مدينة الملاهي في بنجلاديش
لقد زرتُ مدينة سافير من قبل، ولعله المكان الذي تركتُ فيه الانطباع الأقوى لدى السكان المحليِّين في بنجلاديش. ولو كان هناك مكان في بنجلاديش سيَعرفني أحد فيه، لكان هذا المكان هو مدينة سافير.
حدَّقتُ في حقول الأرز خارج نافذة الحافلة وتذكَّرتُ أول زيارة لي لهذا المكان واليوم الذي قضيته في مدينة الملاهي الفريدة مع رجل عجوز و١٩ طفلًا لن ينسوني أبدًا. وتمنَّيتُ فقط ألا يكتشفوا أمري.
•••
تكفي سبعة وستون دولارًا لدفع ثمن تذكرة دخول طفل واحد لقضاء يوم في عالم والت ديزني بمدينة أورلاندو في ولاية فلوريدا.
وعلى الجانب الآخر، تكفي سبعة وستون دولارًا لدفع ثمن تذكرة دخول ٢٠ شخصًا لقضاء يوم في مدينة ملاهي فانتازي كينجدوم بمدينة سافير.
كان كل ما يتعيَّن علينا فعله هو العثور على هذا العدد.
«سيكون من الأفضل اصطحاب فتاة واحدة وفتًى واحد»، قالتها روما، وهي صحفية رياضية في العشرينات من عمرها أخذت إجازة مدتها يوم من عملها لتُساعدني في تنفيذ فكرتي المجنونة وهي: اصطحاب أكبر عدد مُمكن من الأطفال البنجلاديشيين إلى مدينة الملاهي. فركوب الأفعوانية بمنزلة رفاهية لم يَعرفها هؤلاء الأطفال على الأرجح، وباعتباري مُشجِّعًا مُتحمِّسًا أبديًّا للعبة الأفعوانية، كان هذا واقعًا تمنيت أن يتغير. ففي تلك الفترة، لم أكن أعرف أن هذه الخطة كانت وثيقة الصلة بالرحلة التي قطعتها بحثًا عن العُمال الذين صنعوا سراويلي الداخلية ماركة «جينجل ذيس». ولكن هذا حدَث قبل فترة طويلة من معرفتي بأن مدينة الملاهي تُحيط بها مصانع الملابس التي تُوظِّف عددًا كبيرًا من سكان المدينة المحليِّين وأطفالهم.
قلت لها: «أريد ٢٠ طفلًا. سلي هؤلاء الأطفال.»
اقتربت روما من ثلاثة صِبية. وبينما كانت تتحدث إليهم، حدَّقوا بي.
قلت لها: «اطلبي منهم أن يذهبوا ويَعودوا بالمزيد من الأطفال.»
انتظرناهم أثناء قيامهم بهذا.
من خلفنا برزت أبواب ملاهي فانتازي كينجدوم، المشهد الأكثر تألقًا ونظافة وغرابة في بنجلاديش كلها. كانت الحوائط مصنوعةً من البلاستيك ولكن لها مظهر الأحجار الرملية. كان يعلوها طفلان من الشخصيات الكرتونية في غاية السعادة يتطلَّعان إلى الشوارع المزدحمة ومصانع الملابس المُجاورة. كان الفتى يُمسك في يده بصولجان، أما الفتاة فكانت تُمسك مرآةً ذات مقبض طويل بيد واحدة، وبأيديهما الطليقتَيْن كانا يرفعان إصبع الإبهام إلى أعلى إشارة إلى روعة المكان.
جاء الأطفال والكبار من كل حدب وصوب، وسرعان ما اجتمع الحشد.
وبمجرَّد أن اشترينا التذاكر، بدأت المهمة الصعبة: من معه تذكرة؟
نظَّمنا الأطفال في صفٍّ بدءًا بالأَقصَر ثم الأطول وبدأنا نُوزع التذاكر. لاحظت مجموعة من الرجال في منتصف العمر في الخلفية يُشيرون إلى مُزارع عجوز. شققت طريقي عبر الزحام وأعطيتُه تذكرة.
لم تكن توجد أيُّ طوابير داخل مدينة الملاهي. في الحقيقة، كنا — «نحن» — الطابور الوحيد، وأينما ذهبنا كان يتبعنا العامل المسئول عن تشغيل اللعبة. اخترنا لعبة شبيهة بلعبة العنكبوت الموجودة في المهرجانات التي كانت تُعقد في الريف أيام طفولتي. هَلَّلَ الأطفال وصاحوا في حماس مع دوَران اللعبة.
كانت مجموعتنا مُتحفِّظة ومُترددة بخصوص ما كان يحدث قبل أن يأتي دورنا لركوب اللعبة. ثمة فورة حماسية عجزتُ عن اكتشاف سببها. كانوا أطفالًا (باستثناء المُزارع العجوز) تَكتنفهم حالة من الهدوء رغم كونهم في مدينة للملاهي. ظلوا معًا وأنصَتوا لأي شيء تقوله روما. بل التزموا الصمت أغلب الوقت.
ولكن لعبة العنكبوت غيَّرت كل شيء؛ حيث إنهم شرَعوا في التصرف كأطفال، جميعهم بمن فيهم المُزارع العجوز. كانوا يتحدثون بعضهم مع بعض وقد اتسعت عيونهم في دهشة وفغرت أفواههم ولوَّحوا بأذرعهم. علمت ما قالوا: «هل رأيتموني؟ لم أكن مُمسكًا بشيء.» أو «كنت مغمض العينَين.» أو «هل حاولت أن تبصق؟ لقد فعلتها و…»
أنت لا تركب الألعاب في طفولتك وإنما تَغزوها غزوًا، والذين يُشاركونك في اللعب بمنزلة جنود في مهمة حربية برفقتك. عندما كنت في مرحلة الطفولة، أتذكر أنني كنتُ أصافح رفاقي بالأيدي لأعلى أثناء ترجُّلنا بعيدًا عن لعبة دوامة قيصر ولعبة البندول الطائر ولعبة الإعصار. ولعلَّنا نُلقي نظرة على الأطفال المُتحمِّسين المنتظرين في الصف وراءنا ونزهو في سعادة بتجربتنا المشتركة الرائعة.
تحدَّثنا أثناء تناول الغداء المكون من شطائر البيتزا والمشروبات الغازية. أخبرتهم بأنني أعمل صحفيًّا وأحاول الوصول إلى المصنع الذي يَصنع ملابسي الداخلية. وجدوا هذا شيئًا طريفًا. ثم حكوا لي عن أنفسهم.
كان راسيل يَتحدث القليل من الإنجليزية لأنه كان قد التحق بالمدرسة لمدة ست سنوات. وكان يعمل في مجال تصنيع الملابس مثله مثل هابير وزومون. لم يكن عُمْر هابير يتعدَّى الثامنة عشرة، إلا أنه كان مخضرمًا في العمل بالمصانع؛ إذ كانت لديه خبرة امتدَّت خمس سنوات مكَّنته من إعالة أسرته نظير تقاضيه مبلغ ١١٥ دولارًا كل شهر.
كان خمسة من الأطفال يعملون في جمع القمامة من الشوارع. كانوا يَنتقون من القمامة الزجاجات البلاستيكية وقِطَع الورق والورق المُقوَّى وأي شيء يُمكنهم بيعه. ولم يلتحق أحد منهم بالمدرسة ولو ليوم واحد.
لم تكن الفتاة الأصغر سنًّا في المجموعة — البالغة من العمر تسعة أعوام — ترتدي حذاءً أو قميصًا، ولكنها كانت تَرتدي قرطًا. كان شعرها مفروقًا على جانب رأسها ومُثبَّتًا بمشبك للشعر. وكانت ابنة عمها — في العاشرة من عمرها — تُعاني من آثار حروق تمتد من أصابعها حتى مرفقها. لقد وضعت يدها في الفرن حين كانت في سن صغيرة جدًّا ولم تكن على دراية بشيء حينها.
الحياة في بنجلاديش عبارة عن عمل بالنسبة إلى الكبار والصغار على حدٍّ سواء. وهؤلاء الأطفال كانوا أصحاب حِرَف.
كان هناك اثنان من الصبيان يَبيعان في الشوارع أرز الجالموني، وهو نوع من الأرز الحار. وكان في مجموعتنا أيضًا اثنان من أصحاب المتاجر، وخبير في الطب الشعبي في الرابعة عشرة من عمره، واثنان من بائعي الخضار، واثنان من الحلاقين، بالإضافة إلى المُزارع العجوز، السيد أزهر؛ وهو والدٌ لسبعة أطفال، ذو لحية بيضاء وأسنان أكثر بياضًا، كان وجهه المميَّز تعلوه خطوط تركتها سنوات العمر ما بين ابتسامة وألم وعمل شاق.
سألتهم قائلًا: «مَنْ منكم سبق له المجيء إلى هنا؟»
أعادت روما السؤال وكان راسيل هو الوحيد الذي رفع يده.
ثم طرحت سؤالًا آخر: «مَنْ منكم سبَق له أن أكل البيتزا؟»
مرة أخرى، لم يرفع أحد يده سوى راسيل. ولم أكن بحاجة إلى سؤالهم عما إذا كانت البيتزا قد أعجبتهم أم لا. كان من الواضح أنها لم تُعجبهم؛ حيث ظلَّت شرائح البيتزا التي لم تؤكل بالكامل في الأطباق الورقية على حالها. لقد افترضت أنهم جائعون وتوقَّعت أن يلتهموا بشراهة أي شيء يوضع أمامهم.
وبعد تناول الغداء، مررنا أمام زوجين ثريَّين أشارت إليهما روما بأنهما عاشقان. كانا يجلسان على لعبة وحدهما، كلاهما فقط. كانا ثريَّين؛ فأي شخص في بنجلاديش قادر على دفع ثلاثة دولارات ثمن تذكرة دخول مدينة الملاهي هو شخص ثري. فبعض مواطني بنجلاديش لا يُمكنهم تحمُّل ثمن شراء قمصان لبناتهم. اشتريت قميصًا أزرق-سماويًّا مطبوعًا عليه فانتازي كينجدوم للفتاة ذات القرط التي لم تكن ترتدي قميصًا. كان ثمنه دولارًا واحدًا. فحصتُه وعرفت أنه صُنع في بنجلاديش.
في ساحة اللعب، كانت توجد أُرجوحات معدنية غريبة الشكل. ركبتُ واحدةً أمام أحد الصبية الأكبر سنًّا. شعرت بألم في ركبتي من جراء النزول على الأرض والدفع لأعلى مرة أخرى. فركتهما، فضحك المزارع العجوز. بينما كانت الفتيات يلعبن على الزحلوقة. وأشار إليَّ أحد الصِّبيان لألتقط صورة له وهو جالس على لعبة كنغر هزازة، ووقَف الفلاح العجوز أيضًا استعدادًا لالتقاط صورة على لعبة الكنغر.
حدَّق الناس فينا في محاولة لاستنباط ما يحدث بالضبط. لم يكن بإمكانهم فهم اللغز وراء مجموعتنا: فتاة بنجلاديشية تَنتمي إلى الطبقة العليا ورجل غربي ومجموعة من الأطفال الفقراء ومزارع عجوز.
كانت هناك لعبتان للأفعوانية في مدينة ملاهي فانتازي كينجدوم؛ واحدة كبيرة، وهي قد تُعتبر صغيرة في أيِّ مدينة ملاهٍ أخرى، وواحدة صغيرة، قد تُعتبر مناسبة لركوب الأطفال في أيِّ مدينة ملاهٍ أخرى. وعندما أشارت إلى الأفعوانية الكبيرة، هَلَّلَ الأطفال في بهجة.
وفي طريقنا، مررنا على مجموعة من الكبار الذين جلسوا في لعبة الأفعوانية الصغيرة. أشرنا إليهم وضحكنا قائلين: «ما زالوا صغارًا!»
وبينما كنا نسير، أخذ بعض الأطفال يَقفزون. كانت الحجارة التي جعلتْها حرارة الشمس كالجمر بمنزلة مصدر تعذيب للأقدام الحافية، ولكن لم يَشتك منهم أحد. كانوا يَثِبون في مرح وحسب.
امتلأت لعبة الأفعوانية الأولى بالأطفال ولم يكن يوجد مكان لي أو للمزارع العجوز. ثبت الأطفال أحزمة الأمان وانطلقوا. صعدوا التلَّة وهبطوا. أجَّل الخوف الصرخات لكنها انطلقت على أيِّ حال. استغرقت اللعبة أقل من ٣٠ ثانية. وبينما كانت الأفعوانية في طريقها إلى التوقُّف، خرَج أحد الصبية بائعي الأرز الحار، وهو في حالة من الفزع، من أسفل قضيب التثبيت الخاص بمقعد اللعبة ووثَب على الرصيف قبل أن تتوقف اللعبة تمامًا.
استقللتُ القطار الثاني وأخذت مكاني في المقعد الأمامي بجوار المُزارع العجوز. تطلَّع إلى حزام أمان المقعد في ارتباك. ثبَّتُّ له حزام الأمان ثم أنزلت قضيب التثبيت الخاص بمقعد اللعبة. مررنا من أمام أول مجموعة للأطفال الواقفين على الأرض وهلَّلوا في بهجة أثناء صعودنا التلة. أشرت للجميع لكي يَرفعوا أيديهم إلى أعلى. وقد رفعهما المزارع العجوز ولكنه أنزلهما عند الوصول إلى قمة التلَّة، انتفخت عروقه وهو يَتشبَّث بقضيب التثبيت وكأنها مسألة حياة أو موت. أسند العجوز رأسه إلى كتفي أثناء استدارتنا مع منحنًى حادٍّ. وبنهاية اللعبة، كان كلانا يضحك بشدة حتى دمعت عيوننا.
سرنا عبر مدينة الملاهي في زَهو.
أخبَر المزارع العجوز روما أنه يمرُّ كل يوم بهذا المكان ولكنه لم يسبق له زيارته قط؛ حيث قال: «كنت أحلم بزيارة هذا المكان. ولم أتخيَّل أبدًا أنني سأستطيع الدخول إلى هنا. أنا مزارع، ولم يكن هذا مُمكنًا. الآن، أنا سعيد للغاية.»
بالنسبة إلى بعض مواطني بنجلاديش، يفوق مبلغ اﻟ ٦٧ دولارًا راتب شهر كامل. ربما كان يتعين عليَّ استغلال أموالي في شيء عملي أكثر بالنسبة إلى الأطفال. فعلى أيِّ حال، كل طفل يستحق حذاءً وقميصًا. ولكن إذا تَطلع الأطفال إلى البوابة المُقوَّسة العالية لمدينة الملاهي، أثناء مرورهم عليها في طريقهم إلى العمل أو أثناء جمعهم القمامة من الشوارع وتذكروا لعبة الأفعوانية والشعور بتقلُّصات في المعدة والنسيم يمر بين خصلات شعرهم والهروب من واقع الحياة لبعض الوقت، فإن هذه الأموال تكون قد صُرفت في موضعها المناسب.