مَنْ يصنعون ليفايس
صُفق الباب في وجهي، ومن ورائه لم يتوقَّف الضحك.
ظننت أنها أشارت لتأذن لي بالدخول، ولكن أحيانًا يختلط عليَّ إشارة الإذن ﺑ «الدخول» و«الابتعاد» في مثل هذه الأماكن. بأمانة، لم أرَ شيئًا.
حسنًا، لقد رأيت القليل؛ رأيتُ عددًا من الفتيات يرتدين زي السارنج ويجلسن في وضع القرفصاء أمام حوض، وعددًا آخر منهن يقفن على الفراش ليَجمعْن أشياء أو يصففن شعورهن أمام مرآة صغيرة مُعلَّقة على الحائط. رأيتُ القدْر الذي يَكفي لمعرفة أن هناك ثماني فتيات يتهيَّأن مع وجود صنبور واحد للمياه وحمَّام واحد؛ الأمر الذي يُمثل تحديًا يُجدن التعامل معه.
انفتح الباب المعدني وخرجت فتاة تَرتدي قميصًا مصبوغًا بألوانٍ براقة ومرسومًا عليه شخصية العصفور تويتي لتقودني إلى الداخل، وأشارت إليَّ كي أجلس على فراشٍ خشَبيٍّ بلا حاشية.
كانت مساحة الغرفة ٨ أقدام × ١٢ قدمًا مزوَّدة بمرحاض بدائي محاط بجدار عند الزاوية. وصنبور الماء يُفرِغ ماءه في حوضٍ يؤدي وظيفةً تجمع بين مُغتسَل ومطبخ ومغسلة. تكوَّمت الأطباق المتسخة إلى جوار كومة من الملابس المُجهَّزة للغسيل. وعلى الرغم من عدم وجود دُش للاستحمام، كانت توجد أغطية رأس بلاستيكية معلَّقة على الحائط القريب. وعندما يكون الباب المفضي إلى الشقة مفتوحًا على مصراعَيه، يُصبح بمقدور المارة أن يشاهدوا الفتيات يغتسلن من الشارع.
كانت الخصوصية، إذا ما أردتَ أن تسميها بهذا الاسم، موجودة في الزاوية الواقعة خلف الفراش؛ حيث تتدلَّى ملاءة على حبلٍ متراخٍ. كانت هذه بمنزلة غرفة لتغيير الملابس.
جلست بعض الفتيات على الأرض بينما استغرقت الأخريات في وضع اللمسات الأخيرة على ملابسهنَّ. كنتُ قد سجَّلت أسماءهن في عجالة بدفتري حين زرتهنَّ لأول مرة قبل بضعة أيام. كان تشون، مترجمِي، لديه أختٌ تعيش في الجوار، وكان يَعرف أن معظم الفتيات اللاتي يعشْن في هذا الحي يَعملن في مصنع الملابس القريب الذي ينتج سراويل ليفايس. حاولت أن أربط بين الأسماء والوجوه دون أن يُحالفني الحظ. وبعد بضع محاولات مُتعثِّرة، جلست إحدى الفتيات إلى جواري كي تساعدني.
«ناري.» قالتها وأشارت إلى نفسها. كانت ناري تضع الكثير من مساحيق التجميل وتَرتدي ثيابًا — عبارة عن سروال فضفاض وسترة خفيفة على تي-شيرت — تجعلها تبدو وكأنها انتهت توًّا من مَعرض مزدحم لبيع مستلزمات المدارس. أشارت إلى الفتيات، واحدة تلو الأخرى، وهي تُعلن أسماءهن. كانت الفتيات يَفعلن شيئًا من اثنين: إما يتوقَّفن عما يفعلن ويَبتسمن لي، أو ينظرن إلى الأرض في خجل.
بمُجرد الانتهاء من التزين والتصفيف، جلسنا في صمت غير مريح. وبينما كنت بصدد الاستفاضة في شرح ما جئتُ هنا لأجله، بدأَت ناري تُداعب ذراعي. كنت قد اكتسبت السمرة البرونزية، وتحوَّل الشعر الأشقر الموجود على ذراعي إلى اللون الأبيض مما أكسب ذراعيَّ تألقًا غريبًا.
حاولت أن أفتح حوارًا وقد علت وجهي حمرة الخجل.
قلت وأنا أُشير إلى سترة ناري: «ألا تَشعرين بالحر؟»
قالت وهي تتفحصني بنظرها إليَّ بدءًا من ذراعي وصولًا إلى وجهي: «الشمس تجعلني سمراء. نحن جميعًا نرغَب في بشرة فاتحة وعيون زرقاء.»
«وماذا عن الأنف الكبير؟» قلتها وأنا أشير إلى أنفي الطويل المُدبَّب.
ارتفعت ضحكات الجميع.
علقتُ قائلًا: «الناس في الولايات المتحدة يريدون بشرة سمراء.»
«حقًّا؟» لم يكن بإمكانهنَّ تصديق ذلك. «بشرة سمراء … لماذا يرغب أحدهم في بشرة سمراء؟» ضحكنا على هذا العالم!
«سندريلا، أليس كذلك؟» تساءلتُ وأنا أشير إلى ملصق باهت لسندريلا مُعلَّق على الحائط ومكتوب عليه كلمة «سندريلا» معكوسة كما لو كانت صورة سلبية لمُلصق حقيقي آخر.
قالت آي، الفتاة التي ترتدي التي-شيرت المرسوم عليه تويتي: «لا نعرف من هي. كان لدينا مساحة فارغة في الحائط، وحصلنا على الملصق من السوق بموجب صفقة جيدة.»
أشرتُ إلى مُلصق سنو وايت متسائلًا: «سنو وايت؟»
هزت رأسها أن «لا». أظنُّ أنها لم تكن تعرف من يكون العصفور تويتي أيضًا.
تساءلت ناري، التي كانت الأكثر جرأة وسط المجموعة، قائلة: «هل لديك حبيبة؟»
أجبتُ قائلًا: «أجل!» أخرجتُ هاتفي المحمول وعرضتُ عليها صور آني.
تجمهرت الفتيات وصِحْن في دهشة وإعجاب قائلين لي إنها جميلة جدًّا. أجبتُ عن أسئلة حول كيف التقينا، وماذا تعمل، وخطط زفافنا. جميع الفتيات يُحبِبن حفلات الزفاف بصرف النظر عن موقعهنَّ الجغرافي في العالم.
أدركت أنه لا توجد طريقة بأيِّ حال تستطيع بها الفتيات الثماني الملتفات حولي النوم على الفراش المصنوع من خشب البامبو. كان الفراش كبيرًا، ولكن ليس إلى هذا الحدِّ ليَتسع لهن جميعًا. سألتهنَّ عن ترتيبات نومهن.
قالت فوان، وهي تدسُّ في فمها قطعًا من قالب مكرونة الرامن غير المطبوخة: «أربع فتيات يَنمْن على الفراش وأربع على الأرض.» كان هذا موعد الإفطار، وكانت هي الفتاة الوحيدة التي تأكل.
سألتها قائلًا: «ومَن الذي يقرر المكان الذي تنام فيه الفتيات؟»
أشارت كل واحدة إلى الأخرى وبهذا أخبرنني بمن تنام على الأرض، ومن تنام على الفراش، وهذا الترتيب دائم ولا يَخضع للمناقشة حقًّا.
قالت فوان: «يروق لي النوم على الأرض. ربما يكون الفراش مريحًا أكثر، ولكن الأرضية [الأسمنتية] أكثر برودة.»
يصل متوسط درجة الحرارة في كمبوديا في ذلك الوقت من العام إلى ٣٠ درجة مئوية مع نسبة رطوبة عالية، ولا يُمكنني تخيُّل مدى اللزوجة التي لا بد أن يتسم بها مكان صغير يوجد به ثمانية أشخاص.
كانت الساعة السادسة والنصف صباحًا، وقد حان وقت الذهاب إلى المصنع. وقفَت إحدى الفتيات ووزَّعت مجموعة من بطاقات الهوية المعلقة على مسمار مثبت في الحائط. كانت البطاقات تَحتوي على صور لهن يظهرن فيها بجدية بالغة ويَرتدين بِذَلًا رسمية وربطات عنق.
كنَّ يَصنعْن هذه السراويل بالفعل، وأخبرتني ناري بما تفعله كل فتاة أثناء عملية التصنيع. وتعيَّن على أغلب الفتيات، بمن فيهنَّ ناري، أن يكوين السراويل، وهو أقل الوظائف من حيث الإقبال بسبب حرارة الجو. كانت آي تَعمل مُراقِبةً تبحث عن عيوب في الثياب. زعمت أنها تفحص أكثر من ١٠ آلاف سروال جينز يوميًّا، وهو ما بدا عددًا كبيرًا للغاية. كانت فوان تحل محلها في العمل مؤقتًا كلما اقتضت الحاجة. كن يَكسبن ما بين ٤٥ دولارًا و٧٠ دولارًا في الأسبوع، حسب عدد الساعات الإضافية التي يعملنها.
بالإضافة إلى الفراش، كانت قطعة الأثاث الوحيدة الموجودة في الغرفة حاملًا معدنيًّا للملابس كان قد تقوَّس لأسفل من ثقل الملابس التي تُعلقُ به والخاصة بثماني فتيات. نقلت فتاتان، تسيران بخطوات متثاقلة، الحامل المعدني إلى الخارج من أجل تجفيف الملابس التي غُسلت مؤخرًا في الشمس. أغلقْن الباب بقفل وانضممن إلى رحلة الذهاب إلى العمل صباحًا، متجهات نحو المصنع تحت أشعة الشمس.
لقد حوَّلت الأمطار الموسمية التي انهمرت الليلة الماضية الحفر الموجودة بالشوارع إلى بِرَك من الطين، كانت المَجموعة تحاول تفادي تلك البِرَك أثناء سيرهن على طول الطريق الموحل وسط الباعة الجائلين الذين يَبيعون وجبات الإفطار، ومرورًا بزملائهن من العمال الذين يَرتدون عباءات ومنامات وقمصانًا مرسومًا عليها ميكي ماوس والزي الموحد الأشبه بزي المدرسة. عندما اقتربنا من المصنع، بدأت أتراجع إلى الخلف، مُسترجعًا الدرس الذي لقنتني إياه عريفة بخصوص عدم المبالغة في الاقتراب من المصنع.
كان المصنع محاطًا بحوائط من الحجر والطوب ومِن فوقها أسلاك شائكة. ويوجد، في كل ركن، حراس مُراقبة بمكانٍ عالٍ. وقف حارس آخر عند البوابة ليتحقَّق من بطاقات الفتيات أثناء دخولهن.
سرتُ مبتعدًا عن المصنع في عكس اتجاه الازدحام الصباحي واستدرت لأنظر ورائي قبل أن يَختفي الزحام عن الأنظار. ومع انعكاس أشعة الشمس مباشرة على عينيَّ، كل ما استطعت أن أراه كان حشدًا من الظلال يَتبدَّد تدريجيًّا.
كانت الفتيات الثماني يَعتبرن غرفة مساحتها ٩٦ قدمًا مربعة منزلهن. كانت مساحة المنزل الذي يَنتظرني في ولاية إنديانا تبلغ ٢٤٠٠ قدم مربعة لشخصين، أو ١٢٠٠ قدم مربعة لكل شخص. أمتلك أنا وآني — حرفيًّا — مساحةً أكبر مائة مرة من المساحة التي يعيش فيها هؤلاء الفتيات. في هذا المنزل، لدينا حمَّامان كبيران وحمام صغير، بينما كانت الفتيات يمتلكن حمامًا واحدًا بسيطًا للغاية. ومنزلنا يَزخر بالأجهزة المنزلية الحديثة والأثاث الذي أهداه إلينا والدانا، أما غرفتهنَّ فكانت تحتوي على قطعتَي أثاث، ولكنها مليئة بطاقة مرَح. الوضع أشبه بوجودك في غرفة مزدحمة بزملاء الدراسة المستجدين من الجنسين، الفارق أن هؤلاء الفتيات لا يدرسْن؛ إنهن يَذهبن إلى العمل ويصنعن سراويلنا الجينز الزرقاء.
•••
مقار العمل لشركة ليفايس بكمبوديا موجودة في المركز التجاري باركواي سكوير بمدينة بنوم بنه، وهو مركز تسوُّق به محلُّ ملابس داخلية نسائية وصالة بولينج ومطعم لاكي برجر. فكرت مليًّا في تناول شطيرة هامبرجر، ولكنني قررت أنها ليست فكرة صائبة. لقد أخبرني أحد الأصدقاء في دكا أن رجل أعمال حاول فتح فرع لمطعم ماكدونالدز في بنجلاديش، ولكن معايير جودة الهامبرجر والدجاج لم تَفِ ببنود عقد حق الامتياز واستغلال العلامة التجارية. ومنذ ذلك الحين، قطعتُ عهدًا على نفسي بعدم تناول الوجبات السريعة في الدول التي لا يوجد بها فروع ماكدونالدز.
كان المكتب الموجود في الطابق الثالث مثلما توقَّعته: أبواب زجاجية عليها زخرفة من حروف وشعار ومكتب استقبال ومقصورات عمل هادئة.
قُدِّم إليَّ مشروب كوكاكولا باردة بينما كنت أنتظر في مكتب الاستقبال.
رحب بي براديب، المدير المحلي، وقادني إلى مكتبه عند الزاوية. كان المكتب يطل على منظر طبيعي، إلا أنه ليس هناك الكثير من المناظر في مدينة بنوم بنه لتُشاهدها. كانت يد براديب اليسرى مربوطة بضمادة. كان براديب قد انتقل من الهند مع أسرته قبل ثمانية أشهر، ولم يَتحدَّث بحماس كبير عن كمبوديا.
قال: «لديَّ ابنتان توءمتان وكنا قَلقِين بشأن العثور على مدرسة جيدة، ولكننا وجدنا واحدة سرَّنا مستواها. لكن الأمور الأخرى هنا ليست مثالية، والمرافق الطبية مثال واحد على ذلك. عندما يكون لديَّ شكوى صحية، أتوجه إلى بانكوك. مستوى الأطباء هنا ليس جيدًا بالقدر الكافي، حتى الأجانب منهم.»
تحدثت مع براديب بصدقٍ تام، وأخبرته بأنني كاتبٌ أحاول تحديد مكان المصنع الذي صنَع سروالي الجينز الأزرق. توقَّعتُ أن يختصر معي الحديث ويتجاهل مقابلتي؛ فهو لن يكسب شيئًا من وراء الحديث معي.
أخبرته بأن المُنتِج والمُستهلِك لا يلتقيان أبدًا في عالم اليوم، وأنا أحاول سد تلك الفجوة بينهما. وبينما كنتُ أتحدث، ضغَط على زر في هاتفه. انتظرت أن ينفتح باب سحري أسفل الكرسي الذي أجلس عليه ليبتلعني. تخيَّلتُ أنني سأنزلق إلى حفرة تمتلئ بناشطين مناهضين للعولمة لأكون أنا الوحيد الذي يَرتدي ليفايس ويشرب الكوكاكولا وسطهم. يُشبه بعضهم الزومبي — وهم موجودون في هذه الحفرة منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين — ويَسيرون نحوي بحركة نمطية من حيث التوقف والاستمرار بأذرع ممتدة أمامهم مرنمين عبارة: «بنكهة الكرز أو نكهة الفانيليا أو من السكر خالية، كوكاكولا قاتلة!» ثم يأكلون مخي؛ لأن هذا ما يفعله الزومبي على أيِّ حال.
تحدث براديب في الهاتف قائلًا: «هلا جئت إليَّ دقيقة.»
أصبح سيناريو حفرة الناشط الزومبي مُستبعَدًا؛ إذن لقد استدعى براديب حارسًا مفتول العضلات ليسوقني إلى الباب.
قال براديب: «هذا سريكانث، مدير التوريدات لدينا، سيَتمكَّن من ترتيب زيارة لك إلى المصنع.»
مد سريكانث يده بأدب. هو مواطن من الهند مثل براديب، ولم يكن زومبي أو بلطجيًّا، كما تبين لي بكل وضوح.
لخَّص براديب أفكاري حول عدم التقاء المُنتج والمستهلك. ونظرًا لأنهما آتيان من دولة نامية ويَعملان في شركة متعددة الجنسيات، فهما يعرفان هذا على نحو أفضل مني.
دوَّن سريكانث بعض الأرقام من الملصق الموجود على سروالي وغادر الغرفة.
قال براديب: «تُصدِّر شركة ليفايس بضائع كل عام بقيمة ٩٠ مليون دولار وتُباع بالتجزئة بنحو ٤٠٠ مليون دولار. ٥ بالمائة فقط من المصانع تستوفي مواصفاتنا (في كمبوديا). نحن الآن نُورِّد من ١٣ مصنعًا. والكثير من الشركات الكبرى — مثل جاب وجي سي بيني وَوول مارت وسيرز — تورد من كمبوديا.»
قال براديب: «جميع المعروضات هي سلع مسروقة من المصانع. ليس بوسعنا فعل شيء حيال ذلك. لا توجد قوانين تُطبَّق لحظر البيع. فشركة ليفايس لا تمتلك سوقًا في كمبوديا؛ ومن ثم نحن لا نُنافس منتجاتنا المسروقة. الأمر مزعج وحسب.»
قلت له: «ظننتُ أن المنتجات الموجودة هناك جميعها فائض إنتاج أو منتجات معيبة.»
رد براديب قائلًا: «العلامات التجارية لا تبيع فائض إنتاجها. لدينا طرُقنا الخاصة للعناية بالفائض. في الواقع بعض الشركات التي واجهت نقصًا في العدد أو الوقت تتجه إلى السوق الروسية لشراء منتجاتها مرة أخرى.»
قلت له: «ربما كان قميصي مسروقًا، لكنني على الأقل اشتريتُ سروالي ماركة ليفايس من أمريكا.»
عاد سريكانث ليقول: «لم نعد نتعاون مع مصنع رقم ٨٩٠ الذي أنتج سروالك.» وأخبرني أن هذا ربما يكون بسبب ظروف العمل السيئة أو عدم الكفاءة أو انخفاض الأسعار. أيًّا ما كان السبب، لقد أُغلق المصنع. واستطرد سريكانث قائلًا: «لقد أجريتُ لك ترتيبات لتزور مصنعًا آخر.»
شكرتهما على مساعدتهما. وقادني سريكانث بين مقصورات العمل إلى الرواق. خرجت من الباب الزجاجي المرسومة عليه الحروف المزخرفة، وركبت المصعد لأصل إلى الطابق الأرضي، ومررتُ من أمام محل الملابس الداخلية النسائية ومطعم لاكي برجر ولافتة تُشير إلى صالة البولينج مكتوب عليها «سوبر باول».
«امممم … بولينج …»
•••
كان وقت تناول الغداء خارج المصنع محمومًا بالحركة والنشاط. كان الحشد من العمال يُسرعون الخطى أكثر مما كانوا عليه في الصباح؛ وذلك من أجل الفوز بالمقاعد البلاستيكية تحت المظلات. كان الباعة الجائلون يغرفون حساءً لزجًا ذا لونٍ زاهٍ من قدور منبعجة مصنوعة من الألومنيوم.
رأيتُ ناري وسط الزحام ودعوتها هي والفتيات الأخريات إلى الغداء. كان لديَّ الكثير من الأسئلة لأطرحها عليهنَّ، من بينها سؤال مهم للغاية.
لحم خنزير وأرز وفاصوليا خضراء والقليل من السلطة. لقد شعرتُ بالشبع. عرضت فوان عليَّ المزيد من الأرز، وشعرتُ بأنني مُلزم بقبوله. جلست على الأرضية وشرعت في الْتهام الطبق بملعقتي، متسائلًا عما إذا كنت سأرى قاعَ الطبق على الإطلاق.
بدأ تشون يَضحك على شيء قالته إحدى الفتيات.
سألته: «ماذا تقول؟»
فأجاب قائلًا: «إنها تقول: «إنه يستطيع أكل الأرز بالتأكيد».»
نفختُ بطني ليَبرز أمامي وربَّت عليه.
قالت ناري وهي تُقهقه: «عندما تنتهي، يُمكنك أن تغسل الأطباق.»
أخرجت دفتري وبدأت بطرح الأسئلة: «من أين أنتنَّ يا فتيات؟»
كان معظم هؤلاء الفتيات من مناطق ريفية خارج نطاق مدينة بنوم بنه. إنهنَّ يتركن أسرهن وحياتهن في القرية، ويُضطررن إلى الانتقال إلى العاصمة بحثًا عن العمل، ويُرسلن جزءًا من أجورهنَّ الشهرية إلى أسرهنَّ.
سألتُ تشيندو قائلًا: «كم المبلغ الذي تُرسلينه إلى أسرتك؟»
ردت تشيندو: «[٧٫٥٠ دولارات] كل شهر.» كانت هذه على ما يبدو نسبة كبيرة نوعًا ما حيث إنها لم تكن تتقاضى سوى ٤٥ دولارًا في الشهر.
التفتُّ إلى فوان وسألتها: «وماذا عنكِ؟»
قالت: «أنا أتقاضى [٦٠ دولارًا] وأرسل نصف المبلغ إلى أسرتي.»
مازحتها قائلًا: «يا إلهي، كم أتمنى أن تكوني ابنتي.»
اكتست ملامح فوان بالجدية وهي تقول: «إنني أعول ١٠ أشخاص. لديَّ خمسة إخوة وخمس أخوات. ولم أتلقَّ أي قدر من التعليم. ليس بوسعي القيام بأي شيء آخر سوى العمل بمصنع ملابس.»
ساد الصمت في أرجاء الغرفة.
سألتهنَّ قائلًا: «ما الذي تُردن قوله لشخص من الولايات المتحدة لا يرغب في شراء السراويل الجينز التي تُنتجونها لأنه يظن أنكن لا تتقاضَين أجرًا كافيًا أو لا تتلقَّين معاملةً منصفة؟»
حملقت فوان في الأرض مُستغرقةً في أفكارها.
قالت آي: «إذا كان سيدفع [٤٥ دولارًا] ثمن سروال جينز، فهذا سيُساعدنا. وإذا لم يَشترِ الناس منتجاتنا فلن يُسعدني ذلك؛ لأنني لن أجد عملًا.» ضحكت آي على بساطة المنطق الذي تُفكِّر به.
هل الأمر بهذا القدر من البساطة؟ هل عاملة الملابس التي تبلغ من العمر ٢٤ عامًا لديها الإجابة عن السؤال الخاص بطريقة التصرُّف التي ينبغي عليَّ اتباعها كمُستهلِك؟
أشتري أو لا أشتري، تلك هي القضية.
هل تذكر الأطفال الذين تظاهروا في بنجلاديش ضد مقاطعة المُستهلِكين الأمريكيِّين لمنتجاتهم؛ وذلك لأنهم مضطرون للعمل؟ أدت المقاطعة في النهاية إلى زيادة رهيبة في عدد أطفال الشوارع قبل أن تتدخل المنظَّمات والشركات لتُقدم خطة بديلة لدعمهم. لقد مرَّت كمبوديا بأزمات مماثلة، ولكنها حققت نتائج أكثر إيجابية؛ ففي عام ٢٠٠٠، كشف فيلم وثائقي بريطاني النقاب عن عمالة الأطفال في المصانع التي تصنع منتجات شركتَي جاب ونايكي. وكانت كلتا الشركتين قد انسحبَتا من كمبوديا بعد أن تعرَّضتا لنقد لاذع طالَ الكثير من شركات التوظيف العالمية في مُنتصَف وأواخر تسعينيات القرن الماضي؛ ونتيجة لذلك، فقدَ آلاف الكمبوديِّين وظائفهم، الأمر الذي مثَّل تهديدًا لصناعة ناشئة. ولكن عملت المصانع والنقابات والمنظمات العالمية جاهدةً لحلِّ مشكلات الصناعة، وهي تزعم الآن أن المجال صار خاليًا من المصانع المستغلة.
اليوم، تعمل آي في أحد مجالات صناعة الملابس الأكثر خضوعًا للرقابة في العالم. ومع وجود منظمات، مثل منظمة العمل الدولية، تحمي حقوق العاملين في هذا المجال، تحمي تلك المنظمات أيضًا صور العلامات التجارية الكُبرى وضميرنا الاستهلاكي.
مواردنا المالية قوية ومؤثِّرة، ويَنبغي علينا أن نستغل هذه الموارد بحكمة.
كان لديَّ سؤال واحد مهمٌّ للغاية لأطرحه على آي وناري وفوان.
«هل سبَق لكُنَّ لعب البولينج؟»
•••
في كل مرة أرتدي فيها الحذاء الخاص بلعبة البولينج، تنتابني رغبة ملحَّة في الرقص.
إلا أن الحذاء الذي ارتديته كان ضيِّقًا قليلًا؛ ومن ثم طلبتُ حذاءً آخر.
ذهبت إلى صالة سوبر باول مع ناري وآي وفوان وتشيندو وباقي المجموعة باستثناء فتاتَين اختارتا العمل في المصنع لساعات إضافية. كنتُ أواجه صعوبة في الربط بين الأسماء والوجوه؛ حيث إنهنَّ غيَّرن ملابسهنَّ وارتدَين سراويل جينز — ليست ماركة ليفايس — وتي-شيرتات مُبهرجة، وقد عقدن تلك التي-شيرتات عند الجوانب لأغراض الموضة. أخبرني تشون بأنهنَّ يَرتدين أحدث الملابس لديهن.
بحث الفتى المسئول عن الأحذية مرةً أخرى عن حذاء يُناسبني، وأخيرًا ارتديت واحدًا. جربت الحذاء من خلال القفز به بضع قفزات صغيرة. كان رائعًا!
كان من المُفترَض أن يكون هذا يومًا عاديًّا مع هؤلاء العاملات؛ كان من المرجَّح أن أقضي اليوم جالسًا على أرضية غرفتهنَّ لأتناول الأرز وأتعرف على الطريقة التي يَسترخين بها بعد قضاء يوم طويل في تَصنيع سراويل ليفايس. ولكنَّني قضيتُ ساعات هناك بالفعل، ورأيت عالمهنَّ، وها قد حان الوقت لأريهن جزءًا صغيرًا من عالمي. للأسف، كانت صالة البولينج أقرب شيء لحياة مُواطني الولايات المتحدة يمكنني العثور عليه في تلك البلاد.
كانت أغنية «كريزي إن لاف» (مجنونة في الحب) لبيونسيه يتردَّد صداها في جنبات صالة البولينج الفارغة ذات الحوائط البيضاء البسيطة. كنتُ أُفضِّل صالة البولينج خاصتي أن تكون ذات تفاصيل أكثر من ذلك. تذكَّرت وجود رسومات رياضية على الحوائط أو ربما كرات لامعة أو مجسَّمات لكواكب كتلك الموجودة في صالات الديسكو أو ربما أشياء على غرار الملهى الليلي جولدن بوس.
لم نكن بحاجة إلى ثماني كرات لثمانية أشخاص، ولكن إذا كانت هذه هي المرة الأولى التي تَلعب فيها البولينج، فأنتَ بحاجة إلى كرتك الخاصة، أليس كذلك؟ وضعنا الكرات من مختلف الأوزان والألوان: الكرات السوداء والأرجوانية والحمراء على حامل الكرات. لحُسنِ الحظ، كان يوجد جهاز كمبيوتر يُسجِّل النقاط لأنني لم يكن لدي أيُّ فكرة عن كيفية حساب النقاط الناتجة عن إسقاط القوارير من الرمية الأولى والثانية. أدخلت اسمي تحت خانة اللاعب (أ)، ولكن لم تُدخل أيٌّ من الفتيات اسمها. بدا الأمر وكأنني مميز. وفي كل مرة، كان يحين الدور عليَّ، كان جهاز الكمبيوتر ينطق اسمي «كيلسي»، أما بالنسبة إلى باقي اللاعبات، فكانت أسماؤهنَّ عبارة عن حروف وحسب بدءًا من اللاعب (ب) وصولًا إلى اللاعب (ح).
لقد جئتُ من دولة تزخر بلاعبي البولينج السِّمَان من جراء إدمان البيرة، دولة اخترعت جهاز تدفئة الأصابع من أجل التحكُّم في الإمساك بالكرة، دولة يُمكنك فيها في أي وقت من النهار أن تُتابع مباراة بولينج يشجع فيها الجمهور رياضيِّين محترفين تحت رعاية شركة لامبر ليكويداتورز، ومتاجر مستلزمات المنازل والمطاعم المُتخصِّصة في نقل فعاليات بطولة جراند سلام. وها قد حان الوقت المناسب لأُوضِّح لهؤلاء الكمبوديين كيف تُلعب لعبة البولينج.
وضعت قدميَّ في وضع الاستعداد وأخذت نفَسًا عميقًا، مُمسكًا بالكرة في مستوًى أسفل ذقني. وركَّزت بصري على مستوًى مُنخفِض في نفس مستوى القوارير. وتجاهلتُ صوت بيونسيه.
ثلاث خطوات …
رميتُ الكرة …
سقطت الكرة داخل المَجرى الجانبي. وتكرَّر الشيء نفسه في محاولتي التالية. أطلقت اللعنات، وقهقهَت الفتيات.
إنها ليلة الجمعة. وفي ليالي الجمعة بصالة وودكرست لينز بمدينة ينيون سيتي في ولاية أوهايو، تَمتلئ جميع المسارات بأشخاص أعرف أغلبهم. وفي كل مرة، أذهب إلى هناك، يكون الأمر أشبه بحلقة من حلقات المسلسل الوثائقي «هذه هي حياتك» (ذيس إز يور لايف). لقد لعبت كرة قدم مع الشاب الذي يَلعب على المسار رقم ٢، وساعدتُ جليسة الأطفال تلك التي كانت تلعب على المسار رقم ٧، ورأيتُ الفتاة التي كانت تلعب على المسار رقم ١٣ تتقيَّأ في حصة العلوم. تُعد لعبة البولينج نشاطًا أساسيًّا في الحياة الترفيهية لمواطني وسط غرب الولايات المتحدة. وحقيقة أنني أخفقت في التصويب لتَنزلق الكرة في الممر الجانبي مرتين مُتعاقبتَين هي إهانة شخصية لأصلي وجذوري.
سقطَت بضع قوارير في الرمية الأولى، لكن لم يكن الأمر رائعًا. فدحرجة كرة ذات ثلاث فتحات على مسارٍ خشبي ضيق لا تَعكس براعتي. فالكرات لا تتحرَّك برفق على المسار الخشبي، وإنما تُلقى من ارتفاع في مستوى الفخذ، ليتردد صدى صوت أشبه بالطلق الناري. كلَّفني تأجير المسار والحذاء ٢٧ دولارًا، ولكنَّني أخشى أن يُكلفني تهشُّم الأرضية الخشبية ما هو أكثر من ذلك.
انتظرت عند الخطِّ الخارجي لمضمار اللعب وأسديت النصائح، كمدرب سباحة — كما كنتُ ذات مرة — يقف على الشاطئ ولا يستطيع السباحة. وما كان يَنقصني في المعرفة الفنية الفعلية كنتُ أُعوضه حماسًا. عندما أسقطت ناري جميع القوارير برمية واحدة، علَّمتها ما أظنُّ أنه أهم جزئية في لعبة البولينج؛ أقصد الاحتفال، وجزء من هذا الاحتفال عبارة عن رقصة مرح وجزء آخر عبارة عن رقصة شائعة من رقصات ثمانينيات القرن العشرين والكثير من الإشارات باليد لأعلى وإيماءات النصر.
بعض الفتيات، مثل ناري، تعلمت لعب البولينج بسهولة، وبعضهنَّ لم يتعلمنها بنفس القدر من السهولة؛ ومن ثم توجَّهن إلى الخط الخارجي لمضمار اللعب، ودحرجْنَ الكرة وجلسْن على مقاعدهنَّ ليَتحدَّثن إلى صديق عن أذرعهنَّ المتورمة وأظافرهنَّ المُتكسِّرة قبل أن تصل الكرة إلى نهاية المسار الخشبي.
كان لعب البولينج مع هذه المَجموعة المُكوَّنة من فتيات عشرينيات لا تختلف عن اللعب مع مجموعة فتيان عشرينيات في أيِّ مكانٍ آخر؛ حيث تضمَّن اللعب إسقاط القوارير جميعها من الرمية الأولى وإسقاطها من الرمية الثانية وخروج الكرة إلى المَمر الجانبي والابتسامات والضحكات والرقصات واللامبالاة. كان من الصعب أن أرى ذلك أثناء الجلوس في غرفتهنَّ المزدحمة والاستماع إليهن يتحدثن عن تصنيع سراويل ليفايس. ولكن هنا في صالة البولينج سوبر باول، ومع تردد صوت المغني جاستن تيمبرليك عبر سمَّاعات تكبير الصوت وسط صالة البولينج الفارغة، في طابق أسفل الطابق الذي يوجد فيه المكتب المحلي لشركة ليفايس حيث تَصدُر أوامر العمل إليهنَّ، كان بإمكاني أن أرى جانبًا آخر منهنَّ غير كونهن عاملات ملابس.
كن كغيرهن من الفتيات.
لقد فزتُ بتسجيل ١٠٤ نقاط، وجاءت ناري في المركز الثاني بتسجيل نحو ٨٠ نقطة.
سألت الفتيات: «هل ترغبْنَ في لعب جولة أخرى؟»
تشاورت الفتيات مع تشون، ثم قال لي: «لم يَرُق لهنَّ لعب البولينج. يقلن إنهنَّ مُرهَقات.»
سألته: «إذن، ما الذي يُرِدن فعله الآن؟»
ضحك تشون قائلًا:
«كيلسي، إنهن يُرِدن أن يَرقُصن.»