جاسوس في عالم صناعة الملابس الداخلية
قبل أن أغادر أراضي الوطن، كنتُ أعرف القليل جدًّا عن ملابسي الداخلية؛ حيث عرفت أنها تُصنع في بنجلاديش تحت اسم العلامة التجارية بريفلي ستيتيد. وعرفت من خلال البحث لبضع دقائق على شبكة الإنترنت أن بريفلي ستيتيد قد بيعت عام ٢٠٠٥ إلى مؤسسة لي آند فانج، وهي شركة توريدات تدَّعي على موقعها الإلكتروني أنها تدير سلسلة توريدات خاصة بعلامات تجارية ومتاجر متعددة الأقسام في أكثر من «٤٠ اقتصادًا». لست متأكدًا مما إذا كانت كلمة اقتصاد يُقصد بها دولة، لكن مؤسسة لي آند فانج مؤسسة كبيرة؛ أنت على الأرجح تَرتدي شيئًا من العلامات التجارية التي تتعامل معها. فقائمة عملائها تضمُّ أكبر وأشهر المتاجر الأمريكية المتخصصة في البيع بالتجزئة مثل وول مارت وتارجت وكوهلز وليفايس. اتصلتُ بمكتب لي آند فانج بنيويورك لكي أسأل عن مكان المصنع الذي يصنع ملابسي الداخلية في بنجلاديش ولأحاول الترتيب لزيارة له.
لكن الأمور لم تَسِر على ما يرام.
حوَّلتني موظفة الاستقبال إلى قسم الملابس الداخلية، الذي حولني بدوره إلى البريد الصوتي. وعندما عاودت الاتصال، حولتني موظفة الاستقبال ثانيةً إلى قسم الملابس الداخلية الذي حولني هذه المرة إلى مساعد المدير الذي حوَّلني بدوره إلى مدير قسم الإنتاج، السيد كوهين؛ حيث قال لي: «صف لي ملابسك الداخلية.» وقد وجد الجانب الصبياني داخلي هذا الأمر مضحكًا. صرَّح بأنهم ما عادوا يوردون ملابسي الداخلية في بنجلاديش، وأنه لا يستطيع إعطائي عنوان المصنع الذي كان يَصنعها أو معلومات اتصال خاصة بأي شخص قد يُساعدني في بنجلاديش. وأخيرًا، وبدون مساعَدة أحد في مؤسسة لي آند فانج، عثرت على عنوانهم في بنجلاديش عبر شبكة الإنترنت.
لحسن حظي أن دالتون كان يَعرف عنوان المصنع الذي يصنع ملابسي الداخلية ماركة «جينجل ذيس». قادني دالتون إلى مبنًى إداري مرتفع في ميدان جولشان ٢، دكا، وهو أشبه بنموذج مصغر لميدان التايمز.
قلت لدالتون ونحن نستقلُّ المصعد متجهين إلى الطابق الثاني عشر: «حسنًا، يا دالتون، أخبرهم عن سبب مجيئي إلى هنا تحديدًا. قل لهم إنني كاتب من الولايات المتحدة الأمريكية، وإنني تتبَّعت ملابسي الداخلية كل هذه المسافة وصولًا إلى هنا للبحث في أمرها واكتشاف كيفية تصنيعها. هل فهمت؟»
فغر دالتون فاه وكان على وشك أن يقول شيئًا حين رنَّ جرس أحد هواتفه المحمولة؛ أجل «أحد» هواتفه المحمولة. كان لديه أربعة هواتف محمولة؛ اثنان للعمل وواحد للأصدقاء وواحد سري لا يُعطي لأي شخص رقمه. كان مضطرًّا إلى مناقشة بعض الأمور المعنية بمتجر موتورولا، الأمر الذي فعله في دقائق قبل أن يُعيرني انتباهه مرة أخرى.
«لست مضطرًّا إلى التفكير. سأعتني بكل شيء.»
كان المكتب حديث الطراز ذا إضاءة ساطعة وطابع مريح. وهناك جلس رجل على أريكة جلدية مبطنة إلى جوار كومة من عينات الملابس. هذا بالتأكيد ليس المصنع. اقترب دالتون من موظف الاستقبال، وهو رجل في أوائل الثلاثينيات من عمره ذو رأس كبير ووجه أكثر امتلاءً من وجوه معظم مواطني بنجلاديش.
دردش دالتون معه في فتور، وهو يومئ ناحيتي من آنٍ لآخر. في أول مرة، تتبَّع موظف الاستقبال إيماءته ولوح لي بيده في عجالة. حاولت في توتُّر أن أقرأ تعبيرات وجهه، مقارنًا إياها بتجربتي في هندوراس وقَلِقًا من أن أكون قد خدعتُ نفسي بالسفر في إجازة غريبة وغالية الثمن تحت وَهْم أنها رحلة بحث تستحق العناء.
رنَّ جرس هاتف دالتون، وابتعد عن مكتب الاستقبال ليَرد. وقفتُ وأخرجت ملابسي الداخلية واقتربت من المكتب.
ثمَّة شيء يجب عليك أن تعرفه.
أنا لا أحب الكذب؛ ليس هذا لأسباب أخلاقية وإنما يرجع السبب أكثر إلى أنني شخص كسول. فأنا لا أريد قضاء الوقت وبذل الجهد في نسج قصة من الخيال ثم أُحاول بعد ذلك تذكُّر ما قلته لهذا الشخص أو ما فعلته في ذلك الموقف. أعرف أنني سأقع فريسة في شباكي، ولستُ ماهرًا بالقدر الكافي.
قلت للموظف وأنا أشير ناحية دالتون: «لست متأكدًا مما قاله لك، ولكني كاتب من الولايات المتحدة الأمريكية.» ثم وضعت ملابسي الداخلية ماركة «جينجل ذيس» على المكتب وتابعت قائلًا: «وأود أن أتحدَّث مع أحد عن ملابسي الداخلية.»
ولم أُدرك إلى أي مدًى بدت العبارة سخيفة حتى خرجت من بين شفتي. كانت رحلة تتبُّع التي-شيرت في هندوراس مختلفة؛ فهم معتادون على زيارة جيرانهم الأجانب القادمين من أمريكا الشمالية بهدف وَعظِهم بالخطب الدينية وإنقاذهم والتنزُّه في الغابات ودفع مقابل القذف بأنفسهم في طوافات وسط أنهار ثائرة، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من الأنشطة الغريبة؛ فوجود شخص أجنبي في مهمة بهندوراس ليس شيئًا جديدًا. أما المهمة في بنجلاديش فكانت شيئًا آخر تمامًا؛ فعدد قليل من مواطني الغرب يَزورون بنجلاديش، وجميع الزيارات هي زيارات عمل بالأساس. والملابس الداخلية بمنزلة سلعة وليست مُهمَّة مستحيلة تسعى لإنجازها.
رد الرجل عليَّ بلغة إنجليزية ركيكة.
وقال: «أنا أعد قائمة بالمصانع. غدًا تذهب.»
شرعت في شرح التفاصيل الدقيقة أكثر لرحلة بحثي، وأخبرته بأنني بحاجة إلى معرفة أي مصنع بالضبط يَصنع هذه الملابس الداخلية عينها. لحُسن الحظ أن دالتون أنهى مكالمته الهاتفية وأخذ البطاقة من موظف الاستقبال وقادني نحو الباب.
لقد أخبر دالتون موظف الاستقبال بأنني أعمل في تجارة الملابس الداخلية.
«كيلسي، إذا قلت إنك تعمل في التجارة، فسيَسعد الناس أكثر بك وسيَعرضون عليك المزيد. غدًا سيتصل بي ليُرتِّب زيارة. تذكر، لست بحاجة إلى التفكير في الأمر!»
•••
كان بإمكاني الكف عن التفكير فقط حين يكون دالتون برفقتي. ولكنني سأُضطرُّ عاجلًا أو آجلًا، إلى التفكير بنفسي.
شركات التوريدات تقوم مقام الوسطاء بين مصانع الملابس والمشترين؛ فالمصانع لا تمتلك أقسام مبيعات وتسويق. وبعضُها لا يَملك حتى أجهزة كمبيوتر، ولذا يعتمدون على شركات التوريدات لتتواصل مع المشترين المُحتمَلين والحاليِّين وتتعامل معهم. مؤسسة لي آند فانج غير مهتمة بالعمل مع الشركات التي يُديرها شخص واحد مثل الشركة الوهمية التي قال دالتون إنه يَمتلكها. فَهمَ موظف الاستقبال هذا الأمر واعتبرني فرصة لمشروع التوريدات الصغير الذي يعمل به إلى جانب عمله الأساسي. وبدلًا من تنظيم زيارة إلى أحد المصانع عبر مؤسسة لي آند فانج، حدَّد لي دالتون وموظف الاستقبال موعدًا لمقابلة صالحين، شريكه في المشروع، الذي ظنَّ أنني مُهتم بشراء الملابس الداخلية النسائية.
قال صالحين: «حسنًا، أخبرني بالمزيد عن عملك.»
ولسوء الحظ، لم يَستَطِع دالتون حضور الاجتماع ذلك اليوم. ثمة كذبة كنتُ مُضطرًّا لها، وها أنا قد أصبحتُ بمفردي.
قلت وأنا أحاول الالتزام بالحقيقة بقدر الإمكان: «الأمر يحدث بالصدفة نوعًا ما. أنا كاتب في مجال أدب الرحلات تحت مصطلح «السائح الصبياني»؛ ومعناه سائح محب للسفر له تصرفات صبيانية. أحبَّ قرائي المصطلح. وفي النهاية، بدأت العمل مع رسام كاريكاتير. ابتكرنا معًا مجلة مصورة باسم «السائح الصبياني». وفتحت متجرًا على شبكة الإنترنت، ظنًّا مني أن بعضًا من أشد المُعجبين بي سيروق لهم امتلاك التي-شيرت أو الأكواب أو الملابس الداخلية الخاصة بالسائح الصبياني. وأطلقت على المتجر اسم «ثياب السائح الصبياني».»
الحقيقة أنني لم أنحت مصطلح «السائح الصبياني»، ولكنني أكتب عمودًا صحفيًّا في أدب الرحلات بعنوان «أرض السياح الصبيانيِّين» لحساب إحدى الصحف في مدينة كي ويست. وعملت فعلًا مع رسام كاريكاتير، ولديَّ فعلًا متجر على شبكة الإنترنت. ولكن ليس لدي أي عملاء، ولم أَنوِ ذلك قط. فأنا مالك المتجر وأنا العميل الوحيد؛ حيث أُصمِّم الهدايا وأشتريها لعائلتي وأصدقائي. إنني أُصمم التي-شيرتات والأكواب وقواعد الأكواب حسب الطلب كهدايا لأعياد الميلاد والإجازات.
أخرجت بضع نُسَخ مطبوعة من كتالوج متجر «ثياب السائح الصبياني» عبر شبكة الإنترنت ووضعتُها فوق ملابسي الداخلية، قلَّب صالحين صفحات الكتالوج. كان له أنف مُستدير كبير الحجم بما لا يتناسب مع ملامح وجهه الأخرى، وكان له بطن كبير جدًّا لا يتناسب مع بنيته الضئيلة. كان يَرتدي أسوأ شعر مُستعار رأيتُه في حياتي. كان الشعر المستعار يتأرجَح فوق فروة رأسه تاركًا حيزًا على هيئة فجوة سوداء غير متناهية بين شعره المستعار وفروة رأسه. كما كان الشعر المُستعار قصيرًا للغاية ولذا كان يَجذبه لأسفل باستمرار لكيلا يَنحسر إلى أعلى ويكشف عن الفجوة الموجودة على جانبَي رأسه بين شعره الحقيقي وشعره المستعار.
لم يكن من السهل عليَّ أن أكذب على صالحين لأنني أحببته.
قلت له: «لم يكن في نيتي قط أن أدخل مجال العمل التجاري، ولكن العام الماضي بعت ٣٠٠٠ تي-شيرت، ودفعت ٩ دولارات عن كل تي-شيرت وبعتُه بسعر ١٦ دولارًا، مُحققًا ربحًا يقدر ﺑ ٢١ ألف دولار. وهذا المبلغ كان ربحًا خالصًا لي؛ فليس لديَّ أي التزامات لأدفعها. وآمل أن أُضاعف أرباحي من خلال توريدها من بنجلاديش.»
قال صالحين وهو يُعيد إليَّ الورق قائلًا: «حسنًا … حسنًا، ليس لدينا بَعدُ هذا النوع من التجارة الإلكترونية في بنجلاديش. شريكك، السيد دالتون، قال إنك ترغب في زيارة بضعة مصانع، أليس كذلك؟»
أجبته قائلًا: «بلى، كل هذه الأمور جديدة بالنسبة إليَّ، وأريد أن أتعرَّف على العملية من بدايتها إلى نهايتها. لا يَعنيني المتجر الإلكتروني في شيء؛ كل ما أريده أن أُنفِّذ التصميم وأحصل على المال.»
قال صالحين وهو يُمسك هاتفه المحمول ويُغادر الغرفة: «انتظر من فضلك!» كانت الحوائط الخرسانية عارية وكذلك المكاتب. لم أرَ جهاز كمبيوتر. كانت الأرضية عبارة عن بلاط مُغطًّى بالقاذورات التي كانت تَترك أثرًا في حذاء من يسير عليها. كان التيار الكهربائي مقطوعًا، كان الضوء داخل الغرفة آتيًا من نافذة واحدة بلا زجاج. لم يكن المكان أشبه بشركة توريدات، وإنما شقة توريدات. تناثَرت أكوامٌ من عينات الثياب في كل مكان. اعتذر صالحين عن الفوضى في وقت سابق، كما أنه اعتذر عن عدم المرور لاصطحابي بسيارته الخاصة التي كانت موجودة في «الورشة»، وهو ما أدى إلى استقلالنا لعربة الريكشا إلى مكتبه.
قال صالحين وهو يُخرج رأسه من عند الزاوية: «حسنًا، سنذهب لزيارة المصنع.»
ركبنا حافلة لنُغادر دكا.
•••
قال صالحين وهو يُفرجني على خلفية شاشة هاتفه المحمول التي كانت عبارة عن صورة طفل صغير على شفتَيه نصف ابتسامة ولا يرتدي شيئًا سوى تي-شيرت: «لديَّ ابن واحد. عمره ١٠ شهور. زوجتي تزور الأسرة في الهند. ولمدة شهر ونصف، أعيش أنا وهو بمفردنا.» ابتسم تفاخرًا بقيامه بمهام الأبوَّة وحده.
لم يكن العمل كوسيط في مجال تصنيع الثياب هو النشاط التجاري الوحيد لصالحين؛ فهو يُدير إحدى المُنظَّمات غير الحكومية التي قال عنها إنها «مخصصة للأم والطفل» وإنها تموِّل ٣١ عيادة طبية في مختلف أنحاء بنجلاديش ومشاريع أخرى لإلحاق الطلاب البنجلاديشيِّين بالجامعات الأجنبية خارج البلاد.
علمت أنه يُحاول شق طريقه في الحياة مثل أي شخص آخر في هذا العالم، واضعًا نصب عينيه أولوية أساسية واحدة؛ ألا وهي توفير مستوًى معيشيٍّ جيد لأسرته. كنت أهدر وقته تمامًا.
فكَّرت في هذا الأمر وإلى أي مدًى تبدو رائحة أنفاسه كما لو كان قد أخطأ وتناول كُرات النفتالين بدلًا من أقراص النعناع. فكَّرتُ في الكذبة: ما الذي سأقوله في المصنع وكيف سأعمل على عدم افتضاح أمري. أشعر بالذنب حيال الأمر برمَّته.
مررنا على حقول الأرز المغمورة بالماء. انحنى ستة أشخاص من فوق جانب زورق خشبي صغير مُنهمكين في شيء ما. لم أكن أعرف ما إذا كان للأرز سنابل يجب التخلُّص منها، ولكن هذا ما خُيِّل إليَّ أنهم يفعلونه. وغاصت مجموعة أخرى من الأشخاص في الوحل والماء. كانت الشمس تنفث لهيبًا من الدخان بسبب ارتفاع درجة الحرارة، ولولا نسيم الهواء القادم عبر نافذة الحافلة بفضل انطلاقنا بسرعة كبيرة، لكنتُ قد تحوَّلت إلى كتلة عرق. يمكنك أن تَستشعِر هبوب النسيم في بنجلاديش، ليس فقط بتحريكه لشَعرك، وإنما تشعر به وهو يلتصق ببشرتك وعينيك. رأيت مُزارعًا آخر في حقل الأرز يوجه قطيعًا من الثيران من أعلى عربة مستخدمًا سوطًا. فعندما كان يريد توجيهها ناحية اليمين، يَضرب الثور ناحية اليسار. كانت العربة مُكدَّسة بالقش، والثيران تغوص بأرجلها في الوحل ثم تُخرجها منه في حركة سريعة.
أخذت أفكر في مدى بشاعة أن تكون في موضع دوابِّ السُّخرة.
سألت دالتون: «إلى أين سنذهب بالضبط؟»
رد قائلًا: «إلى مدينة سافير. ليست بعيدة. هل سبَق لك زيارتها من قبل؟»