عريفة، عاملة الملابس
يَكسب نحو مليوني شخص عيشهم من العمل في مجال صناعة الملابس ببنجلاديش. لقد رأيتُهم يسيرون في الشوارع في الصباح الباكر ومعهم غداؤهم؛ رأيتهم يعملون أسفل مصابيح فلورسنت على ماكيناتهم، وقرأت عن معاناتهم والانتصارات التي كانت تُحققها تلك الصناعة في الصحف المحلية صباح كل يوم. تَتصدَّر العناوينَ الرئيسية بصحيفة دكا «ذا نيو إيدج» الصادرة باللغة الإنجليزية في صباح يوم واحد أخبارٌ على غرار: «إصابة ٢٥ في اشتباكات عمال الملابس»، «مظاهرة عمال مصنع التريكو بسبب تأخُّر الرواتب»، «انتحار عامل ملابس»، «زيادات الصادرات بنسبة ٢١ بالمائة لتصل إلى ٨ مليارات دولار في ثمانية أشهر».
لا يغذي قطاع الملابس نمو الاقتصاد في بنجلاديش بنسبة تفوق خمسة بالمائة كل عام في السنوات الأخيرة وحسب، وإنما يَزيد وَعْيَ النساء في المجتمع وسلطتهنَّ أيضًا … وهذا التغير وغيره يُتيح الفرصة أمام بنجلاديش في السنوات القليلة القادمة لتضع نفسها على طريق آمن للنمو الاقتصادي طويل الأمد.
فالنساء العاملات من المرجح أن يُنجبن عددًا أقلَّ من الأطفال؛ فخسارة الوظيفة أثناء فترة الحمل أو الإنجاب أو رعاية الطفل أمر تَكلفته باهظة نوعًا ما؛ ومن ثم فالنساء العاملات يُنجبن عددًا أقل من الأطفال يتحمَّلن مسئولية مأكلهم وملبسهم ورعايتهم الصحية، ولديهن المزيد من المال لأداء هذه المسئولية. وذكر ساكس أن المعدل الإجمالي للخصوبة — متوسط عدد الأطفال الذين تُنجبهم المرأة في حياتها — في بنجلاديش عام ١٩٧٥ بلغ ٦٫٦. أما اليوم فيبلغ المعدل الإجمالي للخصوبة ٣٫١. هكذا، يُعدُّ تعليم النساء وتوظيفهن إحدى أفضل الطرق لانتشال المجتمع من براثن الفقر.
•••
كان السيد مون، مدير الاتحاد القومي لعمال الملابس في بنجلاديش، رجلًا قصير القامة ذا مظهر يُوحي بالجدية. كان مكتبه الخالي — المزوَّد بطاولة واحدة وكرسيَّين شاغرَين — مظلمًا؛ مظلمًا جدًّا لدرجة أنني استغرقت دقيقة كاملة لكي أُلاحظ أن الحوائط مغطاة بورق جرائد عليه صور لعمال صناعة الملابس ما بين قتلى وجرحى. كان لديه الكثير من الأسباب التي تجعل منه شخصية جادة.
وافق على تقديمي لعدد من عمال صناعة الملابس، واصطحبني إلى مبنًى سكني مليء بالعاملين. تحدثنا إلى عُمال، كبار وصغار في السن، عن حياتهم وأسرهم ومستقبلهم. التقيت بعامل، يبلغ من العمر خمسة وأربعين عامًا، ويعمل في مصانع الملابس منذ ٢٠ عامًا، ويَتقاضى ٤٥ دولارًا في الشهر. وتحدثت مع فتاة جميلة، تبلغ من العمر ١٨ عامًا، ذات ابتسامة جميلة واسمٍ يُتَرجَم إلى «المُغنية»، تتقاضى ٢٤ دولارًا في الشهر. قالت لي إنها تُريد أن تصبح طبيبة، وهو ما ذكَّرني بنفسي وأنا أقول أريد أن أسافر إلى الفضاء.
إلا أن سيدةً تُدعى عريفة كان لها بالغ الأثر في نفسي؛ شعرت أنها ربما تكون من نوعية النساء التي تحدَّث عنهن ساكس في كتابه. تلك النوعية من النساء التي عندما تَتحدث، يَستمع إليها الجميع. أعددتُ لقضاء يوم معها من شروق الشمس وحتى مغيبها لأعرف ما إذا كانت تَتمتَّع بتمكين اجتماعي أم أنها تُجرَّد من إنسانيتها بسبب عملها في مجال صنع الملابس لأشخاص مثلي.
لقد جئتُ إلى بنجلاديش لأقابل الأشخاص القائمين على تصنيع ملابسي مثلما كان هدفي عندما سافرت إلى هندوراس، إلا أنني لم أُساعد نفسي على تحقيق النجاح في هندوراس؛ فلم أطرح الأسئلة التي كنتُ أرغب في طرحها خلال الدقائق القليلة التي قضيتُها مع أميلكار؛ أسئلة لم أكن على استعداد لتلقِّي إجاباتها. كان الأمر أشبه بالصعود إلى حافة الهاوية، وإلقاء نظرة عن كثب ثم التراجع والسير مُبتعدًا وأنا أقول: «لا، شكرًا!» أما الآن فإنني عازمُ النية على اتخاذ القرار لخوض التجربة؛ أقصد التعرف على وظيفة عريفة باعتبارها عاملة في مجال تصنيع الملابس، والتعرُّف على معاناتها للعيش بأقل من ١ دولار في اليوم، وآمالها لأطفالها باعتبارها أمًّا عزباء.
•••
كانت الساعة الخامسة صباحًا وشوارع دكا خالية من المارة. هكذا، كان من المخيف أن تكون أنت الوحيد الذي يَسير في شارع بإحدى المدن الأكثر ازدحامًا في الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم.
وقد حذَّرني موظف الفندق من الخروج في ذلك الوقت.
حيث قال الموظف: «هذه [الفكرة] في غاية الخطورة. ربما يُمكنك الخروج بعد الساعة العاشرة صباحًا، ولكن في «ذلك» الوقت من اليوم احتمالات تعرُّضك للخطف مُرتفعة.»
فقلت له: «ماذا لو خرجتُ بدون أي شيء؟ بدون أموال. بدون كاميرا. بدون جواز سفر.»
وجاء رده: «على الأقل ستَتلقَّى طعنةً جراء إثارة غضبهم لأنك لا تَحمل معك أي شيء.»
يا للهول!
فسألته قائلًا: «هل يستطيع سائقكم أن يَصحبني إلى هناك ويأخذني إلى الشقة؟ أقصد أن يتصرَّف وكأنه حارس شخصي لي؟»
وبالفعل، اصطحبني السائق إلى وجهتي. كان السائق أقصر مني بنحو خمس بوصات، ولكنه كان يختال في مشيته مُستعرضًا كتفَيه في شموخ. كان بطنه بارزًا بحيث تدلَّى من فوق حزامه. وبوجه عام، كان يبدو أشبه قليلًا بحارس حانة يَتجرع كل مساء مزيجًا من البيرة الرخيصة. بالطبع، لم يكن واردًا أن يكون حارس حانة في بنجلاديش؛ حيث إنه بلد يَحظر بيع الخمور عمومًا.
كان النوم لا يزال يداعب عينَي السائق أثناء قيادة سيارة الفندق وسط الشارع. كدتُ أحتضنُه حين وافق في الليلة السابقة على اصطحابي، إلا أننا كنا نتعامل برجولة مُفرطة تَحُول دون الانخراط في مثل هذه الأفعال الصبيانية. فعلى أيِّ حالٍ، كنا في طريقنا إلى مواجهة جريئة مع شوارع دكا الخالية من المارة.
كنتُ في كامل يقظتي وحذري تحسبًا لأن يعترض طريقنا عصابات الخطف وقُطاع الطرق والسارقون والمحتالون والبلطجية والعصابات المسلحة واللصوص وكل مَن يخطر ببالك من هذه الفئات الخطيرة. ثم رأيتُ عددًا من الأشخاص يتحدثون عند الزاوية، وما أثار الرعب في نفسي أن السائق توقَّف على جانب الطريق ليسألهم عن الاتجاهات. أنزل زجاج نافذتي ومال ناحية مسند الذراع ليتحدَّث إليهم. تراجع اثنان من أفراد العصابة المحتملة، ووضع زعيمهم إحدى يديه على سقف سيارتنا والأخرى على بابها. كانت أصابعه تتدلى داخل السيارة حيث ظهرت أظافره الطويلة صفراء لا سيما ظفر خنصره الحاد بالقدر الذي يَكفي لقطع رقاب الأجانب ذوي البشرة الرقيقة الذين يَتجرَّءون على الخروج في الساعات الأولى المُظلمة من النهار. تشاور مع عصابته ثم أشار إلى الزاوية.
فعلنا هذا الأمر مرارًا وتكرارًا؛ إذ توقَّفنا وسألنا تقريبًا كل شخص رأيناه في الشارع عن الاتجاهات. فلو وُجد مُجرمون بالجوار، لكانت تلك فرصة كبيرة أتحناها لهم لارتكاب جرائمهم على أيِّ حال.
قلت وأنا أشير إلى السائق كي يتوقف: «ها قد وصلنا.»
وجد السائق مكانًا ليوقف السيارة فيه بعيدًا عن الطريق المُفضي إلى الزقاق الضيق، وسِرنا في زقاق أضيق منه. تعرَّفتُ على الرائحة — مزيج من الكرنب الفاسد والبراز — وعرفتُ سبب الشعور بالحرقان الذي انتاب أنفي وصدري. قدت السائق إلى البناية الخرسانية ناحية اليسار حيث اصطحبني السيد مون لأول مرة.
لم تُجرَ أيُّ محاولة على الإطلاق لجعل هذه البناية ذات مظهر جمالي يَسرُّ الناظرين. بدا المبنى من الخارج والداخل على الأخص كما لو أن حريقًا قد ترك آثاره على الخرسانة وأسقط أيَّ دهانات على الحوائط.
تقوَّست درجات السلم نتيجة لتآكلها وتحطمها، وبدا من المحتمل انهيارها في أي وقت. وكان يوجد من قبل درابزين، والدليل على ذلك بروز دعامات للدرابزين خضراء من الحائط على مسافات متفرقة. وصلنا إلى الطابق السادس والدور الأخير للبناية. كان السائق يلهث بشدة، وتسارعت أنفاسي أنا أيضًا نوعًا ما.
همست قائلًا: «عريفة؟» كان الرواق مضاءً بلهب مُنبعث من موقد غاز يحمل فوقه وعاء أرز.
ابتسمتْ لي الطاهية، الواقفة عند الموقد، ابتسامةً خفيفة واختفت داخل غرفة في نهاية الردهة. أعطيت السائق حفنة من عملة التاكا البنجلاديشية وشكرته على مساعدتي. نظر إليَّ في ارتباك؛ لم يكن متقنًا للغة الإنجليزية بالقدر الذي يَجعلني أشرح له ما أفعله. لا بد أن الأمر، بالنسبة إليه، بدا وكأنني أتصرف بطريقة مريبة: إما أنني بصدد مقابلة إحدى العاهرات، وإما أنني سأَشتري المخدرات.
حتى وسط هذا الضوء الخافت، تعرَّفت على وجهها؛ كان لها فكٌّ حادُّ القسمات وعينان كبيرتان وجبهة بارزة. كانت ترتدي قميصًا فضفاضًا قرمزي اللون وسروالًا أزرق، ووشاحًا بألوان قوس قزح مربوطًا حول رقبتها. كان على وجهها آثار النوم وكانت ملابسها لا تزال مجعَّدة.
أومأت لي مشيرة إلى داخل الغرفة وأجلستني على فراش ينام عليه طفلاها. كانت سعدية الصغيرة، أربع سنوات، نائمة في الزاوية بجوار الحائط تتقلَّب في هدوء ذات اليمين وذات اليسار. في كل مرة نظرت إليها، رأيتها في وضع مختلف. أما عابر، ١١ عامًا، فكان ينام على نحو أكثر هدوءًا.
أشارت إليَّ عريفة كي أرفع ساقيَّ، وقد فعلتُ ما طلبتْ، فسحبَتْ دلوًا به أرز من أسفل الفراش وبدأت تغرف أكوابًا منه. أحصيت الأكواب في سري … أربعة … خمسة … ستة. كان بإمكاني أن أسمع صوت كل حبة أرز تصطدم بالوعاء.
بُنيت الغرفة من أي شيء وكل شيء. كان الورق المقوَّى يعزل السقف والحوائط، أما القوائم فمصنوعة من الخَيْزُرَان والأرضية من الخرسانة، والسقف والحوائط الداخلية مصنوعة من ألواحٍ خشبية. في حين أن الحوائط الخارجية كانت عبارة عن صفائح معدنية يتخلَّلها ثقوب يتسلل من خلالها خيوط الفجر الأولى. كانت توجد خزانتان، واحدة في الوجهة مباشرة ذات أبواب زجاجية متحركة ومقصورتان علوية وسفلية: المقصورة العلوية تحتوي على الملابس وملاءات الفراش والمناشف، أما المقصورة السُّفلية فتحتوي على الأطباق والأواني الفضية ولعبتَين محشوَّتَين على شكل حيوانات.
أغلب المساحة الموجودة بالغرفة يَشغلها فِراشان كبيران نام عليهما أربعة أشخاص في الليلة السابقة. الشخص الرابع هو ديدر خان، زوج أخت عريفة؛ وهو يعمل لدى شركة جيليت ويتحدَّث القليل من الإنجليزية. أخذ يغسل أسنانه لمدة نصف ساعة. في المرة الأولى بصق على حائط السلالم مضيفًا بقعًا بيضاء بدت وكأنها براز سائل لطائر. في المرة التالية، بصق عبر ثقب في الحائط الموجود إلى جوار فراشه.
عادت عريفة. كان الأرز جاهزًا، وقد حان وقت إعداد باقي وجبة الإفطار. أخرجت وعاء الخضراوات من أسفل الفراش الآخر وجلست على الأرضية. وضعت نصلًا مقوَّسًا على الأرضية موجهة إياه لأعلى وبدأت تقطع بحِرفيةٍ البصلَ والبطاطس وخضراوات أخرى من خلال تمريرها على حافة النصل. كانت سريعة ولم تكن بحاجة إلى النظر إلى ما تقطعه. أحيانًا كانت تنظر إليَّ أثناء محاولتنا التواصل، وأحيانًا أخرى كانت تنظر إلى طفلَيها وتبتسم. وبعد أن تراكمت قطع الخضراوات على الأرضية، جمعتها وأخذتها إلى المطبخ.
سرْتُ في الردهة، كان الغاز المُنبعث من الموقد يُلهب عيني، ولذا صعدت إلى سطح البناية. من أعلى رأيت دكا تستيقظ من النوم لتوِّها؛ حيث قطَع رنين أول أجراس عربة الريكشا صمت الصباح. بالأسفل، كان الشحاذون يَبدءون يومهم مُبكِّرًا وكان أول تعاملات السوق لهذا اليوم في طريقه للبدء. رأيتُ التجار ينقلون بضائعهم إلى متاجرهم في سلال كبيرة من الخوص يحاولون تثبيتها فوق رءوسهم. وعلى سطح بناية قريبة وقَف رجل يؤدي تمارين الإطالة، وفوق سطح بناية أخرى وقف صبي صغير يؤدي مهامَّه الصباحية الروتينية، ولكنه توقف طويلًا بما يَكفي ليُلوِّح لي.
عدت إلى الداخل وجلست على الفراش. قدَّمت لي عريفة الإفطار، لم أرغب في تناول الطعام؛ فما لديهم قليل للغاية. وبعد أن رفضتُ ثلاث مرات، تناولت في النهاية شطائر التورتيللا والحساء الأخضر ثخين القوام المصنوع من الخضراوات التي خلطتها وهرستها. كان مذاقه حارًّا قليلًا بالنسبة إليَّ، ولكني تناولته على أيِّ حال.
عبر الردهة ومن غرفة صغيرة في آخرها، راقبني ثلاثة رجال من فوق فراشهم الذي كان عبارة عن هيكل خَيْزُرَاني تعلوه رقائق من الألواح. كان الثلاثة يَعملون في صناعة الملابس.
كانت عريفة تؤجِّر الغرفة من الباطن للعمال، فيَدفعون لها ١٤٫٦٠ دولارًا في الشهر مقابل تأجير الغرفة والوجبات المقدَّمة لهم. كانت عريفة تطبخ لما لا يقل عن سبعة أشخاص في كل مرة. غَرَفَ الرجال الأرز بأيديهم من أوعية كبيرة وخلطوه بالحساء الأخضر كثيف القوام والتهموا الطعام. انعكس الضوء الآتي من النافذة الموجودة خلفي على حافة فراشهم. كان بإمكاني أن أُميِّز الوعاء، ولكني لم أتبين وجوههم؛ كل ما رأيته أيديهم التي تَغرف من كومة الأرز.
استيقظَت سعدية وكنتُ أول شخص أبصرته عندما فتحت عينيها؛ فطفقت تبكي. وبعد أن دغدغتُ قدميها بقلمي، بدأت تُقهقه. لم يكن من الصعب كسب صداقة طفلة في الرابعة من عمرها. كانت تُقهقه فقط عند دغدغة قدميها، ثم تُعاود البكاء دون أن يظهر عليها أيُّ علامة للتوقف.
سألت ديدر: «ما خطب سعدية؟»
تلعثَم في الكلام قبل أن يجد الكلمات التي يبحث عنها قائلًا: «سعدية جائعة للغاية.»
جلست عريفة على الفراش ومدَّت يدها أسفل حَشِيَّة الفراش وسحبت رزمة من عملة التاكا البنجلاديشية الحمراء فئة العشرة وأعطتها إلى عابر. عاد عابر ببعض شطائر التورتيللا وأعطاها إلى سعدية. وبعد أن تناولت سعدية عدة قضمات منها، بدتْ مُهتمَّةً باللعب بطعامها أكثر من اهتمامها بتناوله.
في البداية، كان من الصعب أن تُحدد ما إذا كانت سعدية ولدًا أم بنتًا؛ فقد كان شعرها قصيرًا وملابسها لا تُعطي أي علامة تدلُّ على جنسها. كانت ابتسامتها بها قدر من المشاكسة وتَكشف عن كامل أسنان فكها العلوي. أما بشرتها فكانت كثيرة النتوء. أظن أنها تُعاني حتمًا بعض المشكلات الصحية ذات الصلة بالكساح أو داء السعفة أو شيء آخر لم يَشغل تفكيري من قبل قطُّ. سألت عريفة عن الأمر.
قالت لي: «المياه ليست جيدة. إنها تأتي من السقف.»
جلس عابر على الفراش وأخرَج حافظة أوراق بلاستيكية.
قالت: «لقد اشتريتها له حين كنت في تايلاند مع اتحاد مُصنِّعي الملابس.»
عكف عابر على حلِّ مسائل رياضية للقسمة المطولة تحتوي على أقواس كثيرة مستعينًا بالآلة الحاسبة الموجودة على هاتف عريفة المحمول. كان عابر طويل القامة هزيل البِنية يرتدي قبعة بيسبول مسحوبة لأسفل بحيث غطَّت حاجبيه. وعندما كان يحمل سعدية، كان يبسط ساقه لتجلس على فخذه مثلما تفعل والدته. وأحيانًا كان يجلس القرفصاء لكي يتسنى لسعدية الركوب على ظهره وحملها؛ وهي لعبة كانت تُحبها كثيرًا.
كان لعريفة ابنٌ آخر، يُدعى أرمان. كان في الثامنة عشرة من عمره ويعمل في المملكة العربية السعودية، وهو عُرف سائد بين الشباب في بنجلاديش. كان أرمان يتقاضى ١٤٦ دولارًا في الشهر ويرسل نصف المبلغ إلى والدته في وطنه.
قالت عريفة: «لقد سافر قبل خمسة أشهر وسيَمكث هناك خمس سنوات أخرى على الأقل.» رأيت الحزن في عينيها وهما تتَّجهان صوب عابر؛ فإذا سنحت له الفرصة، فسوف يُسافر أيضًا مثل أخيه. وعقَّبت عريفة قائلة: «كان أبوهم محتالًا، والحكومة لا تعتني بأولادي. الوضع هنا يختلف عما هو عليه في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة. ليس أمامهم خيار. كنت أتمنى أن يلتحقوا بالمدرسة لمدة أطول، لكن هذا ليس ممكنًا.»
وبعد تناول الإفطار، ذهب عابر إلى المدرسة وذهب ديدر إلى مصنع جيليت. أما أنا وعريفة وسعدية فذهبنا إلى السوق.
كانت عريفة تعمل لدى مصنع ستاندرد جارمنت، ولكن ساقها جُرحت بطريقة ما وأخذت إجازة لمدة شهر حتى تتعافى. عندما كانت تَعمل كانت تتقاضى ١٠ سنتات في الساعة وتعمل لمدة ٦٠ ساعة في الأسبوع، لتكسب بذلك إجمالي ٦ دولارات أسبوعيًّا.
كان التجار يعرضون أطعمتهم على قِطَع من المشمع البلاستيك. أخذ الذباب يحوم حول السمك مُصدرًا طنينًا. وفي ثلاجة لعرض اللحوم — أشبه بعربة بيع الليمون الخاصة بالأطفال من حيث الحجم والشكل — تدلَّت من الخطاطيف شرائح من اللحم. كان الباعة يَغمسون أيديهم في المياه ويرشون الخضراوات التي يبيعونها.
وبغضِّ النظر عن الزحام، كانت عريفة تشق طريقها وتتولى شأن العمل. بإمكاني أن أجزم بأنها تحصل دومًا على السعر الذي تُريده. كان الباعة يعرفون تمام المعرفة أنه من الأفضل عدم محاولة التفاوض معها على السعر. كان الناس يُحدقون بي، وعريفة تبتسم وتضحك وهي تومئ ناحيتي أثناء مُواصَلة حديثها. كان أمرًا طبيعيًّا أن يُحدقوا بي، غير أنه كان يوجد عدد من الأطفال الصغار أكثر من المعتاد يُمسكون بذراعيَّ ويديَّ. وبكلمة من عريفة، تفرَّقوا. كنت دائمًا أبحث عن سعدية وسط الزحام، وكانت عريفة تنظر إليَّ وتقول: «لا داعي للقلق.»
لو أن قرية بأكملها تُشارك في تربية طفل، فإن هذا يَنطبق تمامًا هنا؛ فقد كانت سعدية دومًا برفقة شخص تناديه بخالتي أو خالي.
بدأت عريفة تُعد وجبة الغداء للعمال. جلستُ عند زاوية الفراش وكتبت على عجالة بعض الملاحظات. بدأت الأمطار تتساقط، وغفوت على الصوت المتناغم لتساقط الأمطار على السطح المصنوع من الصفيح. استيقظت من النوم لأجد وسادة تحت رأسي ومروحة موجَّهة ناحيتي.
عادت سعدية مع واحدة من خالاتها. رسمتُ على راحة يدي وجهًا وعرضته عليها. ضحكت. فأضفتُ لسانًا، وضممت راحة يدي ثم بسطتها. فضحكت ثانيةً. ثم أضفتُ أذنين … وجسدًا … وسهمًا عبر الرأس … واصلنا اللعبة حتى وقت الغداء.
قُدم لي الأرز. لم يكن أي نوع من الأرز، وإنما كان نوعية من الأرز المستورد ذي حبة أصغر حجمًا يُقدَّم لضيوف الشرف. ولم أستوعب هذا الشرف حتى أشار إليه أحدهم. فبالنسبة إليَّ، لا يَختلف نوعُ أرز عن آخر.
كانت سخونة طقس النهار تلفح السطح المصنوع من الصفيح. لم يكن هناك مفر. ومما زاد الأمر سوءًا انقطاع التيار الكهربائي، وتوقَّفت المروحة عن الدوران وزر التشغيل مضغوط عليه إلى الداخل. جلسنا على الفراش وتبادلنا أطراف الحديث.
غمرت سعدية شعرها بكمية صغيرة من كريم بريلكريم؛ فركته بيديها الصغيرتين وقهقهت. كانت طفلة صغيرة تُحب أن تتباهى بمظهرها. دلكت عريفة شعر طفلتها واحتضنتْها بحنان.
أشارت إليَّ خالة سعدية كي أجلس إلى جوار النافذة لأحظى بميزة تَنَفُّس القدر اليسير من النسيم القادم من الخارج. تحرَّكت الستائر الخفيفة الممزقة حركة طفيفة. كانت الستائر مصنوعة من قماش شفاف وفي حالة يُرثى لها. كانت بمنزلة محاولة بائسة لتجميل المكان.
نظرت إلى أسفل نحو المزيد من الأسطح المصنوعة من الصفيح الصدئ والمملوءة بالثقوب مثل الحائط الذي أَستنِد إليه. كان من الصعب والمؤلم تخيُّل فكرة أنني كنتُ شاهدًا على الوضع الاقتصادي المُتدني الذي تعيشه بنجلاديش والمستقبل الذي يَنتظر هذا البلد، وأنا بالطابق السادس من بناية آيلة للسقوط تفوح منها رائحة كريهة حيث يتشارك ١٦ شخصًا حمامًا واحدًا.
•••
كنت أحمل في جيبي ٢٠ دولارًا، وسواء كان ذلك يصبُّ في مصلحة التقدم الاقتصادي أم لا، كان بإمكان عريفة الاستفادة بها أكثر مني.
قادتني عريفة إلى مصنعها، ستاندرد جارمنت، لمقابلة بعض العمال الذين سُمح لهم بالخروج أثناء النهار. كانت الشمس في كبد السماء تُحوِّل أشعتُها ذرات الغبار المُنبعثة من السيارات ساعة الذروة إلى وردية. كان يَسير معنا رجل التقيتُه في شقة عريفة؛ ربما كان صديقًا حميمًا لها. كان مريبًا على نحوٍ مُشابه لشخصية الخادم لارتش في مسلسل «عائلة آدامز». في غرفتها حاولتُ أن أتواصل معه مستخدمًا مجموعة من إشارات اليد وتعبيرات الوجه، ولكنه كان يُقابل كل شيء بنظرة سفَّاح جامدة. كنتُ سأعطيها المبلغ لو لم يكن موجودًا. فلو فعلتُ حينها، لربما تملَّكه الشك إزاء ما فعلتْه لتَكسب هذا المال، ولسنا بحاجة إلى ذلك على أيِّ حال.
مررنا على سيل مُتدفِّق من الأشخاص الذين وصفتْهم عريفة بأنهم عمَّال مصانع الملابس. توقفتْ وتحدثت معهم لتُبين لهم من أكون. اشترت بعض الفول السوداني من بائع مُتجوِّل ودفعت له المقابل دون أن تُعره كثير اهتمام. سعد الناس برؤيتها. كانت واثقةً ومحبوبة.
كانت الشوارع تزداد ازدحامًا كلما اقتربنا من المصنع. كانت الشاحنات تَتحرَّك للأمام وللخلف مرارًا وتكرارًا مُحاولة الدخول إلى زوايا ضيقة أو الخروج منها. كانت المصابيح الأمامية للشاحنات تعكس ظلال العمال على أرض الشارع الموحلة.
توقفت عريفة على بعد ٣٠٠ قدم من بوابة المصنع. ولو مضينا قدمًا لأبعد من ذلك، لتسبَّب وجودي في وقوع مشكلة؛ فليس من الطبيعي أن يَلتقي المُصنِّع والمُستهلِك. لا بأس من أن أراقب سير العمل في المصنع بصفتي عميلًا محتملًا. لكن المشكلة هي أن أقف بجوارهم في شارع موحل بأي صفة أخرى غير تلك الصفة.
كان المشهد مشابهًا للمشهد الذي رأيته بعيني في المصنع الموجود بهندوراس؛ أقصد السيل الذي لا ينقطع من عمال المصانع والباعة المُساوِمين على الأسعار والمارة والسيارات، وجميعهم كان يتسابق على مكان للوقوف. بالنسبة إليَّ الأمر أشبه بالفوضى المنضبطة، وبالنسبة إليهم هي الساعة السادسة من يومٍ عادي. في هندوراس لم أكن أعرف شيئًا عن حياة العاملين. أما هنا فأنا أعرف بعض الأشياء عن حياة عريفة، ويَكفي أن أعرف أن عددًا كبيرًا من مئات العمال الذين يمرُّون بجواري يعيشون في ظروف معيشية أصعب بكثير مما كنت أتخيل.
غربت شمس اليوم الذي قضيته مع عريفة. ثم أوقفَت عريفة سيارة أجرة لي. الأولى كانت أجرتها مرتفعة على نحوٍ مُبالَغ فيه، فأشارت لسائقها بالانصراف. والتالية تفاوَضت مع سائقها على الأجرة. اعتنت عريفة بي طوال اليوم سواء كان ذلك باديًا من خلال وضع وسادة تحت رأسي أو توجيه المروحة ناحيتي أو تقديم أرز مستورد على شرف ضيافتي أو مساعدتي في توفير بضعة سنتات في رحلة عودتي إلى الفندق بسيارة أجرة. تمنَّيتُ لو كان بإمكاني فعل المزيد من أجلها.
تحسَّست العشرين دولارًا في جيبي. كان هذا المبلغ بمنزلة أجر شهر كامل من العمل بالنسبة إلى عريفة، أما بالنسبة إليَّ فكان ثمن سروال داخلي واحد ماركة «جينجل ذيس» ليس إلا. كان صديقها الحميم يقف بجوارها. أخرجتُ يدي خالية الوفاض ولوَّحتُ مودعًا.
كانت عريفة تَعرف ثمن ملابسي الداخلية. فالعمَّال في مصنعها يُضيفون ملصقات السعر على الملابس قبل شحنها إلى خارج البلاد. أدركت عريفة أن العالم الذي أنتمي إليه هو عالم مُترف، وأدركت أنا أن عالمها هو عالم محفوف بالمشقة والصعوبات. نحن نعرف ذلك ولكن لا يمكننا تخيُّله.
لوَّحتْ لي ثم غابت عن ناظري؛ كانت هذه قصة عاملة أخرى من عاملات الملابس.