حلم أمريكي
«ديناصور، ديناصور … إيه بي سي! ديناصور، ديناصور … نَتن!» قالتها ابنتي هاربر، ذات السنوات الثلاث، وهي تتظاهَر بأنها تقرأ من كتاب في مكتبتها. نظرت إليَّ وضحكت. كانت ضحكتها عميقة وعفوية ونقية مثل المتعة الخالصة.
روتين النوم الخاص بهاربر بعيد كل البعد عن أي روتين كان؛ أولًا: أُحممها فتكون النتيجة خروجي من الحمام نصف مبتل. ثم أُنظف لها أسنانها في حين تقرع هي رأسي، بعد ذلك آخذها إلى غرفتها. ثم تأتي آني وتقرأ لها لمدة ١٥ دقيقة بينما أستحمُّ أنا. وعندما أعود، تطفئ هاربر الأنوار وتشغل أسطوانة ألبوم «العودة إلى زاوية بوه» للمُغني كيني لوينس. ثم أُجلسها على الكرسي الهزاز وأحكي لها حكاية عن الحيوان أو الدمية التي تختارها مع وجود تحذير واحد: يجب أن تشارك دومًا في البطولة. ثم أضعها في الفراش وأُحضر لها مشروبًا وأُهدهدها في الفراش وأستلقي بجانبها وأشغل الأسطوانة مرة أخرى ثم أغادر الغرفة.
وهذا عندما تسير الأمور بسلاسة، ولكن هذا لم يحدث في تلك الليلة.
كانت هاربر تجلس على الكرسي الهزاز تقرأ لي. وأخيرًا، طلبتُ منها أن تأوي إلى الفراش.
قلت لها: «سأتغيَّب على مدار الأيام القليلة القادمة؛ ولذا أتمنى أن تكوني طفلة مُطيعة لأمكِ، اتفقنا؟»
«أبي، لديَّ شيء أريد أن أخبرك به.» ثم اقتربت مني وهمست في أذني: «أبي، لا تتركنا. فأنت أفضل فتًى بالنسبة إليَّ. أحبك كثيرًا جدًّا. وأفتقدك حين تغيب.»
تشتمل سلوكياتها الليلية الغريبة على آلام المعدة وآلام العين وآلام الأسنان. ذات مرة، خبطَت رأسها عن عمد في الحائط ثم صرخت قائلة: «آاااخ! رأسي! أبي، لقد آذيتُ رأسي!» ولكنها كانت تمثيلية بارعة. فأنا فتاها المفضَّل ولم تكن ترغب في رحيلي. أخذتُ أُهدهدها لوقت أطول من المعتاد قبل أن أضعها في الفراش. لم أكن لأتغيَّب سوى ثلاث ليالٍ فقط … هذا كل ما في الأمر. عندما سافرتُ إلى بنجلاديش وكمبوديا والصين، غبت لمدة ثلاثة أشهر. ولكن الأبوة تُغيرك بطرق لم تتخيلها قط؛ فهي تجعلك تفعل أشياء لا تظن أبدًا أنك ستفعلها. وثمة أحد يفتقدك حين تغيب، وثمة أحد بحاجة إليك دومًا.
«يجب أن أذهب، يا حبيبتي.»
«لماذا، يا أبتِ؟»
«يجب أن أبحث عن صديق.»
•••
«كيلسي!» قالها أميلكار وهو يَصيح عبر هاتفي. أعرف أنه لا يفترض أن تتحدث أثناء قيادتك للسيارة في شوارع كاليفورنيا، ولكن لا يُفترض أيضًا أن تأتي من هندوراس وتتسلل عبر الحدود. تابع يقول: «هل تقود سيارة برتقالية؟»
«أجل.» قلتها وأنا أدير رأسي يمينًا ويسارًا كعرف متبع حين تبحث عن شخص عثر عليك بالفعل. واستطردتُ قائلًا: «أين أنت؟»
أجاب قائلًا: «عند محطة الوقود ٧٦.»
استدرت وعدت أدراجي إلى محطة الوقود على الطريق السريع رقم ١٠. لوح لي رجل يقف إلى جوار سيارة زرقاء داكنة بينما كنت على بعد مسافة قصيرة منه، منتظرًا إشارة المرور.
كان يرتدي حذاءً وقميص رعاة البقر وحزامًا ذا إبزيم كبير الحجم. كان يبدو كما لو أن مكانه الطبيعي فوق ظهر حصان في قرية البورفينير.
أقبل عليَّ فاتحًا ذراعيه ليحتضنني بشدة. لا أحد في السيارات المارة على الطريق كان ليُخمِّن أننا لم نتقابل إلا لبضع ساعات قبل ست سنوات.
لقد صار أكبر في السن وأضخم في الجسد وأكثر حكمة أيضًا. كانت أطراف شعره تغطيها لمسة خفيفة جدًّا من اللون الرمادي؛ خفيفة لدرجة أنك ربما لا تُلاحظها لو لم تكن على مسافة قريبة تَسمح بالعناق. لقد زاد وزنه بمقدار ٣٥ رطلًا منذ آخر مرة رأيته فيها.
ثمة شيء يجمع بيننا. لم يَسعْني إلا أن أبتسم الابتسامة البلهاء نفسها التي كنتُ ابتسمتُها من أمام المصنع حين التقيتُ به لأول مرة. وابتسم هو أيضًا.
قلت له: «السبب الحقيقي وراء مجيئي إلى هنا هو: أين التي-شيرت الخاص بي؟! أريد أن أستعيد التي-شيرت الخاص بي!»
ربت كلٌّ منا على ظهر الآخر وحدَّق كلٌّ منا في الآخر. لقد جَمَعَنا تي-شيرت، إلى أي مدًى كان هذا مستبعدًا؟
علقت قائلًا: «لقد مرَّت ست سنوات. وحدث خلالها الكثير.»
حكى لي قصة اتصال كارلا به وإخباره بأن شخصًا أمريكيًّا يدَّعي أنه التقى به في المصنع وألَّف عنه كتابًا.
في البداية، لم يَتذكَّرني أميلكار حين أخبرته كارلا عن وصولي إلى هندوراس، وهو ما لم أَستطع تصديقه. لقد غيَّرت مقابلتي له مجرى حياتي. لم يكن التغيير مرتبطًا كثيرًا بما قاله أو ما حدث حين التقيتُ به، وإنما غيرني كل الأسئلة التي لم أحصل على إجابة عنها بخصوص حياته وحياة العُمال الآخرين من مختلف أنحاء العالم. ومع ذلك لم يتذكَّر اسمي أو ما الذي كنت أفعله في هندوراس أو أي شيء آخر، باستثناء شيء واحد بسيط. تذكر التي-شيرت المرسوم عليه شخصية تاتو من مسلسل «جزيرة الخيال» (فانتازي أيلاند) يدعو الناظرين: «تَعال معي إلى جنتي الاستوائية.» تذكَّرَني وأنا أخلع التي-شيرت وأعطيه إياه.
لطالما كنتُ أشعر بالخجل من إعطائي له التي-شيرت الذي كنتُ أرتديه والوقوف عاري الجذع إلى جواره لالتقاط صورة. كنت كلما تذكرت ذلك، قلتُ ليتني لم أفعل؛ فقد عكس ببراعة ضحالة بدايتي الخاطئة. كان الأمر كذلك إلى أن اكتشفتُ أنه لولا سخافة تصرفاتي ما كان ليتذكَّرني على الإطلاق.
ومن بين الأشياء الأخرى التي تذكَّرَها في ذلك اليوم أنه ظن أنني كنت بحاجة إلى المساعدة وأنه كان ثملًا.
مقابلة أميلكار كانت أشبه بمقابلة أحد المشاهير. هو شخص كنتُ أفكر فيه، شخص تحدثت عنه لدرجة أنه كاد أن يتحول إلى أسطورة. ما زال أمامي الكثير جدًّا لأعرفه عنه.
قال لي: «كيلسي، إن زوجتي تَنتهي من العمل في الساعة ٣:٣٠ وستُقابلنا هنا.»
تساءلت: «ماذا؟»
«زوجتي … إنها آتية إلى هنا.»
كان يتحدث القليل من الإنجليزية، وكنت أتحدث القليل من الإسبانية. ولهذا، ثمة تفاصيل كثيرة فُقدت في غياهب الفجوة اللغوية بيننا. زوجة؟ وماذا عن أسرته وجولانيس في هندوراس؟
علق قائلًا: «زوجتي هنا. زوجتي في الولايات المتحدة … إنها آتية إلى هنا وتستطيع أن تترجم كلامنا.»
ذكر بناته وتسلَّلت العواطف إلى نبرة صوته. ذكر الهجرة وفتح محفظته وعرض عليَّ تصريح العمل في كاليفورنيا الخاص به. وتحدَّث عن الغرامات وزواجه.
كان أميلكار متزوجًا.
سألته: «هل تزوجت من أجل الحب أم من أجل التأشيرة؟»
أجاب قائلًا: «من أجل الحب.»
وقفت سيارة ماركة هوندا كستنائية اللون وخرجت منها سيدة في الحادية والعشرين من عمرها. أشرق وجه أميلكار وعانقها وقبلها وهو يُربِّت على بطنها.
قال: «صغيري!» كانت حاملًا في الشهر الثالث.
قالت: «سعدتُ بلقائك، يا كيلسي. أنا مايرا.»
أشار إليَّ أميلكار لأجلس في المقعد الأمامي من السيارة وجلست مايرا في الخلف. سحبتُ حزام الأمان لأثبته في الجانب الآخر إلى جواري.
قال أميلكار: «إنه لا يعمل …» ثم أشار إليَّ بأن أدس حزام الأمان أسفل ساقي لكي يبدو أنني أرتديه. أحيانًا يكون التظاهر بالامتثال للقانون على نفس قدر أهمية الامتثال له فعليًّا.
قدنا السيارة بضع دقائق، ثم أوقَف أميلكار السيارة في الشارع.
قال وهو يشير إلى خارج نافذتي: «هذا أول منزل لي. إنه قبيح للغاية بالنسبة إلى مدينة إنديو.» كما هي الحال مع الكثير من الأشياء، بدا المنزل من بعيد على خير ما يرام. ولكن حين دخلناه، أدركت أنه ليس منزلًا واحدًا، وإنما أربعة منازل صغيرة متقاربة بعضها من بعض. وعن قُربٍ أكثر، يمكنك أن ترى الطلاء المتقشر والستائر الممزقة. كان أحد هذه المنازل له نوافذ ذات ألواح خشبية متقاطعة.
عاش أميلكار هنا مع ثلاثة شباب آخرين.
«ظننتُ أنني سأعمل في الحقول أو المصانع.»
عندما وصل لأول مرة، حصل على وظيفة في أحد المصانع التي تصنع وتُشكِّل أسطح الجرانيت للطاولات والنضد وتُوزِّعها على المناطق المحيطة. ثم أصيب كاحله في أثناء لعب كرة القدم، وساعَده خاله في الحصول على وظيفة في متجر بيع أحذية؛ حيث عمل كأمين خزينة واكتسب خبرة في مجال خدمة العملاء.
لقد اكتسب خبرة في البيع. في الواقع، كان بيع الأحذية يَسري في دمه.
«اعتادت أمي تعبئة الخبز، وكنت أنا أتولى بيعه. وكان أبي يبيع الأحذية، لم أظن قط أنني سأبيع الأحذية أيضًا.»
كانت مهارته في بيع الأحذية مصدرًا لفخر الأسرة. وأتذكر حين كنتُ في مدينة فيلانويفا، أخبرتني والدته قائلةً: «حتى وإن دخلت المتجر ولم تكن راغبًا في شراء حذاء، فسوف تَخرج من الباب ومعك حذاء.»
وأضافت كارلا قائلة: «ذات يوم، دخل شاب إلى المتجر — مكسيكي [مهاجر غير شرعي] — وكان يحتاج إلى حذاء. ونظرًا لأنَّ أميلكار كان موجودًا، قدَّم للشاب صفقة جيدة.»
توقَّفنا عند متجر زاباتيريا جواردادو، وهو المتجر الذي شق فيه أميلكار طريقه حتى وصل إلى منصب المدير في النهاية. كان مكتوبًا على فاترينة العرض عبارة «تخفيضات لتصفية النشاط التجاري.» كانت الوظيفة في متجر الأحذية مكَّنته من سداد ٨ آلاف دولار تكاليف بناء المنزل الذي تعيش فيه جولانيس وجينيسيز. لم يكن أميلكار يَكسب هذا المبلغ من العمل طوال عام في مصانع الملابس بهندوراس. وكان يَدفع مصاريف تعليم بناته من الوظيفة. كما أنه أعطى أخاه ٦ آلاف دولار لكي يتمكَّن من التوسع في نشاط الأسرة الخاص بتوزيع الخبز. كان السعال الذي تعاني منه والدته أكثر من مجرد نزلة برد مؤقتة، بل كان مرضًا مزمنًا. وحسب تقديره، كان قد أرسل لها أكثر من ألفَي دولار تكاليف علاجها.
«مقاس ٤٤؟» سألني أميلكار وهو يُشير إلى حذائي.
كان مصيبًا تمامًا.
قلت له: «يا إلهي، كنتَ بارعًا في عملك.»
رد قائلًا: «لقد جئتُ إلى هنا من أجل شيء واحد وهو كسب المال.»
كانت وظيفة كهذه هي بالضبط ما جعَل أميلكار يُخاطر بكل شيء ليأتي إلى الولايات المتحدة. كان أميلكار يُحقق نجاحًا. كان حلمه الأمريكي يتحقَّق على أرض الواقع … إلى أن تبدَّل الحال.
قال: «كنتُ أشعر بالإحباط الشديد. كنت وحيدًا في هذه البلاد. بدأت أشرب الكحوليات ثم أدمنت المخدرات … الكوكايين.» شعر أميلكار بالذنب من جراء الإسراف في شرب الكحوليات بالأموال التي كان من المفترض أن يرسلها إلى أسرته، ولكنه أدمن الشراب. حاول الانضمام إلى جمعية مدمني الكحول المَجهولين، ولكنَّ الأمر لم يفلح. وفي ٣١ ديسمبر ٢٠٠٧، وجد مجموعة دعم إسبانية للمُدمنين المتعافين. كان قراره للعام الجديد هو عدم الاقتراب مطلقًا من الكحوليات أو المخدرات ثانيةً، وكان قرارهم للعام الجديد هو مساعدته في ذلك. ومنذ ذلك الحين أقلع عن الإدمان تمامًا.
وذات يوم، كان أميلكار متجهًا إلى المنزل بعد قضاء وردية عمل في متجر للأحذية حين توقف على جانب الطريق. وبعد قضاء أربع سنوات وهو يتلفت من حوله ويحاول التصرف كما لو أنه يَنتمي للمكان، استطاع أن يُحدق في عين أول ضابط من إدارة الهجرة منذ ذلك اليوم الذي قفز فيه من فوق السور بين مدينتي خواريز وإل باسو.
قال أميلكار: «احتجزتني إدارة الهجرة لمدة ٢٦ يومًا؛ كان يتعيَّن عليَّ مقابلة القاضي. وتم إخلاء سبيلي، ولكن تعيَّن عليَّ دفع غرامة.»
كلَّفته أتعاب محاميه خمسة آلاف دولار وهو مبلغ جمعه من أموالٍ كان يدخرها وسُلفة أخذها من خاله. دفع غرامة بلغت عشرة آلاف دولار، وهذا بفضل سُلفة أخذها من مديره بمتجر الأحذية. ولو لم تَطلب مايرا الزواج منه، لكان قد رُحِّل من البلاد.
كان قد بدءا يتودَّد كلٌّ منهما إلى الآخر في تردُّد قبل ١٠ أشهر من استجواب إدارة الهجرة له. كانت مايرا تتردَّد بانتظام على سوق السلع الرخيصة والمستعملة التي كان يَبيع فيها أميلكار الأحذية وأشارت لها إحدى الصديقات إلى أميلكار وهو يرقص. كان أميلكار يحب الرقص. ففي الماضي، كان يَسكر ويرقص في الحانات، أما الآن فإنه يرقص كلما سمع موسيقى. وشجَّعتها صديقتها على أن تطلب منها أن يُريها بعض الحركات. ثم غادرت خلسة في خجل.
كثرت لقاءاتهما التي كانا يُرتِّبان لها في سوق السلع الرخيصة والمستعملة، وطلب أميلكار رقم هاتفها، إلا أنها لم تُعطه إياه، وبدلًا من ذلك كانت تتصل به من رقم خاص.
بعد أشهُر من الدردشة، ذهبا إلى متنزَّه في مواعدة غرامية.
قالت مايرا: «قبَّلتُه. كان خائفًا.»
وعلق أميلكار قائلًا: «لم يَسبق لي مطلقًا أن تُقبلني فتاة.»
تواعَدا لمدة ثلاثة أشهر قبل أن يُخبرها أميلكار بحياته الأخرى في قرية البورفينير. كانت تظن أن له ابنة واحدة في هندوراس وأن إقامته في الولايات المتحدة شرعية. كما أنه كذَب بخصوص شيء آخر أيضًا.
قال أميلكار: «لم يعد بإمكاني تحمُّل ذلك. لقد كذبت عليك. أنا لا أبلغ من العمر ٢٦ عامًا، بل ٢٩ عامًا. وليس لديَّ ابنة واحدة بل ثلاث.»
ولكنها لم تَكترث؛ لقد أحبَّتْه.
وبعد يومين من إطلاق سراحه من قِبَل إدارة الهجرة، ومع انتظاره لمثوله أمام المحكمة، عرضت عليه مايرا الزواج.
قالت مايرا: «يُمكنني أن أساعدك. تزوجني.»
رد أميلكار: «كلا، لا أريد أن أتزوَّجك من أجل الحصول على الإقامة. لا أريد أن يعتقد الناس بي ذلك.»
في النهاية، وافق، وبعد أن طلب يدها من والدَيها، تزوجا. كان والدها مُتوترًا في البداية، ولكنه الآن صار يحب أميلكار. وعلى الرغم من أن حياته الجديدة قد بدأت، فإنه لم يَنسَ حياته القديمة.
قال أميلكار: «عندما أطلقت [إدارة الهجرة] سراحي، كان يتعين عليَّ البدء من جديد. عملت في مصنع الجرانيت مرةً أخرى. وبعتُ أحذية في سوق السلع الرخيصة والمستعملة في مساء يومَي الأربعاء والسبت.»
تضاءلت الخطط الخاصة بمنزله في قرية البورفينير. اضطرَّت والدته إلى دفع تكاليف علاجها الخاص أو الاستغناء عنه. أخبرتْه أنها تتفهم ظروفه.
انعطف أميلكار إلى شارعٍ مسدود وأبطأ السيارة أمام أحد المصانع. في الخارج وقفَت ألواح الجرانيت كمسلات في حجم النضد. كانت هذه أول وظيفة له وآخر وظيفة أيضًا. فقبل شهرين مضيا، أُصيب ظهره أثناء حمل لوح جرانيت — يزن ٨٠٠ رطل — مع ثلاثة رجال آخرين. فبالنسبة إلى رب العمل، فإن مواطنًا من هندوراس يحمل شهادة حتى الصف السابع ليس له قيمة كبيرة ما دام لا يَستطيع أن يحمل الأثقال على ظهره؛ ومن ثم فصلوه عن العمل.
لم يكن حمل الجرانيت يُمثل شيئًا يُذكر مقارنة بالأعباء التي يَحملها أميلكار كل يوم. ولكن في تلك الفترة امتلأت محفظته ببطاقات حجز موعد لدى اختصاصيي علاج آلام العمود الفقري. كان ما يتكلفه طيلة شهر من مواعيد الحجز لدى هؤلاء الاختصاصيين تعدل أربعة أضعاف التعويض الذي يحصل عليه شهريًّا نظير عجزه.
رفع أميلكار دعوى على شركة الجرانيت. كان حلمه الأمريكي يتمثَّل في وظيفة تُوفِّر الحد الأدنى للأجور وحياة بسيطة تُتيح له إرسال مبلغ صغير لأسرته في هندوراس كل شهر، وقد حُرم من كل ذلك. مررنا من أمام المصنع دون أن نتوقف. وبينما كنا نَبتعد عن المكان، لاحظت رسالة تمر على الواجهة المتحركة لتابلوه السيارة مكتوب فيها: «عُطْل … عُطْل … عُطْل.» كانت السيارة في حالة سيئة. فالباب الموجود ناحيتي لا يمكن فتحه إلا من الخارج. اضطررت إلى فتح نافذتي وخرجت منها حين توقفنا. تجاوزَت قراءة عدَّاد المسافات ٩٠ ألف ميل. من الواضح أنها اجتازت أماكن وعرة خلال مسيرتها مما تسبَّب في تقادم السيارة على نحوٍ يفوق قدرة أي عداد على القياس، ومع ذلك ما زالت تشق طريقها.
ثم أخَذني إلى الشقة التي يتشارك هو ومايرا العيش فيها مع خاله. تدلَّت ملاءة أمام الباب. اضطُررنا إلى إزاحتها جانبًا أثناء دخولنا. كانت هذه لمسة من الحياة في هندوراس. كان يوجد تليفزيون بشاشة مسطَّحة ٣٧ بوصة موضوع في مكتبة تليفزيون صغيرة. لم يكن لديهم قنوات الكابل، كان التليفزيون رقيقًا على نحوٍ مُبالَغ فيه لدرجة لا تُتيح معها وضع هوائي عليه، ولذا كان الهوائي مثبتًا على مقشة مربوطة بكرسي معدني. كان يوجد ثلاث غرف نوم. كان أميلكار ومايرا يتشاركان واحدة، وكانت الثانية مخصَّصة لخال أميلكار، أما الثالثة فكانت مكتظة بأكوام من الأحذية؛ أحذية مصنوعة من جلد الثعبان فوق أحذية مصنوعة من جلد حيوان المدرَّع فوق أحذية مصنوعة من جلد البقر فوق أحذية مصنوعة من جلد أسماك شيطان البحر.
نظرت إلى الأحذية المصنوعة من جلد أسماك شيطان البحر. ينبغي أن أقيس واحدة! ونظرًا لأن أميلكار كان يتذكَّر مقاس حذائي، بحث لي عن حذاء مقاس ٤٤. كان الحذاء كستنائي اللون، وعلقتُ قائلًا كم أنا مثير للضَّحك فيه. وافقني أميلكار الرأي. كان يبيع الحذاء مقابل مبلغ من المال يتراوح بين ١٥٠ دولارًا و٢٥٠ دولارًا ويحقق في المعتاد أرباحًا تتجاوز نسبة اﻟ ١٠٠ بالمائة من صفقة بيع واحدة. وكان يَبيع الأحزمة أيضًا. ونظرًا لأنه لم يعد يعمل في متجر، كان يذهب إلى عملائه سواء في منازلهم أو في محل البقالة أثناء استراحة التدخين خاصتهم.
وبالعودة إلى محطة الوقود ٧٦، وصلنا مايرا إلى سيارتها، حيث كانت بطريقها إلى وظيفتها الثانية بدوام جزئي. كانت تعمل مدة ٢٠ ساعة في الأسبوع بمتجر أحذية بمركز تسوق قريب و٢٠ ساعة في الأسبوع في تصليح ساعات اليد بالمتجر القريب.
تبعنا مايرا إلى مركز التسوق وودَّعها أميلكار بقُبلة عند المتجر قبل أن نتوجه إلى قاعة الطعام. تحدَّثنا عن شطائر التورتيلا التي كانت تُعدها والدته وكيف أنه كان يأكل ١٥ شطيرة في جلسة واحدة، وذلك حين كان نحيفًا. يا إلهي، إنه يَفتقد طعام والدته.
«الطعام الأمريكي …» قالها وهو يُربِّت على بطنه بطريقة لا تعني أنه طعام «لذيذ» وإنما طعام «يُسبِّب السمنة».
كنا في مواجهة القرارات العتيقة نفسها التي نواجهها في قاعة الطعام: اختيار الأكل من ماكدونالدز أم باندا إكسبرس أم سبارو. قال إنه يريد باندا إكسبرس، ولكنه يريد أولًا أن يحضر شيئًا لمايرا واقترب من منفذ ماكدونالدز.
قال للفتى ذي العينين الزرقاوَين الواقف وراء منضدة منفذ البيع: «هل تتحدَّث الإسبانية؟»
قال الفتي: «أوه، كلا! سأُحضر لك أحدًا.»
لقد مكث أميلكار هنا ست سنوات ولا يُمكنه أن يطلب حتى وجبة بيج ماك.
قلت له منتقدًا إياه: «كل ما عليك فعله هو أن تُشير إلى قائمة الطعام وتقول: «رقم واحد، من فضلك.» يمكنك أن تفعل ذلك.»
قال لي إنني أشبه مايرا؛ فهي تُلح عليه دومًا من أجل حضور دروس تعليم اللغة الإنجليزية وعلى الأقل محاولة تحدُّث الإنجليزية في مواقف كهذا الموقف. كنتُ أعرف الشعور الذي يَنتاب المرء حين يكون غريبًا في بلد. قضيتُ شهورًا متتالية في أماكن كانت قدراتي على التواصل فيها تُعادل القدرات اللغوية لطفل دارج. هذا من شأنه أن يُضايقك لبعض الوقت، ولكن أميلكار كان مقيمًا هنا لسنوات. ما الشعور الذي سيُراودك حتمًا حين تكون غريبًا في وطنك، حين تعيش في مكانٍ لا تنتمي إليه ولكنك مضطر للانتماء له؟
حصل أميلكار على وجبة البيج ماك خاصته وأخذها إلى مايرا قبل أن نجلس معًا لتناول الطعام في علب الفوم من مطعم باندا إكسبرس. طرحت عليه، في تردد، سؤالًا لطالما تردد في ذهني منذ أن التقيت بمايرا.
سألته: «هل تعلم جولانيس بأمر مايرا؟»
أجاب أميلكار قائلًا: «كلا؛ إنني أتجنَّب إخبارها بالأمر لأنني أعرف أنها لا تزال تحبني. تقول لي مايرا دومًا: «لماذا لا تُحضر بناتك إلى هنا؟» ولكني لا أريد أن أكسر قلب جولانيس. ينبغي أن يبقى الأطفال مع أمهم.»
قلت له: «كما تَعرف أنها تظن أنك عائد خلال بضع سنوات وأنكم ستَعيشون جميعًا معًا في البورفينير. هل تحبها؟»
رد قائلًا: «قبل أن أُغادر كنا نتشاجر. كنا نواجه الكثير من المشكلات. أريد أن أراها سعيدة.»
باغته بسؤال آخر: «هل جولانيس أمٌّ صالحة؟»
أجاب: «أجل، بنسبة مائة بالمائة، أجل.»
أخبرني أميلكار بأنه يتحدث إلى جينيسيز وبيتسابي على الأقل مرتين في الأسبوع. وقال إنَّ جينيسيز تظن أنه ينبغي أن تحصل على أي شيء تريده. إنها تعاني من مشكلات في المدرسة؛ فالمدرسون يَصرخون فيها ويضربونها، ويتصلون بجولانيس ويَصرخون فيها. كانت بيتسابي تبلغ من العمر ستة أشهر حين غادَر البلاد. إنها لا تعرفه حقًّا إلا من خلال الهاتف والصور. كان معجبًا بذكائها. أما بالنسبة إلى كارين، كان يودُّ أن يَتحدَّث إليها أكثر، ولكن زوج أمها لا يسمح بذلك. كان أميلكار يتصل بهم مرة واحدة في الشهر ليُخبرهم بأنه أرسل الأموال. وعندما تحدَّث عن أطفاله، تغير لون عينيه وتحول إلى درجات من اللون الوردي. مسح دموعه دون أن يُعطي تبريرًا لبكائه.
قال: «بيتسابي تسألني دومًا متى أعود إلى أرض الوطن. ودائمًا أقول لها: «قريبًا».»
سألته: «وهل أنت أب صالح؟»
فأجاب قائلًا: «لا أظن أنني أب صالح لأنني لست موجودًا لمساعدة البنات. أنا هناك بعقلي، ولكن ليس بجسدي … عندما أعود، سأُخبرهم بأنني خذلتهم.»
لم يكن بإمكان أميلكار أن يَحتضن بناته. جلسنا في صمت بينما انتابته مشاعر مختلفة وأنا أتخيَّل الوضع. أردت أن أحتضنه. طوال رحلتي، التقيت بأمهات وآباء منفصلين عن أولادهم، ولكن كان هذا قبل أن أصبح أبًا وقبل أن تَطلب مني صغيرتي عدم الرحيل وقبل أن يأسرني ابني الصغير البالغ من العمر ٦ أشهر بابتسامته الصغيرة المثالية. أعرف أنني لا يُمكنني أن أتخيل الشعور الذي يُراودك حتمًا حين تترك جميع أحبائك، بمن فيهم أبناؤك، ولكني الآن أعرف على الأقل إلى أي مدًى يمكن أن يكون حب الآباء لأبنائهم غامرًا ووافرًا. كنت أفكر في جميع اللحظات التي افتَقَدها أميلكار: أعياد الميلاد والإجازات ونقاط التحول. فأول مرة تجلس ابنتي هاربر على نونية الأطفال، شعرت كما لو أنني فُزت بالمباراة النهائية في دوري كرة القدم الأمريكية.
«إنها تضحية من جانبي أن أكون هنا. أنا وحيد … باستثناء مايرا … أحيانًا أشعر بأنني أود الرجوع، ولكني في الوقت الراهن أحاول أن أصير مواطنًا. جزء مني يريد الرجوع، وجزء مني لا يريد ذلك. أود أن أعمل بكدٍّ وأدَّخر مالًا، لكي تحظى البنات بحياة أفضل. لا أريدهن يبعن خبزًا في الشوارع. أودُّ أن أجعل عالمهن مكانًا أفضل.»
أراد أميلكار أن تلتقي والدته بمايرا. والدته، التي قال عنها إنها مثله الأعلى، كانت لا تعرف أن زوجته الأمريكية حامل، بينما كانت كارلا تعرف حيث إنها هي ومايرا صديقتان حميمتان يتحدثان عبر الهاتف ويتفاعلان على موقع الفيسبوك. أراد أن تلتقي أسرته بابنه الأمريكي الذي ينتظر ولادته.
كان يَصبو إلى مرحلة التقاء العالمين الخاصين به.
انتهينا من طعامنا الصيني وعُدنا إلى متجر مايرا لكي يتمكَّن من توديعها مرة أخرى. كانت موسيقى الكريسماس تُعزف في الخلفية، وتُمهِّد لأغنية رود ستيوارت الكلاسيكية من إنتاج شركة موتاون. أخبرني بأنه يحب هذا النوع من الموسيقى وليس الموسيقى المكسيكية. كما أنه يحب براين آدامز.
كانت جميع المتاجر — إيدي باور وجي سي بيني وجاب — تعلن عن أسعار مخفضة بمناسبة الكريسماس، ولكن كانت الأسعار ما تزال مرتفعة جدًّا بالنسبة إلى أميلكار.
•••
قدنا السيارة عائدين إلى محطة الوقود ٧٦ في ظلمة الليل. وعندما وصلنا، أخرجت الكمبيوتر المحمول الخاص بي.
قلت له: «أريد أن أريك الصور التي أخذتها حين كنت في هندوراس مع أسرتك.»
فتحت حقيبة السيارة وشغَّلتُ بسرعة جهاز الكمبيوتر المحمول.
«جدي … أوه … أطفالي.» قالها وهو يشهق حين رأى الصور.
علق قائلًا: «ارجع إلى الخلف … تقدَّم إلى الأمام …» لم أكن متأكدًا مما كان يريده. بدا وكأنه يريد مشاهدة جميع الصور في الوقت نفسه. وواصل قائلًا: «ارجع إلى الخلف. ارجع إلى الخلف. توقف.»
توقَّفت عند صورة لجولانيس. كانت تخفض رأسها وتغلق باب منزلها، أو بالأحرى منزله. ابتسم ابتسامة حزينة.
قلت له: «هل تريد أن أطبع لك بعض هذه الصور؟»
أجاب قائلًا: «أجل، اطبعها كلها. أريد جميع الصور.»
•••
قضيت ثلاثة أيام مع أميلكار نتجول بالسيارة ونشرب موكا في مقاهي ستاربكس ونتناول وجبات اللحم المقدَّد من مطعم دينيز. كنا نتسكع في الشوارع نتحدث عن أسرتَينا وما يحمله لنا المستقبل في طياته.
حيَّتنا النادلة بالإنجليزية وسألتنا عما نود أن نشربه. وحين تبين أن أميلكار لا يفهمها، حاولَت أن تسجل طلباتنا بالإسبانية. وعندما اتَّضح أنني لا أفهم تمامًا الإسبانية التي تتحدَّثها، هرشت رأسها في حيرة.
قالت: «هو لا يتحدَّث الإنجليزية وأنت لا تتحدث الإسبانية.»
أجبتها قائلًا: «هذا صحيح.»
ثم توقفت لبرهة طلبًا للتفسير، ولكننا لم نفسر لها شيئًا. في الحقيقة، إنها قصة طويلة نوعًا ما.
كان لديَّ الكثير من الأسئلة لأميلكار حين التقينا لأول مرة: كم تتقاضى أجرًا؟ هل هذه الوظيفة توفر لك ولأسرتك حياة أفضل؟ كيف تبدو ظروف العمل؟ ولكني لم أطرح أيًّا من هذه الأسئلة. أعتقد أنني في قرارة نفسي لم أرغب في معرفة الإجابات.
الآن، أنا أعرف الإجابات، ولا أشعر بأن سعادتي زادت، ولم يَزِد غضبي كذلك؛ فالجهل ليس بنعمة، والواقع أيضًا.
فكَّرت في جميع علماء الاقتصاد الذين يُشيرون إلى صناعة الملابس باعتبارها الدرجة الأولى على السلم الاقتصادي. ولكن دعنا لا نتظاهر بأن أميلكار، الذي يدس في اللحظة الراهنة كمية كبيرة من البطاطس المهروسة في فمه، كان لديه وظيفة في هندوراس تكفل له تحقيق جميع آماله؛ فلقد خاطر بحياته تاركًا وراءه عمله وعالمه وجميع أحبائه.
في الليلة الماضية، حاولت أن أشرح لأميلكار كيف أن مقابلته غيَّرت حياتي، ولكن لم تُسعفني اللغتان الإسبانية والإنجليزية.
سألني أميلكار: «كم استغرقتَ للسفر من هندوراس إلى ولاية إنديانا؟»
قلت له وأنا أحسب وقت مغادرتي وفرق التوقيت: «دعني أحسبها، نحو ثماني ساعات.»
«ثماني ساعات. هذا كل شيء؟» كان في استطاعتي قراءة أفكاره تقريبًا. لقد استغرقت رحلة أميلكار ليصل إلى هنا ثلاثة أشهر. لو كان لديه وظيفة شرعية وأوراق سليمة، لاستطاع السفر لزيارة أسرته، ليكون هناك في غضون ثماني ساعات.
انتهينا من وجبتنا وتوجهنا إلى اختصاصي علاج آلام العمود الفقري الذي كان يعالجه. اضطُررت إلى السفر حيث تعين عليَّ اللحاق برحلة طيران مسائية. وفي اليوم التالي، كنت سأقف أمام الباب الأمامي لمنزلي، لتصيح ابنتي هاربر وهي تركض في اتجاهي وتصطدم بركبتي قائلة: «بابا! لقد عدت إلى البيت.» سينظر إليَّ ابني جريفين من فوق كتف آني ويبتسم لي ابتسامة بسيطة. سأحتضن ثلاثتهم في حضن جماعي كبير وسأقول شيئًا يُعبر عن سعادتي. سأعنيه من كل قلبي أكثر من أي وقت مضى.
قلت له وأنا أُسلمه الخطاب الذي طلبت مني جولانيس أن أعطيه إياه: «أوه، هذا لكَ!»
سرت إلى سيارتي تاركًا إياه ممسكًا بالخطاب وهو يحدق به وحسب؛ رسالة من حياته السابقة.
كانت رحلته بعيدة كل البُعد عن نقطة النهاية!