الجهاز العصبي
الجهاز العصبي أكثر أجهزة الجسم تعقيدًا في جنين الحيوان؛ ففي الثدييات، على سبيل المثال، تطوِّر مليارات من الخلايا العصبية (العصبونات) نمطَ اتصالاتٍ على درجة عالية من التنظيم، مكوِّنةً الشبكةَ العصبية التي تشكِّل الدماغ وبقية الجهاز العصبي. كما يوجد أيضًا عددٌ مساوٍ من الخلايا الداعمة (الدبقية) مثل خلايا شوان، التي تقوم بعزل الخلايا العصبية. كما رأينا سابقًا أثناء تكوُّن المُعيدة، تصبح الأدمة الظاهرة في المنطقة الظهرية لجنين الفقاريات محددةً بوصفها لوحةً عصبية، وتكوِّن اللوحةُ العصبية الأنبوبَ العصبي، ومنها ينمو الدماغ بينما يتكون الحبل الشوكي في الناحية الخلفية. يقذف الأنبوب العصبي خلايا القمة العصبية، التي تهاجر إلى جميع أنحاء الجسم لتكوِّن العصبونات وأنواعًا أخرى من الخلايا. يجب أن ينمي الجهاز العصبي علاقاتٍ صحيحةً مع بِنى الجسم الأخرى، مثل الهيكل العظمي والجهاز العضلي، الذي يتحكم هو في حركاته.
يتم تنميط الجهاز العصبي مبدئيًّا بواسطة إشارات من الأدمة الوسطى الكامنة، وتُحفِّز قطعٌ من الأدمة الوسطى الأمامية تَكوُّنَ الرأس ومعه الدماغ، بينما تُحفز الأجزاءُ الخلفية تكوُّن الجذعَ ومعه الحبل الشوكي. يمكن للاختلافات النوعية والكمية في الإشارات المرسلة بواسطة الأدمة الوسطى أن تفسر التنميط العصبي الأمامي-الخلفي. الاختلافات الكمية في الإشارات البروتينية توجد على طول محور الجسم، مع وجود أعلى مستوًى في النهاية الخلفية للجنين؛ مما يعطي النسيج العصبي المستقبلي هوية خلفية أكثر. يتم التعبير عن جينات هوكس بطول الحبل الشوكي وهي تمنح العصبونات هوية موضعية.
تتكون العصبونات في المنطقة التكاثرية من الأنبوب العصبي في الفقاريات؛ من خلايا جذعية عصبية متعددة القدرات ينشأ عنها أنواع مختلفة كثيرة من العصبونات والدبق العصبي. كان من المعتقد لسنين عديدة أنه لا يمكن توليد عصبونات جديدة في أدمغة الثدييات البالغة، ولكن ظهر أن ذلك أمر عادي الحدوث، وتم التعرف على خلايا جذعية عصبية في الثدييات البالغة يمكنها توليد عصبونات.
تقع العصبونات الحركية المستقبلية في الناحية البطنية، وتشكل الجذور البطنية للحبل الشوكي. وتنشأ عصبونات الجهاز العصبي الحسي من خلايا القمة العصبية. يَنتُج التنظيم الظهري-البطني للحبل الشوكي بواسطة إشارات بروتين القنفذ سونيك من المناطق البطنية مثل الحبل الظهري. يشكِّل بروتين القنفذ سونيك تدريجًا للنشاط من الناحية البطنية إلى الظهرية في الأنبوب العصبي، ويعمل كإشارة موضعية للتنميط البطني. بالإضافة إلى تنظيم العصبونات على طول المحور الظهري-البطني، تصبح العصبونات الموجودة في مواقع مختلفة على المحور الأمامي-الخلفي للحبل الشوكي متخصصة في أداء وظائف مختلفة. تمَّ التثبت من التخصص الأمامي-الخلفي للوظائف العصبونية في الحبل الشوكي بشكل جذري منذ حوالي ٤٠ سنة مضت من خلال تجاربَ استُزرع فيها الجزء من الحبل الشوكي الذي كان يغذي عصبيًّا في المعتاد عضلات الجناح من جنين فرخ، في المنطقة التي في العادة تغذي الساقين في جنين آخر. وقامت الفراخ التي نَمَتْ من الجنين المُستزرع تلقائيًّا بتنشيط كلتا الساقين معًا، كما لو كانت تحاول رفرفة أجنحتها، بدلًا من تنشيط كلِّ ساق بالتناوب كما لو كانت تسير. أوضحت هذه الدراسات أن العصبونات الحركية المتولدة عند مستوًى أمامي-خلفي معين في الحبل الشوكي لديها خواص ذاتية مميزة لهذا الموضع. يصبح الحبل الشوكي مُقسَّمًا إلى مناطق على طول المحور الأمامي-الخلفي بواسطة مجموعات من جينات هوكس المُعبَّر عنها. يحتوي الطرف النموذجي للفقاريات على أكثر من ٥٠ مجموعة عضلية يجب أن تتماسَّ معها العصبونات بنمط دقيق. تُعَبِّر عصبونات منفردة عن توليفات خاصة من جينات هوكس التي تحدد أي عضلة ستقوم بتغذيتها بالعصب. وهكذا بجمعهم معًا، فإن تعبير الجينات الناتجة من موضع ظهري-بطني مع تلك الناتجة من موضع أمامي-خلفي، يمنح هوية فريدة فعليًّا لمجموعات متمايزة وظيفيًّا من العصبونات في الحبل الشوكي.
يعتمد عمل الجهاز العصبي على تكوُّن دوائر عصبية، تقوم العصبونات فيها بعمل وصلات كثيرة ودقيقة بعضها مع بعض. ثمة سمة نمائية ينفرد بها الجهاز العصبي، وهي نمو وإرشاد المحاور العصبية، وهي امتدادات طويلة تخرج من جسم الخلية العصبية إلى هدفها النهائي. ثمة حدث مبكر يتمثل في امتداد المحور العصبي من العصبون، وهو ناتج عن مخروط النمو الواقع عند طرف المحور العصبي. يختص مخروط النمو بكلٍّ من الحركة واستشعار البيئة المحيطة بحثًا عن إشارات إرشادية. يستطيع مخروط النمو أن يمد ويقلص باستمرارٍ الأرجلَ الخيطية عند حافته الرائدة، بحيث يصنع ويقطع الوصلات مع الطبقة التحتية الأساسية كي يسحب طرف المحور العصبي إلى الأمام. ومن ثَم، فإن مخروط النمو يرشد نمو المحور العصبي، ويتأثر بالوصلات التي تصنعها الأرجل الخيطية مع الخلايا الأخرى ومع السطح الذي تتحرك عليه. وعلى وجه العموم، يتحرك مخروط النمو في الاتجاه الذي تصنع فيه الأرجل الخيطية أكثر الوصلات استقرارًا. في جنين الفرخ، عندما تدخل محاور العصبونات الحركية في برعم الطرف النامي، تكون كلها مختلطة في حزمة واحدة. ومع ذلك، عند قاعدة برعم الطرف تنفصل المحاور العصبية بعضها عن بعض. وحتى إن أجبرت حزم المحاور العصبية على الدخول في ترتيب عكسي؛ تكون العلاقة الصحيحة بين العصبونات الحركية قد تحققت. ومع ذلك، فالعديد من العصبونات الحركية لا تنشئ أي وصلات؛ ومن ثَم، كما سنرى، سوف تموت.
موت العصبونات شائع جدًّا في الجهاز العصبي للفقاريات أثناء النمو؛ يتم إنتاج عدد كبير جدًّا من العصبونات في البداية؛ ولكن لا يبقى على قيد الحياة إلا تلك التي تنجح في عمل وصلات مناسبة. يتشكَّل حوالي ٢٠ ألف عصبون حركي في تلك القطعة من الحبل الشوكي التي تنشئ وصلات لعضلات رجْل الفرخ، ولكن يموت حوالي نصفها بعد تشكلها بفترة قصيرة. يعتمد بقاء العصبون الحركي حيًّا على إنشائه وصلات مع خلية عضلية. وبمجرد إنشاء الوصلة، يمكن للعصبون أن ينشط العضلة، ويتبع هذا موت نسبة من العصبونات الحركية الأخرى التي تقترب من الخلية العضلية وتفشل في عمل وصلة معها. وحتى بعد إتمام عمل الوصلات العصبية العضلية، فإن بعضها يتم التخلص منه في وقت لاحق. في المراحل المبكرة للنمو، تتصل الألياف المفردة للعضلة بواسطة المحاور العصبية بعدد من العصبونات الحركية المختلفة. وبمرور الوقت تُزال معظم هذه الوصلات، إلى أن تتم التغذية العصبية لكل ليفة عضلية بواسطة نهايات المحور العصبي الخاص بعصبون حركي واحد فقط. يرجع هذا إلى التنافس بين المشابك؛ حيث تزعزع المدخلاتُ الأقوى إلى الخليةِ المستهدفةِ، المدخلاتِ الأقلَ قوة لنفس الهدف.