجاتها؛ ذلك لأن الصور الذهنية عن العلامات التجارية تبين الأوقات الرائعة والشواطئ المشمسة والحركات الراقصة وكئوس البيرة الباردة والشعور بالحرية والانطلاق، ولا تُبين المصانع والفقر والأسر المشتَّتة. وثمة شركات أخرى لا تتجنَّب ذكر الحقائق الخاصة بمنتجاتها. لقد رحبت بي شركة ليفايس باعتباري مُستهلِكًا مُهتمًّا بمنتجها. وعلى الموقع الإلكتروني لشركة باتاجونيا للملابس فيديوهات تُصوِّر المصانع التي يتعهدون لها بتصنيع المنتجات وفيديوهات لمقابلات أُجريت مع العاملين بالمصانع.
يحتدم النقاش داخل غرف الاجتماعات.
فالنشطاء في مجال حقوق العمالة يُحمِّلون الشركات المسئولية تجاه قواعد السلوك المهني. وإذا لم تفِ علامة تجارية بالحقوق الأساسية للعمال، فإنهم يمارسون الضغط على الشركة لكي تَتغيَّر. وإذا ما بالغوا في ممارسة الضغوط، فلربما تتجنَّب الشركة هذا الموقف بتصفية أعمالها سريعًا، وبذلك تُصفِّي وظائف العمال التي ناضل النشطاء من أجلها. إذن، ما حدود ما يطلبونه؟ وإلى أيِّ مدًى يُمارسون الضغوط؟
ماذا ينبغي علينا فعله كمُستهلِكين؟ فإذا اشترينا ملابس مصنَّعة في إحدى الدول النامية، فإننا نقدم إسهامًا لصناعة تعتمد على عُمال ربما يتقاضون أجورًا ويعيشون نوعية حياة قد لا تكون مقبولة بالنسبة لنا. ولكن إن لم نشترِ الملابس، فربما يخسر العمَّال وظائفهم.
الاستنتاج، الذي خرجتُ به بعد زيارتي لصنَّاع ملابسي المفضلة، هو أننا ينبغي أن نُحاول أن نكون مستهلكين «مؤثِّرين»، لا مَحافظ نقود مُتحرِّكة — لا عقل لها — تبعثر الدولارات على أرخص الملابس المُسايرة للموضة التي يُمكننا العثور عليها. وينبغي أن تثني علينا الشركات لكوننا نحافظ على إنسانيتنا في القرن الحادي والعشرين. فنحن بإمكاننا أن نتعامل مع الحقائق الخاصة بالأماكن التي تصنع ملابسنا. وسنشتري من الشركات التي تبذل جهدًا حقيقيًّا للاهتمام بحياة العاملين الذين يصنعون منتجاتهم. إننا بحاجة إلى نشطاء في مجال حقوق العمَّال ومنظمات عمل لتتعامل مع الشركات وتُخبرنا أيٌّ منها لا يبذل هذا الجهد.
اذهب إلى متاجر تارجت أو كوهلز أو جي سي بيني أو مايسيز، وستجد أن بعض الملابس مصنوعة بأيدي أفرادٍ مُجتهدين يتقاضون أجورًا عادلة ويتلقون معاملة مُنصفة، وفقًا لسياق واقع الحياة ببلدانهم. وهؤلاء الأشخاص يَعولون أسرهم، محاولين ادِّخار الأموال للالتحاق بمدرسة خبراء التجميل أو لسداد الديون. وثمَّة مُنتَجات أخرى يصنعها عاملون لا يتقاضون أجورًا عادلة ولا يتلقون معاملة منصفة. وبعد رحلتي الاستقصائية، أردت أن أُفرِّق بين هؤلاء وهؤلاء (لكن دون أن أُضطر للبحث على المواقع الإلكترونية وقراءة التقارير المطوَّلة). فالأموال تتحرك بوتيرةٍ أسرع من الأخلاقيات داخل السوق العالمية الراهنة، ومن المرجَّح أن تظل على هذا الوضع إلى أن تُحْرِز الشركات والنشطاء والمستهلكون تقدمًا في النقاش؛ وذلك من خلال مطالبة إبطاء حركة الأموال وتفسير أماكن وجودها.
صنَّاع ملابسنا هم أشخاص فقراء، ونحن أغنياء. ومن الطبيعي أن نشعر بالذنب، ولكنَّ الشعور بالذنب أو باللامبالاة أو الرفض للنظام لا يحقق نفعًا للعمال.
إنهم ليسوا بحاجة إلى الشفقة، بل إنهم بحاجة إلى حقوقهم، وبحاجة إلى تعريفهم بهذه الحقوق. إنهم بحاجة إلى مراقبين مُستقِلين يراقبون المصانع ليتأكَّدوا من أن بيئة العمل آمنة وأنهم يتلقون معاملة حسنة. إنهم بحاجة إلى فُرص واختيارات، وبحاجة إلى مُستهلِكين يهتمون بكل ما سبق ذكره. هم بحاجة إلى التقدير.
لقد تبعتْني فكرة هذا الكتاب من دولة إلى أخرى، ومن مصنع إلى آخر، ومن العيش كمُشترٍ جاهل إلى العيش كمُستهلِك مؤثِّر. وعلى الرغم من أنه من المربك عقد مقارنة بين الحياة المترفة التي نعيشها والحقائق التي يُواجهها صنَّاع ملابسنا كل يوم، فإنني في بعض الأحيان أفكر مليًّا في حياتي الخاصة؛ حتى لا أغفل — أنا وأنت — عن مدى جودة الحياة التي نعيشها.
في الماضي، لم أكن مُهتمًّا بأماكن تصنيع ملابسي أو بصنَّاعها. ثم التقيتُ بأميلكار وعريفة وناري وآي وديوان وتشو تشون. أما الآن، فلا يسعني إلا أن أهتم. إنني على يقينٍ أنه كلما ازدادت معرفتك بهم أكثر، زاد اهتمامك أيضًا.