الحياة في القاع
الشبشب المطاطي هو أكثر شيء مرح يُمكنك ارتداؤه. وطريقة نُطقك لاسمه هي الأكثر مرحًا من بين جميع الأشياء التي ترتديها.
فالشبشب له وقع خفيف على أذنَيك وقدميك؛ فهو مرتبط بالخفة والمرونة. إنه بسيط ورائع. ولكن هل فكَّرت في الأمر من قبل؟ هو شبشب مطاطي يُمَد ويُمَط وله صوت مميز وموسيقي كاسمه، ووقعه يجذب الأذن!
هكذا، تكون أفكاري بهذا القدر من العمق عندما أرتدي الشبشب المطاطي الخفيف. وبينما أسير أسمع خطوات قدمي اليُسرى وخطوات قدمي اليمنى تسيران بإيقاع موسيقي؛ أفكر في الأمر لثانية أو ثانيتَين ثم أتوقف عن التفكير فيه؛ لأن اليوم الذي أرتدي فيه الشبشب المطاطي هو دومًا يوم رائع، ولديَّ فيه خطط أفضل لقضاء الوقت.
يكون الجو دافئًا عندما أرتدي شبشبًا مطاطيًّا خفيفًا، على الأقل تكون درجة الحرارة ٢٣ درجة مئوية. ولا يَشغل بالي أن تُسحق إصبع قدمي الكبيرة بأجسام كبيرة أو تَجرح الأشياء الحادة قدمي. لستُ من هؤلاء الأشخاص الذين يَرتدون الشبشب المطاطي طوال العام أو خلال جميع أنشطتهم. في الواقع ربما أكون شخصًا سيئًا بسبب ذلك، ولكنَّني حين أرى شخصًا يرتدي شبشبًا مطاطيًّا في فصل الشتاء أجد جزءًا منِّي يتمنى سرًّا أن يُصاب هذا الشخص بلسعة الصقيع لتُلقنه درسًا. أو حين أرى شخصًا يرتدي شبشبًا مطاطيًّا أثناء ممارسة أيِّ رياضة أو أثناء القيام بعمل بدني شاق، أريد أن أذهب إليه وأدوس على إصبع قدمه الكبيرة.
بدأت علاقتي الغرامية بالشبشب المطاطي الخفيف في مدينة كي ويست؛ كنتُ أستيقظ من النوم وأرتدي التي-شيرت وسروال السباحة القصير، وأركب دراجتي على طول الشوارع المُظلَّلة بأشجار النخيل لأصل إلى محل أدوات الغطس الذي كنت أعمل فيه. كنت أساعد الزبائن على الاستعداد للغطس. إنهم في إجازة، يُدندنون بسعادة أغاني جيمي بافت، ويرتدون الشباشب المطاطية الخفيفة أيضًا. وعندما يحصل الجميع على معداتهم، نصعد على متن المركب ونَخلع ما نرتديه في أقدامنا دون أن ننحني.
وعلى مدار الساعات الأربع التالية، كنا نَرتدي زعانف الغطس ونُطارد الأسماك الملوَّنة حول الشِّعاب المرجانية، أو نقضي الوقت على متن المركب، حفاة الأقدام، نأكُل ثمار الأناناس الطازجة. وفي نهاية الرحلة نعود مرةً أخرى لارتداء شباشبنا، دون أن نُرهق أنفسنا بالانحناء حتى. كان الزبائن يَسيرون بشباشبهم إلى أقرب حانة لتناول عصير كوكتيل الفواكه، وكنتُ أذهب أنا ورالف أو روي أو راستي (يبدو أن جميع أسماء ربابنة السفن تبدأ بحرف الراء) للبحث عن صندوق الثلج من أجل الحصول على مشروبَين باردَين أثناء غسل المركب بالماء. ثم أعود إلى منزلي بالدراجة في ظلال صفوف أشجار النخيل المتقابلة. كنت أقذف الشبشب المطاطي عند مدخل الباب بمجرد أن أجتازه، ليبقى هناك حتى صباح اليوم التالي، ثم أعيد الكَرَّة من جديد.
للأسف، هذا ليس أسلوب حياة مَن يعملون في تصنيع الشباشب المطاطية التي نَرتديها.
بل حياتهم بعيدة كل البُعد عن ذلك.
•••
أمام مصنع الشباشب، كان مُصنِّعو الشباشب المطاطية الخفيفة يَرتدون الشباشب.
كانت الساعة الخامسة مساءً، وكان العمَّال يَتدفَّقون خارج المكان بين البوابة المعدنية المتحركة ومبنى الحراسة أمام المصنع. وأغلبهم يعبرون الطرق ويدخلون زقاقًا ضيقًا. تبعتُهم أنا وآنجيل إلى أن وصلنا إلى تقاطُع الزقاق مع زقاق آخر؛ حيث انتظرنا هناك.
قلت: «حسنًا، هذا يبدو رائعًا. سليهم إن كانوا يُمانعون الحديث وما إذا كانوا يَصنعون منتجات تيفا.»
بعض العمَّال تجاهلونا، في حين أن البعض الآخر ابتعدوا وحدَّقوا من بعيد. وأنا لا ألومهم. لقد اعتدتُ هذا الأمر إلى حدٍّ ما؛ وذلك بعد أن واجهتُ أمورًا مماثلة في مصانع بهندوراس وبنجلاديش وكمبوديا، وما زلت أشعر نوعًا ما بأنني أَشبَه بشخص يُجري استطلاع آراء في مركز تسوق ويُحاول فرض نفسه على الآخرين.
إلا أن عشوائية التجربة هي المثير في الأمر؛ فأنا موجود في الصين لأن صندلي صُنع هنا. وأنا هنا أمام هذا المصنع لأنه يصنع منتجات تيفا. ولقد توصَّلتُ إلى المصنع لأن أحد العاملين بشركة ديكرز زل بلسانه وأعطاني العنوان. مر العمَّال ومعهم حكاياتهم التي تَنتظر أن يسردها أحد. ومن سيشاركني حكايته؟
أوقفت آنجيل سيدة ترتدي شارة خضراء. كانت تشو تشون سيدة خجولة ولم تَرغب في الحديث معنا. بدأت حلقات من المُتفرِّجين تتجمَّع حولنا. اندفع رجل صفَّف شعره بحيث بدا قصيرًا. كان الرجل مُنتصِب القامة واثقًا من نفسه وسط الجموع، وشقَّ طريقه ليصل إلى السيدة ويشجعها على الحديث.
سألتُهما: «هل أنتما زوجان؟»
ابتسم الرجل، ويُدعى ديوان، ابتسامة خفيفة إلى تشو تشون. وقال: «أجل، نحن مُتزوِّجان.»
سألتُهما وأنا أشير إلى شبشبي المطاطي: «وهل تَصنعان هذا؟»
أومآ برأسيهما.
سألتهما: «وإلى أين تذهبان الآن؟»
ردَّ الرجل: «عائدان إلى غرفتنا.»
فاستأذنتُهما: «هلا نرافقكما؟»
رد قائلًا: «أجل.»
تبعناهما عبر الأزقَّة الضيقة. حاولت أن أحفظ اتجاهات الطريق، ولكن دون جدوى؛ حيث إن كل شيء بدا متشابهًا، ولم تُسعفني الشمس — التي تخفَّت وراء الدخان والضباب — في الاسترشاد بها.
صعدنا بضع درجات أسمنتية بارزة من جانب بناية من الطوب، وفتح ديوان الباب حيث يؤدي السُّلم إلى منزل ويُقابله سلم معدني، كما لو أن هذا مخرج طوارئ. اضطُررتُ إلى أن أحني رأسي أثناء دخولي من الباب ودخلت إلى المطبخ المُشترك. كان يوجد خمس مقالٍ صينية مَتْرُوكة بلا عناية يفوح منها رائحة زيت دافئ. كانت غرفتُهما عند منبسط الدرج الثاني. وصلنا إلى بابٍ خشبي مكتوب عليه رقم «٣٠٥» بقلم تحديد ثابت بالإضافة إلى حروف باللغة الصينية لم أستطع قراءتها.
كانت مساحة الغرفة كافية لتسع الفراش الذي احتلَّ أكثر من نصف المساحة الضيقة. وعلى منضدة مهزوزة، كان يوجد موقد لطهي الأرز وتليفزيون مُزوَّد بمشغل أقراص الفيديو الرقمية. كانت أسلاك السماعات تخرج من التليفزيون وتتصل بالسماعات الموجودة في الزوايا. لست واثقًا من أن غرفة صغيرة كهذه تحتاج إلى نظام مكبر للصوت، ولكن عليك أن تقدر المجهود على أية حال.
كان ديوان البالغ من العمر ٣٦ عامًا، وتشو تشون البالغة من العمر ٣١ عامًا، يقضيان فترة استراحة. وفي يومهما المعتاد، كانا يعملان من الساعة السابعة والنصف صباحًا حتى الظهيرة، ثم يأخذان استراحة لساعة ونصف، ثم يعودان للعمل من الساعة الواحدة والنصف مساءً حتى الساعة الخامسة مساءً، وبعد ذلك يمكنهما اختيار العمل من الساعة السادسة مساءً حتى الساعة التاسعة مساءً إن كان يوجد عمل يجب إنجازه. اليوم اختارا العمل لساعات إضافية. ففي يومهما العادي، يَختاران العمل من تسع إلى اثنتي عشرة ساعة أو ما شابه.
لم تبدُ ساعات العمل أكثر مما هو معقول، ولكني كنت أتساءل إلى أي مدًى تكون ساعات العمل الإضافية «خيارًا» مطروحًا أمام العمال. لم أسأل لأنني لم أكن راغبًا في أن أسلك ذلك الطريق. فإذا جاءك أحدُهم وسألك على الفور أسئلةً بخصوص مدى سوء وظيفتك، فستَشعُر في البداية بالإهانة نوعًا ما — كما لو أنَّ من يطرح الأسئلة يتعالى عليك لسوء الوظيفة التي تعمل بها — ولا يودُّ إلا الحديث عن الجوانب السلبية في العمل على الأرجح حتى ولو تضايقتَ من الرد.
سألتهما: «هل لديكما أطفال؟»
قالت تشو تشون: «أجل، لدينا ابن واحد، لي سين، إنه في الثالثة عشرة من عمره.»
قلت: «الثالثة عشرة! تبدوان صغيرَين في السن للغاية لأن يكون لديكما ابنٌ في الثالثة عشرة من عمره.» كانت تبدو صغيرة في السن فعلًا. أنا لا أحاول هنا أن أكسب نقاطًا بمجاملتها؛ فلا يكاد يظهر أي تجعيد على وجهها.
ضحك ديوان، وأخفضت تشو تشون رأسها في خجل لتُخفي ابتسامة على وجهها.
سألتُهما: «إذن، هل يعيش معكما هنا؟» لم يكن يبدو أن ثمَّة مساحة كافية لأن يعيش صبي في الثالثة عشرة من عمره بمتعلقاته وأغراضه. كانت المساحة تسعنا بالكاد نحن الأربعة. جلست تشو تشون على مقعد بلاستيك بلا ظهر في منتصف الغرفة، وجلستُ أنا وديوان وآنجيل على الفراش متلاصِقِين. بدت الغرفة أصغر مساحةً مما هي عليه في الواقع، لو كان ذلك ممكنًا. لم يكن يوجد بها نافذة بل مُجرَّد مروحة تقلب هواءً ساكنًا في جنباتها. كانت جباهنا تتصبَّب عرقًا.
قالت تشو تشون: «كلا، إنه يعيش في قريتنا.»
سألتُهما: «أين هي قريتكما؟»
رد ديوان: «إننا نَنتمي إلى مقاطعة سيتشوان.»
أخرجت دليلي السياحي ونظرت في خريطة الصين. أشار ديوان إلى غرب مدينة تشونجتشينج.
قلت: «لا تبدو بعيدة جدًّا.»
قال ديوان: «الرحلة تستغرق ٣٠ ساعة بالقطار.»
راجعت الخريطة مرة أخرى محاولًا استنباط فكرة عن حجم الصين. كانت المسافة الفاصلة من مدينة تشونجتشينج إلى مدينة جوانزو بوصتين على الخريطة … ٦٠٠ ميل في خط مستقيم.
قال ديوان: «لم نرَ لي سين منذ سنتين أو ثلاث.»
ليس من السهل أن تقرأ انفعالات أشخاص يَتحدَّثون لغة لا تفهمها، ولكن كليهما لم يبدُ عليه أيُّ انفعالات. تفحَّصت الغرفة بحثًا عن صورة أو رسمة أو أيِّ علامة تدلُّ على أنهما أبوان؛ لا شيء. كانت الجدران مغطاة بأوراق الجرائد والملصقات. كان أحد الملصقات مكتوبًا عليه شيء بخصوص مولد السيد المسيح وعليه صورة لبابا نويل.
علق ديوان قائلًا: «الجدران ليست بحالة جيدة.»
قلت له: «ماذا؟»
«الجدران.» أزاح طرف أحد الملصقات وأظهر جدارًا خرسانيًّا متآكلًا ومليئًا بالثقوب. واستطرد قائلًا: «إنها في حالة سيئة ولذا نُغطِّيها.»
قلت: «يا إلهي!» قلتها وأنا أشك في أن لديهما ابنًا فعلًا لم يرياه منذ سنتين أو ثلاث، لم أستطع التغلب على الفكرة. فعدتُ لأطرح سؤالًا: «مع من يعيش ابنكما؟»
أجاب ديوان مرة أخرى بلا مشاعر: «مع والدي.»
سألتهما منقِّبًا عن رد فعل من أي نوع: «ماذا يريد أن يكون حين يكبر؟»
قالت تشو تشون بطريقة تنمُّ عن الاستخفاف بأمنيات الأطفال: «آخر مرة رأيناه فيها كان يريد أن يكون ضابط شرطة.»
لم أشعر بأنهما أبوان. ثمة خطأ ما في الأمر.
قررتُ أن أغير الموضوع وأتحدث عن شبشبي المطاطي. مررتُ من جانب تشو تشون بصعوبة وأمسكت بشبشبي من وسط كومة الشباشب المطاطية الموجودة عند باب غرفتهما. رفعته لأعلى وأنا أقول: «أخبروني بأن صندلي يُصنع في مصنع مختلف.»
قال ديوان: «نحن الآن نصنع الأحذية، ولكنَّنا نصنع هذه الصنادل.»
قالت تشو تشون: «إنني أحيك الشرائط ومُلصَق الاسم.»
وقال ديوان: «وأنا أدهنها.»
تحدثنا أكثر عن مهامهما الوظيفية. كانا سعيدين بأجريهما — مبلغ يتراوح ما بين ١٤٠ دولارًا و٢٢٥ دولارًا في الشهر — وهو أجر جيد للغاية مقارنَة بأجور عمال الملابس الآخرين الذين التقيتُ بهم.
سألتهما: «هل يروق لكما عملكما؟»
قال ديوان: «بالطبع، إننا سعيدان للغاية بهذا العمل.»
شرَعا يُعِدان الغداء. أخبرتني آنجيل بأننا يَنبغي أن نرحل. شكرتهما على وقتهما وارتديتُ شبشبي المطاطي على عجل دون أن أنحني.
•••
في وقتٍ لاحق من تلك الليلة، طالعت ملاحظاتي وصوري محاولًا أن أربط الأفكار التي ناقشتها في الوقت الذي قضيتُه مع ديوان وتشو تشون. لقد انفَصلا عن ابنهما منذ ثلاث سنوات ومع ذلك بدا كل شيء على ما يُرام؛ حيث بدا أنهما راضيان بالعيش في غرفتهما الصغيرة، بعيدًا عن أسرتهما، ليَصنعا الشباشب المطاطية الخفيفة. لم أقتنع بهذه القصة.
وبينما كنتُ أستعرض الصور المأخوذة في غرفتهما، كبَّرت الصور بحثًا مرة أخرى عن أيِّ علامات تدل على أنهما أبوان. لا شيء. ولكن ثمة شيء لفت نظري: قطعة من شريط لاصق على الباب يُستخدم في التغليف بدَتْ مألوفة.
ملبوسات القدم ماركة كيين؛ «إذا ظهَرت أي علامة تدلُّ على تعرض هذا الشريط اللاصق للقطع أو النزع … لا تَقبل استلام المنتج. وسارع بإبلاغ المُرسِل.»
قبل بضع سنوات، اعتدتُ استلام الكثير من الطرود المُغلَّفة بذلك الشريط.
كنتُ أبيع أحذية نسائية.
لا أقصد، في هذا المقام، احتقار النساء أو الأحذية بأي شكل كان، ولكنَّني بصدد وضع بعض التعميمات بخصوص كلا الأمرين. ليس في نيتي أن أتبنى توجُّهًا ذكوريًّا متزمتًا أو أن أبدو معارضًا للباس القدم، ولكن في مجال بيع الأحذية — مثلما هي الحال مع الحياة الواقعية — التعميمات هي سر البقاء. وكما الحال مع أسماك القرش في المحيط، كنت أتعامل مع جميع النساء في قسم بيع الأحذية بحذر.
من الناحية الفنية، المتجر الذي كنتُ أعمل به يعمل في مجال توريد ملابس ومعدات المُغامرات والرحلات. كنتُ أساعد العملاء على اختيار معدات المغامرات والرحلات مثل حقائب النوم والخيام وأجهزة تنقية المياه والمواقد وحقائب الظهر أحيانًا. ولكن في الأغلب كنتُ أبيع الأحذية للنساء.
ولا أُوصي بهذه الوظيفة أحدًا، حتى النساء الأخريات.
وأحد أسباب ذلك هو أن النساء يَكذبن بخصوص مقاس أحذيتهنَّ؛ فإذا قلن لك إن مقاسهن ٣٧ فالمقاس على الأرجح ٣٩. وسرعان ما أدركتُ أنه من مصلحتي أن أردد عبارة: «هذه الأحذية تُناسب المقاسات الصغيرة.»
ذات يوم أعادت سيدة صندلها إلى المتجر وهي تشكو من رائحته الكريهة. أردتُ أن أخبرها بأن البشرية تستطيع أن تَبني ناطحات سحاب، وتستطيع أن تُرسل الإنسان إلى سطح القمر، وتستطيع أن تجوب أعماق المحيطات من داخل الغوَّاصات، وتستطيع أن تُدمِّر عالمنا بضغطة على بضعة أزرار، ولكننا لن نخترع أبدًا، ومطلقًا، صندلًا ليس له رائحة كريهة. لكن بدلًا من ذلك، تظاهرتُ بأنني قد تفاجأت. بالتأكيد قدماها الصغيرتان لن تتعرَّقا ولو بالقدر القليل لتفوح منهما رائحة كريهة؛ ومن ثم لا بد أن ثمة خطأً ما في صندلها، ثم أعطيتُ لها تعليمات بخصوص طريقة غسله.
وبعد مرور عام على بيع الأحذية، ظننتُ أنني شاهدتُ وسمعت كل شيء حتى أربكتني سيدة بسؤالها فعلًا.
سألتني: «هل لديك أي حذاء تنزُّه غير مصنوع في الصين؟»
قلت لها: «بالتأكيد لدينا. دعيني أنظر.»
كم كنت غافلًا لحسن الحظ عن الحقيقة؛ فالصين تُنتج ٩ مليارات زوج أحذية كل عام، وهو أكثر من نصف إنتاج العالم.
كان لدينا في المتجر تشكيلة رائعة من أحذية التنزُّه — ربما ١٥ أو ٢٠ طرازًا — ولم يكن لدينا إلا حذاء واحد غير مصنوع في الصين، وهو حذاء جارمونت فيجانز المصنوع في سلوفاكيا. فهذا الحذاء كان يتناسب مع المبادئ الأخلاقية لتلك المرأة، ولكنه لا يَتناسب مع مقاس قدمها. غادرَتِ المتجر بلا حذاء بنية طلب حذاء مصنوع بفيتنام مِن موقع على الإنترنت. بحثتُ على نطاق أوسع في باقي مخزن الأحذية الخاص بمتجرنا. كانت الاختيارات معدومة. أن تتعامل مع عميل يبحث عن صندل وردي اللون لا تَفوح منه رائحة كريهة ولا يُسبِّب التهاب اللفافة الأخمصية أفضل من أن تتعامل مع عميل يَبحث عن صندل غير مصنوع في الصين.
ماذا الذي جعل هذه السيدة تَكره الصين؟
استرجعت أيام دراستي بالجامعة ومادة علم الاجتماع. أثناء محاضراتنا عن أضرار العولمة والمصانع المستغلة، شرَح لنا أستاذنا مفهوم السباق نحو القاع. فالشركات على الأرجح تذهب إلى أيِّ مكان تكون فيه العمالة أرخص، وعادةً ما يكون ذلك المكان هو المكان الذي يعيش فيه أكثر الناس بؤسًا. قال لنا إن الصين كانت تفوز بالسباق كما تُبرهِن أغلبية منتجاتنا المصنوعة هناك. وحين صارت التجارة أكثر تحررًا، واصلت الصين تصدُّر السباق نحو القاع.
أخبرنا أستاذنا بأن الصين لديها شوارع وموانئ أفضل من الدول النامية الأخرى؛ فالصين لديها الكثير من الموارد، بما في ذلك أكبر عدد سكان في العالم، وهو ما يجعل لديها موردًا لا ينضب تقريبًا من العمَّال الذين يَفتقرون إلى الحقوق الأساسية التي نتمسَّك بها بشدة؛ ألا وهي حرية التعبير وحرية تأسيس النقابات وحرية الدين والمعتقد. وأخبَرَنا بأنه لا يكاد يوجد ديكتاتور تُعارضه أمريكا ولا تدعمه الصين، ورغم ذلك فإننا ندعم اقتصاد الصين الذي يدعم الحكومة.
كان يوجد أسباب كثيرة مُحتملة تجعل تلك السيدة تشتري أحذية غير مصنوعة في الصين.
كانت الصين هي القاع حينئذٍ، وهي كذلك الآن.
تصوَّرتُ أن محنة العمال الصينين لا بد أن تكون مشابهة أو تكون أسوأ مقارَنة بالعمال الذين التقيت بهم بالفعل. لقد عبَّر العمال الآخَرون عن شكواهم بخصوص عملهم أو المعاناة في حياتهم وقلة الخيارات المتاحة أمامهم دون أن أَدفعهم إلى ذلك. ولكن ديوان وتشو تشون لم يَفعلا ذلك. كانت أجورهما أعلى من أيِّ أجر يَتقاضاه غيرهما من العمال. كان لديهم نظام مُكبِّر للصوت. والجزء الأغرب في القصة أنهما بدوا راضيَين على الرغم من أنهما لم يرَيا ابنهما منذ ثلاث سنوات.
كنت أتوقع أن يكون القاع مختلفًا عن ذلك.
•••
سألتهما: «كيف كان يومكما؟»
دعوت ديوان وتشو تشون على الغداء بالقُرب من مصنعهما. لم يكن من السهل الترتيب لهذه الدعوة؛ حيث إنهما كانا يَعملان كثيرًا في المساء خلال الفترة الأخيرة، وكانا يستغلان استراحة الغداء لأخذ غفوة قصيرة وسط النهار.
قالت تشو تشون: «أنا مُرهَقة. لقد عملنا ليلة أمس مرة أخرى.»
«إلى متى؟» سألتها وأنا أرفع حبة فول سوداني إلى فمي بعِصيِّ الطعام التي كانت تهتز وأنا أمسكها بيدي.
قال ديوان وهو يضحك حين رأى حبة الفول السوداني تَتدحرج سريعًا على الأرض: «حتى الساعة الحادية عشرة.»
كانا يَبدوان اليوم في حالة مختلفة؛ أقل رسمية وأكثر انفتاحًا.
طلب ديوان زجاجة بيرة، وصبَّ بعضًا منها في كأسي الصغيرة وبعضًا في كأسه. رفعنا كأسَي البيرة — اللتَين كانتا تحتويان على رغوة في أغلبهما — معًا، وغمز لي.
وبعد مُراوغة حبة فول سوداني أخرى، عدلت تشو تشون من طريقة إمساكي بعِصي الأكل. أشار ديوان إلى النادل ليُحضر لي ملعقة.
سألته: «أخبِرْني مرة أخرى، كم عدد الساعات التي تعملها أسبوعيًّا؟»
رد ديوان قائلًا: «من ثمانين إلى مائة ساعة.»
مائة ساعة! هذا يعني ١٦ ساعة في اليوم، إذا ما كان الحد الأقصى الرسمي لأيام العمل الأسبوعية ستة أيام. ولكنهم لا يفعلون؛ ذلك لأنهم يعملون كل يوم. هل هذا أسوأ أم أفضل؟ هل تُفضِّل أن تعمل ١٦ ساعة لمدة ستة أيام في الأسبوع أم ١٤ ساعة لمدة سبعة أيام في الأسبوع؟ أخبراني بأنه مر أكثر من شهر على آخر إجازة حصَلا عليها. بدا هذا أشبه بالقاع الذي توقَّعتُ العثور عليه.
قالت تشو تشون: «إنها حياة صعبة للغاية.»
سألتهما: «هل تحصلان على أجر العمل لساعات إضافية؟»
قال ديوان: «ليلة أمس، حصلت على أجر العمل حتى الساعة التاسعة، ثم أخبرنا مديرنا بأن نسجل انصرافنا ونعود إلى العمل.»
الوحدة الأساسية للشيوعية هي العامل؛ فالجميع يعملون لأجل صالح المجتمع بوجه عام. ولكن الصالح الأعم ﻟ ١٫٣ مليار شخص قد يقود مئات الملايين للعيش في أوضاع مُتردية. ويفخر المشرعون الصينيون بقوانين العمل التي يضعونها لحماية العامل؛ حيث إنهم حددوا ٤٠ ساعة عمل في الأسبوع. والعمل لساعات إضافية مسموح، ولكن في عام ٢٠٠٧ حُظر أن يعمل العمَّال لأكثر من ٢٠٣٫٤ ساعة في الشهر. ومثل هذه الدقة تجعل القانون يبدو أجوف وأحمق على نحو استثنائي؛ نظرًا لأن العامل يعمل ساعات أكثر من ذلك بكثير في الشهر.
في الصين يوجد قانون، ثم يوجد ديوان وتشو تشون، اللذان أخبراني بأنه ليس من النادر أن يَعملا لأكثر من ٤٠٠ ساعات في الشهر. لقد أخبراني أيضًا أنهما سيَفقدان عملهما إذا اشتكيا من ساعات العمل أو عدم تلقِّي أجر نظير العمل لساعات إضافية، وهما لا يُمكنهما تَحمُّل ذلك؛ فقد حصلا على قرض لبناء منزل من طابقين في قريتهما، وبعد فترة قصيرة من الانتهاء من بناء المنزل، مرضت والدة ديوان وتُوفِّيَت بعد أن تراكمت عليهم فواتير طبية باهظة التَّكلفة.
لم يكن يوجد أحد يُدافع عن ديوان وتشو تشون؛ فالمسئولون الحكوميون، المنشغلون بازدهار الاقتصاد، لا يرغبون في اتخاذ أي إجراء يعوق المشاريع المحلية والاستثمار الأجنبي. ونقابة العمال تَخضع لإدارة الحزب الشيوعي الذي يَسن القوانين التي لا تُطبق. ومع الوضع في الاعتبار أن التجمعات العامة محظورة، لن تنشأ النقابات من تلقاء نفسها؛ فالمنظمات غير الحكومية تخضع للقيود، والمنظمات الدولية الأخرى، مثل منظمة العمل الدولية، تُجاهد لتحقيق نجاح على صعيد حقوق العمال. ولعل مكتب الإشراف الداخلي الخاص بشركة ديكرز يَضمن الجودة والكفاءة الإنتاجية، لكنه لا يفعل الكثير على ما يبدو من أجل ديوان وتشو تشون.
سألتهما: «لماذا تغيَّرت قصتكما؟ من قبل، أخبرتماني بأنكما تعملان ١٢ ساعة في اليوم كحدٍّ أقصى وأنكما سعيدان بعملكما.»
قال ديوان: «كنا نظنُّ أنك عميل لمصنعنا، ولستَ كاتبًا.» من الظاهر أن آنجيل لم تُخبرهما بذلك الأمر في المرة الأولى، أو أنهما لم يُصدِّقاها عندما أخبرتهما.
وكما هي الحال مع معظم زملائهما في العمل، ديوان وتشو تشون عاملان مهاجران، أتيا من صينٍ مختلفة عن الصين التي يعود منها رجال الأعمال والسياح يَملؤهم الإعجاب بالتغيير والنمو والحداثة. ولكن صِينَهما لم تتغيَّر كثيرًا ولم تنمُ سريعًا. فإذا ذهبت إلى فروع ماكدونالدز الموجودة بالمدن، فستجد فتاةً مبتسمة ترتدي سروال جينز أزرق خاصًّا بماكدونالدز تُسجل طلبك على مساعد رقمي شخصي يَنقل طلبك لاسلكيًّا إلى الموظف القائم بتسجيل الطلبات. ويُمكنك أن تتفقد البريد الإلكتروني الخاص بك في مقهى ستاربكس من خلال كمبيوترك المحمول. ويُمكنك أيضًا أن تَستقل شبكة نقل حديثة لمترو الأنفاق أو سيارة أجرة يضغط السائق فيها على زرٍّ ويَنبعِث صوت مرحبًا بك باللغة الإنجليزية.
أما في القرى، فإنهم لا يَزالون يزرعون بأيديهم الحقول المُدرَّجة.
قالت تشو تشون: «الحياة اليومية في القرى أفضل.»
قال ديوان: «قطعًا سنعود بمجرد أن نُوفِّر مبلغًا كافيًا من المال … ربما في غضون خمس سنوات.»
قالت تشو تشون: «أتمنى لو بإمكاني أن أَمكُث مع ابني وأسرتي وأن نلعب بورق اللعب. هنا يجب علينا أن نعمل كل يوم. لسنا أحرارًا.»
العمال الذين يَصنعون أحذيتنا أو صنادلنا في الصين ليسوا أحرارًا. إنهم، مثل مُعظم عمال ملابسنا، مقيدون بعملهم لأنه ليس لديهم خيارات أخرى.
وعلى الرغم من أنهم يعيشون ويعملون في المدينة، فكل شيء يَعيشون ويعملون من أجله موجود بالقرية الكائنة على بُعد مئات الأميال؛ ولذا سألت ديوان وتشو تشون إذا ما كانا يرغبان في الذهاب معي إلى قريتهما. سأتحمَّل عنهما التكاليف.
قال ديوان: «يجب علينا أن نعمل.» ولكنه أعطاني العنوان وقال لي إنني يُمكنني الذهاب بمفردي في زيارة، إن رغبت ذلك.
سألته: «هل ثمة شيء يُمكنني أخذه منكما إلى لي سين؟»
لم يستطيعا التفكير في أي شيء، ولكني استطعتُ؛ حيث أخرجت الكاميرا خاصتي وقلت لهما ابتسما.
نظر ديوان ناحية الساعة وربَّت على بطنه. شكرني كلٌّ منهما على الغداء. سار اثنان من ٢٠٠ مليون عامل مهاجر، جنبًا إلى جنب، زوجًا وزوجة، أبًا وأمًّا، عائدَين إلى المصنع نفسه بالهدف نفسه؛ ألا وهو كسب ما يَكفي من المال للعودة إلى ديارهم والبقاء مع أُسَرهم.