مَنْ يرتدون ليفايس
حضرتُ إعادة افتتاح مطعم ستيفز باربيكيو بصفة رسمية في العاصمة الكمبودية بنوم بنه دون حضور أي مُواطن كمبودي.
في تلك الليلة، كان ستيف يَحتفل بعيد ميلاده الخامس والخمسين، وكانت تكلفة البوفيه المفتوح الذي احتوى على كل ما لذ وطاب من الطعام، ٥٫٥٥ دولارات وكانت تكلفة البيرة، من البرميل الخشبي المزوَّد بصنبور، ٥٥ سنتًا. وبالمناسبة، أودُّ أن أشير هنا إلى أن الدولار الأمريكي يُستخدم في عدة أماكن في كمبوديا وفي الحقيقة يُفضَّل التعامل به.
ازدحمت الطاولات برجال ونساء، أجانب من الغرب، جلسوا جميعًا يَتناولون أكوامًا مُكدَّسةً من الطعام. أمسكتُ بطبق وملأته عن آخره من البوفيه وجلستُ على أحد المقاعد القليلة الشاغرة عند البار إلى جوار رجلٍ أشيَب ذي بشرة شاحبة. كان يحدق في التليفزيون — الموجود خلف نضد البار — والذي كان يَعرض برنامج «سبورتس سنتر» على شبكة إي إس بي إن التليفزيونية.
سألته، أثناء الفاصل الإعلاني بينما كنت أغمس شرائح البطاطس المقلية في البطاطس المهروسة ثم أغمسها مرة أخرى في الكاتشب، قائلًا: «هل تناول البطاطس المقلية والبطاطس المهروسة معًا مخالف لآداب تناول الطعام؟»
سألني الرجل: «من أين أنت؟»
فأجبته قائلًا: «ولاية أوهايو.»
وأردفتُ متسائلًا: «وأنت؟»
رد الرجل، وقد بدا أنه يمرُّ بمرحلة صعبة من حياته على ما يبدو، قائلًا: «ولاية كونيتيكت. كنا قد اعتدْنا إدارة شركة رحلات تنظم سفريات إلى دول بقارة آسيا؛ نيبال والهند وكمبوديا وما إلى ذلك. إلا أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر وضعت نهاية لكل هذا قبل ثلاث سنوات؛ ومن ثم انتقلتُ إلى هنا.»
اعتدْنا إدارتها؟ انتقلتُ؟ خلال السنوات الثلاث الأخيرة، خسر هذا المسكين شركته وانتقل من الحديث بصيغة «الجمع» إلى صيغة «المفرد».
«في الوقت الحالي، أنا أدرس اللغة الإنجليزية لدى ستيف.» قالها الرجل وهو يشير بكأس البيرة ناحية الرجل الأمريكي المُزعج الذي كان يحاول إصلاح الصنبور المكسور الخاص ببرميل بيرة «تايجر بير» من خلف نضد البار. مطعم ستيفز باربيكيو؟ مدرسة ستيف لتعليم اللغة الإنجليزية؟ يبدو أن ستيف استطاع أن يُدير إمبراطورية ستيف هنا في مدينة بنوم بنه.
وبينما كنتُ بصدد تناول الطبق الثاني من البطاطس المقلية المغموسة في البطاطس المهروسة المغموستَين بدورهما في الكاتشب، انضمَّ إلينا رجل أمريكي بدين. ثمَّة شيء مكتوب على التي-شيرت الأسود ذي المقاس الكبير جدًّا الذي كان يَرتديه، كنتُ أحاول قراءته من فوق المرايا الموجودة وراء نضد البار. ولكني لم أستطع، لذا سألته.
كان ذلك الشخص واحدًا من مُدرِّسي اللغة الإنجليزية الذين يَعملون لدى ستيف وكان يَتحدث بتعالٍ عن كل شيء في كمبوديا ليُعلمني أنه مكث هنا لفترة من الوقت. وعندما أدرك أن صنبور برميل بيرة تايجر بير لا يعمل، أشاح بنظره ورضيَ بتناول بيرة بيرلاو.
وما إن وصل المزيد من مُعلمي ستيف حتى انتقلنا للجلوس على طاولة.
ثم انضمَّ إلينا رجل في أواخر الثلاثينيات من عمره. كان أشبه بشخصية داتا — الإنسان الآلي شاحب البشرة — من فيلم «ستار تريك: الجيل القادم»، ويتحدَّث بصوت ذي نبرة رتيبة تُوحي بالسخرية. كان هذا الرجل — داتا — وصاحب التي-شيرت الأسود ذي المقاس الكبير صديقَين حميمَين. سرعان ما بدآ يَشكوان من قلة الطعام المقدم في البوفيه المفتوح.
قال صاحب التي-شيرت الأسود: «لن أدفع خمسة دولارات. الأمر لا يَستحق هذا المبلغ.»
قال شبيه داتا: «شيء سخيف. ستيف يقول إن لديه ١٠ أشخاص يعملون في المطبخ. لو كان لديه ثلاثة أشخاص أكْفاء، لكان البوفيه مجهَّزًا بالكامل.» التفت إليَّ وواصل شكواه قائلًا: «عشتُ في تايلاند لمدة عام. شعبها رائع، ولكنَّك إذا أردت إنجاز شيء، فهذا مُستحيل. لكن جماعة الخمير يَجعلون التايلانديِّين يبدون وكأنهم علماء ذرة ملاعين.»
انضمَّ المزيد من معلمي اللغة الإنجليزية، من بينهم شخص بريطاني مُعجَب ببراعة كلماته وشخص من نيوزيلندا أحدب الكتفَين ربما نتيجة لتعرُّضه لحادث عمل. وشرعت المجموعة تتحدث عن صديق يُحاول الحصول على تأشيرة دخول إلى فيتنام.
علق الرجل ذو التي-شيرت الأسود بلهجة سخرية قائلًا: «لقد أصبح خميريًّا في طباعه مؤخرًا.»
واصلت المجموعة انتقادها اللاذع لعدم كفاءة السكان المحليِّين وكسلهم حتى أُعيد تجهيز البوفيه مرة أخرى. ثم قرَّروا بعد ملء أطباقهم عن آخرها للمرة الثانية والثالثة بأصناف الهامبرجر والبطاطس المقلية أن البوفيه يستحق مبلغ ٥٫٥٥ دولارات.
ثم سمعنا صوتًا مرتفعًا للغاية. لقد سقطَت زاوية سقف الشرفة على طاولة البلياردو ما أسفر عن تطايُر قرميد السقف. ركض ستيف إلى المكان ليُعاين الخسائر. في البداية أصاب عطل صنبور برميل البيرة، والآن سقط السقف. وضع يديه فوق رأسه الذي أخذ يهزُّه في حالة من عدم التصديق. لم تكن هذه الطريقة التي كان من المفترض أن يَسير بها الاحتفال بإعادة افتتاح المطعم بعيد الميلاد.
قال شبيه داتا، وهو يدسُّ في فمه شطيرة الهامبرجر بالجبن: «اللعنة على الإنشاءات الكمبودية. لا قيمة لها!»
•••
سراويل الجينز ماركة ليفايس مصنوعة في كمبوديا، ولكنها ليست للبيع رسميًّا بها. فكمبوديا ليست دولة يُباع فيها ماركة ليفايس، بينما إنجلترا ونيوزلندا والولايات المتحدة ومعظم الدول التي يأتي منها «الفرنجة» — أمثالنا — يُباع فيها ماركة ليفايس. الكمبوديون هم مُصنِّعو ماركة ليفايس، ونحن مُستهلكو ماركة ليفايس.
كان أصعب تغيير للانتقال مِن بنجلاديش إلى كمبوديا هو وجود أشخاص آخرين من الدول المُستهلكة لماركة ليفايس. لم يكن هؤلاء مُعلمي اللغة الإنجليزية وحسب، بل كان يوجد أكثر من ألف منظَّمة غير حكومية عاملة في كمبوديا. سيارات لاند كروزر مزوَّدة بأنابيب تنفُّس تحت المياه ومثبت على أبوابها جميع أنواع الاختصارات المكوَّنة من ثلاثة وأربعة حروف تجوب شوارع مدينة بنوم بنه. وقد أخبرني صحفي كمبودي أن كمبوديا أشبه بتجربة حديثة لبناء أمة. ويبدو أن هذا الأمر صار مُيسَّرًا — على المدى الطويل — بسبب فترة حكم حزب الخمير الحمر. لقد نسوا الماضي كله وبدءوا من جديد، ولقد جاءت المنظَّمات غير الحكومية وأصحاب الأعمال الخيرية لمد يد العون، جالبة معها الديمقراطية والرأسمالية ونوعًا من الاستعمار المتظاهر بالتقوى والورع. وعلى النقيض من الاقتصاد القائم على المَزارع الشيوعية، صار الاقتصاد الآن قائمًا على إنتاج السراويل الجينز وغيرها من الملابس. وإذا لم تكن مواطنًا كمبوديًّا ولم تكن تصنع ملابس لإحدى الدول المُستهلكة لماركة ليفايس، فأنت تعمل على الأرجح لدى منظمة غير حكومية تابعة لإحدى الدول المُستهلكة لسراويل ليفايس، أو تعمل في خدمة السياح القادِمين من الدول المستهلكة لسراويل ليفايس في وظيفة مرشد سياحي أو سائق أو مُترجم. ووفقًا للمنشور الصادر عن وكالة المخابرات الأمريكية على شبكة الإنترنت بعنوان «كتاب حقائق العالم»، صناعة الملابس مسئولة عن ثلاثة أرباع صادرات البلد، وأسهمَت المساعدات الأجنبية في عام ٢٠٠٧ بنحو ٧٠٠ مليون دولار، كما أن صناعة السياحة تنمو بسرعة بالغة.
أنا لا أرتاد الملاهي الليلية؛ حيث لا أستطيع أن أسمع شيئًا أثناء عزف الموسيقى الصاخبة، وصوتي ليس قويًّا بالدرجة التي تكفي لتمكني من الحديث مع أحدهم. ويمكنني أن أحصي عدد المرات التي دخلت فيها أحد الملاهي الليلية على أصابع اليد الواحدة. ولكن عندما دعتني مجموعة من الأجانب لمرافقتهم إلى ملهى جولدن بوس؛ بدَت التجربة مُبتذَلة للغاية بحيث لا يُمكنني أن أفوتها.
بدَت التجربة وكأنها فكرة جيدة في ذلك الحين إلى أن دخلتُ الحمام وبعدها مضى كل شيء في مسار خاطئ تمامًا، وأدركت أنها لم تكن فكرة جيدة.
بالطبع، كان يجب عليَّ المغادرة، إلا أنني اعتبرتُ الذهاب إلى الحمام فرصة للهروب من الموسيقى الصاخبة والجرعات الزائدة والفاخرة من مُخدِّر الماريجوانا. انحنى عامل الحمام تحيةً لي. كان يرتدي ربطة عنق فَراشية الشكل كبيرة الحجم حمراء. بادلته التحية بنصف انحناءة وتلويح باليد وتوجَّهت نحو مبولة موجودة في الركن الخلفي من الحمام.
وبينما كنتُ بصدد تأدية المهمة التي جئتُ من أجلها حتى بدأ تدليك الكتفين.
«ما هذا بحق …؟!»
إذا كان يوجد قاعدة واحدة ألتزم بها طوال حياتي التزامًا صارمًا، فهي أنني لا أتبوَّل إذا كان أحدهم يتحسَّسني، خاصةً إذا كان أحدهم يُدلِّك كتفيَّ، و«بالأخص» إذا كان يَرتدي ربطة عنق فراشية الشكل حمراء.
نظرت إليه متوترًا بينما كان ماضيًا في تدليك كتفي. امتعَض وجهي بسبب هذا الاعتداء. وهززتُ رأسي أن «لا» ثم أومأت له ليَبتعد إلى الوراء، لم أكن أعرف ما كنت سأفعله لو لم يفعل ما طلبتُه؛ حيث إنني كنت في موقف حَسَّاس للغاية.
فهمَ التلميح على أيِّ حال.
وشعرت بالارتياح.
يَمتلك رجال أعمال من الصين وتايوان الكثير من مصانع الملابس في مدينة بنوم بنه، والملهى الليلي جولدن بوس هو المكان الذي يستمتعون فيه بوقتهم من خلال الرقص. كان يحيط بالمدخل الأمامي فتيات محليات يَرتدين فساتين سهرة. كانت وجوههنَّ مغطاة بطبقات من مساحيق التجميل كما لو كن يشاركن في مسابقة لملكات الجمال من الدرجة الثانية. كنَّ يضعن أرقامًا كذلك. كان رجال الأعمال يَستأجرون الفتيات للرقص معهنَّ.
تَدلَّى من السقف مجسمات لكواكب، وتلألأت أضواء الليزر على الأرضية. وصدَح صوت الغناء صاخبًا حتى إن الناس كانوا يَرقصون وهم يضعون أيديهم على آذانهم ومع ذلك استطاعوا الحفاظ على إيقاع الموسيقى. استطاع الجميع فعل ذلك باستثناء رجال الأعمال الصينيين.
انضممتُ مرة أخرى إلى مجموعتي الجالسة على أريكة جلدية سوداء تلتف حول طاولة زجاجية، كان جميعهم يَنتمون إلى مجموعة «هاش هاوس هاريرز». كنت قد قرأتُ عن المجموعة في الإعلانات المبوَّبة بصحيفة كمبوديا ديلي: «الركض والتنزه خارج مدينة بنوم بنه». وما أغفل الإعلان المبوَّب ذكره هو أن المجموعة عبارة عن نادٍ لشرب الخمور يُعاني مشكلة تتعلق بالركض. لعلهم يحتشدون على ظهر شاحنة عتيقة لنقل الحبوب ويَتجهون إلى الريف ويركضون عبر الحدائق الخلفية التي يَملكها آخرون، وذلك تحت المطر، مُتعقِّبين خط طلاء رش أبيض. تخيل أنك تجلس في شرفتك الخلفية ووجدت ٢٠ شخصًا أجنبيًّا في حالة رثة يَرتدون سراويل قصيرة يركضون وهم يَصرُخون بحماسة. في الواقع كانت هذه نوعية الأنشطة التي تمارسها مجموعة «هاش هاوس هاريرز».
اجتمعت المجموعة بعد الركض كي يتناولوا البيرة ويُغنُّوا أغاني مليئة بالتلميحات الجنسية والتوريات الصبيانية. لم أعرف أحدًا منهم باسمه الحقيقي؛ فجميعهم لديه أسماء مستعارة مثل «جاست آد بير» و«بلاه بلاه» و«فلاسيدو دومينجو» و«مستر تينكل».
تنازل معالي السيد «توكيو جو»، مؤقتًا، عن دوره ﮐ «مستشار ديني» وحكى لي عن تجربة مرَّ بها أثناء الركض مع المجموعة تُوضح إلى أي مدًى تحسَّنت جودة الحياة في كمبوديا؛ حيث قال: «عندما انهمرت الأمطار بشدة، أويت إلى شجرة وجلست تحتها بجوار فتًى من السكان المحليِّين، وتحاورنا معًا بلغة إنجليزية واضحة تمامًا. سألني عما كنتُ أفعله، وتحدثنا عن الطقس، وحكى لي أنه كان يستقلُّ قاربًا ليذهب إلى المدرسة أثناء موسم الأمطار. وعندما بدأت العواصف تهبُّ، نصحني الفتى بألا أقف تحت الشجرة، وتحرَّكنا إلى شرفته القريبة. قبل بضع سنوات، لم يكن باستطاعة الأطفال في هذه البلاد الالتحاق بالمدارس، ولم يكن في مقدورهم التحدُّث باللغة الإنجليزية. ولولا قدوم المساعدات الأجنبية، لما وصلت كمبوديا إلى ما وصلت إليه اليوم. حتى وإن كان الفساد يُهيمن على المصانع والمُنظَّمات، فعلى الأقل لا يزال أغلب المال باقيًا هنا. نحن [أعضاء مجموعة «هاش هاوس هاريرز»] نتغلغل في حياة الناس. إننا نرى كمبوديا الحقيقية، وقد تغيَّرت للأفضل.»
جلستُ في ملهى جولدن بوس وشاهدت مدير السياحة الجنسية الخاص بمجموعة هاش، وهو رجل إنجليزي كان يَرقص مع فتاة كمبودية ذات ثمانية وعشرين عامًا متزوجة حديثًا من رجل أوروبي يجلس قُبالتي. ما لا يعرفه زوجها أنها واقعة في غرام مدير السياحة الجنسية، ولكنه لن يَتزوجها. وكما هي الحال مع معلمي اللغة الإنجليزية، مدير السياحة الجنسية لم يكن موجودًا في كمبوديا من أجل الزواج والاستقرار بها. تزوَّجت الفتاة من الرجل الأوروبي ليس بدافع الحب؛ وإنما لأنها تريد أن تعيش نمط الحياة التي يَعيشها مُواطنو الدول المستهلكة لماركة ليفايس. وسرعان ما ستعود مع زوجها الأوروبي إلى موطنه، وستعيش هناك نمط الحياة التي تُريدها، ولكنها ستَفتقد أسرتها بالتأكيد. أما في الوقت الراهن، فهي ترقص، وهو يجلس ويَتفرَّج عليها. كانت مُمزَّقة بين عالمين.
سألتْني فتاة لعوب قائلة: «هل تريد أن ترقص؟» كانت فتاة كمبودية ذات وجه يُشرق عندما تَبتسم، ولكنها حين تكفُّ عن الابتسام تبدو عليها ملامح الجدية الشديدة.
قلت محاولًا تمالك نفسي: «لا أعرف.» إنني أحب الرقص على انفراد، ونادرًا ما أرقص على الملأ. لقد ضبَطني أحدهم وأنا أفعلها على انفراد؛ ذات مرة دخل زميلي في الغرفة على غفلة بينما كنت أتراقص على أغاني ألبوم هاري كونيك الابن، «وين ماي هارت فايندز كريسماس»؛ حيث قرع زميلي الباب ودخل في الوقت نفسه، كنت أقف في غرفة مساحتها نصف متر تقريبًا متراقصًا بأنفاس متقطعة مُتلبِّسًا بفعلتي ومرتبكًا من اكتشافها. أردفتُ قائلًا للفتاة: «بالتأكيد، ولم لا؟»
انطلقنا وانضمَمنا إلى مدير السياحة الجنسية وعشيقته السرية ورجال الأعمال الصينيين ورفيقاتهم.
لو طُلب مني انتقاد طريقتي في الرقص، لقلتُ إنني أبالغ في التركيز على الإيقاع الموسيقي. كذلك لا أستطيع الاستمرار في تأدية نفس خطوات الرقص الصغيرة لفترة طويلة جدَّا من الوقت. فعندما أفعل ذلك يُصيبني الملل. لذا أحاول باستمرار ابتكار بعض الحركات الجديدة المستوحاة بصفة عامة من المهام اليومية المعتادة مثل قص العشب أو شراء البقالة. ولكن بغض النظر عن مدى ضعف مستواي في الرقص، فإنني لم أَشِن عائلتي بمستوى رقصي مثل رجال الأعمال الصينيين الذين لم يتناغموا مع الإيقاع الموسيقي أيًّا ما كان.
وقف على خشبة المسرح تسعة أشخاص؛ نصفهم كانوا فتيات هزيلات لم يكنَّ يَعزفن على أيِّ آلة موسيقية أو يغنين. كان الجزء الخلفي من المسرح مُزينًا بزينة الكريسماس وحروف فضية اللون تُكوِّن عبارة «عام جديد سعيد»، رغم أننا كنا في شهر يونيو.
أدينا شكلًا من أشكال الرقص التقليدي في كمبوديا وهو يتضمن حركات انسيابية باليد تُشبه حركة اليد عند تركيب مصباح كهربائي. لقد شاركت في حفلات الرقص الحماسي على موسيقى الروك في بنجلاديش التي كانت أكثر إمتاعًا. عندما صدَح المغنون فجأة بأغنية «سوزي كيو»، ابتهجتُ بارتياح. كان المغني الرئيسي يتراقص مُتظاهرًا بالعزف على جيتار ويُطلق من وقت لآخر صرخات الروك الشهيرة. تواصلتُ معه بصريًّا وأشرتُ إليه لأخبره بأن أداءه رائع حقًّا، وبادلني الإشارة. كنا جميعًا رائعين.
تباطأت أنغام الموسيقى، ومن ثم أبطأت الفتاة اللعوب من إيقاع رقصها. لم أرقص من قبل قطُّ مع أحد قصير القامة لهذه الدرجة. من جانب، كان أحدنا يمسك بيدَي الآخر، ومن جانب آخر كانت الأمور مربكة تمامًا. كانت تضع يدها على خصري، وكنت أحيط كتفها بيدي. بدأنا نتحدَّث معًا، وتفاجأت بكم الأشياء التي نتشاركها معًا؛ فنحن — الاثنَين — درسنا علم الأنثروبولوجيا بالجامعة، وهي مُدرِّبة مُعتمَدة لرياضة الغطس، على الرغم من أن مُعاناتها من دوار البحر تحدُّ من استمتاعها بالرياضة. كانت فتاة لطيفة لديها رفيق يعيش في سويسرا. وكانا قد التقَيا في إحدى فعاليات مجموعة «هاش هاوس هاريرز» وقضيا معًا أسبوعَين، ولكنها لم تره منذ ذلك الحين. كانا يَتحدَّثان من آنٍ لآخر، وهو دومًا يختلق الأعذار ليُفسِّر عدم استطاعته زيارتها وعدم استطاعتها زيارته.
ربما تشهد الأمور في كمبوديا تحسُّنًا، لكن الشباب كان لا يزال يبحث عن فرصة للسفر إلى الخارج.
خارج ملهى جولدن بوس، ودَّع أفراد مجموعتنا كلٌّ منهم الآخر. كنتُ واقفًا إلى جوار السيد تينكل ورأينا مدير السياحة الجنسية يعرض واحدة من الفتيات المرافقات.
سألته: «ما طبيعة هذا الأمر؟ هل هو مجرد صفقة؟»
قال السيد تينكل: «القواعد مختلفة هنا.»
فسألته: «وما وجه الاختلاف؟»
أجاب قائلًا: «بالأساس، الفتيات لا يُمارسن الجنس خارج إطار الزواج. ليس أمامك اختيارات كثيرة إن كنت تُقيم هنا بمفردك. إما أن تتزوج وإما أن تبحث عن فتاة ليل. وأنا أتقبل تمامًا فكرة العيش مع فتاة ليل في الوقت الحالي. لا ضير في ذلك. لا بأس بهن، فهن أفضل من غالبية الناس. أجل، هي صفقة. جميعها صفقات. الأمر كله مُتعلِّق بالمال.»
سراويل ليفايس ليست للبيع في كمبوديا، أما الهوى والجنس فهما للبيع!
هذا الجانب تحديدًا هو نقطة التقاء المُنتج والمستهلك في كمبوديا.