السائح الصبياني: من المحلية إلى العالمية
على جانب أحد التلال التي تلفحها أشعة الشمس بمدينة أديس أبابا، عاصمة إثيوبيا، وقفت سيدة — ترتدي قبعة صفراء للوقاية من أشعة الشمس وصندلًا بلاستيكيًّا وردي اللون — تُؤرجح معولًا خشبيًّا. الصنادل البلاستيكية هي آخر نوع من لباس القدم قد يقع عليه اختيارك أثناء أداء هذا النوع من المهام. والسيدة — التي كانت تبلغ من العمر ما يكفي كي يكون لها أبناء أحفاد في إثيوبيا — آخر واحدة من الناس الذين قد يقع عليهم اختيارك لاجتثاث أرومة إحدى الأشجار. ولكن كان هذا ما تفعله هذه السيدة وعشرات من السيدات الأخريات مثلها. تبع صوت ارتطام المعدن بالأرض والخشب صوت همهماتِ بذْل الجهد. كانت السيدات أشبه بلاعبات التنس وهن يَحشدن كل طاقتهن وراء ضربة من راحة اليد، إلا أنهنَّ كن يُواجهن مهمة أشق كثيرًا.
ناولتْني السيدة مِعوَلها الخشبي، ومسحت حاجبها بمنديل وتجرَّعت الماء من دورق بلاستيكي. توقفَت حركة الفئوس المتأرجحة جميعها بينما توجَّهت جميع العيون إليَّ. حركتُ المِعوَل الخشبي بضربة متأرجحة وأخفقتُ في إصابة الأرومة. انتقدَت النساء أسلوبي وعرضنَ بعض النصائح. أصابت الضربة التالية الهدف وفصلت جزءًا ضئيلًا للغاية من الجذر عن الأرومة. في اليوم التالي، شعرت بالألم.
هذا هو الاقتصاد الإثيوبي — يعتمد على أرض وخشب، أذرع وظهور، تراب وعرق — ولقد ظلَّ على هذه الحال لأجيال. ولكن على الجانب الآخر من التل، غيَّرت شابة — جمعت بين حبها للأزياء وحبِّها للعمل التجاري — وجه هذا المجتمع تدريجيًّا من خلال الأحذية التي تنتجها.
لقد قادتني مغامراتي — باعتباري مستهلكًا مؤثرًا — إلى زيارة شركة سولريبلز؛ وهي شركة أحذية من نوع مختلف للغاية.
دخلتُ عبر بوابة بيضاء متفرعة من طريق ترابي حيث قادتني باثلهام تيلاهون، مؤسسة شركة سولريبلز ومديرتها، في جولة في أروقة المصنع. كانت باثلهام هي من دعاني إلى هذه الزيارة بعد أن عثرت على مدونتي بالصدفة.
ثمة أمور كثيرة غير «معتادة» في مصنع الأحذية هذا. كان أقرب لكونه منزلًا من كونه مصنعًا. ظلَّل خيشٌ أزرق العُمال الذين كانوا يعملون بالمطارق عند الباحة الأمامية، وحماهم من أشعة الشمس. وعلى ارتفاع بضع درجات وعبر الباب الأمامي، كانت توجد حجرة معيشة لا تحتوي على أرائك وإنما تحتوي على ماكينات خياطة.
وفي إحدى غرف النوم التي لا تحتوي على أسِرَّة، جلس رجل يفرش صمغًا على نعلٍ داخليٍّ لحذاء. وفي غرفة أخرى، جلس رجل آخر يصنع أخرامًا في الجزء العلوي من حذاء جلدي.
شركة سولريبلز هي شركة أحذية تشغل مساحة صغيرة جدًّا. والجلد والقطن وحتى الغراء هي خامات جميعها مُتوافرة في محيط ٦٠ ميلًا من المصنع. والنعال المطاطية تُقطَع من الإطارات الفارغة الملقاة على قارعة الطريق.
قالت باثلهام، وهي تُشير إلى الشرائط المموهة الموجودة على زوج من الشباشب المطاطية: «إننا نجمع زي الجيش الإثيوبي ونُحوِّله إلى أحذية. نحب الحفاظ على البيئة بحكم العادات والتراث. منذ فترة طويلة، كان الشعب يَرتدي هذه الأنواع التقليدية من الأحذية ذات النعال المطاطية المُعاد تدويرها. لقد استفدنا من تلك الفكرة حين أسَّسنا هذه الشركة. إننا لا نبتكر شيئًا، وإنما نُدخل تعديلات عليه.»
قادتني باثلهام إلى مكتبها واستغرقت دقيقة تُناقش يوم العمل أثناء تناول قدح من الشاي مع أحد شركائها، وهو أخوها كيروبل. تنتج شركة سولريبلز أكثر من ٨٠ طرازًا؛ بداية من الشباشب المطاطية ذات الألوان البراقة وحتى الأحذية الخفيفة والصنادل ذات السيور التي يمكن ارتداؤها في خروجات مسائية بالمدينة. ولقد تلقَّت الشركة طلبية بقيمة ٤٠ ألف دولار من شركة أمازون بالمملكة المتحدة.
تُصدر شركة سولريبلز منتجاتها إلى ١٤ دولة حول العالم؛ حيث إنها باعت أحذيةً بقيمة تفوق مليون دولار في عام ٢٠١١ وتُخطط لبلوغ مبيعاتها قيمة مليونَي دولار في عام ٢٠١٢، و١٠ ملايين دولار بحلول عام ٢٠١٥. ولكن من وجهة نظر باثلهام، تُعد أهمُّ معادلة على الإطلاق هي المعادلة التالية: المبيعات تُساوي فرص عمل.
تقول: «بدأت شركة سولريبلز كفكرة. كنا نظن أن بإمكاننا توفير فرص عمل للناس لأنه لم يكن يوجد فرص عمل.»
لقد أسسَت باثلهام الشركة بأموالها الخاصة وشغلتْها بدعمٍ ائتماني من الحكومة عبر أحد البنوك المحلية. تؤدِّي شركة سولريبلز مهمة اجتماعية، ولكن باثلهام تريد أن يشتري الناس منتجات شركة سولريبلز لأنه يَروق لهم الأحذية، لا لأنهم يشعرون بأنهم يُسهمون بعمل خيري جراء القيام بذلك. في الواقع، هي تتساءل عن جدوى العمل الخيري وفعاليته.
«مجتمعي المحلي مُنفصل قليلًا عن المجتمعات المحلية الأخرى، وتوجد الكثير من منظَّمات الإغاثة في أرجاء مجتمعي … ولكن لا يوجد تغيير في حياة الناس. ولذا، نحن نقول: «لماذا لا نحاول أن نغير هذا الأمر؟» إننا نفعل هذا من أعماق قلوبنا.»
تُوظف شركة سولريبلز ٣٠٠ شخص بطريقة غير مباشرة، بداية من العاملين بجمعيات الغزل والنسيج التي تَشتري منها الشركة قماشها وحتى جامعي الإطارات الذين يَجوبون الشوارع بحثًا عن الإطارات الفارغة. ويعمل ٩٠ شخصًا كمُوظَّفين مباشرين لدى شركة سولريبلز، وهم الذين يستفيدون بمميزات لم يُسمع عنها تقريبًا في إثيوبيا؛ حيث إنهم يَتقاضون ما تطلق عليه الشركة أجر «كريم». ويتمتعون بتأمين صحي، وتمويل دراسي لأبنائهم، وإجازة وضع لمدة ستة أشهر.
قالت ووبوياو ليجيس، وهي خياطةٌ وأمٌّ تعمل لدى الشركة منذ أربع سنوات تقريبًا: «قبل [عملي لدى] سولريبلز، كنت أُنظف المنازل وأتاجر في السلع. لديَّ طفلان. وقبل عملي هنا لم يلتحقا بالمدرسة ولم يَدرُسا مطلقًا، الآن يذهبان إلى المدرسة. لقد صارت الحياة أفضل فعلًا.»
انضمَّ إلينا بانتيجان أبيب — وهو رجل ذو شارب مهذب — في مكتب باثلهام. وبعد محادثة قصيرة، عرفت أنه حاصل على الحزام الأسود في لعبة التايكوندو؛ أي إنه رجل غليظ. تحدثت بفخر عن الفترة التي كنتُ فيها رئيسًا لنادي الكونج فو بجامعة ميامي، ولكن هذا لم يُثِرْ إعجابه فيما يبدو (كما كان يُفترض).
«أعمل هنا منذ عامين. إننا نصنع الأحذية بأيدينا، وعندما يَرتديها الناس نشعر بالسعادة. وهذا أمر مُشجِّع حقًّا.»
لقد أتاحت له الوظيفة إلحاق أخيه بالمدرسة وإعالة والديه.
سألته قائلًا: «ما الذي تَعنيه لك باثلهام وشركة سولريبلز؟»
أجاب بانتيجان، وقد ظهر الانفعال في نبرة صوته وسقط قناع الرجل الغليظ، قائلًا: «ليس لديَّ كلمات … باثلهام مفيدة للمجتمع حقًّا. أتمنى أن تكون سعيدة بتغيرنا. إنها معنا في أعماق قلوبنا.»
قالت باثلهام وهي تقودني إلى الباحة الأمامية: «يَهرب الآخرون من هنا. وهذا ليس منطقيًّا بالنسبة لي. كل دولة تواجه مشكلة. وإثيوبيا تواجه مشكلة أيضًا؛ ومن ثم نحن نُحاول مواجهة مشكلاتنا، وأن نحلَّها بمواردنا، وبطريقة تفكيرنا. يمكننا أن ننجح في ذلك.»
تطمح باثلهام أن تجعل شركة سولريبلز النسخة الأفريقية من شركة نايكي. وتفوز هي وشركتها باستمرار بالجوائز وتحظى بالتقدير من منظمات مثل البنك الدولي وبرنامج مبادرة كلينتون العالمية وصندوق النقد الدولي. لقد اختارتها مجلة «فوربس» كواحدة من أصغر ٢٠ شابة مؤثرة في أفريقيا.
وتُغيِّر شركة سولريبلز حياة الكثيرين.
بينما كنتُ أغادر المصنع، مررتُ على كشكٍ أزرق به مطحنة تُصدر هديرًا. أمسك رجل يرتدي عباءة بُنِّيَّة نعلًا مطاطيًّا واضعًا إياه في المطحنة. قبل برهة، كان النعل جزءًا من إطار اعتُبر عديم الفائدة وغير مرغوب فيه. قطَع نشازُ كشطِ المطاط على المعدنِ الصوتَ الخفيض الآتي من بُعد. تبعني الصوت حتى خرجت من البوابة الأمامية مرورًا بالسيدات اللاتي يُحركن المعاول الخشبية في حركة متأرجحة.
تُشارك شركة سولريبلز في الأنشطة الحيوية التي تمس حياة الكثيرين، وفي خضمِّ هذه المشاركة تصنع الأحذية أيضًا.
•••
تواجه صناعة الملابس الكثير من المشكلات، من بينها عمالة الأطفال والمصانع المستغلة، ولكنها مجرد أعراض مُصاحبة للمشكلة الحقيقية، ألا وهي الفقر.
ثمة سبب يجعل أمًّا عزباء لثلاثة أطفال في بنجلاديش تعمل مقابل ٢٤ دولارًا في الشهر. وثمة سبب يَجعل شابة في كمبوديا تدفع راتب شهر كرشوة للحصول على وظيفة. وثمَّة سبب يجعل عاملًا في الصين يسجل انصرافًا من العمل ويعود إليه بلا مقابل بدلًا من أن يرفض بفظاظة أوامر رئيسه؛ فكل هؤلاء يفتقرون بشدة للخيارات المتاحة؛ لأنهم جميعًا يعيشون في فقر.
يتفق نيكولاس كريستوف — كاتب العمود الصحفي بصحيفة «نيويورك تايمز» — مع هذا الرأي حيث كتب في عموده الصادر بتاريخ ١٤ يناير عام ٢٠٠٩ يقول: «… المصانع المستغلة هي مجرد عرض من أعراض الفقر، وليست سببًا، وحظرها يسدُّ واحدًا من منافذ الخروج من الفقر.» ولكني لست واثقًا من تقديره بأن العمل في مصنع مستغل هو منفذ للخروج من الفقر. ربما يكون كذلك بالنسبة إلى البعض، ولكن العمل في مصنع ملابس لم يكن منفذًا للخروج من الفقر بالنسبة إلى ناري أو آي أو عريفة أو أيٍّ من العمال الذين التقيتُ بهم. لم تتحسَّن ظروفهم. فكَّر أميلكار في احتياجات أسرته، وقيَّم مشواره المهني كعامل ملابس، ثم قرر أن يجازف بالسفر شمالًا نحو مستقبل مجهول. ربما يكون العمل في «مصنع مستغل» أفضل فرصة من بين مجموعة فُرص غير رائعة، ولكنه نادرًا ما يُوفِّر ما هو أكثر من مجرد إبقاء الناس على حافة الفقر المُدقِع.
يَدَّعي كريستوف أن الدول النامية بحاجة إلى المزيد من المصانع المستغلة، ولكني أُعارضه في الرأي؛ فالدول النامية بحاجة إلى المزيد من فرص العمل كتلك التي تُوفِّرها شركة سولريبلز؛ فرص عمل تتيح للآباء إرسال أولادهم إلى المدرسة. هكذا تتمتع صناعة الملابس بإمكانيات هائلة — غير مُستغلة نسبيًّا — لمحاربة الفقر.
تخطط باثلهام لأن توظف شركة سولريبلز ٣٠٠ موظَّف بدوام كامل بحلول عام ٢٠١٥. لنفترض أن كل عامل بشركة سولريبلز لديه ستة أطفال (استنادًا إلى معدل الخصوبة في إثيوبيا). هذا يعني أن أكثر من ١٨٠٠ طفل سيُعالون بفضل الوظائف المتاحة في الشركة بحلول عام ٢٠١٥. وسيتمكَّن العُمال، بفضل مساعدة الشركة، من إلحاق الأطفال الستة جميعهم بالدراسة. ونظرًا لأن هؤلاء الأطفال يتمتعون بقسط من التعليم، فإنهم لا يَكبرون ليَصيروا صُناع أحذية، بل سيعملون في وظائف ذات أجور أفضل، ويُلحقون «أطفالهم» الستة بالمدرسة. وحين نصل إلى الجيل الثالث، ستكون الثلاثمائة وظيفة بشركة سولريبلز قد أثرت على حياة ٦٤٨٠٠ شخص. وفي غضون ستة أجيال، ستكون الوظائف قد أثَّرت على حياة مليوني شخص.
أُدرك أن هذه الحسابات قد تكون مبسطة على نحو مبالغ فيه نوعًا ما، ولكن مقصدي هو أن أيَّ وظيفة، إن كانت «جيدة»، سيُصبح لها تأثير تزايُدي مطَّرد.
ثمة علامة تجارية أخرى تُغيِّر حياة الكثيرين؛ ألا وهي ألتا جراسيا، وهي علامة تجارية مصنوعة في جمهورية الدومينيكان تصنع التي-شيرتات والسترات الصوفية للمكتبات الجامعية في جميع أنحاء البلاد. وتدفع شركة ألتا جراسيا لعمالها أجرًا معيشيًّا يعدل ثلاثة أضعاف متوسِّط الأجور في أيٍّ من المصانع المماثلة بالبلاد. كما أنها تُرحب بانضمام العُمال للنقابات العمالية، وسمحت لي بالعمل مع عُمالها داخل المصنع. في الواقع، عندما قدمت طلبي، لم تكن الشركة الأم للعلامة التجارية، نايتس أباريل، هي الشركة الوحيدة التي قرَّرت عدم ممانعة زيارتي لمقر المصنع. كما أن الفكرة راقت للعُمال أيضًا. أتمنى أن أقبل العرض الوظيفي من جانبهم يومًا ما.
وحقيقة أنهم كانوا مُرحِّبين على هذا النحو أذهلتني مثلما أذهلتني تمامًا حقيقة أنني لم أكن الشخص الوحيد الذي دعوه لزيارة مصنعهم. ونقابة ألتا جراسيا تستقبل بانتظام الزوار في المصنع وتجري مكالمات مع الطلاب الأمريكيين عبر برنامج سكايب. وتزور جمعيةُ حقوق العمالِ المصنعَ بانتظام وتراقب كشوف الرواتب على الأقل مرة كل أسبوع.
في أثناء جلوسها في حجرة معيشتها الصغيرة، ابتسمت سانتا كاستيلو وهي تنظر جهة المنزل الجديد الذي تبنيه هي وزوجها وراء الكشك الخشبي الذي يَعيشان فيه حاليًّا.
سيكون المنزل الجديد أكبر بأربعة أضعاف من المنزل الحالي، ويتكون من غرفتي نوم وحمام داخلي؛ يَتشارك الزوجان وأولادهما الثلاثة الآن غرفة نوم بلا نوافذ ويستخدمون حمامًا يبعد عنهم مسافة بيتين.
لطالما كانت السيدة كاستيلو تحلم بمنزل أكبر وأكثر متانة، ولكن حدث شيء قبل ثلاثة أشهر جعل تحقيق الحلم ممكنًا؛ حيث إنها حصلت على وظيفة في واحد من أكثر مصانع الملابس اختلافًا في العالم. ويقول خبراء الصناعة إنه مصنع رائد في العالم النامي؛ لأنه يدفع «أجرًا معيشيًّا» — في هذه الحالة ثلاثة أضعاف متوسط الأجور التي يحصل عليها عمال الملابس في البلاد — ويُتيح للعمال الانضمام لنقابة عُمالية بلا نزاع.
تقول السيدة كاستيلو، وهي امرأة ذات نبرة صوت رقيقة تتقاضى ٥٠٠ دولار في الشهر: «لم تسنَح لنا الفرصة لكسب أجر كهذا من قبل قط. أشعر بالسعادة.»
يقول أندرو جاسين، المؤسِّس المشارك لشركة جاسين كونسلتينج، وهي شركة استشارات في مجال صناعة الملابس، مُعلِّقًا على الخبر نفسه: «إنه مجهود نبيل، ولكنه تجربة. يوجد مُستهلِكون يهتمون فعلًا وسيَشترون هذه الملابس بسعرٍ أعلى من السعر العادي، وعلى الجانب الآخر يوجد مُستهلكون آخرون يقولون إنهم مُهتمون، ولكنهم يريدون منتجًا ذا قيمة وحسب.»
أنت واحد من المستهلكين. السؤال هو: هل أنت مهتم؟
نظرًا لأنني جُبْتُ مختلف أنحاء الولايات المتحدة لأتحدث مع الطلاب، فإن إجاباتهم عن هذا السؤال عادةً تأتي بالنفي ويَصحبها شعور بالذنب.
وللأسف، هذا صحيح، معظمنا لا يهتم! إننا نتسوق ونحن مُغيَّبون؛ حيث نتخذ قراراتنا استنادًا إلى ما نقتنع به من صيحات الموضة وما هو في متناول قدراتنا الشرائية. ولكنَّني أؤمن بشدة بأننا «يمكننا» أن نهتم، وسنهتم فعلًا إذا استطَعنا أن نسد الفجوة بين المُنتِج والمُستهلِك.
اسمحوا لي أن أقدم لكم فتاة الآي فون.
صارت فتاة الآي فون مصدرًا للاهتمام. وظهَر وجهها الباسم على موقع سي نت وشاشات إم إس إن بي سي وعلى صفحات صحيفة «واشنطن بوست». الجميع يريد أن يعرف «من تكون فتاة الآي فون؟»
تتبَّع الصحفيون فتاة الآي فون حتى وصلوا إلى مصنع شركة فوكسكون بمدينة شنجن. وشركة فوكسكون هي أكبر مصنع خاص في الصين، تُوظِّف أكثر من مليون شخص. نصفهم يعمل في مصنع شنجن. وتتلقى شركة فوكسكون وشركة أبل الكثير من الانتقادات الصحفية بعد موجة من حالات انتحار العمال عام ٢٠١٠ — إجمالي ١٧ حالة انتحار — بمصنع شنجن. لقد صار الانتحار مشكلة لدرجة أن الشركة وضعت شبكة أمان لإنقاذ العمال الذين يلقون بأنفسهم حين يتملَّكهم اليأس ليلقوا حتفهم بدلًا من أن يعودوا إلى العمل.
ففي عام ٢٠١٠، أرسلت الصحيفة الصينية «ساذيرن ويكاند» صحفيًّا يُدعى ليو تشي، مُتخفيًا لمدة ٢٨ يومًا للعمل في المصنع. وكتب يقول: «في الواقع، [العُمال] يحسدون أولئك الذين يستطيعون ترك العمل بسبب إصابات العمل.»
ووصَف المتحدث الرسمي لإحدى الشركات حادثة فتاة الآي فون بأنها «خطأ جميل.» كانت كذلك بالنسبة لشركتي أبل وفوكسكون؛ حيث احتفت الصحافة بالشركتَيْن والظروف التي تُوفرها لإنتاج أجهزة الآي فون، وكان الدليل هو تلك الصورة لعاملة جميلة وسعيدة تبتسم في مصنع مرتَّب ونظيف.
وحدث شيء جميل بالفعل. فعندما نُشاهد فتاة الآي فون تبتسم ابتسامة خفيفة جذابة وترتدي قبعة مائلة قليلًا وتلمع في عينها شخصية متقدة، لا يسعنا سوى الاهتمام بها. وتختفي الفجوة بين المنتج والمستهلك.
كان أمرًا عاديًّا بالنسبة إلى جدِّي حين كان يشتري قميصًا، لم تكن حياة العامل الذي صنع القميص تختلف كثيرًا عن حياة جدِّي، باستثناء أن وظائف صُناع القمصان تشتمل على كمية أقل من السماد (حيث إن جدي كان مزارعًا). الناس آنذاك كانوا يعرفون نمط الحياة بالنسبة إلى الجزار والخباز وصانع الملابس. إنهم يعرفون القصة وراء تصنيع أغراضهم.
عندما نُدرك أن من يصنعون أغراضنا لديهم آمال وأحلام وشخصيات، لا يسعنا سوى الاهتمام والتأكد من أنهم يَتلقون أجورًا معيشية مناسبة وأن وظائفهم تتيح لهم تحقيق أحلامهم.
ولكن سد الفجوة بين المُنتج والمستهلك ليس أمرًا يسيرًا.
بالعودة إلى عام ٢٠٠٨، كنت أُعد مقالًا عن منشأ التي-شيرتات لمجلة «كوندي ناست بورتفوليو». وتطلَّب بحثي من أجل إعداد المقال الاتصال بكبرى العلامات التجارية المصنِّعة للتي-شيرتات وسؤالهم عن المكان الذي يَصنعون فيه تي-شيرتاتهم.
في البداية، اتصلت بشركة هانز وكانوا متعاونين فعلًا. حدثوني عن النِّسب المئوية لكل دولة تصنع التي-شيرتات؛ كانت هندوراس تتصدر القائمة. وأحاطوني علمًا بأنني يُمكنني معاودة الاتصال بهم إذا كان لديَّ المزيد من الأسئلة.
كانت الشركة التالية في بحثي هي شركة فروت أوف ذا لوم. لم ترغب الشركة في التأكيد على أن أغلب مُنتجاتها تُصنع خارج الولايات المتحدة، أو إخباري بأيِّ معلومات، باستثناء أن سياسة الشركة الرسمية تفرض عدم الخوض في هذه الأمور.
كانت هذه هي المرة الأولى التي كتبت فيها لصالح المجلة. كان بإمكاني تخيُّل المُحرِّر الذي أعمل معه وهو يُشيح بنظره أثناء حديثي معه على الهاتف حين أخبرته بأن شركة فروت أوف ذا لوم لا ترغب في تأكيد أيِّ معلومة. كان بإمكانه أن يطلب من مراجع صحَّة الحقائق أن يتصل بهم. ومجلة «بورتفوليو» هي مجلة تجارية، وكانوا معتادين على إجبار الشركات على التحدث.
ولكن لم يَتعاون أحد مع مراجع صحة الحقائق. وعجز هو عن تصديق الأمر. هكذا، قلت في نفسي: «مرحبًا بك في العالم المُدهش لصحافة الملابس الداخلية.»
غاية ما تريده العلامات التجارية مِنا هو ألا نفكر — إلا بأقل قدر مُمكن — في الأماكن التي تصنع ملابسنا. فكِّر في آخر كتالوج أمسكت به؛ فستجد على الأرجح أن الوصف المنمَّق للمنتج يُختتم بشيء من اثنين: «صُنع في الولايات المتحدة الأمريكية أو مستورَد.» أو ربما إذا كان المنتج مصنوعًا من الجلد أو مضافًا إليه قيمة ما، فستجد أنه قد كُتب عليه: «صُنع في إيطاليا» (على الرغم من أن هذا قد يَعني أحيانًا أن المنتج مصنوع في إيطاليا بأيدي عُمال مستوردين من الصين). والعلامات التجارية مُلزَمة بموجب القانون بكتابة بلد المنشأ على منتجاتها، ولكن بخلاف ذلك، فإنهم يُفضلون عدم التحدث عن الأمر أو عن العُمال الذين صنعوا منتجاتهم. وهذه هي الطريقة التي يَدعمون بها الفجوة بين المُنتج والمستهلك.
هذا لا يعني أنني أقول إن الشركات نفسها لا تُفكِّر في الأمر. فمنذ أن خرجت المذيعة كاثي لي بانتقاداتها على شاشة التليفزيون عام ١٩٩٦، عملت الكثير من الشركات بجهدٍ لتحسين ظروف العمل داخل المصانع التي يُورِّدون منها. لقد تبنَّوا قواعد خاصة بالمسئولية الاجتماعية للشركات — وإذا تمعنت في البحث على المواقع الإلكترونية الخاصة بالشركات، فربما تجد مثل هذه القواعد. ولكن بوجهٍ عام، لم تَبذل الشركات الجهد اللازم لطمأنتنا بأنهم مُهتمون فعلًا بظروف العمل داخل المصانع ومستوى رفاهية العمال الذين يَصنعون منتجاتهم.
إما أنهم قد تأثَّروا أو رأوا أحدًا قد تأثر تأثُّرًا بالغًا بالتقارير الناقدة للظروف البغيضة، وفضلوا تجاهل الموضوع برمته. في الواقع لا أستطيع أن أُلقي عليهم باللوم.
من الصعب قَبول هذه الصورة التسويقية والواقع الذي يعيشه العُمال الذين يصنعون الجينز لصالح شركة ليفايس في كمبوديا وأي مكان آخر. أجرى معهد الدراسات التنموية في كمبوديا بحثًا لتحديد الأجر المعيشي وخلص إلى أن الحد الأدنى للأجر المعيشي في كمبوديا كان يُقدر ﺑ ٩٠ دولارًا في عام ٢٠٠٩. وأنا لا أعارض كسب العُمال أجرًا معيشيًّا، ولكني أظن أن معظم المُستهلِكين ووسائل الإعلام قد يعلقون على الأمر قائلين: «٩٠ دولارًا فقط! يا لهم من فقراء.» هذه هي مشكلتنا، وهي مشكلة ينبغي أن نُحاول حلها ونعمل على ذلك قبل أن تُخبرنا الشركات بحقيقة الوضع. وإذا ما داومنا على النظر لقلة الفرص المتاحة أمام عُمال الملابس من منظور حياتنا التي تتوافر فيها فرص غير محدودة نسبيًّا، فلا يمكن أن يبدأ حوار فعال.
تُعد التجارة الحرة هدفًا مهمًّا للولايات المتحدة الأمريكية، ولكن ينبغي الموازنة بينها وبين الأهداف الأخرى مثل حماية العمال والحفاظ على البيئة وحقوق الإنسان، حتى وإن كان هذا يَعني إبطاء وتيرة النمو التجاري والاقتصادي.
وحين سُئل المشاركون: «إذا اضطررت للاختيار بين شراء قطعة ملابس بتكلفة ٢٠ دولارًا ولكنك لست متأكدًا من الطريقة التي صُنعت بها وبين قطعة أخرى مُصدَّق على عدم تصنيعها في مصنع مُستغِل ولكنها تكلفك ٢٥ دولارًا، أيهما ستشتري؟» أجاب واحد وستون بالمائة ممن شاركوا في الاستطلاع بأنهم سيدفعون ٥ دولارات أكثر لقطعة الملابس التي صُدِّق على عدم تصنيعها في مصنع مستغل.
ومن أجل اختبار نتائج استطلاع الرأي التي كانت مُتوافقة مع استطلاعات أخرى، صمم الباحثون بجامعة ميشيجان وجامعة نورث وسترن دراسة لمراقبة عادات الإنفاق الواقعية لمشتري الجوارب في متجر شهير متعدد الأقسام بولاية ميشيجان. وضع الباحثون ملصقًا على رفٍّ من الجوارب عليه لافتة مكتوب عليها: «اشترِ منتجًا مصنوعًا في ظروف عمل جيدة … بلا عمالة أطفال … بلا مصانع مستغلة … في مكان عمل آمن.» وعلى رفٍّ مجاور لجَوارب مُشابهة لم يوضع أي ملصق. ثم رفعوا سعر الجوارب المصنوعة في ظروف عمل جيدة تدريجيًّا ووجدوا أن متوسط ثلث العملاء كانوا على استعداد لدفع المزيد مقابل هذه الجوارب. ويؤمن الباحثون أن نسبة العملاء أصحاب الضمير اليَقظ كانت أكبر فعلًا نظرًا لأنَّ بعض العملاء لم يفهموا الاختصارات التي احتوى عليها مُلصق «صُنع في ظروف عمل جيدة.» ومع ذلك، حتى ولو كان ثلث العملاء على استعداد لدفع المزيد من أجل الملابس «المصنوعة في ظروف عمل جيدة»، فثمة سوق كبيرة غير مُستغِلة لمثل هذه المنتجات.
في حين أن نظام وضع المُلصَقات قد يكون طريقة مثلى لإطْلاع العملاء أصحاب الضمير اليقظ على مجريات الأمور، فثمَّة حواجز كثيرة يجب تخطِّيها مثل: ما «ظروف العمل الجيدة»؟ هل تختلف الظروف باختلاف المكان؟ من يفرض هذه الظروف؟ هل مَزارع القطن التي تُنتج القطن تلتزم بمثل هذه الظروف؟ ماذا عن مصانع الغزل والنسيج؟ أو مصانع تكرير النفط التي تنتج النفط المستخدَم في إنتاج المنسوجات الصناعية؟ قد تتغيَّر ظروف المصانع من عام لآخر. ربما تُخفِّض دولة ما من قيمة عملتها، والمصنع الذي كان مطابقًا للمواصفات فيما مضى لم يعد كذلك الآن؛ لأنه يجعل عُماله يعملون لساعات أطول بجهد أكبر لتحقيق الربح نفسه.
وربما لا يكون نظام وَضْع المُلصَقات أمرًا يسيرًا، إلا أنه بمنزلة هدف يَنبغي أن نطمح إليه. وقد يتطلب الأمر جهود الناشطين والشركات والرأي العام المستنير.
تعمل جمعية الصناعة الخارجية واتحاد صناعة الملابس المستدامة على وضع نظام للمُلصَقات تحت اسم «أداة الملبوسات» الذي يقيم المنتجات استنادًا إلى تأثيرها البيئي. ومتجرا تارجت وول مارت يستخدمان تلك الأداة. إنها لم تُفعَّل بَعدُ بالنسبة إلى المستهلكين، وهذا يَعني أنها أداة للشركات، لا للمستهلكين. وتريد الأطراف المعنية تنفيذ النظام على نحو صحيح وإرساء قواعد نزاهة الملصقات قبل أن نراها على الرفوف في أي مكان.
أُطلق على هذا المشروع «المؤشر البيئي» حين سمعتُ عنه لأول مرة عام ٢٠١٠، كان ثمَّة حديث دائر بخصوص وضع المسئولية الاجتماعية كعامل يحتسب في تقييم المنتج. غير أن التركيز اليوم يبدو أنه منصب أكثر على البيئة لا على ممارسات العمل.
انضمَّ المزيد والمزيد من العلامات التجارية إلى الاتجاه السائد وقُدِّمَت منتجات صديقة للبيئة؛ منتجات مصنوعة من قماش القنب والقطن العضوي، وملصقة بصمغ لا يُسبِّب أضرارًا للبيئة، ومعبَّأة في صناديق يُعاد تدويرها بعد الاستخدام. وفي حين أنني سعيد بإتاحة هذه الخيارات، فإنني ما زلت راغبًا في المزيد.
إننا نهتم بتأثيرنا على البيئة، ولكن ماذا عن تأثيرنا بعضنا في بعض؟ فالحفاظ على البيئة بمنزلة توجُّه مُساير للموضة، بينما الاهتمام بالعمال الذين يصنعون أحذيتنا ليس كذلك.
لا تُصدِّقني؟ اتصل بأيِّ شركة أحذية ذات علامة تجارية معروفة وسلهم عن كيفية تقليل تأثيرهم على البيئة، على الأرجح ستجد أن لديهم قائمة طويلة يَتلونها عليك. ثم سلهم عما يفعلونه لضمان أن العُمال الذين يصنعون أحذيتهم يتلقون معاملة منصفة، حينئذ ستجد نفسك تدور في حلقة مفرغة من المكالمات الهاتفية مع موظَّفي الشركة.
وسائل الإعلام تُعطي الشركات مبررًا لعرقلة الحوار. لقد أخبرتني منتجة للبرامج الإذاعية بكل صراحة بأنَّ فريق الإعداد الخاص بها ظنَّ أنني ساذج لأنهم حين سألوني عما إذا كانت المصانع التي زُرتها كانت مصانع مُستغِلة أم لا فقلت لهم لا أعرف. أرادوا مني أن أكون غاضبًا من وضع العمال الفقراء جدًّا الذين يَكدحون لساعات طويلة والحاصلين على أجور قليلة وتقدير أقل. ولكن من السهل أن تُثير الشفقة وانتقاد المصانع المستغلة. ما ليس سهلًا هو قبول السياق الذي توجد فيها المصانع والعمال، وبدء الحوار على هذا الأساس. وعدم القيام بهذا هو السذاجة بحدِّ ذاتها.
متى كانت آخر مرة سمعت فيها تقريرًا إخباريًّا عن مصنع ملابسٍ يُدار بنجاح أو عن مصنع يعمل على تحسين حياة العاملين به؟ ولكن مثل هذه الأمور لا تصنع عناوين جذابة، ولذا لا نسمع إلا عن الانتهاكات. وهكذا نظل نعتقد أن جميع الملابس تُصنع في المصانع المستغلة. وتَلتزم معظم الشركات الصمت بخصوص الموضوع خشية أن يلفتوا الانتباه. في صناعة الملابس، لا توجد صحافة إلا الصحافة السيئة الناقدة.
ويُشجِّع الناشطون مثل اتحاد الطلاب المناهضين للمصانع المستغلة العلامات التجارية في هذا الصدد. فمثل هؤلاء النشطاء مسئولون مسئولية كبيرة عن تحسين الأوضاع في مصانع الملابس في الوقت الحالي، وقد مهَّدوا الطريق لظهور علامات تجارية مثل ألتا جراسيا وسولريبلز. لقد مضى أكثر من عقد من الزمن منذ أن كشفت حركة الطلاب النقاب عن صناعة الملابس أمام الرأي العام، غارسين صورًا عن المصانع المُستغِلة في أذهاننا. وجدتُ أن قادة الحركات المناهضة للمصانع المستغلة الذين قابلتهم يتفهمون جيدًا السياق الذي يعيش فيه العُمال، على الرغم من أن القادة عادةً ما يغفلون عن ذلك السياق حين يوصلون رسالتهم.
وأبشع الانتهاكات وأفظع الإحصائيات تدعم قضيتهم. وبالعودة إلى الفترة التي كان يُذاع فيها برنامج كاثي لي، أظن أن الصدمة كانت مروعة بالنسبة إلينا. وكنا بحاجة إليها.
في عام ٢٠١٠، حضرتُ المؤتمر السنوي للمصانع الخالية من الاستغلال مرةً أخرى، ولكن هذه المرة لم يكن المؤتمر منعقدًا في مدينة مينيابوليس وإنما في مدينة أولمبيا. لم ألتقِ أحدًا يُلطخ قميصه بدماء مزيفة. استمر المؤتمر لمدة يومين، وكنت المتحدِّث الأخير في آخر يوم للمؤتمر. ذُهلت بالحماسة والمعرفة اللتين سادتا أجواء المؤتمر، ولكني على يقينٍ أنني كنت الشخص الوحيد، في المؤتمر كله، الذي تحدَّث عن الفقر.
أؤمن بأننا يجب أن نتخطى المناقشات الخلافية عن المصانع المُستغِلة التي تجعل الناس يشعرون بأنهم مضطرون لاختيار جانب من اثنين: إما الموافقة أو المعارضة. إلى أين يقودنا هذا؟ كيف سيستفيد العمال؟ يجب أن ندرك حقيقتَين بالغتَي الأهمية: صناعة الملابس تُوفر وظائف تعني الكثير جدًّا لأناس يعيشون في المناطق الفقيرة، ومن المفترض أن يَلقى هؤلاء الأشخاص معاملة أفضل وأجرًا أعلى، بل ينبغي أن يكون الأمر كذلك.
لقد مرَّ أكثر من عقد من الزمن على حلقة برنامج كاثي لي، ولا يزال معظمنا يفترض أن ملابسنا صُنعت في المصانع المُستغِلة، ورغم ذلك عادات التسوق لدينا لم تتغيَّر. وهذا فشل يُنسب للشركات ووسائل الإعلام والنشطاء وعدم اهتمامنا بالموضوع.
•••
لقد صرتُ مهووسًا أكثر بمُلصقات الملابس منذ أن قمت برحلتي. كاد الأمر أن يكون هوسًا لا يُقاوم لدرجة أن المتاجر متعددة الأقسام تجعلني أفقد السيطرة على أعصابي؛ حيث توجد الكثير من المُلصقات التي يتعيَّن عليَّ التحقُّق منها. دعني أوضح لك: من الغريب أن ترى شابًّا يتحرك بطريقة عشوائية من رفٍّ إلى آخر متفحصًا الملابس الداخلية النسائية. أُدرك هذا لأنني رأيت هذه النظرة على وجوه رفاقي المتسوقين.
عندما عدتُ من رحلتي، أرسلتْني أمي إلى متجر مايسيز بمركز مونسي التجاري لأشتري سترة كشميرية أرادت أن تُقدِّمها هدية لإحدى صديقاتها. كان سعرها الأصلي ١٠٠ دولار وخُفض إلى ١٢٫٥٠ دولارًا. بينما كانت بام — البائعة — تبحَث عن المقاس المناسب، سألتها: «هل قابلتِ في حياتك من قبلُ عملاء يَهتمون بالمكان الذي يُصنع فيه الملابس؟»
أجابت قائلة: «أعمل هنا منذ سبع سنوات. وعندما بدأت العمل لأول مرة، كُنا نهتم. الآن، أظن أن الناس استسلموا لحقيقة أن كل شيء مصنوع خارج البلاد، وأنه ليس أمامهم خيار آخر.»
«حسنًا، السبب وراء طرحي للسؤال هو أنني عدت توًّا من …» حكيتُ لها رحلتي من دولة لدولة، ومن مصنع لمصنع، ومن منزل عامل إلى منزل عامل آخر. كنت أتوقع من بام أن تنهي الحديث؛ خشية أنني ربما أقع على الأرض وأُلطِّخ نفسي بالدماء المزيفة كأنني في مُظاهرة صامتة صغيرة تحاكي الموتى.
وبدلًا من إنهاء الحديث، تردَّدت بام في البداية ثم سألتني في تردد: «هل كانت مصانع ذات عمالة رخيصة؟» حين قالت «مصانع ذات عمالة رخيصة» أخفضتْ صوتها ونظرت من حولها تحسبًا للمتصنِّتين. وعلى بُعدِ بضعة أرفف، وقفت موظفة تسحب الملابس الشتوية لتُوضع في عروض التصفيات. نظرت لنا شزرًا ثم عاودت عملها مرةً أخرى. شعرتُ أنها كانت تستمع إلينا.
قلت لها: «أكره استخدام مصطلح «مصانع ذات عمالة رخيصة»؛ إذ إنه يستخف بقيمة العمل الذي يقوم به العُمال والتضحيات التي يُقدمونها في سبيل ذلك.»
حكيتُ لها عن عريفة من بنجلاديش التي تعمل في مصنع ملابس على أمل أن تكسب الأجر الكافي لكيلا تُجبَر على إرسال ابن آخر من أبنائها إلى المملكة العربية السعودية. وحكيتُ لها عن ناري من كمبوديا التي اضطرَّت إلى دفع رشوة لتحصل على وظيفتها — في مصنع الجينز — التي تمكنها من إعالة أسرتها بالقرية ودفع دورات التدريب كخبيرة تجميل. وحكيتُ لها عن ديوان وتشو تشون والساعات الطويلة التي يَقضيانها في العمل، وابنهما الذي نادرًا ما يريانه، والدَّين الذي يُسدِّدانه. وأخبرتها بجميع الأسباب التي تفرض علينا الاهتمام بالعُمال الذين يصنعون ملابسنا.
أخبرتُها بأنني أؤمن بأن المعاناة بسبب ظلم البشر لا يَنبغي أن تكون طقسًا من طقوس العبور. لا أظن أنه من المقبول أن تُضطر ناري إلى دفع رشوة للحصول على وظيفتها، وألا تملك آي عقدًا مع المصنع الذي تعمل فيه، وأن يعمل ديون وتشو تشون لأكثر من ١٠٠ ساعة في الأسبوع. ويُمكنني التخمين من النظر إلى وجه بام بأنها تتَّفق معي في الرأي.
أخبرتها أنه لا توجد طريقة يُمكنني بها التأكد من أن السترة التي أشتريها صُنعت بأيدي عُمالٍ تلقوا معاملة منصفة وعادلة، ولكن ثمة شيء واحد أكيد وهو أن مَن صنعوا تلك السترة هم آباء أو أمهات أو إخوة أو أخوات لشخصٍ ما.
عندما تذهب إلى متجر البقالة في مدينة مونسي بولاية إنديانا، يُمكنك أن تتسوق وفقًا لأخلاقياتك بعض الشيء. يمكنك أن تجد فواكه وخضراوات عضوية، ولعلك تجد أيضًا شايًا أو قهوة مصنوعة وفقًا لمعايير تجارية مُنصِفة. ولكن اذهب إلى مركز مونسي التجاري لشراء سروال، وستجد أنك مُعتمِد على نفسك. فمنذ أن عدت إلى أرض الوطن، وأنا لا أكفُّ عن التفكير في نوعية المُستهلِك التي أنتمي إليها.
هل أنا صائد الصفقات الذي لا يهتم بالمكان الذي صُنعت فيه ملابسي أو الجهة التي صنعتُها ما دمت أحصل على صفقة جيدة؟ هل أُطيق الشعور بالقلق بشأن عاملة الملابس في بنجلاديش التي تجاهد لإعالة أسرتها؟
هل أنا مُستهلِك أمريكي يريد، بعد أن لاحظ اختفاء الوظائف الأمريكية، دعم الشركات الأمريكية فقط؟ صدِّق أو لا تُصدِّق، على الرغم من أن ٩٧ بالمائة من الملابس تُصنع خارج الولايات المتحدة، فإن هذا احتمال قائم.
يقول لوسون نيكولز، المؤسس المشارك لشركة أول أميركان كلوذينج على موقع الشركة: «مَهَمَّتُنا هي دعم الأسر والوظائف الأمريكية من خلال إنتاج ملابس ذات جودة عالية في الولايات المتحدة بسعر معقول. ومن خلال الإبقاء على إنتاجنا داخل الولايات المتحدة، فإننا نُوفِّر وظائف وأساسًا ضريبيًّا يدعم مجتمعاتنا المحلية. إننا نهتمُّ بأمر بلادنا والمواطنين الذي يعيشون فيها، فلو كنا نعيش في البلاد من أجل المال فقط، لكان بإمكاننا أن ننقل إنتاجنا خارج البلاد. إننا لن نتاجر بالوظائف الأمريكية من أجل أرباح أجنبية …»
هل أنا مُستهلِك ضعيف في تأثيره يريد أن يعزل نفسه عن العملية برمتها بقدر الإمكان؟ إذا كان الأمر كذلك، يُمكنني أن أشتري الملابس المستعملة أو أتعلَّم تفصيل الملابس (وهذا مُستبعَد). هل تعرف أنه بإمكانك شراء قطعة ملابس جاهزة أو كتاب بأقل مِن ١٠ دولارات من مؤسسة جودوويل؟
على مدار حياتي، لم أكن من نوعية المُستهلِكين الذين ذكرتهم آنفًا. كنت محظوظًا بالقدر الكافي بعدم اضطراري إلى العثور على صفقات جيدة، ورغم ذلك لم أكن أفكر كثيرًا في الأشخاص أو الأماكن التي تصنع ملابسي. في الواقع، كنت مُستهلِكًا غير مبالٍ. كنت أعرف أن العُمال الذين يَصنعون ملابسي يعيشون حياة صعبة، ولكني لم أُعطِ للموضوع وقتي أو اهتمامي.
أما الآن، فأنا أُعطيه وقتي واهتمامي.
الآن صرتُ مستهلكًا مؤثرًا ومُهتمًّا. وإلى أن يُتاح نظام وضع ملصق «ظروف العمل الجيدة»، فإنني أتخذ قرارات الشراء بناءً على بحثي الخاص؛ حيث إنني أزور الموقع الإلكتروني للشركة التي تصنع المنتجات التي أشتريها أو التي أُفكر في شرائها لأرى إلى أيِّ مدًى تَنخرط الشركة في مراقبة المصانع التي تُورِّد منها. وأفكر في الشراء من مكانٍ آخر إذا ما كانت الشركة تكتفي بوضع فقرتين تصفان قواعدها المِهنية وكيف تدير مصانعها إدارة ذاتية. ومع ذلك إذا كانت الشركة تتعاون مع جهة رقابية مستقلة مثل جمعية حقوق العمال أو تتمتَّع بمنصبٍ أو قسم يتعامل مع المسائل المتعلقة بالمسئولية الاجتماعية، وتعترف بتحديات التوريد الأخلاقية؛ فإنني أفكر في أن أكون عميلًا لديهم.
بالطبع، هذا لا يَضمن بالضرورة أن تكون منتجاتهم مصنوعة في ظل ظروف عمل منصفة، ولكن مثل هذه الإجراءات تُعطي دلالات على أن الشركة تشارك في تهيئة الظروف المواتية للعمل.
كتب تي إيه فرانك، وهو مراقب سابق لمدى تحمُّل الشركات للمسئولية الاجتماعية، في مجلة واشنطن مانثلي يقول: «تستطيع الرقابة الخاصة، إذا ما أُجريت بطريقة صحيحة، أن تحقِّق فوائد كثيرة. ولكنها خادعة … تفوتنا أمور. جميع الجهات الرقابية تفوتها أمور. وأحيانًا كان الوضع مُحرِجًا. أثناء جولة من المتابعة الرقابية في مصنع ببانكوك حيث لاحظت انتهاكات خطيرة ولكن شائعة بخصوص الرواتب، وجد المفتشون الذين اتبعوني موظَّفاتٍ حوامل يَختبئنَ على السطح والعُمال المستقدمين من بورما يتقاضون رواتب ضئيلة على نحوٍ غير مقبول. يا إلهي!»
الآن، أي شخص في المجال يعرف أنه حين يَكشف المراقبون النقاب عن انتهاكات إجراءات السلامة والأمان أو عدم دفع الرواتب بالكامل لأكثر من مرة أو مرتين — ناهيك عن خمس مرات — تُعدُّ هذه إشارة على وجود مشكلات أكبر بعيدة عن دائرة الضوء. ونادرًا ما تَنخدع الشركات في مثل هذه الأمور ما لم تكن راغبةً في ذلك.
الكثيرون يُفضِّلون أن يُخدعوا، لأن هذا أرخص …
الآن، أجيد التمييز بين المُمثلين الجيِّدين والسيئين لأنني أحتكُّ بهم عمومًا احتكاكًا مباشرًا. ولكن العملاء العاديِّين الذين يبحثون على المواقع الإلكترونية — مثل موقع متجر وول مارت أو موقع شركة نايكي … إلخ — يستطيعون أن يجدوا كل شيء تقريبًا يريدون معرفته وهم جالسون على مكاتبهم. على سبيل المثال، لقد عرفت توًّا من خلال أحدث تقرير لمتجر وول مارت عن التوريد أن ٢٦ بالمائة فقط من المراجعات الخاصة بهم لا يُعلن عنها. وعلى النقيض، الإجراءات الرقابية التي تتَّخذها شركة تارجت، لا يجري الإعلان عن نسبة ١٠٠ بالمائة منها. وهذا اختلاف شديد. والشركات التي تفعل ما تفعله شركة نايكي — التي تُدقِّق وتبني علاقات طويلة المدى وتُعلن عن المنتجين — تؤكد على هذه الحقيقة، وبذلك تتمتع بشفافية إلى حدٍّ ما. والشركات التي لا تتمتَّع بالشفافية هي الأكثر حذرًا. (عندما يساورك الشك، شُك.)
باعتباري مُستهلِكًا مؤثرًا، أود أن أدعم جهود شركة باتاجونيا لتُصبح شركة أفضل.
وسواء كُنا نُدرك ذلك أم لا ندركه، نحن نُصوِّت من خلال محفظة نقودنا. والسيدة التي كانت تبحث عن حذاء لم يُصنَع في الصين كانت تُصوِّت ضد الحالة البائسة لحقوق الإنسان في الصين. ولعلني أختار دعم مُنتَج مصنوع في كمبوديا لأن الصناعة مُنضبِطة أكثر. ولعلَّني أختار الشراء من شعوب فقيرة مثل بنجلاديش لدعم تنمية هذه الشعوب. ولعلَّني أختار دعم علامة تجارية بسبب موقفها الأخلاقي أو عدم دعمها بسبب افتقارها لهذا الموقف.
-
«نظرة على الملصق الموجود على التي-شيرت الذي ترتديه حاليًّا.» كرِّر هذا كل يوم. مُعظمنا ليس لديه أدنى فكرة عن مدى عالمية ملابسنا. إذا أدى الجميع هذه المهمة البسيطة بصفة يومية، فلك أن تَتخيل إلى أي مدًى قد يتغيَّر منظورنا الجمعي العالمي.
-
«زُر موقع GoodGuide.com أو حمِّل تطبيق GoodGuide على هاتفك الذكي.» هذا الموقع/التطبيق يحتوي على قاعدة بيانات لأكثر من ١٤٥ ألف سلعة استهلاكية وتقييم لهذه السِّلَع بناءً على ثلاث فئات منفصلة: الصحة والبيئة والمسئولية الاجتماعية.
-
«شجِّع مدينتك أو مقاطعتك أو دور عبادَتك أو مدرستك أو جامعتك على تحمُّل المسئولية حيال توريد المنتجات ودعم شركات مثل ألتا جراسيا (www.altagraciaappareal.com) وساستين يو (www.sustainuclothing.com)» التي تُنتج ملابس مُعاد تصنيعها مائة بالمائة في الولايات المتحدة. صفحة المصادر المتاحة على موقع sweatfree.org بمنزلة صفحة رائعة للعثور على أمثلة أخرى على هذه النوعية مِن الشركات.
-
«ارتدِ علامةً تجارية لها قصة وكن أنت بطلها.» شارك قصة العلامات التجارية المفضَّلة لك والمنتجات الرائعة التي يَصنعونها وحياة المُنتجين التي تؤثر فيها. أحاول ألا أغادر المنزل دون ارتداء منتَج واحد أؤمن به على الأقل.
-
«اكتشف.» تظهر كل يوم شركات ملابس جديدة تتمتَّع بأخلاقيات عالية. تعرَّفتُ مؤخرًا على شركة تُدعى فورجوتن شيرتس، وهي شركة تستخدم القطن الذي يُورَّد من أوغندا والتي-شيرتات التي تُحاك في أوغندا. يُجري المراهقون في مدينة مينيابوليس طباعة بالشاشة الحريرية على التي-شيرتات كجزء من برنامج تعليمي.
لديَّ ثلاثة أحذية من شركة سولريبلز أفخر بارتدائها لأنني أعرف أن حياة من صنعوها وأسرهم تأثَّرت تأثُّرًا إيجابيًّا. إنني أشارك قصة العاملين الذين التقيتُ بهم كلما أمكنني ذلك.
ما الدور الذي تريد أن يلعبه التسوق في حياتك؟
أجبت بقدر الإمكان عن أسئلة بام في متجر مايسيز، ولكن كان لديها المزيد. تفهَّمتْ بام قصص الأناس الحقيقيِّين الذين حكيتُ لها عنهم وتعاطفتُ معهم. كنت أتساءل أثناء رحلتي في الصين عما إذا كان التكافل الاجتماعي مُمكنًا بين أشخاص من مختلف الثقافات والمناطق الجغرافية. وعرفتُ أن ذلك ممكن من خلال متجر مايسيز بمركز مونسي التجاري في ولاية إنديانا.
ومدينة مونسي التي تعيش فيها بام آخذة في التغيُّر كما هي الحال تمامًا مع الدول التي تصنع ملابسي. حازت المدينة على لقب «ميدلتاون»؛ حيث وصفها الباحثون الاجتماعيون في دراسة أُجريت في العشرينيات من القرن العشرين باعتبارها النموذج المعياري الأصيل للمدن الأمريكية. في تلك الفترة، كانت مدينة مونسي تُجاهد أثناء تحولها من مدينة قائمة على نشاط الزراعة إلى الصناعة. أما اليوم فإنها تجاهد أثناء تحولها من مجال التصنيع إلى مجال الأفكار والعولمة. جنوب نهر وايت ريفر، وقفت المصانع — التي كانت مقرًّا فيما سبق لشركات بورجوارنر وبول كوربوريشين وإنديانا بريدج وبرودريك كو ودلكو وإنديانا ستيل آند واير وَويستنجهاوس — خاوية على عروشها. لقد اختفت جميع الشركات؛ ففي عام ٢٠٠٦ رحلت شركة جنرال موتورز كذلك، ورحلت معها ٣٤٠٠ فرصة عمل. وفي عام ٢٠٠٨ حُشر الديناميت في مدخنة المصنع وضُغط على الزر.
وعلى الرغم من أن حياة بام اختلفَت اختلافًا شاسعًا عن حياة العُمال الذين صنعوا الملابس التي تُطبقها وتعلقها وتكويها بالبخار وتَعرضها ضمن عروض التصفيات، فإنه ثمة أسباب عديدة تجعلها تتفهَّم وتتعاطف مع الظروف الحياتية للعُمال الذين حكيتُ لها عنهم. ربما كانت أمًّا. ربما رحل ابنها بحثًا عن فرصة عمل في مكانٍ آخر له وضعه في السوق العالمية أكثر من مدينة مونسي. وربما كان زوجها ممَّن شاهَدوا هدم مصنع جنرال موتورز وتحسَّر على وضع الاقتصاد الجديد شاكيًا لصحفي تابع لوكالة رويترز: «كيف يُفترض لي أن أعيش على ثمانية دولارات في الساعة؟»
العولمة لا تطرأ على اقتصاد الدول، وإنما تطرأ على حياة الشعوب. وأساليب المعيشة تتغير في مدينة يونيون سيتي ومدينة مونسي وقرية بيري ودكا وبنوم بنه ومدينة جوانزو ومدينة سان بيدرو سولا وجميع المدن في مختلف أنحاء العالم. ربما لا ندين بنفس الديانة أو لا نتحدث اللغة نفسها أو نتبع نفس السياسات، ولكننا نشترك في التغيير والعبء الذي تضعه على كاهل أسرنا وموروثاتنا الثقافية. إننا نتوق لأزمنة كانت الحياة فيها أبسط، ونأمُل أن يكون المستقبل أفضل وأن يكون التغيير الذي يَجلبه المستقبل أحسن.
ولكننا لا نعلم الغيب.
ومع ذلك، نأمل.
•••
إننا جميعًا تَجمعنا شبكة من العلاقات التبادلية لا نستطيع الفكاك منها، حيث يَضمُّنا جميعًا نسيج القدر. هكذا، ما يُؤثِّر في الفرد تأثيرًا مباشرًا يُؤثِّر في الجماعة على نحو غير مُباشر.
بكل بساطة، يقول دكتور كينج إن ما يحدث في مجتمعنا يؤثر في سائر أنحاء العالم، وإن ما يحدث في سائر أنحاء العالم يحدث لنا ويؤثِّر فينا. فسمة العالمية صار لها طابع محلي. وسمة المحلية صار لها طابع عالمي.
إن كوني مُستهلِكًا مؤثرًا غيَّرني بطريقة جعلتني أتتبع أماكن صناعة ملابسي حول العالم. كما أنه جعَلني أدرك أننا لن نُغير العالم ونجعله مكانًا أفضل بكل سهولة من خلال التسوق أو المقاطعة. لم أبدأ مراجعة مكانتي ومسئولياتي كمُستهلِك، وإنما كمواطن عالمي ومحلي أيضًا.
والاتجاه السائد حاليًّا هو عدم إحداث تأثير. قلِّل تأثيرك على البيئة من خلال تقليل بصمت الكربونية. يوجد رجل يُدعى «رجل اللاتأثير» على الأرجح في قاعة محاضرات مليئة بالطلاب في مكانٍ ما في الوقت الحالي يقول لهم لا تشتروا هذا بسبب ذلك ولا تفعلوا هذا ولا تَذهبوا إلى هناك.
وتبدو هذه الطريقة طريقة سلبية لعيش الحياة. فكَّرتُ في بيبي راسل وهي تتخلى عن الشهرة والثروة لتعود إلى بنجلاديش. فكَّرت في باثلهام وهي تَعتني بمجتمعها في إثيوبيا ولم ترَ الفقر والاكتئاب بنفس الطريقة التي يراها الكثيرون من حولها، بل رأت المهارة والعادات والتقاليد والأمل.
وأكبر تأثير للناس والشركات على حدٍّ سواء يتمثَّل في حث المواطنين المحليين على مساعدة إخوانهم المحليين.
تساءلت في نفسي: «هل أنا مواطن محلي؟» في كل الأحوال الإجابة هي: أنا مواطن محلي في مدينة مونسي في ولاية إنديانا.
في حين أنني التقيتُ خلال هذه الرحلة بعدد كبير جدًّا من الأشخاص الذين يفتقرون إلى الفُرَص والموارد، فإنهم كانوا يَتمتَّعون عادةً بالثراء المجتمعي. غير أنني رأيت العكس في مدينة مونسي. يوجد أشخاص يُكرِّسون أنفسهم لجعل مُجتمعنا مكانًا أفضل بقدر الإمكان، إلا أنني لم أكن واحدًا منهم. كم واحد مِنا يعرف جيرانه؟ كم واحد مِنا يواجه الفقر والمشكلات التي يُعاني منها مجتمعنا المحلي؟
أدركت أنني يجب أن أكون مواطنًا محليًّا أفضل.
وها أنا أتطوَّع في مبادرة الدوائر المحلية التي تربط بين أعضاء المجتمع المحلي الذين يَعيشون في فقر — ويُطلق عليهم قادة الدائرة — مع ثلاثة أو أربعة أفراد ليس في مقدورهم إجراء عصف ذهني وحدهم للفكاك من براثن الفقر. وقد جعلتني الدوائر المحلية أتواصَل مع أمٍّ عزباء لثلاثة أطفال تعيش في مدينة مونسي. جلست معها لوضع ميزانية شهرية. وبنهاية اجتماعنا الخاص بوضع الميزانية، أدركنا أنها كانت مَدِينة بمبلغ ٦٠٠ دولار. واضطرَّت إلى طمأنتي بقولها: «كل شيء سيكون على ما يُرام.»
صرتُ عضوًا في منظمة بيج براذرز آند بيج سيسترز.
تملَّكني الشعور بعدم الثقة في النفس: إلى أي مدًى سأُحدث فارقًا؟ هل أتمتع بالقدرة على المساعدة؟ وجاءت الانتصارات الصغيرة على هيئة تقدير امتياز في شهادة أخي أو وظيفة جديدة أو توجُّه جديد لقائد دائرتي. ربما يُحقِّقون هذه الانتصارات الصغيرة بدوني، ولكن الفكرة الوحيدة التي تُشجعني باستمرار هي أنهم قد لا يُحققون هذه الانتصارات إلا بفضل مساعدتي. بالإضافة إلى ذلك، فإن محاولة تغيير حياة الآخرين قد غيَّرت حياتي للأفضل. فأنا أحاول تقبُّل حقيقة أنني من خلال التطوع «أحصل» على قدر أكبر مما أعطي. وأشعر بأنني على دراية أكثر بمجتمعي المحلي. فأنا أدرك جيدًا ما الذي يَعنيه أن تكون مواطنًا بمدينة مونسي في ولاية إنديانا.
إنني أحاول أن أكون مواطنًا عالميًّا أفضل.
إذا كنتَ قد تخرَّجتَ في جامعة، فأنت أكثر تعلمًا من ٩٥ بالمائة من سكان العالم. يعيش سدس سكان العالم على دخل أقل من ١٫٢٥ دولار في اليوم، ووفق تقديرات هربرت سيمون، عالم الاقتصاد وعالم الاجتماع الحائز على جائزة نوبل، فإن «رأس المال الاجتماعي» (الحكومة الفعالة، وتَوافُر سبل التكنولوجيا، والموارد الطبيعية الوفيرة) مسئول عما يَكسبه ٩٠ بالمائة على الأقل من الأفراد الذين يعيشون في مجتمعات غنية مثل الولايات المتحدة. قال وارين بافيت: «إذا غرستَني في بنجلاديش أو بيرو، فستجد إلى أي مدًى ستُصبح هذه الموهبة منتجة في التربة الخاطئة.» لقد وُلدنا في التربة الصحيحة.
لقد قال العم بين العجوز الحكيم لبيتر باركر (المعروف باسم سبايدرمان): مع القوة العظيمة تأتي مسئولية عظيمة؛ فثراؤنا وتعليمنا هما أهم مصادر قوتنا، ونحن نتحمل مسئولية استغلالهما لصالح مَن هم أقل حظًّا مِنا.
لا يُمكننا أن نتحكَّم دومًا في تأثير العولمة على مجتمعاتنا المحلية وحياتنا الخاصة، ولكن يُمكننا أن نتحكَّم في تأثير حياتنا على العالم من حولنا. إنني أحاول أن أكون جارًا ومستهلكًا ومتبرعًا ومتطوعًا ومواطنًا محليًّا وعالميًّا أفضل. إنني أحاول أن يكون لي أكبر وأفضل تأثير ممكن.
أُقدِّم أنا وآني المزيد. أسرة صغيرة تعتمد على دخل كاتب/متحدث ليست مكسبًا للعمل الخيري، إلا أننا نحاول أن نؤدي دورنا، موزِّعين عطاءنا بين القضايا المحلية والعالمية. إننا نحاول العطاء وفق خطة واضحة المعالم؛ حيث نبحث عن أفضل الطرق لمشاركة الآخرين ما نملكه.
إنني لا أحاول أن أكون مستهلكًا مؤثرًا وحسب، بل إنني أحاول أن أكون أكثر تفاعلًا ومشاركة أيضًا، هذا كل ما في الأمر.
نحن بحاجة إلى النظر خارج محيط أنفسنا وإدراك إلى أي مدًى يرتبط كلٌّ منا بالآخر. إننا محاطون بأشخاص غير مرئيِّين يُزيلون القمامة ويصنعون ملابسنا ويُخرجون الفحم من المناجم لتبقى مصابيحنا مضيئة ويضعون الطعام على موائدنا، وغيرهم ممن يُساعدوننا في حياتنا. ونحن أشخاص غير مرئيِّين بالنسبة إلى البعض. يجب أن نفتح أعيننا ليرى بعضنا بعضًا.
«أين تُصنع ملابسي؟» هو مجرد سؤال محدَّد؛ سؤال جعَلني أخرج في رحلة حول العالم لأرى موضعي في هذا العالم كمُستهلِك. لديَّ المزيد من الأسئلة: أين يُصنع طعامي؟ ما مسئولياتي؟ ما حجم تأثيري؟ وكلما عرفت أكثر زادت أسئلتي. ويبدو أنها تَنحصِر في هذا السؤال الجوهري …
أين أنا؟ أين أنا في عالم الأحلام الأمريكية ومملكة الخيال؟
وما زالت رحلة البحث مستمرة.
•••
لقد مرَّ سبعة أعوام منذ أن وقفتُ عاري الجذع مع أميلكار، ومن حولنا كانت تندفع موجة متدفِّقة من العاملين خارج مصنعه بالقرب من سان بيدرو سولا. كنت في السادسة والعشرين من عمري حينئذ، في رحلة بحث حمقاء سعيًا وراء المُلصَق الموجود على تي-شيرت رائع. في ذلك الوقت، لم يكن لديَّ أدنى فكرة عما ستئول إليه التجربة في النهاية.
الآن، أبلغ من العمر ٣٣ عامًا، متزوِّج ولديَّ أسرة. أنا المُستهلِك والأب والزوج والمواطن العالمي والمحلي والمُعطي والمُتبرِّع؛ النموذج الذي لم أكن لأصل إليه أبدًا لولا أميلكار.
عندما أفتح خزانة ملابسي، أُفكِّر في المئات — إن لم يكن الآلاف — حول العالم ممَّن شاركوا في تصنيع ملابسي؛ فالسراويل الجينز لم تَعُد سراويل جينز وحسب، والقمصان لم تَعُد قمصانًا وحسب، والأحذية لم تَعُد أحذية وحسب، والملابس لم تَعُد ملابس وحسب.
فكل قطعة ملابس وراءها قصة مجهولة وغير مروية.