الخلايا
يحدث النمو نتيجة السلوك المُنسَّق للخلايا، الذي يكاد يكون بالكامل محددًا بنوع البروتينات التي تحتوي عليها الخلية. تَكُون الخلايا داخل الجنين صغيرة ومحاطة بغشاء خلوي يحدد نوع الجزيئات التي يُسمح لها بالدخول أو الخروج من خلاله. يوجد داخل الخلية عدد من المكونات الصغرى محاطة بغشاء مثل المتقدرات (ميتوكوندريا) التي تُنتج الطاقة للخلية، ونواة الخلية التي تحتوي على الصبغيات (الكروموسومات). تحتوي الكروموسومات على الحمض النووي (الدنا) الذي يكوِّن «الجينات» التي تشفِّر البروتينات. نحن البشر لدينا حوالي ٢٥ ألف جين.
البروتينات سلاسل طويلة من ٢٠ نوعًا مختلفًا من وحدات الأحماض الأمينية الفرعية، ويحدد نسقُ تتابعها شكلَ البروتين ووظيفته، على سبيل المثال، كإنزيم أو بروتين عضلة. وكل ضفيرة دنا هي أيضًا سلسلة من أربعة أنواع مختلفة من الوحدات الفرعية المعروفة باسم نيوكليوتيدات. يعمل الدنا كمنطقة تشفير للبروتينات؛ حيث يوجد لكل نوع من البروتينات سلسلة من الدنا — جين — تشفِّر تتابع الأحماض الأمينية في بروتينٍ ما. هذا النظام أقرب شبهًا بشفرة مورس؛ حيث ترمز النقاط والشُّرَط لكل حرف من حروف الأبجدية. إن تتابع نيوكليوتيدات الدنا — وتُقرأ ثلاثة في المرة الواحدة — يتوافق مع تتابع الأحماض الأمينية الموجودة على طول البروتين؛ فكل مجموعة مكوَّنة من ثلاثة نيوكليوتيدات تشفِّر أحد الأحماض الأمينية. عندما يكون الجين نشطًا، يتم نَسْخ تتابع الدنا الخاص به أولًا إلى جزيء وسيط، هو الحمض النووي الريبوزي (الرنا) المرسال، ويستخدم هذا كقالب لتخليق البروتين، باستعمال رمز مماثل من ثلاثة نيوكليوتيدات لكل حمض أميني في البروتين.
من الممكن أن تَحدث طفرةٌ (تغيير) في تتابع نيوكليوتيدات الدنا في منطقة التشفير الخاصة بأحد الجينات؛ وبذلك تُغيِّر التتابعَ الطبيعيَّ للأحماض الأمينية للبروتين الذي تُشفِّره، وقد يغيِّر هذا من خاصية البروتين — بتغيير الكيفية التي ينطوي بها أو بتغيير وظائفه — ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى إنتاج بروتين به خلل؛ ما يترتب عليه تبعات جِدية إيجابية أو سلبية فيما يتعلق بسلوك الخلية. إن الطفرات التي تغيِّر وظيفة البروتين في خلايا البويضة أو الحيوان المنوي هي أساس التطور؛ لأن الطفرة سيتم تمريرها للجيل التالي. من الممكن أيضًا أن تؤثر الطفرات في مناطق تحكُّم الدنا في سلوك الخلية؛ لأنها تحدد متى وفي أي خلية يُنشَّط الجين ليكون من الممكن ترجمته إلى بروتين.
العمليات الرئيسية المشاركة في النمو هي: «تشكيل الأنماط» و«التخلُّق»؛ بمعنى التغير في الشكل، وتمايُز الخلايا الذي بموجبه تنمو أنواع مختلفة من الخلايا، ونمو الخلايا في الحجم. تشمل هذه العمليات أنشطة الخلية، التي تتحدد بنوع البروتينات الموجودة في الخلية. تتحكَّم الجينات في سلوك الخلية عن طريق التحكُّم في التوقيت والموضع اللذين يتم فيهما تخليق البروتينات، ويوفر سلوك الخلية الصلة بين عمل الجينات والعمليات النمائية. ويتحدد ما تفعله الخلية بشكل كبير بأنواع البروتينات التي تحتوي عليها؛ فيعمل الهيموجلوبين الموجود في خلايا الدم الحمراء على تمكينها من نقل الأكسجين، وتفرز الخلايا المبطنة لأمعاء الفقاريات إنزيماتٍ متخصصةً للهضم. تتطلب هذه الأنشطة بروتيناتٍ متخصصةً ليس لها دور في أنشطة «التدبير المنزلي» التي تشترك فيها كل الخلايا وتُبقيها على قيد الحياة وعاملة. تشمل أنشطة التدبير المنزلي إنتاج الطاقة والمسارات الأيضية التي تدخل في هدم وبناء الجزيئات الضرورية لحياة الخلية. ما يهمنا في النمو بالأساس هو تلك البروتينات التي تجعل الخلايا يختلف بعضها عن بعض، وتجعلها تنفِّذ الأنشطة اللازمة لنمو الجنين. وتُشفِّر الجينات النمائية عادة البروتينات المشاركة في تنظيم سلوك الخلية.
تحتوي البويضة المخصَّبة على جميع المعلومات اللازمة لنمو الجنين. كيف إذن يتم تفسير هذه المعلومات من أجل تكوين الجنين؟ هل يحتوي الدنا على وصف كامل للكائن الحي الذي سينشأ عنها؛ هل هو مخطط تفصيلي للكائن الحي؟ الجواب هو لا. بدلًا من ذلك، فإن البويضة تحتوي على برنامج تعليمات لعمل الكائن الحي — برنامج مولِّد — يحدد أين ومتى يتم تصنيع البروتينات المختلفة؛ وبناءً عليه يتحكَّم في كيفية تصرف الخلايا. إن أي برنامج وصفي، مثل مخطط العمل أو خطته، يصف الشيء ببعض التفاصيل، بينما يصف البرنامج المولِّد كيفية صنع الشيء. تختلف البرامج الخاصة بالشيء عينِه اختلافًا كبيرًا. لنأخذْ كمثال توضيحي فنَّ طي الورق «أوريجامي»، عند طي قطعة من الورق في اتجاهات مختلفة، من السهل جدًّا عمل قبعة ورقية أو طائر من صفحة ورق واحدة، في حين أن وصف الشكل النهائي بأي قدر من التفصيل بوضع علامات تحدد المناطق على قطعة مسطحة من الورق هو في الحقيقة أمر صعب جدًّا، ولا يساعد كثيرًا في شرح كيف يتم تحقيق ذلك. الأكثر فائدة وسهولة في الصياغة هو وضع تعليمات حول كيفية طي الورقة؛ والسبب في ذلك أن التعليمات البسيطة حول الطي لها نتائج معقدة تتعلق بالحيِّز المكاني. وبالمثل، أثناء عملية النمو تعمل الجينات على بدء حركة تسلسلية من الأحداث التي يمكنها أن تُحدث تغييرات عميقة في الجنين. لنا إذن أن نفكر في المعلومات الوراثية الموجودة داخل البويضة المخصبة على أنها مماثلة لتعليمات الطي في الأوريجامي؛ فكلتاهما تحتوي على برنامج مولِّد لعمل بنية معينة.
تكون الخلايا، بطريقةٍ ما، أكثر تعقيدًا من الجنين نفسه؛ فهناك الآلاف من البروتينات المختلفة والعديد من نسخ البروتينات في معظم خلايا الجنين، وتحتوي شبكة التفاعلات بين البروتينات والدنا داخل أي خلية منفردة على عناصر تَفُوق في الكثرة والتعقيد تلك التفاعلات بين خلايا الجنين الآخِذ في النمو. وهذه الخلايا تتَّسم بذكاءٍ يفوق ما يعتقده أيُّ شخصٍ بشأنها. وكل نشاط أساسي من أنشطة الخلية له علاقة بالنمو — مثل كيف تستجيب للإشارات الخارجية إما بالانقسام إلى خليتين أو بالحركة — يكون نتيجةَ تفاعلاتٍ داخلية بين العديد من البروتينات المختلفة التي يختلف تركيبها بمرور الوقت وباختلاف مواضعها داخل الخلية.
السؤال المحيِّر هو: كم يبلغ عدد الجينات النمائية داخل الحجم الكلي للجينوم البشري؛ تلك الجينات التي تلزم بالتحديد لعملية النمو في الجنين؟ تقدير هذا ليس بالأمر الهيِّن. في الدودة الخيطية يلزم على الأقل ٥٠ جينًا معينًا لتكوين تركيب تناسلي صغير يعرف باسم الفَرْج، وهذا عدد صغير جدًّا إذا قورن بآلاف الجينات النشِطَة في نفس الوقت؛ بعضٌ منها ضروري للنمو من حيث إنها ضرورية للحفاظ على الحياة، ولكنها توفر قلة من المعلومات — أو لا توفر معلومات من الأساس — تؤثر على مسار النمو. تقترح بعض الدراسات أنه في كائن حيٍّ لديه ٢٠ ألف جين من الجينات، ربما يكون ١٠٪ تقريبًا منها له دور مباشر في النمو.
لذلك نجد أن من الأهداف الرئيسية لعلم الأحياء النمائي فهمَ كيفية تحكُّم الجينات في نمو الجنين، وللقيام بذلك علينا أن نحدد أولًا أي الجينات — من آلاف الجينات العديدة في الكائن الحي — لها دور أساسي ومحدد في التحكم في النمو. النقطة العامة للانطلاق، هي تحديد وخلق طفرات في الدنا من شأنها تعديل النمو بطريقة محددة ومعلومة. تم إنتاج العديد من الطفرات النمائية بواسطة إحداث طفرات عشوائية في أعداد كبيرة من الكائنات الحية النموذجية، باستخدام المعالجات الكيميائية أو التعرض للأشعة السينية، ثم الكشف عن الجينات الطافرة التي لها أهمية نمائية. وقد تم تحديد الكثير من الجينات النمائية باستخدام تقنيات وراثية ومعلوماتية حيوية حديثة. كان للمقارنة المباشرة لتتابعات الدنا مع الجينات المعروفة في كائنات حية نموذجية فائدةٌ كبيرة للغاية في تحديد الجينات النمائية في الإنسان. تفيدنا دراسات التوائم أيضًا؛ فعلى الرغم من امتلاكهم لجينات متطابقة، يمكن للتوائم المتطابقة تطوير اختلافات كبيرة بسبب التعرض لتأثيرات داخل الرحم وأثناء الكبر، وتميل هذه التأثيرات إلى أن تصبح أكثر وضوحًا مع التقدم في السن.
يمكن أن يتحدد مصير مجموعة من الخلايا في الجنين المبكر بواسطة الإشارات الآتية من خلايا أخرى. في الواقع، قليل جدًّا من الإشارات يدخل الخلايا؛ إذ تنتقل معظم الإشارات من خلال الفراغ الموجود خارج الخلايا على شكل بروتينات تفرزها إحدى الخلايا وتلتقطها خلية أخرى. وقد تتفاعل الخلايا بعضها مع بعض مباشرة بواسطة الجزيئات الموجودة على سطحها. وفي كلتا الحالتين يتم استقبال الإشارة على وجه العموم بواسطة بروتينات مستقبِلة في الغشاء الخلوي ثم يتم نقلها بعد ذلك عن طريق بروتينات أخرى مُصدِرة لإشارات داخل الخلية لإنتاج الاستجابة الخلوية، عادةً من خلال تشغيل الجينات أو تعطيلها. تُعرف هذه العملية باستنقال الإشارات. يمكن لهذه المسارات أن تكون معقدة جدًّا، ويمكن تشبيهها برسم كاريكاتوري لروبي جولدبيرج يظهر فيه رجل لديه آلية ترفع مظلَّته عندما تمطر السماء: يتسبب المطر أولًا في تمدد برقوقة مجففة ومن ثم إشعال ولاعة تشعل نارًا تجعل الماء يغلي في غلاية تصفِّر فيزعج الصفير قردًا يقفز إلى أرجوحة تقطع حبل الإفراج عن الطيور التي عندما تطير ترفع المظلة. هذا التعقيد في مسار استنقال الإشارات يعني أنه يمكن تغييرها مع نمو الخلية بحيث يكون لنفس الإشارة أثرٌ مختلف على الخلايا المختلفة.
تعتمد كيفية استجابة أيِّ خلية لإشارة معينة على حالتها الداخلية، وهذه الحالة يمكن أن تعكس التاريخ النمائي للخلية؛ فالخلايا لديها ذاكرة جيدة؛ ومن ثم يمكن أن تستجيب الخلايا المختلفة للإشارة نفسها بطرق مختلفة جدًّا. يمكن إذن استخدام الإشارة نفسها مرةً تلوَ الأخرى في الجنين النامي؛ ولذلك يوجد قليل من بروتينات الإشارة.
أدَّت تقنيات علم الأحياء الجزيئي وعلم الوراثة إلى إحداث ثورة في دراسة علم الأحياء النمائي على مدى العقود القليلة الماضية. تُستخدم أيضًا أساليبُ لتحديد كلِّ الجينات المشارِكة في أيِّ عملية نمائية بعينها. يمكن التعرُّف على جميع الجينات الموصوفة في نسيج معين أو في مرحلة معينة من النمو عن طريق إجراء مسح شامل للمخزون الوراثي يُظهر تعبير الجينات. تُمكِّن هذه التقنية من قياس كميات نسخ الرنا المرسال للآلاف من الجينات في وقت واحد. من التقنيات المتقدمة الأخرى التحسنُ الكبيرُ في مجال التصوير المجهري بمساعدة الحاسوب، وتطوير الواسمات الفلورية في نطاق واسع من الألوان، التي سمحت بتصوير الأجنَّة الحية وإمكانية متابعة الطعوم.