تي-شيرت جزيرة الخيال
يَعكس التي-شيرت الذي ترتديه أمورًا كثيرة عن ذاتك؛ فهو يُعبر عن هويتك وما تؤمن به ومَن تدعمه ومن تكرهه. والتي-شيرتات الجيدة تجعلنا نضحك أو تجعلنا نفكر قليلًا، والسيئ منها يُثير لدينا حسَّ الفكاهة والسخرية. والتي-شيرتات التي نَرتديها تُوصِّل رسالتنا إلى العالم أكثر من أي قطعة ملابس أخرى.
كانت الصورة المطبوعة على التي-شيرت المفضَّل لي هي صورة شخصية «تاتو» من مسلسل تليفزيوني بعنوان «جزيرة الخيال» (فانتازي أيلاند) الذي أُذيع لأول مرة في سبعينيات القرن العشرين. يظهر «تاتو» على التي-شيرت والشرر يتطاير من عينيه المُتلألئتَين، وتَرتسم على شفتيه ابتسامة عريضة جدًّا، وشعره مصفف جيدًا عند مفرقه. ومكتوب فوق الصورة عبارة «تَعالَ معي إلى جزيرتي» وأسفل غمازة ذقنه تظهر جنة استوائية.
اشترى لي ابن عمي برايس ذلك التي-شيرت حين كنت أعيش في الغابة الاستوائية بمدينة كي ويست. والأشخاص الذين يتذكَّرون مسلسل جزيرة الخيال، «فانتازي أيلاند»، والعبارة الشهيرة لشخصية «تاتو»: «الطائرة … الطائرة!» يَضحكون عند رؤيتهم تي-شيرتي. وأنا أَعتبره تي-شيرتًا رائعًا من مُنطلق الحنين إلى الماضي والمزاح العفوي. وعلى ملصق التي-شيرت، كُتبت العبارة التالية: «صُنع في هندوراس.»
تدفَّق العاملون عبر الزقاق الضيق المتاخم لمصنع دلتا أباريل بمدينة سان بيدرو سولا، هندوراس، واندفعوا للحاق بإحدى الحافلات التي تنتظر على الطريق السريع، بينما جاهد الباعة الجائلون، الآملون في اقتطاع جزء من الأجور اليومية للعمال — التي تراوحت بين ٤ و٥ دولارات — للاستحواذ على انتباههم. وشقت السيارات طريقها عبر الزحام. اصطدمت شاحنة صغيرة بفتاة في منتصف العشرينيات من عمرها ودهسَت قدمها. وإثر ذلك، أخذت الفتاة تسبُّ السيارة. وساعدها مَن حولها في الوقوف على قدميها ومشت وهي تَعرج إلى أن استقلت إحدى الحافلات المُنتظِرة.
طُليت المباني الموجودة خلف السور بألوان فاتحة وبقيَت في حالة جيدة جدًّا. كانت الشجيرات قد قُلمت والحشائش قد هُذبت مؤخرًا. وتحت أشعة شمس هندوراس الساطعة، بدت تلك المباني التي هي مقرٌّ للمصانع في أفضل صورة.
ضحكت السيدة المسئولة في المقر الرئيسي لشركة دلتا أباريل، بولاية جورجيا، على الهاتف حين أخبرتُها بما أخطط له. وكان من دواعي سرورها أن أخبرتني بأن المصنع في هندوراس موجود بمدينة فيلانويفا، جنوبي سان بيدرو سولا مباشرة، بل تمنَّت لي حظًّا سعيدًا أيضًا.
لم يَرُق للشركة وجودي في هندوراس كثيرًا.
وقفت وسط هذه الفوضى في حالة من الذهول؛ آلاف العيون تحدق بي، لعلهم تعرَّفوا على التي-شيرت الذي أرتديه. والمفارقة أن هذا المكان هو الجنة الاستوائية الخاصة ﺑ «تاتو» التي اختفت منذ فترة طويلة؛ مكانٌ ما بين المُواجَهة مع حراس ضخام الجثة يَعترضون باب المصنع ويتدلى من سراويلهم مسدسات وبين الحديث مع مُمثِّل الشركة الكتوم الذي رفض كشف الكثير عن أي شيء يخص التي-شيرت الذي أرتديه أو الأشخاص الذين صنعوه. أدركت على الفور أنه لا سبيل أمامي لدخول المصنع. فكلُّ ما عرفته هو أن ثمانية أشخاص مُتباينين في العمر والجنس عملوا على حياكة التي-شيرت الذي أرتديه في أقل من خمس دقائق، وهي ليست معلومة تتطلَّب السفر كل هذه المسافة إلى هندوراس للحصول عليها.
منذ وصولي إلى هندوراس، قضيتُ الوقت في ممارسة رياضة الغطس واستكشاف الغابات، وحصلت على مادة تكفي، لمدة بضعة أشهر، لكتابة أعمدة صحفية ومقالات عن السفر لعدد من الصحف والمجلات التي أساهم بالكتابة فيها، الأمر الذي قد يُوفِّر لي مبلغًا زهيدًا من النفقات التي تكبَّدتُها. عادةً ما أكتب في عمودي الصحفي، الذي يُغطي سنوات من السفر والترحال بنفقة زهيدة، عما يُعرف باسم «السائح الصبياني»؛ ويُقصد به السائح الذي يجمع بين التحمُّس والصبيانية الحسنة النية. المرة الأولى التي سمعت فيها هذا المصطلح كانت عندما كنت أعمل مُدربَ رياضة الغطس في مدينة كي ويست. وكان أهل المدينة يَستخدمون هذا المصطلح ليُشيروا إلى السائحين الذين يَستقلون الدرَّاجات البخارية ضاغطين على أبواق الدرَّاجات البخارية الصغيرة وطارحين أسئلة على المرشدين السياحيين المُنهَكين مثل: «هل المياه تحيط بالجزيرة من جميع الجهات؟» في هندوراس، لم أكن أختلف كثيرًا عن ذلك، إذا ما تجاهلنا السبب الرئيسي لوجودي هنا. لقد جئت إلى هنا لألتقي بالأشخاص الذين صنعوا التي-شيرت الذي أرتديه، وها أنا الآن محاط بهم من كلِّ جانب، وأشعر بأنني بعيد عن «السائح» وأقرب إلى «الصبيانية».
انتشر العاملون من حولي مثلما تَسبح أسماك السلمون حول صخرة يجلس عليها دبٌّ. كانوا يَجتنبونني حين أقترب منهم. بدا الأمر وكأنهم تلقوا تحذيرًا بالابتعاد عمن هم على شاكلتي.
في النهاية، تنحَّى أحدهم بي جانبًا في تردد.
اكتشفت أن اسمه أميلكار ويعيش مع والدَيه في قرية مجاورة. تعلم بالمدرسة حتى الصف السابع وهو يهوى لعب كرة القدم. كانت وجنتاه تَلمعان، وجبهته بارزة. ولم يكن قد أكمل عامًا بعدُ في عمله بالمصنع.
أخبرتُ المترجم المرافق لي قائلًا: «سله عن عمره.»
كنت أعرف قدرًا كافيًا من اللغة الإسبانية لأفهم أنه يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا قبل أن يُخبرني المترجم بذلك.
خمسة وعشرون عامًا. حين كنتُ أبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، كنت أعمل بدوام جزئي كموظف بمحل بيع بالتجزئة في الهواء الطلق، ومُدرب غطس بدوام جزئي أيضًا. أما الآن، فأبلغ من العمر ستة وعشرين عامًا، وليس لديَّ عمل، إلا لو كنت تضع في الحسبان المبالغ الزهيدة التي أكسبها من كتابة المقالات. ولقد تلقَّت والدتي مؤخرًا استطلاع رأي من جامعة ميامي (ولاية أوهايو) التي تخرَّجتُ فيها، يسأل عن وضعي المهني. ونظرًا لأنني كنت أمارس رياضة الغطس حينها في ولاية باخا في المكسيك، أجرت والدتي الاستطلاع بالنيابة عني. وعندما استلمت النتائج بعد مرور عدة أشهر، وجدت أنني الشخص الوحيد في فرقتي الدراسية، التي بلَغ عدد الخرِّيجين بها الآلاف، «العاطل باختياره».
ونظرًا لأنني خرِّيج جامعي ورجل أبيض يعيش في الولايات المتحدة، فأمامي عدد كبير جدًّا من الاختيارات، وبإمكاني أن أختار من بينها. وأظنُّ أن هذه هي الطريقة التي بدأت بها رحلة البحث؛ البحث عن أي شيء يُبعدني عن اختيار طريق يَستغرق وقتًا أطول قليلًا.
الفارق بيني وبين أميلكار هو أنني «أملك» الاختيار. يُمكنني أن أعمل لمدة ثمانية أشهر وأحصل على إجازة لمدة أربعة أشهر. ويُمكنني أن أستقرَّ بالعمل في وظيفة حقيقية، ولكنني اخترت ألا أفعل. وعندما أختار العمل حقًّا، فإنني أفعل شيئًا مُمتعًا. فأنا كثير التجول والترحال وليس لديَّ نية لغرس الجذور.
في هندوراس، ثمة شخص واحد من أربعة أشخاص عاطل عن العمل. وليس من السهل الحصول على وظيفة. وعلى الأرجح كان أميلكار يتقاضى أجرًا — باليومية — أقل بأربع إلى خمس مرات من المبلغ الذي دفعه ابن عمي لشراء التي-شيرت المرسوم عليه شخصية تاتو.
سألني المترجم المرافق لي عما إذا كان لديَّ أيُّ أسئلة أخرى لأميلكار. أردت أن أسأله عن المبلغ الذي يَكسبه فعلًا. أردت أن أرى المكان الذي يعيش فيه والطعام الذي يأكُله وأسمع ما يأمل أن يكونه وأكتشف كيف يرى حياتي.
جزء مني أراد التعرُّف على أميلكار، أما الجزء الآخر فكان راضيًا ﺑ «عدم» المعرفة، وربما كنت أخشى ولو قليلًا مما سوف أكتشفه. هل أردتُ اكتشاف ما إذا كان المصنع عبارة عن مؤسسة استغلالية حقيرة؟
هذه فرصتي لإثبات نفسي، لأُبيِّن أن رحلة البحث ليست سخيفة.
ومن ثم، ارتكبتُ شيئًا أحمق؛ خلعت التي-شيرت الذي أرتديه وأعطيته لأميلكار. ووقَف كلانا لالتقاط بعض الصور قبل أن ينضم أميلكار ثانيةً إلى سيل العمال المُتدفِّق عبر بوابات المصنع.
أنا أمريكي مجنون مدلَّل يقف عاري الجذع. أنا مُستهلِكٌ، وظيفتُه هي شراء الأشياء. وأميلكار مُنتِج، ووظيفته هي تصنيع الأشياء. ولعله من الأفضل لكلينا ألا يَستغرق أحدُنا في التفكير في حياة الآخر.