الفقاريات
رغم الاختلافات العديدة في الشكل الخارجي بين الفقاريات المختلفة، فإنها جميعًا تمتلك خطة جسم أساسية متشابهة؛ العظام الظهرية المجزَّأة أو العمود الفقري الذي يحيط بالحبل الشوكي، والدماغ المغلف بجمجمة عظمية أو غضروفية. هذه البِنى تعدُّ علامةً على المحور الأمامي-الخلفي مع وجود الرأس في النهاية الأمامية. وللفقاريات أيضًا محور ظهري-بطني مميز يمتد من الظهر إلى البطن؛ فيمتد الحبل الشوكي على طول الناحية الظهرية، بينما يميز الفم الناحية البطنية. يحدِّد المحوران، الأمامي-الخلفي والظهري-البطني، معًا الجانب الأيمن والجانب الأيسر للحيوان. لدى الفقاريات تناظر عامٌّ ثنائيُّ الجانب من الناحية الخارجية حول خط الوسط الظهري؛ بحيث يكون الجانبان الأيمن والأيسر كالشيء وصورته في المرآة، بالرغم من أن بعض الأعضاء الداخلية مثل القلب والكبد ليست متناظرة. وتُعَد كيفية تحديد هذه المحاور في الجنين مسألة رئيسية.
تمر أجنَّة الفقاريات جميعها بمجموعة متشابهة بشكل عام من المراحل النمائية، والاختلافات تتعلَّق جزئيًّا بكيف ومتى تتحدد المحاور، وكيف يتغذَّى الجنين. يوفر المُحُّ جميع العناصر الغذائية لنمو جنين الأسماك والبرمائيات والزواحف والطيور، وللعدد الصغير من الثدييات التي تبيض مثل خُلْدِ الماء. وعلى النقيض من ذلك، تكون بويضات معظم الثدييات صغيرة عديمة المُح، ويتم تغذية الجنين في الأيام القليلة الأولى على السوائل من الأم. تطور أجنَّة الفقاريات الثديية أغشية خارجية متخصصة تحيط بها وتحميها، وتتلقى من خلالها التغذية من الأم عن طريق المشيمة.
بعد الإخصاب تمر البويضة بعدد من الانقسامات الخلوية تُعرف باسم التفلُّج، وهي في الضفدع تشكل الأُرَيْمة الكروية، ولكن في الفرخ أو الثدييات لا يكون التركيب المقابل كرة مجوفة، وإنما يكون عبارة عن طبقة من الخلايا تسمَّى «الأديم الظاهر». ومثل الأُرَيْمة، يكوِّن الأديمُ الظاهر الطبقاتِ الثلاث للجنين (الأدمة الظاهرة والأدمة الوسطى والأدمة الباطنة) أثناء تكوُّن المُعيدة.
يمكن ملاحظة هذا في عملية نمو الفرخ؛ حيث ينمو جنين الدجاج المبكِّر كقرص مسطح من الخلايا — الأديم الظاهر — يغطي كمية كبيرة من المُح. بعد تخصيب خلية البويضة الكبيرة المُحِّيَّة، فإنها تشرع في انقسامات خلوية بينما هي ما زالت في قناة البويضات داخل الدجاجة. وخلال مرورها أسفل قناة البويضات في ٢٠ ساعة، تصبح البويضة محاطةً ببياض البيض وقشرة البيضة. في الوقت الذي تضع فيه الدجاجة البيضة يكون الجنين محتويًا على حوالي ٢٠ ألفَ خلية إلى ٦٠ ألفًا.
ثمة حدث نادر للغاية، ومع ذلك شديد الأهمية، يمكن أن يقع قبل تكوُّن المُعيدة في أجنَّة الثدييات، بما في ذلك البشر، وهو انقسام الجنين إلى نصفين؛ بحيث يمكن بعد ذلك أن ينمو توءم متطابق. يوضِّح هذا القدرةَ الفائقة للجنين المبكِّر على التنظيم والنمو الطبيعي رغم كونه في نصف الحجم الطبيعي، تمامًا كما في تجربة دريش. كما أنه يوضِّح أيضًا أن الجنين المبكر لا يجب اعتباره إنسانًا واحدًا؛ لأنه ما زال من الممكن أن يتطور إلى فردين منفصلين.
كيف يتم إنشاء المحورين الأمامي-الخلفي، والظهري-البطني في أجنَّة الفقاريات؟ وهل هما موجودان سابقًا في البويضة، أم يتحددان في وقت لاحق؟ يتكوَّن المحوران في المراحل المبكرة جدًّا في نمو كلٍّ من الضفدع وسمك الزرد، وهي عملية تقع حصريًّا تحت سيطرة العوامل الأمومية الموجودة في البويضة. تمتلك بيضة الضفدع محورًا منفصلًا حتى قبل أن يتم تخصيبها. تكون المنطقة العليا من البيضة هي القطب الحيواني المصطبغ، في حين يوجد معظم المُحِّ في الناحية المقابلة غير المصطبغة؛ المسماة القطب النباتي. تحدِّد هذه الاختلافات المحورَ الحيواني-النباتي. ينكسر التناظر الكُروي حول المحور الحيواني-النباتي عندما تُخصَّب البيضة. يُطلِق دخول الحيوان المنوي سلسلةً من الأحداث التي تحدد المحور الظهري-البطني للمُعيدة؛ بحيث يتشكَّل الجانب الظهري في النقطة المقابلة لنقطة دخول الحيوان المنوي تقريبًا. يُعرف أول مركز إشارات يتكوَّن في المنطقة الظهرية-النباتية في أُرَيْمة الضفدع بمنظم الأُرَيْمة أو مركز نيوكوب، وهي التي تُنشئ القطبية الظهرية البطنية في الأُرَيْمة. في الفرخ، يتحدد المحور الأمامي-الخلفي بالجاذبية عند دوران الجنين المبكر أثناء مروره خلال رحم الدجاجة قبل وضعه. في الثدييات، لا توجد علامة على وجود محاور أو استقطاب في البويضة المخصَّبة أو أثناء النمو المبكِّر، وتنشأ المحاور في وقت لاحق بآلية ليست معروفة حتى الآن.
يتبع تكوُّن المُعيدة تشكيلَ الأنبوب العصبي، وهو الطليعة الجنينية المبكرة للجهاز العصبي المركزي. وأولى العلامات الواضحة هي تكوين الطيات العصبية، التي تتكون على حواف الصفيحة العصبية، وهي مساحة من الأدمة الظاهرة تغمر الحبل الظهري. ترتفع الطيات وتنثني ناحية خط الوسط وتلتحم معًا لتكوين الأنبوب العصبي الذي يغوص تحت البشرة. تنفصل خلايا العُرف العصبي من أعلى الأنبوب العصبي على أيٍّ من جانبي موضع الالتحام وتهاجر خلال الجسم لتكوين بِنًى متنوِّعة كما سنرى لاحقًا. يُنشئ الأنبوب العصبي الأمامي الدماغ؛ وإلى الخلف منه سوف يتشكَّل الأنبوب العصبي الذي يغمر الحبل الظهري مكوِّنًا الحبل الشوكي. يشبه الجنينُ الآن الشرغوفَ ويمكننا التعرُّفُ فيه على السمات الرئيسية للفقاريات. في النهاية الأمامية يكون الدماغ مقسمًّا بالفعل إلى عدد من المناطق، وتَكُون العينان والأذنان قد بدأت في النمو.
كيف يتأسَّس الجانبان الأيسر والأيمن؟ بالنسبة إلى كثير من البِنى، مثل العينين والأذنين والأطراف، تكون الفقاريات متناظرةً جانبيًّا حول خط وسط الجسم، ولكن معظم الأعضاء الداخلية ليست كذلك؛ على سبيل المثال، في الفئران والإنسان يكون القلب في الجانب الأيسر، والرئة اليمنى بها فصوص أكثر من اليسرى، وتقع المعدة والطحال إلى الجانب الأيسر، والجزء الأكبر من الكبد في الجانب الأيمن. هذه السمة في الأعضاء ثابتة بطريقة ملحوظة، ولكن هناك أفرادًا نادرين، يبلغ عددهم فردًا واحدًا من كل ١٠ آلاف لديهم حالة تعرف باسم «الأحشاء المقلوبة الموضع»؛ حيث يكون وضع الأعضاء الداخلية معكوسًا كما في المرآة تمامًا، وهؤلاء الأشخاص ليس لديهم عمومًا أي أعراض مرضية، بالرغم من أن كل أعضائهم في وضع معكوس.
تخصيص اليسار واليمين يختلف اختلافًا جوهريًّا عن تحديد المحورين الآخرين للجنين؛ حيث لا يكون لليسار واليمين معنًى إلا بعد تكوين المحور الأمامي-الخلفي والمحور الظهري-البطني. فإذا تم عكس أحد هذين المحورين ينعكس كذلك محور اليسار-اليمين، وهذا هو السبب وراء أنك إذا نظرت إلى المرآة فسترى وضع اليدين معكوسًا؛ حيث ينعكس محورك الظهري-البطني فيصبح اليسارُ يمينًا واليمينُ يسارًا. لا تزال الآليات التي سببت انكسار تناظر اليسار-اليمين غير مفهومة بصورة كاملة، ولكن سلسلة الأحداث التالية التي تؤدي إلى عدم التناظر في الأعضاء مفهومة بشكل أفضل. إن التدفق «نحو اليسار» للسائل خارج الخلية عبر خط الوسط في الجنين، الذي تقوم به مجموعة عنقودية من الخلايا المهدبة، تم إثبات أنه حاسم في أجنَّة الفأر؛ حيث يحفِّز التعبير غير المتناظر للجينات المسئولة عن تأسيس اليسار مقابل اليمين.
التنميط الأمامي-الخلفي للأدمة الوسطى يتبيَّن بوضوح أكبر في الاختلافات الموجودة في الجسيدات التي تشكِّل الفقاريات؛ فلكل فقرة منفردة خصائص تشريحية محددة تمامًا اعتمادًا على موقعها على طول المحور؛ فالفقرات الموجودة في أقصى المقدمة تتخصص في الارتباط والالتحام مع الجمجمة، وفقرات العنق تليها الفقرات الحاملة للأضلاع، ثم تليها فقرات المنطقة القَطنية التي لا تحمل أضلاعًا، وفي النهاية فقرات منطقتَي العَجُز والذيل. يعتمد تنميط الهيكل بطول محور الجسم على حصول الخلايا الجُسيدية على قيمة موضعية تعكس مواقعها على طول محور الجسم؛ ومن ثَمَّ فهو يحدد تطورها اللاحق.
تتشكل الجُسيدات بنظام محدد جدًّا على طول المحور الأمامي-الخلفي، وهي تنشئ كلًّا مما يلي: العظام وغضاريف الجذع بما في ذلك العمود الفقري، والعضلات الهيكلية، وأدمة الجلد على الجانب الظهري للجسم. الفقرات — على سبيل المثال — لها أشكال مميزة في أماكن مختلفة على طول العمود الفقري. تتكون الجُسيدات من أزواج، واحدة على كلِّ جانب من جانبَيِ الحبل الظهري. ويتحدد تشكُّل الجسيدات إلى حدٍّ كبير من قِبل «ساعة» داخلية في الأدمة الوسطى تسبق الجسيدة. وهذه الساعة تمثِّلها حلقات تعبير الجينات الدورية في جنين الفرخ الذي يتناوب التعبير الجيني فيه من الخلف إلى الأمام في فترة ٩٠ دقيقة.
من الممكن الآن تحديد جميع الجينات المشاركة في عملية النمو، ولكي نفهم كيف يقوم كلٌّ منها بالتحكم في النمو، أصبح من الممكن الآن إنتاج سلالات من الفئران، بشكلٍ دوري نسبيًّا، بها جين معين طافر يؤثر على النمو، وتسمَّى الحيوانات التي بها جين طافر إضافي حيواناتٍ محوَّرة جينيًّا. يوجد في الوقت الحالي نوعان أساسيان من تكنولوجيا إنتاج فئران محوَّرة جينيًّا قيدَ الاستخدام؛ أحدهما يتم عن طريق حقن الدنا المشفِّر للجين المطلوب — وأي مناطق تنظيمية ضرورية أخرى — مباشرةً في نواة الذكر للبويضة الحديثة التخصيب. أما التكنولوجيا الأحدث لإنتاج فئران محوَّرة جينيًّا فهي استعمال خلايا تمَّت إزالتها من الكتلة الخلوية الداخلية في فأر مبكِّر، ثم إحداث طفرة فيها داخل مزرعة. وكما سنرى لاحقًا، تكون هذه الخلايا متعددة القدرات، وهي تُعرف باسم الخلايا الجذعية الجنينية. تصبح الخلايا الجذعية الجنينية المحقونة في تجويف جنين فأر مبكِّر جزءًا من جميع أنسجة الجنين، بل إنها تُنشئ خلايا جنسية. لتوليد فأر محوَّر جينيًّا بواسطة طفرة معينة، يتم إحداث طفرة في الخلايا الجذعية أثناء نموها في المزرعة قبل زراعتها في جنين فأر مبكِّر. ولأنه ليس من الممكن توليد مثل هذه التغييرات في أجنَّة الضفدع والفرخ، يتم استخدام تكنولوجيا أخرى مفيدة على وجه الخصوص تُسمَّى إسكات الجين. صُمِّمت جزيئات رنا مضادة للمورفلين لتَكُون مكملة لجزيئات رنا مرسال معينة، وعند حقنها في خلايا جنين، ترتبط بالرنا المرسال المستهدف فقط، وتمنع ترجمته إلى بروتين.