تحليل مصطلح فلسطرائيل
(١) مقدمة
«خطر. منطقة عسكرية. أي شخصٍ يتجاوز أو يلمس الجدار يُعرِّض نفسه للخطر» عبارة مكتوبة على اللافتة أعلى السور. آخِر ابتكارات الاحتلال، تلك البوابات الحديدية الصفراء؛ نقاط العبور المغلقة بالجدار الفاصل، الذي يعزل المزارعين في هذه المنطقة عن حقولهم. إنه تدبير «إنساني» سوف يستمر، حسبما قد يُغامِر المرء بالتخمين، لفترةٍ قصيرةٍ للغاية، وبموجبه تأتي شُرطة الحدود على نحوٍ دوريٍّ لفتح البوابة للمزارعين العالقين، في لفتةٍ تدل على حُسْن النوايا من أكثر القوى العسكرية إنسانيةً وعطفًا في العالم. (ليفي ٢٠٠٣)
قلَّمَا تجد مختبراتٍ حياتيةً أفضل من إسرائيل/فلسطين لدراسة الجغرافيا السياسية وإجراء محاولاتٍ لحل الصراع. ويتطلَّب الأمرُ دراسةَ الإقليم والتغيُّرات الإقليمية على مستوياتٍ عديدة؛ بدءًا من محاولات ترسيم الحدود القومية بين الدول، ووصولًا إلى التحكُّم في ملكية الموارد (الأرض، المستوطنات، المياه) من خلال العزل السكاني لليهود والعرب في مستوطناتهم وأحيائهم الخالصة الأحادية العِرْق. وعلى نحوٍ مهم، يُبيِّن هذا مدى أهمية بقايا البُعْد الإقليمي لفهم التنظيم السياسي للمكان، حتى في هذا العالم «الخالي من الحدود والأقلمة» وفي أصغر الأقاليم. (٢٠٠٢، ٦٣٢)
وكما ذهبنا في الفصل الأول، فإن جزءًا من الكيفية التي يُفترض أن تعمل بها أفكارُ وممارساتُ الإقليمية، يكون من خلال عمليات التوضيح والتبسيط التواصلية. وقد أشرتُ هناك إلى أن المعرفة العلمية ينبغي بدلًا من ذلك أن تفهم الإقليمية (تنظر داخلها) للكشف عن تعقيداتها وجوانبها الغامضة الخفية؛ أو بالأحرى التعقيدات والألغاز التي تساعدها الإقليمية على التخفي. إن آليات الإقليمية في أرض إسرائيل/فلسطين معقدة وغامضة بالتأكيد. وكما أشرنا من قبلُ، فالموضوع (والخبرات التي جُمِعت تحت اسم الموضوع) جدليٌّ على نحوٍ بالغٍ وعميق. من المنطقي أن نتساءل عمَّا إذا كان مثل هذا الموقف يمكن تحليله دون تحيُّزٍ عن بُعْد. أظن أن من الممكن الإجابةَ بنعم، مع الاعتراف بأنه ما من تحليلٍ مُعفًى من النقد؛ فمن خلال تعريف الموقع ﺑ «إسرائيل/فلسطين» بدلًا من «إسرائيل» أو «فلسطين»، «فلسطرائيل»، ونظرًا لكونه اختيارًا، من الممكن بالفعل انتقاده بوصفه المكان الخاطئ للبدء به. ثَمَّةَ حقيقة واحدة مثبتة بشأن الموقف — وهذا أيضًا يدعمه باعتباره موقفًا ملائمًا لدراسة تطوُّرات الإقليمية فيه — هي المآسي الإنسانية البالغة التي ارتبطت به ارتباطًا محكمًا. هذه ليست قصةً خاليةً من عناصر البؤس المزعجة بشأن «السلطة» على الصعيد التجريدي؛ فالعنفُ الذي تُفرَض وتُقاوَم به الإقليمية، والمعاناةُ التي تتولَّد، ملموسان. وعلى الأقل فإن عمليات الأقلمة وإعادة الأقلمة العنيفة ﻟ «إسرائيل/فلسطين» — سواءٌ تحقَّقَتْ من خلال التفجيرات الانتحارية في المقاهي أو البلدوزرات في معسكرات اللاجئين — تبرز أسباب أهمية الإقليم.
بالنظر إلى تعقيدات الحقائق ووجهات النظر المتعددة حول هذه الحقائق، وبالنظر إلى النطاق المحدود لهذه «المقدمة القصيرة»؛ سوف يكون ما هو قادم، بحكم الضرورة، مُقتضبًا وسطحيًّا إلى حدٍّ ما؛ فهذا ليس كتابًا عن إسرائيل/فلسطين، بل كتاب عن الإقليم، وهدفي المحدود والمباشِر هو تقديم توضيحٍ أكثر استمراريةً لبعضٍ من الموضوعات الرئيسية التي التقيناها بالفعل، لا تقديم فهمٍ شاملٍ للموقف ككلٍّ. سوف أتتبَّعُ كيف تتجلَّى أشكالُ السلطة من خلال الإقليمية، وكيف تُهيئ الإقليميةُ الكيفيةَ التي تُعاش بها الحياة. وسوف أُركِّز على جوانب تَكشُّف وتَطوُّر التعقيدات الإقليمية عبر الزمن، لا كآلياتٍ ليس لها وجودٌ مادي، بل كظروفٍ وتأثيراتٍ لجهاتٍ فاعلةٍ قائمةٍ وثابتةٍ تجعل من عوالمِ خبرتها عوالمَ ذات معنًى. ولن يكون التركيز على الأقاليم كحاوياتٍ كتومة، ولكن كمكوناتٍ لمجموعاتٍ معقدةٍ وانسيابية. وتُقدِّم الأجزاء الأولى رسمًا تخطيطيًّا تقريبيًّا لأصل الإقليم بأسلوبٍ لا يختلف عن أمثلة ساك التوضيحية الأكثر امتدادًا. وفي هذا المقام أتطرَّق لعناصرَ أساسيةٍ من المجموعة وحلقاتٍ مهمةٍ أو عمليات إعادة الأقلمة، وسوف يتبع هذا استعراض أكثر تفصيلًا إلى حدٍّ ما — ولكن يظل عامًّا — للتحولات التي طرأت على عمليات حيازة الأرض وعلاقات الملكية كعناصرَ مهمةٍ للمجموعة الأكبر. ومن الأمور المهمة هنا المشروعات والممارسات المرتبطة ﺑ «تهويد» الإقليم داخل «الأرض الإسرائيلية»، وبعد عام ١٩٦٧، داخل «الأراضي المحتلة». بعد ذلك أُقدِّم استعراضًا أكثر تزامُنًا لبعضٍ من أهم مكونات ما أُطلِق عليه «منظومة السيطرة الإسرائيلية» (كيمرلينج ١٩٨٩)، وما سوف أشير إليه بمنظومة السيطرة «الإقليمية» الإسرائيلية. وهذه آلية يتم من خلالها تداول السلطة — خاصةً، ولكنْ ليس على نحو خالص، القوةَ المادية — وتوزيعها، ومعايشتها. ومن بين مكونات هذه المنظومة معسكرات اللاجئين، والمستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة، وآليات التعبئة مثل نقاط التفتيش، وحظر التجوال، و«عمليات الإغلاق» المتدرجة. وأحدثُ إضافةٍ إلى هذه المنظومة الإقليمية جدارٌ عازل يتم بناؤه داخل الأراضي المحتلة لعزل (بعض) الإسرائيليين عن (غالبية) الفلسطينيين. وبعد عرض هذه العناصر سوف أناقش إقليمية إسرائيل/فلسطين بوضعهما المعاصر في إطار بعضٍ من موضوعات وأفكار الكتاب الرئيسية.
والوسيلة التي أستخدمها لعرض هذا المخطط هي الاعتماد إلى حدٍّ كبير، إنْ لم يكن حصريًّا، على كلمات المؤرخين الإسرائيليين واليهود، والجغرافيين، والأنثروبولوجيين، وعلماء الاجتماع، والمعماريين، وعلماء القانون، والنشطاء في مجال حقوق الإنسان، والصحفيين الذين درسوا عناصر المنظومة الإقليمية. ولهذه الملاحظات والتقييمات أهمية خاصة؛ ليس فقط لأن هؤلاء بعضٌ من الأشخاص الذين أُنشِئت هذه المنظومة وأُبقِي عليها نيابةً عنهم وباسمهم، ولكن أيضًا لأن هذه الأصوات توفر أدلةً على وجود نقدٍ داخليٍّ للمشروع الإقليمي الإسرائيلي. بعبارةٍ أخرى: يتطلَّب الأمرُ منَّا التمييزَ بين أولئك الإسرائيليين الذين يؤيدون نتائج المنظومة، وأولئك الذين يعارضون هذه النتائج ويدعمون طرقًا أخرى لأقلمة السلطة في هذا الجزء من العالم؛ لذلك ينبغي أن تُقرأ كلماتهم ليس فقط ككلمات خبراء ثقات، ولكن ككلمات مشاركين في مشروعٍ لإعادة التخيُّل. فوصفٌ أكثرُ استيفاءً لمنظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية سيكون من شأنه إعطاء أهميةٍ أكبر لتبريرات واضِعِيها والقائمين على الحفاظ عليها. وسوف تُشير هذه التبريرات إلى حق الدولة الإسرائيلية، وحاجتها، وواجبها في حماية مواطنيها من فظائع العنف الموجَّه ضد إسرائيل. (وهنا قد يُلاحَظ أن التفجير العشوائي للمدنيين من قِبل المجاهدين الفلسطينيين يتسبَّب في قتل العرب وإصابتهم بعاهاتٍ بسهولة، شأنهم شأن اليهود.) ولكنَّ وصفًا كهذا من الممكن أيضًا أن يضم حُججًا بأن إجراءات العقاب الجماعي الوحشية تُولِّد «أمنًا» أقل وليس أكثر. وعلى أي حال، يتبع هذا وصف لعقدةٍ إقليميةٍ خُلِقت وأُبقِي عليها وتخضع للتنقيح لأغراضِ نَزْع ملكيات الشعب الفلسطيني، وعزله، وطرده، والتضييق عليه.
(٢) تطوُّر السيادات
في القرن التاسع عشر، كما يُزعم، لم يكن هناك وجود ﻟ «إسرائيل» و«فلسطين»؛ على الأقل بحسب مفهوم المكانين الآن، وبالتأكيد لم يكن يوجد إسرائيليون ولا فلسطينيون، ولكنْ، كما يُزعم، كان يوجد كلٌّ من إسرائيل وفلسطين لآلاف السنين. بالطبع كان يوجد في منتصف القرن التاسع عشر مئات الآلاف من الناس يعيشون ويعملون في المنطقة القريبة من الركن الجنوبي الشرقي للبحر المتوسط بين البحر ونهر الأردن، وكان معظم هؤلاء الناس مسلمين يتحدثون العربية، والبعض منهم يهودًا، والبعض عربًا مسيحيين. وكان أغلبهم فلاحين يعملون في زراعة الكفاف وتربية الماشية، وكان البعض من البدو (الرعاة الأعراب). كان الأغلب منهم يعيشون في قرًى صغيرة، وعاش البعض في بلداتٍ صغيرةٍ مثل نابلس والخليل والقدس ويافا، وكانت البنيات الاجتماعية الواسعة النطاق تُنظَّم بواسطة العشائر أو العائلات الممتدة، وكانت مقسَّمةً إلى طبقاتٍ على نحوٍ ملحوظ. في هذا العالم الحياتي كانت الإقليمية بُعْدًا مهمًّا من أبعاد الحياة الاجتماعية؛ فكانت القواعد المعقَّدة للدخول تُنظم استخدام وحيازة الأرض، والحياة القروية، والحياة المنزلية، والممارسة الدينية. وسوف يُوصَف بعضٌ من هذا بمزيدٍ من التفصيل لاحقًا في هذا الفصل.
في الوقت نفسه، كانت تحوُّلات أخرى أوسع في الاقتصاد السياسي العالمي والثقافة بصدد البدء في إحداث تأثيراتٍ ونتائجَ ملحوظةٍ أيضًا؛ فقد أثَّرَ دخول المحاصيل النقدية، مثل القطن والسمسم والبرتقال، على استخدام الأرض والعمالة؛ ومن ثَمَّ على أنماط الكفاف الريفي واقتصاديات المنزل (كيمرلينج وميجدال ٢٠٠٣؛ بابه ٢٠٠٤). وكان من تأثير ظهور القدس و«الأرض المقدسة» كمقاصدَ سياحيةٍ للأمريكيين والأوروبيين أن شرعت السلطات المركزية في توجيه انتباهٍ أشدَّ إلى المنطقة، ولكن كان العنصر الأهم إلى حدٍّ بعيدٍ لقصة الإقليم اللاحقة هو استحداث الحركة الصهيونية في أوروبا.
الصهيونية، في أشكالها ووظائفها المتعددة، هي أيديولوجية للقومية اليهودية نشأت في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر جنبًا إلى جنبٍ مع قومياتٍ أخرى، واستجابةً لها (ديكهوف ٢٠٠٣). وكانت هي والخطابات المرتبطة بها، حلًّا طموحًا لمشكلاتٍ متعلقةٍ بما كان يُسمَّى «المسألة اليهودية»؛ ففي ظل مواجَهة اضطهادٍ متواصلٍ في أوروبا الشرقية، من جانب، والمشكلة المناقضة كليًّا المتمثِّلة في الاندماج في أوروبا الغربية، واقتران ذلك بالعنصرية المعادية للسامية عبر أنحاء الشتات؛ بدأ بعض المفكرين اليهود مثل تيودور هيرتزل في صياغة استراتيجيةٍ جغرافيةٍ لتقرير المصير. وتضمَّنت هذه الاستراتيجية استعمار اليهود من كل أنحاء العالم ﻟ «أرض إسرائيل»، كما أطلقوا عليها، الوطن اليهودي الأبدي. وعلى نحوٍ مهم، وبحسب تعبير كيمرلينج في دراسته المطوَّلة في شكل كتاب «الصهيونية والأرض»: «مع مرور الزمن صار مفهوم صهيون ميتافيزيقيًّا وتجريديًّا على نحوٍ متزايد؛ فقد كانت حدوده غيرَ واضحةٍ وغيرَ محددة، يُستثنَى من ذلك مركزه القدس» (١٩٨٣، ٨-٩).
ولكن لما كان صهيون هذا مجردًا (وربما بسبب ذلك على نحوٍ جزئي)، أصبح رمزًا تعبويًّا للحركة القومية اليهودية. أصبح واضحًا أن أرض إسرائيل فقط هي القادرة على العمل كرمزٍ قويٍّ كافٍ لتجنيد أعدادٍ كبيرةٍ من اليهود عبر أرجاء العالم، من أجل نشاطٍ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ وسياسيٍّ جماعي، إما كمشاركين فعليين في الهجرة وبناء مجتمعٍ جديد، وإما كداعمين معنويين و/أو ماديين للحركة. واقتُرِحت بدائل إقليمية أخرى (أوغندا، شمال سيناء، الأرجنتين، بل كان ثَمَّةَ مقترح سوفييتي لتأسيس جمهوريةٍ يهوديةٍ في بيروبيجان) أثارت قدرًا كبيرًا من الجدل داخل الحركة الصهيونية، ولكنها جميعًا رُفِضت في النهاية باعتبارها «غير صهيونية». (١٩٨٣، ٩)
كان للمكان الملائم لهذا الصهيون القادم من وحي الخيال سمةٌ أخرى مهمة؛ فكما يكتب غازي وليد فلاح: «من المستحيل تقريبًا أن نتطرَّق إلى الجدال الخاص بخطاب الأرض في الصراع الإسرائيلي/الفلسطيني دون الاضطرار إلى تذكُّر الشعار الصهيوني «أرض بلا شعبٍ، لشعبٍ بلا أرض».» (٢٠٠٣، ١٨٢). وهذا التمثيل، بالطبع، كان متعارضًا تعارُضًا شديدًا مع الحقيقة؛ فقد كان، على أفضل تقدير، تفكيرًا رغبيًّا، أو ربما النذير الخطابي لتجريد وطرد الأشخاص الذين كانوا يقطنون هذه الأرض فعليًّا. «جاءت الصحوة بمجرد بدء الهجرة الجماعية إلى إسرائيل في عام ١٨٨٢. كان الواقع بعيدًا تمامًا عما كان متصوَّرًا؛ فقد كانت الأرض الخالية المتاحة محدودةً للغاية» (كيمرلينج ١٩٨٣، ١٠). وكما سنناقش بمزيدٍ من التفصيل فيما يلي، ربما تكون هذه العقبات (وجود الناس وعدم توافر الأرض) قد بيَّنت مشكلاتٍ لوجيستية، ولكن لم يُنظَر إليها باعتبارها مستعصيةً على الحل. علاوةً على ذلك، كانت مسألة كون صهيون رسميًّا جزءًا من الإمبراطورية العثمانية «يُنظَر إليها فقط كتعقيدٍ قانوني»، وكون الأرض مملوكةً لآخرين كان مجرد «مشكلة مالية» من الممكن حلُّها من خلال جمع التبرعات (كيمرلينج ١٩٨٣، ٩). كان المشروع الصهيوني ﻟ «تحرير» أرض إسرائيل بوصفها موطن اليهود مزمعًا أن يتم على محورين إقليميين على نحوٍ متزامن؛ محور السيادة ومحور الملكية، وفي نقطة التقاطع بينهما. وبحلول عام ١٩٠٣، أُقيمت ٢٠ مستوطنةً يهوديةً بلغ مجموع سكانها معًا ١٠ آلاف نسمة (بيكرتون وكلوسنر، ١٩٩٥، ٢٢)، وقدَّم البارون روتشيلد قدرًا كبيرًا من الدعم المالي.
وفيما يتصل بعلاقة الإقليمية بتشكيل الهُوِيَّة، يُردف يفتاشيل قائلًا إن «تمجيد الحدود كان أمرًا محوريًّا لتكوين «اليهودي الجديد»؛ مستوطن محارب متأهِّب دائمًا، يغزو الأرض بقوته البدنية وحب حالم لا ينتهي» (٢٠٠٢أ، ٢٢٨). في هذا الحيز الخرافي كان يُنظَر إلى الفلسطينيين غير اليهود بوصفهم متطفِّلين؛ فقد كان مطلوبًا في النهاية بناء هُوِيَّةٍ إسرائيلية (يهودية) على نحوٍ خاصٍّ من الهويات العِرْقية المتعددة (الأوروبية الشرقية، والأوروبية الغربية، والشرق أوسطية، والشمال أفريقية) التي نشأت في الشتات. غير أن التأثيرَ المدمِّر على البنية الاجتماعية، والسلطةَ السياسية، وأخيرًا الخبرة اليومية؛ أمدَّت بالأساس لبناء هُوِيَّةٍ فلسطينيةٍ مميزةٍ كشعبٍ مُستعمَرٍ وُضِعت في مقابل هُوِيَّة المستعمِرين اليهود (الأوروبيين) (فارسون ١٩٩٧؛ خاليدي ١٩٩٧). ويشير كيمرلينج، على سبيل المثال، إلى أنه «في شهرَيْ يوليو وأغسطس عام ١٩١٣، دعت الجريدة العربية «فلسطين» إلى تأسيس منظمةٍ فلسطينيةٍ وطنيةٍ تتألف من الأثرياء من نابلس والقدس ويافا وغزة، من أجل شراء الأراضي التي في حيازة الحكومة قبل أن يتمكن الصهاينة من القيام بذلك» (كيمرلينج وميجدال ٢٠٠٣، ١٥).
توليفة الملكية والوجود كانت لها أهمية خاصة؛ فإلى أن حاز اليهود السيادة في عام ١٩٤٨، كانت الأقاليم تُمتلَك وتُستوطَن، وتكوَّنت سلسلة متصلة إقليمية بينها. وبواسطة هذين النوعين من السيطرة، تطوَّرت وسيلة لبناء أمة، تقوم أساسًا على امتلاك قطع الأراضي المجاورة وإنشاء نقاط استيطانٍ عليها. بل إن هذه الوسيلة صارت ذات طابعٍ أيديولوجيٍّ وتبلورت إلى حركةٍ سياسيةٍ عُرِفت باسم «الصهيونية العملية»، وكان شعارها «دونم (نحو ربع فدان) هنا، ودونم هناك»، بقصد دمج جميع الدونمات «هنا» و«هناك» في قطعة أرضٍ إقليميةٍ واحدة. (١٩٨٣، ٢٣-٢٤)
كان شراء دونم إضافي من الأرض من فلسطيني، مهما كان ضئيلًا، يُترجم إلى «إنجاز» وطني من قِبل الدولة ومواطنيها اليهود، بينما يُنظَر إليها في ذات الوقت كخيانةٍ في أعين الفلسطينيين الأصليين. وهذا النوع من الازدواج في الإدراك — تلك الأقلمة التي لا غبارَ عليها للمواجهة الأساسية — أضفى على الأرض قيمةً مضافةً في عقل اليهود والعرب، تتجاوز قيمتها التبادُلية الاقتصادية بمراحل؛ بل إن الأرض (شاملة المياه) والسيطرة عليها قد أصبحتا رمزًا أساسيًّا للصراع، وسمته الجوهرية. (٢٠٠٣، ١٨٣)
تأمَّلْ قطعةَ أرضٍ صغيرة كانت توجد، لِنَقُلْ، في مرج ابن عامر في عام ١٩٠٥، لقد حملت هذه القطعة معها أكثر بكثيرٍ ممَّا قد تدل عليه لافتة تقول ببساطة «ابتعِدْ»؛ فقد كان سيُنظَر إليها كمكونٍ من مكونات تجمُّعٍ إقليميٍّ أكثر امتدادًا (وبروزًا). وكانت دلالتها تُوضَّح بالإشارة إلى خطاب الصهيونية الذي كان في حد ذاته يجمع بين عناصر القومية، والرمزية الدينية، والاستجابة إلى الاضطهاد، ومأساة الشتات المرتبطة بشبكةٍ دوليةٍ لجمع التبرعات. وكانت أيضًا ستصير ذات معنًى بالاعتماد على أساليبَ خطابيةٍ معاصرةٍ قويةٍ للاستعمار، نصَّبَتِ اليهود القادمين من أوروبا على نحوٍ أسهل كوكلاء للحضارة في مقابل العرب الجَهَلة. كل هذا كان سيُعاش بطريقة أكثر مباشَرةً فيما يتصل بنزع الملكية والاستبعاد والإحباط.
من الأهمية بمكانٍ أن نضع في الاعتبار أنه حتى في عام ١٩١٠ لم يكن نجاح المشروع الإقليمي الصهيوني محتومًا بأي حال؛ فقد كانت استراتيجية بناء إقليم سيادي من «الوجود» و«الملكية» تتطلَّب أولًّا أن يتم الحفاظ على الوجود في مواجهة المعارضة (وهذه المعارضة كانت قد اتخذت بالفعل شكل عنفٍ موجَّهٍ ضد اليهود). وتتطلَّب ثانيًا مشاركةَ العرب الراغبين في بيع الأراضي. وتتطلَّب ثالثًا خضوع الدولة، أو على الأقل عدم قدرة الدولة أو عدم استعدادها لمنع عمليات نَقْل ملكية الأراضي. كذلك ربما كانت الصهيونية في حد ذاتها قد ظلت حركةً هامشيةً لا أهمية لها؛ ففي مطلع القرن العشرين كان عدد قليل نسبيًّا من اليهود الأوروبيين صهاينة، وكان عدد اليهود الذين غادروا أوروبا إلى فلسطين قليلًا للغاية، على الأقل في البداية، غير أن البرنامج لاقى ما يكفي من النجاح لتحقيق تحوُّلاتٍ ذات أهميةٍ تاريخيةٍ عالميةٍ خلال جيلين.
إن هذا المخطط التمهيدي يعرض عناصر الاستراتيجية الإقليمية الصهيونية في أوسع الخطوط، وسوف نعود لاحقًا إلى ديناميكيات تشكيل السيادة من الملكية. أما في الوقت الحالي، فيكفينا ببساطةٍ التأكيد على الترابطات المعقدة بين الأيديولوجيات والهويات والإقليم، الفاعلة في هذا المقام. ولعل من العناصر المهمة للتفسيرات وأساليب الفهم المتباينة لهذه الترابطات، وفقًا ليافتشيل، أنه «بينما كان الفلسطينيون يرَوْن هُوِيَّتهم الإقليمية الجماعية هويةً جامعة (أيْ إنَّ جميع المقيمين في فلسطين كانوا يُعَدُّون فلسطينيين، بمَن فيهم يهود «ما قبل الصهاينة»)، كان الصهاينة فقط يَعُدُّون الوافدين الجدد من اليهود جزءًا من الأمة. كانت القومية الفلسطينية، آنذاك، في طريقها إلى التطوُّر على نحوٍ متزايدٍ كتنظيمٍ سياسيٍّ إقليميٍّ مجدِّدٍ على نمط الكيانات الجماعية القائمة» (٢٠٠٢أ، ٢٢٥). بمعنًى آخر، كان الفلسطينيون يفترضون، في إطار نظرية ساك، تعريفًا إقليميًّا أكثر حداثةً للعلاقات الاجتماعية، بينما كان الصهاينة يفترضون تعريفًا اجتماعيًّا للإقليم ينتمي إلى ما قبل الحداثة.
(٢-١) إعادة أقلمة السيادة
تأثَّرَتْ هذه الخطوات الخاصة بالأقلمة المحلية بشدةٍ بمحاولاتٍ أخرى للأقلمة نشأت بعيدًا، لم تكن لها في البداية صلةٌ كبيرةٌ بالصهيونية أو القومية الفلسطينية الوليدة؛ ففي عام ١٩١٤ كانت المنطقة بين البحر المتوسط والخليج الفارسي جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، وقد تحالفت الإمبراطورية مع ألمانيا والنمسا في الحرب العالمية الأولى، وكان من بين النتائج المهمة لتلك الحرب «تمزُّق» الإمبراطورية. وكان هذا بمنزلة إعادة أقلمةٍ على أكبر قدرٍ من الأهمية والضخامة؛ فقد ظهر مكانها دولة تركيا القومية، وجرى استعمار معظم المناطق غير التركية من الإمبراطورية السابقة من قِبل القوى الأوروبية المنتصرة. وكان ممَّا شكَّلَ أهميةً خاصةً للأحداث اللاحقة تفاصيلُ تقسيم المنطقة بواسطة بريطانيا وفرنسا.
بدلًا من مناطق النفوذ البريطاني والفرنسي والمناطق المدولة، تم تقسيم الإقليم إلى كياناتٍ جديدةٍ تُسمَّى «انتدابات». كان مقررًا أن يتولَّى الفرنسيون والبريطانيون إدارةَ الانتدابات، تحت إشراف عصبة الأمم، إلى أن يأتيَ الوقت الذي يكون فيه السكان مستعدين للاستقلال والحُكم الذاتي. وأُرجِئت التعهدات والوعود التي مُنِحت للعرب واليهود على حدٍّ سواءٍ في وقت الحرب، إنْ لم تكن أُلغِيت تمامًا بفعل هذه الترتيبات. (١٩٩٥، ٤٢-٤٣)
في الواقع، «مُنِح» لفرنسا ما أصبح بعد ذلك في عام ١٩٤٣ دولتَيْ سوريا ولبنان القوميتين، و«مُنِح» لبريطانيا ما أصبح بعد ذلك دولة العراق القومية في عام ١٩٣٢، كما حدث مع فلسطين. وتألَّفَتْ ما كانت تُسمَّى «فلسطين» بعد ذلك ممَّا صار إسرائيل الآن، والأراضي المحتلة، والأردن. وفي عام ١٩٢١ أُنشِئ كيان جديد يُسمَّى إمارة شرق الأردن، وأُقِيمت كانتدابٍ مستقل. «أعادت ديباجة وثيقة الانتداب على فلسطين التأكيدَ على التزام بريطانيا بوضع إعلان بلفور في حيز التنفيذ»؛ فقد كان البريطانيون «يُسهلون هجرة اليهود تحت ظروفٍ ملائمة»، ويُشجِّعون «الاستقرار المحكم من قِبل اليهود على الأرض» (بيكرتون وكلوسنر، ١٩٩٥، ٤٣). وكما يشير بيكرتون وكلوسنر، «لم تُورِد وثيقة الانتداب أيَّ ذِكْرٍ للعرب بالاسم» (ص٤٣). باختصار، كانت فلسطين قد صارت الآن مستعمرةً بريطانية، وأصبحت الصهيونيةُ هي السياسةَ الاستعمارية الرسمية فيها، ولم تكن هذه التحرُّكات الإقليمية الكلية مجرد تدريباتٍ في رسم الخرائط التخيُّلي؛ فمن خلال إعادة بناء التجمعات الإقليمية أُعِيد تشكيل علاقات السلطة، وتم الحفاظ على خطوط السلطة بواسطة التهديد واستخدام العنف. علاوةً على ذلك، أثار نشر العنف من قِبل عملاء الدول الاستعمارية عنفًا مضادًّا من قِبل كلٍّ من العرب واليهود على حدٍّ سواء.
شهدت فترة الانتداب في فلسطين تحولاتٍ بالغةً في جميع جوانب الحياة الاجتماعية؛ فعلى الصعيد الاقتصادي، كانت بعض المناطق أكثر اندماجًا على نحوٍ قويٍّ في شبكة الأسواق العالمية، من خلال التركيز على المحاصيل النقدية والتصنيع على طول الساحل، بينما عانت المناطق الداخلية المرتفعة من التأخُّر والتخلف (كيمرلينج وميجدال ٢٠٠٣). وقد أحدث هذا «التحديث» المتفاوت لفلسطين مجموعةً من التغيرات الاجتماعية الأخرى، كان من بينها اشتدادُ حركةِ التقسيم الطبقي داخل الهياكل الاجتماعية العربية. في غضون ذلك، استمرَّت العمليات الصهيونية لبيع الأراضي، على الأرض، بإيقاعٍ متسارع، وكذلك الحال بالنسبة إلى تشكيل المؤسسات والمستوطنات اليهودية الخالصة المتعددة، وصار هناك مجتمع ازدواجي معزول على نحوٍ متزايدٍ يتخذ شكلًا أوضح. في الفترة من عام ١٩٣٦ إلى عام ١٩٣٩، حدثت انتفاضة واسعة النطاق للعرب ضد كلٍّ من الهجرة المستمرة لليهود ونقل ملكية الأراضي لليهود؛ فعند اندلاع الحرب العالمية الأولى كان يوجد نحو ٦٠ ألف مواطنٍ يهوديٍ يعيشون في فلسطين (ما يعادل أقل من ١٠ بالمائة من السكان)، وكانوا يمتلكون ٣ بالمائة من الأرض. وبحلول عام ١٩٣٩ ازدادت أعدادهم إلى ٦٠٠ ألف شخص (٣١ بالمائة)، وسيطروا في الأساس من خلال الصندوق القومي اليهودي على أكثر من ٢٠ بالمائة من الأرض (فارسون ١٩٩٧). وتعرَّضت «الثورة العربية» خلال الفترة من ١٩٣٦ إلى ١٩٣٩ للقمع من جانب البريطانيين، وكان العنف ضد اليهود يُواجَه بتنظيماتٍ يهوديةٍ شبه مسلَّحةٍ أكثر تنظيمًا، كانت في حد ذاتها قد شُرِّعت ودُرِّبت من قِبل البريطانيين (بابه ٢٠٠٤). كانت عسكرة الحياة الاجتماعية في فلسطين ماضيةً على قدمٍ وساق، وفي عام ١٩٣٩ نشر البريطانيون «ورقة بيضاء» طالَبُوا فيها بفرض قيودٍ على الهجرة اليهودية وعمليات بيع الأراضي، وأعلنت فيها أن فلسطين ستحصل على استقلالها خلال ١٠ سنوات. وفي ظل وجود أغلبيةٍ عربيةٍ كاسحة، بَدَا ذلك إشارةً إلى أنها ستكون دولةً عربيةً ذات أقليةٍ يهودية؛ غير أن الحرب العالمية الثانية، والهولوكوست، والأحداث المحلية الأخرى تضافَرَتْ جميعًا لإلغاء هذه الاحتمالية.
(٢-٢) بعد عام ١٩٤٨
كان من بين أعمال السيادة الأولى التي قامت بها الحكومة الإسرائيلية تمريرُ «قانون العودة»، الذي منَحَ مواطنةً تلقائية لأي يهودي يهاجر إلى إسرائيل دون الاضطرار بالمرور بعملية تجنيس رسمية (ديفيز ١٩٨٧). ولكن ثَمَّةَ جوانب أخرى لعملية التهويد الإقليمي تُعطي مثالًا لبعضٍ من الأبعاد المأساوية ﻟ «الحيز القابل للإخلاء» لِساك (انظر الفصل الثالث). كذلك أسفرت الحربُ التي أطلق عليها الإسرائيليون «حرب الاستقلال» عمَّا يُسمِّيه الفلسطينيون «النكبة».
أصبح أكثر من نصف عرب فلسطين الغربية لاجئين؛ لقد تعرَّضَ المجتمع للدمار؛ فقد كان أكثر من ٦٠ بالمائة من مساحة إسرائيل الإجمالية، ما عدا النجف، أرضًا يشغلها الفلسطينيون رسميًّا. علاوةً على ذلك، استولَتْ إسرائيل على مدنٍ وبلداتٍ كاملة، وكانت يافا وعكا واللد والرملة وبيسان ومجدل من بين هذه البلدات والقرى التي بلغ عددها ٣٨٨. وإجمالًا، كان رُبع المباني في إسرائيل (١٠٠ ألف مسكن، و١٠ آلاف متجر وشركة ومخزن) فلسطينيًّا رسميًّا. (بيكرتون وكلوسنر ١٩٩٥، ١٠٥)
نحو ثلاثة أرباع مليون مواطن فلسطيني «هربوا أو طُرِدوا من الأرض على أيدي القوات اليهودية، ودُمِّر ما يزيد على ٤٢٠ قرية فلسطينية» (يفتاشيل ٢٠٠٢أ، ٢٢٧). وبعد أن أصبحوا «لاجئين»، مُنِعوا من العودة إلى منازلهم وقُرَاهم بعد توقيع اتفاقيات الهدنة مع الدول المتحارِبة. استطاع بعضٌ من المشردين إيجادَ ملجأٍ في دولٍ مجاورة، إلا أن الأغلبية العظمى تم ترحيلهم في النهاية إلى معسكراتٍ للاجئين في لبنان والأردن وسوريا والضفة الغربية وغزة، وسوف نتناول قصتهم لاحقًا.
وُضِع عربُ فلسطين في إسرائيل تحت الحكم العسكري، ومُنِعوا من التحرُّك خارجَ مناطقهم دون تصاريح، ومُنِعوا من تكوين أحزابهم السياسية. وبموجب أنظمة الدفاع (الطوارئ) المفروضة، التي لم يتم رفعها حتى عام ١٩٦٦، كان للمحافظين العسكريين سلطاتٌ واسعةٌ على الفلسطينيين؛ فكان من الممكن نَفْي العرب أو القبض عليهم واعتقالهم دون سبب، وكان من الممكن الاستيلاء على القرى والأرض بإعلان منطقةٍ ما «منطقة أمنية». (بيكرتون وكلوسنر ١٩٩٥، ١٠٦)
كانت النتيجة هي توغُّلَ اليهود داخل معظم القرى الفلسطينية عن طريق مستوطناتٍ يهوديةٍ خالصة (حيث لم يكن يُسمَح لغير اليهود بشراء مساكن)، والتجميع العملي للأقلية الفلسطينية في أحياءٍ للأقليات. وفي تلك الأثناء، لم يفقد مواطنو إسرائيل الفلسطينيون ملكياتِهم الخاصةَ فحسب، بل جُرِّدوا أيضًا من العديد من الأصول الإقليمية؛ إذ تمَّ تخصيصُ كل أراضي الدولة تقريبًا لاستخدام اليهود. (١٩٩٨، ١٠)
وبينما أصبح نحو نصف الشعب الفلسطيني لاجئين، أصبح أولئك الذين ظلوا على الجانب الإسرائيلي «أقليةً مُحاصَرة» (رابينويتز ٢٠٠١).
كانت المناورات التي قامت بها دولةُ إسرائيل، والتي كان يُنظَر إليها باعتبارها مكوناتٍ لاستراتيجية سلطةٍ لا أقلمةٍ وإعادة أقلمة؛ يُنظَر إليها أيضًا من قِبل العديد من المنتقدين باعتبارها شبيهةً ﺑ «التطهير العِرْقي» (فلاح ١٩٩٦، ٢٥٧)، و«الغزو الاستعماري» (هوم ٢٠٠٣)، والتمييز العنصري (جليزر ٢٠٠٣؛ هالبر ٢٠٠٢)، إنْ لم تكن تمثيلًا لها. وفي داخل إسرائيل أرست هذه الخطوات الأولية الأساسَ لما يُطلِق عليه يفتاشيل «الديمقراطية العِرْقية»، ويُعَدُّ هذا «تعبيرًا خاصًّا عن القومية الموجودة في الأقاليم المتنازَع عليها؛ حيث يحظى فصيلٌ عِرْقي مهيمن بالسيطرة السياسية، ويستخدم أجهزةَ الدولة لإضفاء طابعٍ عِرْقيٍّ على الإقليم والمجتمع محل الجدل» (٢٠٠٠، ٧٣٠). والأمرُ الذي يحمل تأكيدًا، مهما كانت تقييمات المرء لهذه التأطيرات النسبية، هو استخدامُ العنف من أجل فرض مزاعم السيطرة وتفعيل الطرد والإقصاء والاحتواء التمييزي للناس من خلال الإقليمية، وتشكيل العلاقات والأنشطة من خلال هذه الأمور.
إنَّ تطوُّر الإقليمية في العقود التي تلت عام ١٩٤٨ غيرُ واضحٍ دون الإشارة إلى العمليات المعقَّدة لتشكيل الهوية؛ فلم تكن الهويات الموجودة في أرض الملعب هي هويات «اليهود» و«العرب»، أو حتى هويات «الإسرائيليين» و«الفلسطينيين»، تلك الهويات البديهية كما يبدو فحسب، ولكن كانت أيضًا التكوين التمييزي الذي تحقَّقَ جزئيًّا من خلال أقلمة «الإسرائيليين اليهود» و«الإسرائيليين العرب» من اللاجئين (الممتدة الآن إلى الجيل الثالث والرابع) وغير اللاجئين داخلَ القطاعات غير الإسرائيلية الرسمية من فلسطين، واللاجئين في المعسكرات خارجَ فلسطين في دولٍ أخرى، وفي مناطق الشتات الأوسع خارج الحدود. والدور الجوهري للإقليم والهُوِيَّة هو الآخَر غير واضح دون الإشارة إلى الأداء المعقد للأساليب الخطابية التسويغية بما يشمل، على سبيل المثال لا الحصر، الصهيونيةَ، وتعبيراتِ القومية الفلسطينية، وأساليبَ الخطاب الديني المتناحرة، وأساليبَ الخطاب المتمحور حول «الديمقراطية» و«الأمن»، والإنسانية الدولية، وغير ذلك.
لا تزال آثار النكبة ملموسة، بل إنها قد تضاعَفَتْ خلال عقود ما بعد عام ١٩٤٨، وسرعان ما أصبح «حق العودة» للاجئين وذُرِّيتهم من المطالب الأساسية للنشطاء الفلسطينيين، وظلت كذلك، ولكنها ظلت أيضًا مطالبَ غير قابلةٍ للتفاوُض بالنسبة إلى معظم المشاركين.
(٢-٣) بعد عام ١٩٦٧
كتب كيمرلينج يقول إن «منظومة السيطرة الإسرائيلية هي كيان إقليمي يشمل العديد من الكيانات الجماعية الفرعية، المرتبطة معًا بواسطة قوات عسكرية وشرطية خالصة وتفرعاتها المدنية (مثل الجهات البيروقراطية والمستوطنين)» (١٩٨٩، ٢٦٦). والسمة المميزة لها هي «الافتقار شبه التام من جانب القطاع الحاكم للاهتمام والقدرة على خَلْق هُوِيَّة مشتركة، أو منظومة قِيَمٍ أساسية لتقنين استخدامها للعنف للحفاظ على المنظومة، أو تنمية أنواعٍ أخرى من الولاءات للقوة والسلطة» (ص٢٦٦). وعلى عكس أساليب الفهم الأكثر تقليديةً للإقليم باعتباره محددًا للمداخل والمخارج الواضحة للمساحات الاجتماعية، فإن الفكرة المحددة لأقلمة ما بعد عام ١٩٦٧ هنا هي إبقاء الغالبية العظمى من الفلسطينيين «خارج» «أرض إسرائيل»، مع إبقائهم «داخل» منظومة «إسرائيل الكبرى» للسيطرة، وتنظيم التنقُّل بين هذين القطاعين. وسوف نبحث بعد قليلٍ بمزيدٍ من التفصيل عناصرَ أخرى لمنظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، أما في الوقت الحالي، فسوف أذكر فقط بعضَ الوقائع المهمة في عملية التطوُّر الإقليمي للسيادة خلال الأربعين عامًا منذ نشأة الاحتلال.
كانت نتيجة اتفاقية أوسلو أن قُسِّمت الضفة الغربية إلى ١٢٠ مقاطعة فلسطينية منفصلة، كانت التنمية خارجَها مقيدةً من خلال التخطيط واللوائح الأخرى. حتى المناطق التي انتقلت ظاهريًّا إلى السلطة الفلسطينية ظلت تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية، ولم يكن يوجد ترسيم للحدود بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل (٢٠٠٣، ٣٠٤).
وهذا يعني أن كلَّ جيبٍ جزئيٍّ ذي «سيطرة» شكلية كان سيحاط بإقليمٍ ذي سيطرةٍ إسرائيلية، مثلما هي الحال مع الضفة الغربية ككلٍّ؛ وقد فهم البعض هذا الترتيب باعتباره قد خلق مجموعةً من السجون المكشوفة والمفتوحة ذات رقابةٍ ذاتية. وكما كتب إدوارد سعيد: «لقد استولت إسرائيل على ٧٨ بالمائة من فلسطين في عام ١٩٤٨، وعلى اﻟ ٢٢ بالمائة المتبقية في عام ١٩٦٧. وتلك اﻟ ٢٢ بالمائة فقط هي محور البحث الآن» (٢٠٠١، ٣٣). ويُشبِّه عالِمُ الأنثروبولوجيا والناشِط المناهِض للاحتلال الإسرائيلي جيف هالبر الاستراتيجيةَ الإسرائيليةَ باستراتيجية حكومة التمييز العنصري الجنوب أفريقية، وقيامها بإنشاء «البانتوستان» أو، بالأساس، المحميات الأهلية التي عملت كحاوياتٍ للبشر غير المرغوب فيهم؛ فقد كانت مستقلةً صوريًّا، ولكنها في الواقع كانت تحت سيطرة جنوب أفريقيا. «من وجهة نظر إسرائيل … تكمن البراعة في إيجاد ترتيبٍ من شأنه أن يَدَعها مسيطِرةً على الأرض، ولكن يزيح عنها مسئوليةَ السكان الفلسطينيين؛ نوع من الاحتلال الودي» (هالبر ٢٠٠٢، ٣٨) ولعل من أهم عناصر عملية إعادة الأقلمة هذه الاستيطانَ المتسارِعَ لليهود في الأراضي المحتلة، وهي سمة سوف نتناولها بمزيدٍ من التفصيل في موضعٍ لاحقٍ في هذا الفصل. لقد نُفِّذت اتفاقية أوسلو جزئيًّا، ولكن في أواخر التسعينيات من القرن العشرين بدأت في الانهيار داخل دوامةٍ مريعةٍ من العنف؛ فلم تكتفِ بعضُ الفصائل الفلسطينية المقاتلة بالاتفاقية، بل رفضت أيضًا الاعترافَ بوجود إسرائيل، بل إنها رفضَتْ مشاوراتِ سلطةِ منظمةِ التحرير الفلسطينية بشأن ذلك الاعتراف. وفي المقابل بَدَءُوا سلسلةً من التفجيرات الانتحارية الشَّرِسة استهدفَتِ المدنيين الإسرائيليين؛ ما أسفَرَ عن مقتل مئات الأشخاص. وردَّتْ إسرائيل بدورها بقوةٍ ضخمة؛ فمنذ عام ١٩٨٧ حتى ٢٠٠٤، قُتِل ما يقرب من ٤٠٠٠ مدني فلسطيني، وأُصِيب أكثر من ٢٦٠٠٠ بجراحٍ خطيرة (بتسِلِم ٢٠٠٣أ). في الوقت ذاته، انتفضت قطاعات كبيرة من الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال فيما عُرِف بالانتفاضة (الثانية)، وتعرَّضت هذه الانتفاضة أيضًا لقمعٍ وحشي. لقد أسفرَتْ آليات الحيز والعنف في إسرائيل/فلسطين في مطلع القرن الحادي والعشرين عن إقليميةٍ كارثيةٍ كالكابوس.
لقد كان اهتمامي الأساسي في هذا الجزء مُنصبًّا على وصف بعضٍ من الوقائع المهمة التي تطوَّرت من خلالها عمليةُ أقلمة وإعادة أقلمة السيادة في المنطقة ما بين البحر المتوسط ونهر الأردن جنوب غرب آسيا؛ ففي خلال ٨٥ عامًا ما بين عامَيْ ١٩١٥ و٢٠٠٢، بدأ مكان معين، لِنَقُلْ نابلس، وسكانه كبلدةٍ طرفيةٍ إلى حدٍّ ما في الإمبراطورية العثمانية، واحتُلَّتْ من قِبل بريطانيا تحت سلطة عصبة الأمم، ثم أصبحت رسميًّا داخلَ دولة الأردن، ثم احتُلَّتْ من قِبل إسرائيل، وفي النهاية صارت جزءًا من مجموعةٍ غامضةٍ وشاذةٍ من الكيانات غير الحكومية. ثَمَّةَ أماكن أخرى أُدمِجت داخل دولة إسرائيل، وسكانها إما طُرِدوا أو تم دَمْجهم. وقد تحقَّقَت إعادة تشكيل الإقليم على هذا المستوى الكلي من خلال التعاملات العقارية، والانتدابات الاستعمارية، ودبلوماسية «القوة العظمى»، والحرب، والإرهاب، ووسائل أخرى. ولكن، بشكلٍ ما، لا تكشف لنا إقليميةُ السيادة (أو السلطة العسكرية-السياسية الفاعلة) إلا عن السمات الأساسية للغاية لهذا النظام (أو لأي نظامٍ إقليمي). ومما يُمثِّل القدرَ نفسَه من الأهمية على الأقل بالنسبة إلى الحياة اليومية إقليميةُ الملكية أو حيازةُ الأرض التي تُكيِّف الجوانب الأخرى للكيفية التي تعاش بها الحياة وكيفية تداول السلطة عبر الحيز الاجتماعي.
(٣) إعادة تشكيل الملكية
كما رأينا بالفعل، كان للصهيونية في فترات ما قبل نشأة إسرائيل (الحقبة العثمانية وحقبة الانتداب) برنامجٌ إقليميٌّ متكامِلٌ كان يطمح لتحقيق السيادة من خلال مراكمة وتجميع وحدات الملكية. لا شك أن جزءًا كبيرًا من معنى السيادة عمليًّا هو القدرة التي لا يعوقها شيءٌ على تأسيس قواعد داخل إقليمٍ ما. ومن أهم القواعد، داخل أيِّ إقليم، تلك التي تتعلَّق بحيازة الأرض، وفي هذا الجزء سوف أتناول بعضَ جوانب قانون الأرض في حقبةِ ما قبل الانتداب، والتحولاتِ المهمةَ في هذا القانون خلال حقبة الانتداب. بعد ذلك سوف أستعرض عددًا من الآليات القانونية — أي التوجيهات الحكومية الرسمية — التي حقَّقَتْ بها دولة إسرائيل التهويدَ شبه الكامل للملكية خلال عقودِ ما بعد الاستقلال، وهذه عمليةٌ لا تزال في طور التطوُّر والتكشُّف، وتكمن أهميتها فيما يتعلَّق بأهدافنا في دراسةِ آلياتِ الإقليمية على مستوًى أدقَّ من التحليل نوعًا ما من ذلك الذي يتاح من خلال تركيزٍ حصريٍّ على السيادة والاستعمار السياسي.
حدَّدَ فئاتٍ عديدةً للأراضي، لكلٍّ منها مجموعةٌ محددةٌ من القواعد. كانت الملكية الكاملة للأرض (المسماة «ملك») نادرةً، وعادةً ما كانت توجد فقط في وسط البلدات والقرى، وكانت الفئة الأكثر شيوعًا للأراضي التي توجد في المناطق المأهولة هي «الأميرية»، التي كانت الملكية الرسمية والمطلقة فيها للدولة، على الرغم من بقاء درجةٍ كبيرةٍ من الحيازة وحقوق الانتفاع في أيدي مُلَّاك الأراضي الفرديين. أما الأراضي الأكثر بوارًا وخلوًّا من السكان، فكانت تُعرَف بالأراضي «الموات» التي سادت فيها قوانين خاصة — وسلسة — على الحيازة والملكية. (٢٠٠١، ٩٣٢-٩٣٣)
كانت في العادة مجتمعاتٍ صغيرةً على درجةٍ عاليةٍ من التماسُك والعلاقات الودية الطويلة المدى بين أفراد المجتمع؛ حيث نشأت الترتيبات الاجتماعية غير الرسمية لامتلاك وحيازة الأرض؛ أيِ الأحكام التي كانت مفهومةً على نحوٍ واضحٍ من قِبل المشاركين، كبدائل للمنظومة الرسمية للتسجيل والتوثيق. (٢٠٠١، ٩٣٤)
إن قانون الأراضي العثمانية لعام ١٨٥٨، كان في حد ذاته من صُنْع سلطةٍ متمركزةٍ على نحوٍ متزايد، «لِمَا يزيد على قرنٍ من الزمان كأحد أُسُس منظومة الأراضي في فلسطين ثم إسرائيل، إلى أن سُنَّ قانون الأراضي الإسرائيلية لعام ١٩٦٩» (٢٠٠١، ٩٣٢). وهكذا كانت إعادة أقلمة الحياة الاجتماعية في المنطقة ماضيةً على قدمٍ وساقٍ قبل بَدء المشروع الإقليمي الصهيوني.
موقع الأرض المشتراة كان محلَّ اهتمامٍ خاص؛ فقد كان الاتجاه السائد هو شراءَ قطعة أرضٍ كبيرةٍ في منطقةٍ معينة، مثل الأودية أو السهل الساحلي، ثم توسيع حدود الملكية لأكبر قدرٍ ممكن؛ ونتيجةً لذلك، تشكَّلَتْ في العديد من المناطق «سلسلةٌ إقليميةٌ متصلة» يهودية ساهمَتْ في كلٍّ من الصورة الخارجية لوحدةٍ سياسيةٍ متجانسةٍ وقوية — سارت جنبًا إلى جنبٍ مع عملية انفصالٍ بين الاقتصادات اليهودية والعربية — والصورة الذاتية والإحساس بالأمن لدى اليشوف (المجتمع اليهودي). (١٩٨٣، ٤٠)
لا بد أن نبذل جهدًا لامتلاك الأماكن البعيدة عن مراكز استيطاننا، من أجل تأمين حدود بلادنا بأقصى قدرٍ ممكن. والحق أنه عند وضع برامج شراء الأراضي، كان هذا الهدف في عقولنا دومًا؛ أن نستوطن الأماكن النائية. هذا هو الانتزاع الحقيقي للحدود، من وجهة نظرٍ سياسية. وفي هذا الإطار، قرر الصندوق القومي اليهودي خلال العام الماضي توسيع أنشطته من أجل تأمين الحدود الشمالية والشرقية بأسرع ما يمكن؛ فعلى الرغم من كل شيء، نحن لا نتعامل فقط مع مسألةٍ زراعية؛ لأننا قبل كل شيءٍ نكافح من أجل ضمان أوسع حدودٍ ممكنةٍ لأمتنا. (مقتبس في كيمرلينج ١٩٨٣، ٤٠)
كانت هذه التحركات إقليميةً على عددٍ من الأصعدة، والشيء الأبرز أن القطاعات أو الأجزاء كانت في حد ذاتها أقاليمَ تتأسَّس وفقًا لها قواعد الدخول والطرد والحقوق والواجبات الأخرى وتُطبَّق. ولما كانت هذه الأقاليم قد «استُرِدت» وفي حيازة مؤسساتٍ مثل الصندوق القومي اليهودي، كانت أقاليمَ ذات طابعٍ عِرْقيٍّ أو عنصري. ووفقًا لبنود الاستراتيجية فقد كان يُنظَر إليها أيضًا باعتبارها لَبِناتِ بناءٍ أساسيةً إقليميةً للملكية أمكن تأكيد السيادة انطلاقًا منها.
كان للانتقال من السلطة العثمانية إلى السلطة الاستعمارية البريطانية عواقبُ مهمة بالنسبة إلى إعادة أقلمة الحياة الاجتماعية بصفةٍ عامة، وتهويد الأرض (ونزع الهوية الفلسطينية عنها) بصفةٍ أخص.
سُخِّر أحد التعديلات الانتدابية على قانون الأراضي العثمانية لعرقلة السهولة التي كان يمكن بها امتلاك الأرض الموات؛ فقد ألغى مرسومُ الأرض الموات (الصادر عام ١٩٢١) الفقرةَ الأخيرةَ من المادة ١٠٣ (انظر أعلاه) من قانون الأراضي العثمانية، مستعيضًا عنها بالتالي: «أي شخصٍ يقوم بتقسيم أو زراعة أي أرضٍ بورٍ دون الحصول على موافَقة السلطة، لن يكون له الحق في الحصول على سند ملكيةٍ لمثل هذه الأرض، بالإضافة إلى أنه سوف يكون معرَّضًا للملاحقة القضائية بتهمة الاعتداء على ممتلكات الغير.» ربما كان المضمون القانوني لهذا الجزء ضخمًا. فتَحتَ الحكمِ العثماني، كان أي شخصٍ «يُحيي» أرضًا «مواتًا» أو «بورًا» كان يحصل في الحال على سند ملكيةٍ خالصٍ وشرعيٍّ لها، حتى لو لم يكن قد حصل على تصريح السلطات؛ أما تحت حكم الانتداب، كان مثل هذا الشخص يُصبح متعدِّيًا على ممتلكات الغير، مهما طالَتِ الفترة التي أمضاها الشخص في زراعة الأرض. (كيدار ٢٠٠١، ٩٣٦)
كذلك قام البريطانيون ﺑ «تحديث» حيازة الأرض بإنشاء منظومةٍ رسميةٍ للتوثيق.
مارسَتِ المنظماتُ الصهيونية ضغوطًا على الحكومة البريطانية لتنفيذ مسحٍ شاملٍ للأراضي، من أجل المساعدة في تحديد أرض الدولة البور التي سيستطيع اليهود بناء مستوطناتهم عليها في ضوء إعلان بلفور. كذلك أيَّدوا تنفيذ عملية استيفاء سندات الملكية، التي كان من شأنها تدعيم إمكانية الاعتماد على حقوق الملكية للمساعدة في تسهيل شراء الأراضي ذات الملكية الخاصة. وقد كان ينظر إلى توليفة الاستحواذ اليهودي والملكية غير المتنازع عليها في الأرض في مناطق فلسطين الممتدة كوسيلةٍ مهمةٍ لتحقيق الصهاينة للسيادة اليهودية في فلسطين (كيدار ٢٠٠١، ٩٣٧-٩٣٨).
بتنفيذ عملية استيفاء السندات على نحوٍ انتقائي، مع التركيز على المناطق التي أُعلِنت رسميًّا «مناطقَ استيطان» من قِبل السلطات. وقد سرت هذه التخصيصات في المقام الأول على المناطق اليهودية أو المناطق الخاضعة للنزاع بين اليهود والعرب، ولكن ليس في منطقة الجليل أو النجف العربيتين. وأُدرِج معظم الأراضي التي خضعت للاستيطان فيما بعدُ ضمن الإقليم الذي دُمِج داخل دولة إسرائيل. (كيدار ٢٠٠١، ٩٣٩)
كانت الأداة القانونية الأساسية التي استخدمتها إسرائيل من أجل الاستحواذ على الأرض المملوكة للاجئين الفلسطينيين والمهجرين داخليًّا والسيطرة عليها، هي قانون أملاك الغائبين لعام ١٩٥٠. بموجب هذا القانون، تنتقل جميع الحقوق في أي أملاكٍ تخصُّ أولئك المصنفين ﮐ «غائبين» تلقائيًّا إلى القَيِّم على أملاك الغائبين. وكان أي شخصٍ يستولي على أملاك الغائبين مُلزَمًا بتسليمها إلى القَيِّم، وكان العجز عن القيام بذاك يُشكِّل جريمة جنائية. (ص٧٠)
كان تعريف «الغائب» يشمل أي مواطنٍ فلسطينيٍّ هجر محل إقامته المعتاد، وكان من الممكن أن ينطبق هذا التعريف من الناحية الاصطلاحية على اليهود الذين تمَّ تهجيرهم بفعل الحرب، مثلما ينطبق على العرب. ويستشهد كيدار (٢٠٠٣، ٤٢٥) بأحد المعلقين القانونيين في قوله: «هل كان المشرعون ينتوون تطبيق هذه اللوائح أيضًا على اليهود الإسرائيليين المقيمين في إسرائيل؟ لو كان مقررًا أن تُطبَّق اللوائح على العرب فقط، لَلَزِمَ قول ذلك بوضوحٍ وجلاء.» ويُردِف كيدار: «في الواقع، احتوت اللوائح على آلياتٍ معقدةٍ أسفرت عن الاستثناء الروتيني لليهود من وضع «الغائبين». وفي الوقت نفسه، فإن عشرات الآلاف من العرب الذين أصبحوا مواطنين إسرائيليين صاروا غائبين، بالرغم من ذلك، واكتسبوا اللقب المتناقض «غائبين حاضرين»؛ ذلك اللقب الذي طارَدَهم لما تبقى من حياتهم» (ص٤٢٥). وقد يُفهَم ذلك على نحوٍ منطقيٍّ بأنه تجسيد لمفهوم ساك عن «المساحة القابلة للإخلاء مفاهيميًّا» مصحوب بنزعة انتقامية.
مُنِح القَيِّم على الأملاك سلطاتٍ كاسحةً لطرد المواطنين من الأرض، ليس لطرد المحتلين الخارجين عن القانون فقط، بل أيضًا لطرد المُلاك المتمتعين بالحماية؛ حيث يُقرِّر القَيِّم على الأملاك أن إخلاء الأرض مطلوبٌ ﻟ «أغراض تنمية المكان أو المنطقة الموجودة فيه». في عام ١٩٥٣، قام القَيِّم على الأملاك بنقل كلِّ الأملاك القابلة للنقل التي تحت سلطته إلى سلطة التنمية، وكانت سلطة التنمية بدورها مخوَّلةً بحكم هيئتها التشريعية التأسيسية بنقل الأملاك التي في حوزتها إلى الدولة، أو إلى وكالات تقوم بتوطين اللاجئين الداخليين العرب، أو إلى سلطةٍ محلية، على شرط أن يُمنح الصندوق القومي اليهودي خيارًا أول لشراء الأرض. خلال خمسينيات القرن العشرين وستينياته، كان يتم إرسال مفتشين تابعين للحكومة الإسرائيلية إلى القُرَى والبلدات الفلسطينية للمطالبة بأراضي أولئك الذين كان يمكن تصنيفهم كغائبين نيابةً عن القَيِّم. ولم يقتصر التأثير على القرى التي أُخلِيت خلال الحرب فحسب، بل أكَّدَ القَيِّم على الأملاك أيضًا حقوقَه على مساحاتٍ كبيرةٍ من الأرض داخل المجتمعات العربية التي نجت من الحرب، واضعًا نفسه موضع اللاجئين، ومؤكدًا حقوقهم في الأملاك سواءٌ كمُلاك فرديين أم جماعيين لقطعة أرضٍ بعينها. (حسين وماكاي ٢٠٠٣، ٧٠–٧٣)
كان نقل ملكية الأراضي إلى إسرائيل يتم بأساليبَ مخالفةٍ للقانون أيضًا؛ ففيما بين عامَيْ ١٩٤٩ و١٩٥٩، كان العرب — أفرادًا، وقُرًى، وقبائل — يُجبَرون على ترك أراضيهم، وطُرِد البعض إلى مناطقَ أخرى داخل إسرائيل، وآخَرون إلى أماكن تقع وراء خطوط الهدنة. كان عدد سكان بلدة مجدل يبلغ ٩٩١٠ في عام ١٩٤٤، بينما لم يَبْقَ من السكان بعد الحرب سوى نحو ٢٥٠٠ شخص. وفي أغسطس ١٩٥٠ كان جميع سكان البلدة تقريبًا قد نُقِلوا إلى قطاع غزة. (١٩٨٣، ١٣٩-١٤٠)
لم تكن أنظمة أملاك الغائبين هي القوانينَ الرسميةَ الوحيدةَ التي استهدفت (وبرَّرت) إعادة الأقلمة الجذرية للحياة في إسرائيل/فلسطين؛ فقد كانت توجد أدوات أخرى مهمة شملت أنظمة الطوارئ التي تم تفعيلها في البداية خلال فترة الانتداب. وهكذا، «بموجب اللائحة ١٢٥، كان الحاكم العسكري مخوَّلًا بإعلان «المناطق المغلقة» التي لم يكن يمكن لأحدٍ دخولها أو مغادرتها دون إذْنٍ كتابي. كانت المناطق التي يعيش فيها الفلسطينيون مقسَّمةً إلى جيوبٍ صغيرة، وأُعلِن كلٌّ منها منطقةً مغلقة؛ حيث كانت التحركات بداخلها وإلى خارجها مقيدةً على نحوٍ بالغ» (حسين وماكاي ٢٠٠٣، ٨٠). كذلك، «خوَّلَتْ لوائح الطوارئ (المناطق الأمنية) لعام ١٩٤٩ وزيرَ الدفاع سلطةَ إعلانِ المناطق المتاخمة للحدود الإسرائيلية منطقةً أمنية، وإصدار أمرٍ لأيِّ أشخاصٍ بمغادرة مثل هذه المناطق. واستُخدِمت هذه السلطة لطرد الفلسطينيين من قريتَيْ إقرت وبرعم بالقرب من الحدود اللبنانية» (٢٠٠٣، ٨٣). كذلك أعلنت الدولة مناطق الأراضي المملوكة للفلسطينيين «مناطق عسكرية» أو أرض مصادرةٍ بموجب مرسوم الأغراض العامة، حيث كلمة «عامة» تعني يهودية على نحوٍ شبه دائم. ثَمَّةَ جزء آخر من الآلة القانونية لنزع الملكية هو قانون العقارات لعام ١٩٦٩، الذي ألغى رسميًّا تصنيفات الأراضي التي صدرت في العهد العثماني في كلٍّ من أرض إسرائيل والأراضي المحتلة. «كانت الأرض «المتروكة» تُسجَّل لدى سلطة الدولة أو السلطة المحلية، والأرض «الموات» لدى الدولة، والأرض خارج إطار الملكية الفردية كان يعاد تصنيفها إما كعقارٍ عامٍّ وإما كعقارٍ مخصص (للمنفعة العامة)، مثل الشريط الساحلي، وشبكات الطرق» (هوم ٢٠٠٣، ٢٩٧).
إن الحرب التي خسرها الفلسطينيون أمام إسرائيل في عام ١٩٤٨ محَتْ عمليًّا حواضرها القديمة بوصفها بؤرًا للانتماء والهوية؛ فقد تقلصت المراكز الفلسطينية مثل يافا والرملة وليد وبئر السبع ومناطقها الداخلية، أو اختفت تحت المعاقل الإسرائيلية اليهودية السريعة الامتداد، التي صار يسكنها مهاجرون يهود وصلوا حديثًا من الخارج. ولم يتبقَّ للفلسطينيين عمومًا سوى قرًى معزولةٍ ومفتتة. وشهدت فترة خمسينيات القرن العشرين فقدان الكثير من تلك القرى لأجزاءٍ كبيرةٍ من الأراضي والمراعي المزروعة لصالح الدولة اليهودية، عن طريق المصادرة على نحوٍ أساسي. (٢٠٠١، ٦٦)
ويُردف: «إن مواطني إسرائيل الفلسطينيي الأصل لديهم ادِّعاءات واضحة بامتلاكهم حقوقًا، بما في ذلك الحق في الأرض، ومع ذلك دائمًا ما يُستبعَدون من معظم العمليات السياسية التي تُحدِّد استخدام الأرض والتنمية والرفاهية في وطنهم» (ص٦٦). علاوةً على ذلك، «أدَّت الفجوة المكانية التي نتجت إلى تدمير إحساس الفلسطينيين بالزمن الجماعي، وقدرتهم على تشكيل هُوِيَّةٍ متماسكة» (ص٦٦-٦٧). ويُشير رابينوفيتش إلى أن إعادة أقلمة الحيز الاجتماعي قد جلبت نوعًا من تقسيم الوعي والهوية الجماعيَّيْن، ولكن النتيجة الرئيسية لهذا هي خلق إحساسٍ ﺑ «الاختناق» (ص٦٧). «يستطيع الفلسطينيون في شمال إسرائيل الاستقرارَ والتنقُّلَ فقط داخل مثلثٍ صغيرٍ يضمُّ أجزاءً من عكا والناصرية وحيفا؛ أما بقية البلاد، فبينما يتاح دخولها شكليًّا للجميع، فإنها فعليًّا محظورة عليهم» (ص٦٧).
يبدو مواطنو إسرائيل الفلسطينيون عنصرًا غامضًا وإشكاليًّا لم يتحدَّد وضْعُه على الساحة القومية، وولاؤه للأمة الفلسطينية محل شك؛ ففي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، على سبيل المثال، كان مواطنو إسرائيل من الفلسطينيين يُعامَلون من قِبَل القيادة الفلسطينية المنفية باعتبارهم كيانًا جماعيًّا انتهازيًّا فاسدًا، يتعاون مع الاحتلال الصهيوني الذي انتزع وطنهم. ومن المحتمل أن تظل الأقلية المحاصَرة غيرَ مندمجة؛ فنظرًا لتمزُّقهم بين دولتهم الأم ودولتهم المضيفة، يواجه أفراد أي أقليةٍ محاصرةٍ صعوبةً في المشاركة في إنتاج واستهلاك اللغة، والمسرح، والموسيقى، والسينما، والإعلام، والفولكلور في الثقافة السائدة للدولة، خاصةً أينما يحتوي مثل هذا الإنتاج على محتوًى خالصٍ يتعلَّق بالهُوِيَّة القومية. (رابينوفيتش ٢٠٠١، ٧٤، ٧٦-٧٧)
على نحوٍ متصل، «ربما يُظهِر أعضاء الأقليات المحاصَرة انقساماتٍ داخليةً أيديولوجيةً وسياسيةً مزمنة، ويواجهون صعوباتٍ في تشكيل جبهةٍ موحدةٍ داخل وخارج الدولة على حدٍّ سواء» (ص٧٧). أيْ إن عمليات إعادة التشكيل الإقليمي يُنظَر إليها هنا بوصفها مثيرةً لانقساماتٍ وتبايناتٍ أيديولوجية، ولكن الأمر بالطبع لا يقتصر على مجرد أن الإسرائيليين من أصلٍ فلسطينيٍّ والفلسطينيين خارج «أرض إسرائيل» (خاصةً أولئك القاطنين في الأراضي المحتلة) يوجدون على الجوانب المختلفة لحدودٍ ما (وفي هذا المقام من المهم أن نُدرِك أن العائلات قد تنقسم، وأن أفراد العائلات المنقسمة إقليميًّا قد يعيشون على بُعْد بضعة أميالٍ أحدهم من الآخر)؛ فهم يحتلون مواقعَ مختلفةً داخل تمركزاتٍ للسلطة هي ذاتها خاضعة بقوةٍ للأقلمة، وإن كان ذلك على نحوٍ غير تام. والحصار ليس مكانيًّا فقط؛ فهو له أيضًا جوانب زمنية تتقاطع مع الإقليمية. ومن منظور الخطاب الصهيوني السائد، «كانت الأقلية العربية تُعَامَل كما لو كانت قد ظهرت من العدم؛ فتاريخُها قد بُتِر، واتصالها المكاني مع الفلسطينيين والعرب في الأقاليم المجاورة قد أُوقِف. لقد أصبحت محاصَرةً تمامًا ضمن الوجود الإسرائيلي» (رابينوفيتش ٢٠٠١، ٨٠). ولكن على الجانب الآخر، من داخل الخطاب نفسه، يمكن بسهولةٍ طمس الفروق والاختلافات التي قد يصنعها الإقليم؛ أيِ الفروق المحتملة بين مواطني الدولة الفلسطينيين والعدد الأكبر من أعداء الدولة من الفلسطينيين. «إن الأقلية المحاصَرة، بطبيعة الحال، ليس من السهل احتواؤها؛ فهي تمتد عبر الحدود متوغلةً داخل أقاليم أخرى، مجاورة أو بالخارج، لتصوغ معاهداتٍ مع الأعداء والغرباء. إن المجاز الذي يصور الغرباء على أنهم وكلاء للمرض — كيان أجنبي يغزو جسد الأمة، مهدِّدًا بتدميرها من الداخل — غالبًا ما يطفو على السطح في الخطاب البلاغي الذي يعكس أشد حالات الخوف والكراهية للأجانب من جانب الأغلبية. وهكذا يبدو كون جماعةٍ ما أقليةً محاصَرةً ليس مجرد أمرٍ معقدٍ ومُرْبكٍ، ولكنه قد يكون خطيرًا أيضًا» (ص٧٨-٧٩).
(٤) منظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية
إذا كان مواطنو إسرائيل من الفلسطينيين أقليةً محاصَرة، فإن الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة أغلبيةٌ محاصَرة. هم يتضاعفون داخل تلك المنطقة المحاصَرين فيها. في هذا القسم سوف أضع مخططًا أوليًّا للعناصر الأساسية لمنظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة على مستوًى من التفصيل أدق من ذلك المتاح من خلال تحليل الملكية والسيادة. وما هو متضمَّن هنا في الأساس هو شيء أشبه ﺑ «أقاليم النفس» التي ناقشناها في الفصل الثاني.
ونقطة البداية هي الحقيقة البسيطة الخاصة بالاحتلال في حد ذاته. تذكَّرْ أن الضفة الغربية وقطاع غزة لم يتم ضمُّهما من قِبل إسرائيل (باستثناء القدس الشرقية ومرتفعات الجولان)؛ فهما مُحتلَّتان، أيْ يسيطر عليهما الجيش والجهات الفاعلة الأخرى التابعة للدولة، بينما تظلان رسميًّا مستثناتَيْن من تلك الدولة وتقعان خارجها. وكما سنناقش لاحقًا بمزيدٍ من التفصيل، تتعرَّض الأراضي أيضًا للاحتلال على نحوٍ متزايدٍ من قِبل المدنيين الإسرائيليين في «مستوطنات» حصينة. إن الاحتلال، بالطبع، نوع من العلاقات الإقليمية؛ فالإقليم هو الحيز الذي يحدث بداخله الاحتلال، ولكن ليست الأقاليم فقط هي التي تُحتَل؛ فالأشخاص، والحياة، والزمن — الواقع الاجتماعي — جميعها تُحتَل؛ أيْ يسيطر عليها الآخرون لمصلحتهم الخاصة. ما من شيءٍ لا يُمَسُّ بعمليات الاحتلال وممارساته. والاحتلال لا يعني شيئًا دون النشر الروتيني للعنف والإذلال بغرض الحفاظ على السلطة؛ فالاحتلال يصبح ذا معنًى للمحتلين والمراقبين المعنيين من خلال خطابٍ «أمنيٍّ» مقترنٍ بالخطاب الصهيوني الخاص باسترداد السامرة ويهودا. فالأراضي المحتلة لا تُمثِّل دولة، وهي مساحات بلا سيادة، ورسميًّا الأشخاصُ الذين يعيشون في هذه المساحات، البالغ عددهم ٣٫٦ ملايين شخص، لا يُعَدُّون مواطنين، وليس لهم دولة لحمايتهم من عنف الآخرين. ورسميًّا، لهم حقوق إنسان بالطبع، ولكن هذه الحقوق أيضًا تُنتهَك على نحوٍ روتيني (منظمة العفو الدولية ٢٠٠٣). لذا تُعَدُّ الأراضي المحتلة، عمليًّا، مستعمراتٍ إسرائيلية. في هذا الجزء سوف أضع ببساطةٍ قائمةً ببعض المكونات الأساسية للمنظومة الإقليمية: الخط الأخضر، والمخيمات، ونقاط التفتيش، وعمليات الإغلاق وحظر التجوال، والمستوطنات، والسياسة الجغرافية للعمودية، والجدار العازل ومنطقة التماس.
(٤-١) الخط الأخضر
كان سكان الضفة الغربية يحملون بطاقة إثبات هُوِيَّتِهم في حافظاتٍ برتقالية اللون، وحمراء للغَزِّيين، وزرقاء للإسرائيليين. بالمثل، كانت السيارات تُميَّز بسهولةٍ من لوحات الترخيص ذات الشفرة اللونية؛ فكانت لوحات الإسرائيليين صفراء، ولوحات سكان الضفة الغربية زرقاء. كذلك كانت لوحات سكان الضفة الغربية الزرقاء تحوي حرفًا عبريًّا كان يحدد الدائرة التي جرى تسجيل السيارة فيها. (٢٠٠٢ب، ٢٠٦)
حتى عند فتح نقطة التفتيش، كانت مكانًا يبحث فيه جنودٌ مسلحون تسليحًا قويًّا عن أسبابٍ لفتح النيران، أو احتجاز الناس. وكان هذا وحده كفيلًا بجعل عبورها أمرًا خطيرًا؛ فقد كان من الممكن أن يكون عبورها أولَ خطوةٍ نحو الاحتجاز، الذي يمكن أن يتطوَّر إلى تجربةٍ مع الاعتقال والتعذيب بينما يكون الشخص رهنَ الاستجواب والتحقيق. وهذا التهديد المحتمل بالعنف الجسدي جعل العنف الرمزي أيضًا شائعًا للغاية؛ فغالبًا ما كان الفلسطينيون يواجهون الإذلال البسيط والمؤلم في الوقت نفسه عند خضوعهم للاستجواب أو التفتيش المهين من قِبَل أحد الجنود. حتى إذا لم يحدث أي شيءٍ من هذا، كان عبور الخط الأخضر بسلامٍ يُعَدُّ شكلًا من أشكال العنف الاقتصادي الذي كان من شأنه تقييد حقوق العمال والشركات الفلسطينية المحتملة. إن الحدود الجيوسياسية شكلٌ مهمٌّ من أشكال العنف الحاد الذي غالبًا ما يكون أساسًا لأشكالٍ تنظيميةٍ من العنف. (٢٠٠٢ب، ١٦)
هذه هي الإقليمية في شكلها العملي في حياة كلٍّ من المسيطَر عليهم والمسيطِرون.
إن الحد الذي يفصل قطاع غزة عن إسرائيل عبارة عن سياج مكهرب، وفي سبيل دخول إسرائيل من غزة ينبغي أن يَعْبُر الفلسطينيون خمسَ محطاتِ فحص. ووفقًا للصحافية الإسرائيلية والناشطة المناهضة للاحتلال أميرة هاس: «محطة الفحص الخامسة عبارة عن صفٍّ من تسع عشرة بوابة دوَّارة تُفتَح على ما يُسمَّى «مربع إسرائيل»؛ أي المنطقة الإسرائيلية. هنا تفرض شاشاتُ الكمبيوتر وأجهزةُ كشف المعادن والبواباتُ الإلكترونية أمنًا فعَّالًا لا هوادةَ فيه؛ فأيُّ شخصٍ أفلت حتى الآن لن يستطيع التحرُّك لأبعد من ذلك» (١٩٩٩، ٢٦٨). ولا يواجِه المستوطنون الإسرائيليون أيَّ عقباتٍ في المرور إلى غزة، ولما كان ذلك يعكس نوعًا من الوعي الإقليمي المعكوس، تكتب هاس قائلةً: «كانت كلمة «الداخل» مقلوبة؛ فقد كانت الأرض داخل حدود إسرائيل عام ١٩٦٧، بما فيها كل المدن والقرى الفلسطينية، يُشار إليها ﺑ «الداخل»، جزئيًّا كوسيلةٍ لتجنُّب النطق باسم إسرائيل، ولكن أيضًا بسبب الحقيقة الجيوسياسية التي مفادها أنه حتى عام ١٩٦٧ كان جميع اللاجئين من داخل الحدود يعيشون خارجَها. ففي شريطٍ أرضيٍّ مساحته ١٤٧ ميلًا مربعًا لا مخرجَ له، أصبحت كلمة «الداخل» مرادفةً للمساحات المفتوحة على مصراعيها» (١٩٩٩، ١٧٠).
(٤-٢) المخيمات
يوجد ثمانية مخيماتٍ في قطاع غزة، ويُقِيم فيها نحو ٣٣٩ ألف نسمة، يُشكِّلون ٥٥٪ من اللاجئين. أما بقيةُ اللاجئين، ويبلغ عددهم نحو ٣٢٠ ألف نسمة، فقد انتشروا عبر أحياء غزة السكنية القديمة والحديثة؛ ففي مخيم الشاطئ الذي يقع على مشارف مدينة غزة، يعيش ٦٦ ألف نسمة على ١٨٦ فدانًا. أما مخيم البريج، الواقع في وسط القطاع، فقد كان معسكرًا للجيش البريطاني. وفي عام ١٩٤٨، تم إيواء نحو ١٣ ألف لاجئٍ ممَّن تجمَّعوا هناك في سقيفاتٍ قديمةٍ تابعةٍ للجيش، بينما عاش الباقون في خيامٍ بالقرب من المخيم على إجمالي مساحة ١٣٢ فدانًا، وقد تضخَّم هذا العدد اليومَ ليصل إلى ٢٧ ألفًا. (هاس ١٩٩٩، ١٧١)
كلما توجَّهْتُ إلى السوق بصحبة والدتي، تُشير لي إلى الحد الفاصل بين المخيم والمدينة؛ فنحن المُهجَّرون نخرج للتظاهُر ضد الجنود، ولكن أبناء «المواطنين» لم يكونوا لينضموا إلينا. وحين كنَّا نُهرَع إلى بساتين البرتقال للهروب من الجنود، كان «المواطنون» يطاردوننا لأنهم كانوا خائفين، وبدأتُ في الاعتقاد بأن أبناء المدينة كانوا على علاقاتٍ طيبةٍ مع الاحتلال. (هاس ١٩٩٩، ١٧٦)
الصِّبْيَة القادمين من المخيمات كانوا يُنظَر إليهم بعين الشك حين يكونون في القرية؛ فلم يكونوا يُحيَّوْن، كما في القرى الأخرى، بعبارات الترحيب اللطيفة. كانت توجد بعض علاقات الصداقة، ولكنها بَدَتْ نادرةً، وكان طلابُ المدارس الثانوية القادمون من القرى يُضطرون للسَّيْر كيلومترًا إضافيًّا للوصول إلى المدرسة في البلدة الرئيسية نظرًا لأنهم كانوا يلتفون حول المخيم بدلًا من السير عبره. (٢٠٠٢ب، ٢٠)
تتضح أقلمة الوعي أيضًا بين فلسطينيي الشتات؛ فيزعم بيريتز، الذي يكتب تحديدًا عن اللاجئين في الدول العربية الأخرى، أن «اختلافًا كبيرًا في وجهة النظر بين الفلسطينيين في المخيمات وأولئك الذين خارجَها هو السبب الذي جعل سكان المخيمات يتوارَوْن في الوعي الفلسطيني. وعلى الرغم من أن الأطفال — وآباءهم في كثيرٍ من الأحيان — لم يرَوْا فلسطين قطُّ، فهم يعتقدون أن فلسطين هي وطنهم» (١٩٩٣، ٢٧). وبوصفها أقاليمَ احتواءٍ، يمكن إغلاق المخيمات بحسب مشيئة السلطات الإسرائيلية، ويدخل الجيشُ المخيماتِ على نحوٍ روتينيٍّ بحثًا عن المجاهِدين.
(٤-٣) نقاط التفتيش
سواءٌ في مخيماتٍ رسميةٍ أم لا، تمارِس منظومةٌ إقليميةٌ متغلغلةٌ للسيطرة عملَها عبر أرجاء الأراضي المحتلة. لقد أسفرَتِ اتفاقية أوسلو، كما أشرنا، عن «مجموعةٍ مركبةٍ من الأقاليم ذات وضعٍ متباين («أ» و«ب»، و«ج») اعتمادًا على طبيعة السيطرة الأمنية عليها. ومعظمُ السكان الذين يعيشون في جزيرتَيْ «أ» و«ب» المفترقتين، اللتين تفصل بينهما أراضي المنطقة «ج» الشاسعة، ومئاتُ القرى وستُّ بلدات؛ قد تصاب بالشلل بفعل الحواجز والخنادق الموضوعة بطريقةٍ استراتيجيةٍ والدبابات والرماة التابعين للجيش الإسرائيلي؛ مما يؤدي إلى تدمير اقتصادٍ كاملٍ وتعطيل الحياة الاجتماعية برمتها» (هاس ٢٠٠٢، ٩). وقد تم تفعيل «مصفوفة سيطرة» ضخمة عبر أنحاء الضفة الغربية وغزة (هالبر ٢٠٠٢)، تتألف من نقاط تفتيشٍ وتصاريحَ وممراتٍ وعمليات إغلاقٍ وحظر تجوال، شَلَّتْ حركةَ الشعب الفلسطيني بأكمله فعليًّا لأيامٍ أو حتى أسابيع.
وتشير منظمة العفو الدولية إلى أنه في أغسطس ٢٠٠٣ كان يوجد ما يزيد على ٣٠٠ نقطة تفتيش وحاجز طريق إسرائيلي في الأراضي المحتلة.
عند نقاط التفتيش، غالبًا ما يقوم الجنود بتفتيش السيارات أو المارة ببطء، وأحيانًا ما يُوقِفون حركةَ المرور ويرفضون فحْصَ بطاقة هُوِيَّةٍ دون شرحٍ وتوضيح. وبين حينٍ وآخر، كانت الحشود تتزايد عند نقاط التفتيش، ويُطلِق الجنود النيران في الهواء أو يُلقُون قنابلَ صوتٍ أو غازٍ مُسيلٍ للدموع لتفريقهم. وكثيرًا ما تسير عمليات الإغلاق الداخلي على نحوٍ تعسُّفي. وحقيقة أن الجنود يحظَوْن بحريةٍ فرديةٍ واسعةٍ في السماح بحركة الفلسطينيين أو منعها؛ تُقوِّض ادِّعاء السلطات الإسرائيلية بأن الإغلاق الداخلي هو نظام رشيد قائم على احتياجاتٍ أمنيةٍ صارمة. (منظمة العفو الدولية ٢٠٠٣، ١٩)
تم تناول النتائج التجريبية لأولئك القابعين على الطرف المتلقِّي لهذه العمليات الإقليمية تفصيليًّا أيضًا في تقرير منظمة العفو الدولية. «تؤدِّي الأنشطة العادية، مثل الذهاب إلى العمل أو المدرسة، أو اصطحاب طفلٍ رضيعٍ للحصول على اللقاحات، أو حضور جنازةٍ أو حفل زفاف، إلى تعريض النساء والرجال، والكبار والصغار، لمخاطرَ من هذه النوعية؛ ومن ثَمَّ يحدُّ العديد من الناس من أنشطتهم خارج المنزل لتقتصر على الضروري منها قطعًا» (٢٠٠٣، ٤).
ويتم التعبير عن الإقليمية الجزئية للسلطة من خلال منظومةٍ معقدةٍ من التراخيص وتصاريح الدخول. وقد ذُكِرت هذه المنظومة بالفعل فيما يتعلق بالخط الأخضر، ولكنها أكثر تغلغلًا بكثير.
لقد حوَّلَتْ منظومةُ الدخول حقًّا الحقوقَ الأساسيةَ العالميةَ إلى امتيازٍ مطلوب — أو جزء من امتياز — مخصَّص لأقليةٍ على أساس كل حالةٍ على حدة. فلم يكن الامتياز كاملًا؛ إذ كان له تدرُّجات؛ فكان بعض تصاريحِ الدخول يسمح بإقامةٍ لمدة ليلةٍ واحدةٍ في إسرائيل، والبعض الآخر يشترط العودةَ بحلول الظلام، والبعض منها كان لمدة شهرٍ كامل. واليد التي تمنح هي اليد التي تأخذ أيضًا؛ ففي بعض الشهور قد يُمنَح ما يقرب من ١٠٠٠ رجل أعمالٍ تصاريحَ دخول، وفي شهورٍ أخرى ٣٠٠ فقط؛ وأحيانًا تكون تصاريح الدخول للغَزِّيين إلى إسرائيل والضفة الغربية، وأحيانًا إلى الضفة الغربية فقط. وهكذا كان مجتمعٌ بأكمله مقسمًا ومجزَّأً على أساس ما إذا كان لدى الشخص حقُّ الحصول على «امتياز» حرية الحركة أم لا، وبأي قدرٍ يُسمَح له بذلك. (هاس ٢٠٠٢، ٨)
وقد أدلى أحد المحامين الحقوقيين بشهادته لمنظمة العفو الدولية بشأن تجربة منظومة الترخيص وتصريح الدخول: «في كل مرةٍ أقود السيارة على هذه الطرق وأرى دبابةً من بعيد، أتساءل عما إذا كنتُ سأنجح في العودة إلى المنزل لأرى أطفالي مجددًا أم لا. إن لديَّ تصريحًا، لمدة شهر، ولكن إذا صوَّبَ الجنود نيرانهم نحوي وقُتِلت، فلن يُحقِّق التصريحُ أيَّ نفعٍ لي أو لعائلتي» (منظمة العفو الدولية ٢٠٠٣، ١٧).
تصف هاس هذه الأقلمة المفرطة بأنها تؤدي إلى «سرقة الزمن»؛ إذ إن الشعب الفلسطيني «وجد أنه لم يَعُدْ يستطيع وضْعَ أي خطط؛ فقد كان من المستحيل معرفة ما إذا كان الشخص سيستطيع الحصول على التصريح اللازم حتى اللحظة الأخيرة. وبينما لم يكن لديهم القدرة على التخطيط للمستقبل، فقد فقدوا أيضًا القدرة على التصرُّف بعفوية؛ والعفويةُ حقٌّ من حقوق الإنسان لا يقل عن حق التنقُّل أو الغذاء» (٢٠٠٢، ١٠). وتُشير إلى أن هذه الأبعاد التجريبية للمنظومة هي عاقبة مقصودة، وتتحدَّث عن «الحاجة إلى التوسُّل، والاستجداء، واحتمال رفض الطلب، والغضب، والرحلات المتكررة إلى مكتب الاتصال، وزيارة أحد الضباط الإسرائيليين الذي يقترح أنه: «إذا ساعدْتَنا، فسوف نساعدك.» بمعنى: «كن متعاونًا، وستحصل على تصريحك»» (ص١١).
(٤-٤) عمليات الإغلاق وحظر التجوال
أول إغلاقٍ داخليٍّ شامل، في مارس ١٩٩٦، استمرَّ لمدة ٢١ يومًا. وفي عام ١٩٩٧ فُرض إغلاق داخلي بإجمالي ٢٧ يومًا على جميع أنحاء الضفة الغربية أو جزء منها؛ وفي عام ١٩٩٨ كان الإجمالي ٤٠ يومًا. وتُبيِّن عملياتُ الإغلاق الداخلية كيف أن إسرائيل استطاعت إيقاف حياة الفلسطينيين وتركيع الاقتصاد الفلسطيني، من خلال سيطرتها على المناطق والطرق الرئيسية المحيطة بالجيوب الفلسطينية المفترض أنها مستقلة. (٢٠٠٣، ١٤)
وتقول هاس إن «الإغلاق لم يَعُدِ الإجراءَ البيروقراطيَّ المجردَ لطلب تصريحٍ ورفضه؛ لقد أصبح الإغلاق جزءًا من الطبوغرافيا الطبيعية والبشرية الفلسطينية» (٢٠٠٢، ١٢). ومن نتائج الإغلاق أيضًا تفتُّت الضفة الغربية وغزة وفصل إحداهما عن الأخرى، وكما قال أحد الفلسطينيين: «نحن مثل طيورٍ في قفص» (مقتبس في سميث ٢٠٠١).
ثَمَّةَ آلية ذات صلةٍ لأقلمة الحياة اليومية تتمثَّل في فرض حظر التجوال الذي يُقيِّد مساحةَ التحرُّك بحدود منزل الفرد. مرةً أخرى، ومن واقع تقرير منظمة العفو الدولية: «أُغلِق بعض القرى تمامًا ووُضِعت مناطق حضرية رهنَ حظرِ التجوال على نحوٍ متكررٍ على مدى ٢٤ ساعة، لا يُسمَح خلاله لأحدٍ بمبارحة المنزل لفتراتٍ طويلةٍ في الغالب» (٢٠٠٣، ٣). وتفيد المنظمة بأنه خلال شهرَيْ مارس وأبريل من عام ٢٠٠٢، «ظلت بيت لحم تحت حظر التجوال لمدة ٤٠ يومًا متتالية» (ص٢٠)، وأنه «في يوم ٩ يوليو ٢٠٠٢ كان نصف سكان الضفة الغربية تقريبًا، الذين يُشكِّلون نحو ٩٠٠ ألف من ٢٫٢ مليون فلسطيني، تحت حظر التجوال في ٧١ موضعًا مختلفًا» (ص٢١)، وعقوباتُ كسْرِ حظر التجوال — أيْ مغادرة المنزل — بالغةٌ وتشمل احتمالية القتل الواقعية للغاية. وثَمَّةَ قرًى بأكملها، مثل قرية المواصي في غزة، «أُعلِنت مناطقَ عسكريةً مغلقة؛ فيُسمح للسكان بدخولِ هذه المناطق ومغادرتِها سيرًا على الأقدام فقط، وبين فتراتٍ زمنيةٍ محددةٍ فقط، ولكن في بعض الأوقات يقوم الجيش بمنع جميع السكان من مغادرة المناطق أو العودة إليها لأيامٍ في المرة الواحدة. وعادةً ما يُطبَّق حظرُ تجوالٍ من حلول الليل حتى الفجر» (ص٢٣).
(٤-٥) المستوطنات والطرق الفرعية
ولكنَّ ثَمَّةَ عنصرًا بالغَ الأهمية في منظومة السيطرة الإقليمية في الأراضي المحتلة، هو مجموعة «المستوطنات» اليهودية الخالصة التي أُقِيمت في الضفة الغربية وغزة (وكذا في مرتفعات الجولان) منذ عام ١٩٦٧. ويؤكد ديفيد نيومان أن «المستوطنات قد لعبت، ولا تزال تلعب، دورًا جوهريًّا في تعيين الحدود بين الأراضي الإسرائيلية والفلسطينية المنفصلة، بصرف النظر عمَّا إذا كانت قد بُنِيت على أساسٍ قانوني أم لا» (٢٠٠٢، ٦٣٥). وتملك إسرائيل أكثر من نصف الضفة الغربية، وقد تدخلت الشرطة الإسرائيلية، خاصةً منذ عام ١٩٧٧ وعلى نحوٍ متسارعٍ خلال تسعينيات القرن العشرين، في الاستعمار المدني للأراضي المحتلة من خلال بناء جيوب ﻟ «المستوطنين» الإسرائيليين. في عام ١٩٧٧، كان ٥٠٠٠ إسرائيلي يعيشون في مستوطنات في الضفة الغربية، وبحلول عام ٢٠٠١ كان أكثر من ٢٠٠ ألف إسرائيلي يعيشون في ١٣٧ مستوطنة في الضفة الغربية وسبع مستوطنات في قطاع غزة. وكان العديد من هذه المستوطنات يقام من قِبل أصوليين دينيين مدفوعين بأيديولوجية «استرداد» يهودا والسامرة (وهي أسماء إنجيلية للضفة الغربية) (نيومان ١٩٨٥)؛ والبعضُ منها عبارة عن فيلات من غرفة نوم واحدة للمرتحلين يوميًّا للإسرائيليين الذين يعملون في القدس أو تل أبيب؛ والبعض منها، مثل معاليه أدوميم، عبارة عن مدنٍ حضريةٍ في حد ذاتها.
بينما يتوخى الإسرائيليون الحذرَ في استخدام المصطلح، فإن إقامة مستوطناتٍ مدنيةٍ على هذا النحو يُعَدُّ جزءًا من عملية استعمار المشهد التي يتم من خلالها إخضاع الأقاليم لسيطرةٍ طويلة المدى من قِبل السلطة المهيمنة و/أو أولئك الذين يتطلَّعون إلى إقامة دولةٍ وهيمنةٍ في المستقبل. ويتحقق هذا بزرع سكانٍ مدنيين من المتوقَّع أن يستقروا وأن ينموَ لديهم إحساسٌ بالارتباط بالأرض محل الجدل. والأجيال المستقبلية التي تُولَد داخلَ هذه المجتمعات سوف تدرك هذه الأرض بوصفها «موطنهم الطبيعي» (٢٠٠٢، ٦٣٦).
يخضع أي مواطنٍ إسرائيلي، وأي يهوديٍّ في الواقع في الأراضي المحتلة، أينما قد يكون، لسلطة القانون المدني الإسرائيلي، وليس لسلطة القانون العسكري المطبَّق على هذه الأقاليم؛ فينتخب المستوطنون مجلسَهم المحلي أو الإقليمي، ويشاركون في انتخابات الكنيست، ويدفعون الضرائب، والتأمين القومي، والتأمين الصحي، ويتمتعون بجميع الحقوق الاجتماعية التي تمنحها إسرائيل لمواطنيها. (٢٠٠٢، ٥٢)
تضم مناطقُ الاختصاص والولاية للمجالس الإقليمية مساحاتٍ شاغرةً ضخمةً (نحو خمسة وثلاثين بالمائة من مساحة الضفة الغربية) لا تتصل بالمنطقة الخاصة بأي مستوطنةٍ بعينها. وتُشكِّل هذه المناطق احتياطيات الأرض للتوسُّع المستقبلي للمستوطنات، أو لإقامة مناطق صناعية. ويُعرَف الكثير من المناطق الكائنة داخل مناطق الاختصاص التابعة للمجالس الإقليمية في الضفة الغربية بأنه «مناطق إطلاق نار»، وتُستخدم من قِبل جيش الدفاع الإسرائيلي للتدريبات العسكرية. ثَمَّةَ مناطق أخرى تُعرَف الآن بوصفها «محميات طبيعية»؛ حيث يُمنع أي شكلٍ من أشكال التنمية. (٢٠٠٢، ٧٠)
قد يحيط الحيز الاستيطاني فعليًّا ببلداتٍ فلسطينية، لدرجة أن التوسُّع قد يكون محظورًا فعليًّا؛ وهذا من شأنه أن يفاقم الازدحام الشديد بقوة. فتفيد منظمة بتسِلِم، على سبيل المثال، بأن: «المنطقة الحضرية من مدينة نابلس، التي تضم ثمانيَ قرًى ومُخيَّمَيْن للاجِئِين متاخمَيْن تمامًا للمدينة المحاطة من جميع الجهات تقريبًا بمستوطناتٍ تُعيق تنميتها وتطويرها» (٢٠٠٢، ٩٥). قد تكون حدودُ كلِّ مستوطنةٍ مرسومةً بحيث تُشكِّل «كتلةً» متاخمة (ص٩٦). كذلك قد تكون الأرض الفلسطينية «محصورة» داخل المستوطنات. «البناء على هذه الجزر غير مصرَّح به؛ فهي قانونيًّا لا تزال تخصُّ المالك الفلسطيني، الذي ليس له — على الرغم من ذلك — حرية الدخول إليها في أغلب الأحيان» (وايزمان ٢٠٠٢).
(٤-٦) السياسة الجغرافية للعمودية
يُشيَّد شكلُ المستوطنات الجبلية وفقًا لنظامٍ هندسيٍّ يُوحِّد تأثيرَ المشهد مع النظام المكاني؛ ما يُسفِر عن «حصون شاملة الرؤية»؛ ما يولِّد بدوره إطلالاتٍ تؤدي إلى أهدافٍ عديدةٍ مختلفة: السيطرة (في الإطلال على القرى والبلدات العربية)، والاستراتيجية (في الإطلال على العديد من الطرق المرورية الرئيسية)، والدفاع عن النفس (في الإطلال على البيئة المباشِرة وطرق الولوج لمختلِف الجهات). يمكن رؤية المستوطنات كأدواتٍ بصريةٍ حضريةٍ للمراقبة وممارسة السلطة. (٢٠٠٢)
توجيه غرف النوم جهة المنشآت العامة الداخلية، وتوجيه غرف المعيشة نحو المشهد البعيد؛ فالإطلالة الموجهة إلى الداخل تحمي عورات المستوطنات، أما الإطلالة الموجهة إلى الخارج فتعرض المنظر بالأسفل. لقد أمْلَت الرؤية نظام التصميم وأسلوبه على كل مستوًى، وصولًا حتى إلى الوضع الصحيح للنوافذ. (٢٠٠٢)
وأخيرًا تدمج أجساد المستوطنين أنفسهم داخل منظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية. «سواءٌ عن معرفةٍ سابقةٍ أم لا، فإن أعيُن المستوطنين، التي تبحث عن مشهدٍ مختلِفٍ تمامًا «تُختطف» لأهدافٍ استراتيجيةٍ وجيوسياسية» للدولة الإسرائيلية (٢٠٠٢). وهذا التكوين الإقليمي المفصَّل والمعقَّد على نحوٍ مذهلٍ يتجاوز حدود نموذج التصنيف والتواصل وفرض السيطرة؛ فالتجمع الاستيطاني يُشكِّل ما سمَّاه وايزمان سياسة العمودية.
تسعى الطرق الفرعية إلى فصل شبكات المرور الإسرائيلية عن الشبكات الفلسطينية، ويُفضَّل أن يتم ذلك دون السماح لها بالتقاطع معًا أبدًا. وهي تؤكد على تشابُك الجغرافيتين المنفصلتين اللتين تسكنان المشهد نفسه. وفي النقاط التي تتقاطع فيها الشبكتان، يُقام فصلٌ بديلٌ مؤقت. وفي أغلب الأحيان، تُحفَر طرق ترابية صغيرة للسماح للفلسطينيين بالمرور أسفل الطرق السريعة الواسعة التي تندفع عليها الشاحنات والمركبات العسكرية الإسرائيلية بين المستوطنات. يكتب ميرون بنفينستي قائلًا: «والواقع أن الشخص الذي يتنقَّل على أكبر جسرٍ في البلاد، ويخترق الأرض في أكبر نفقٍ، قد تجاهَلَ حقيقةَ أن ثَمَّةَ بلدةً فلسطينيةً كاملةً توجد فوق رأسه، وأنه وهو في طريقه لا يُصادف أي عربي، عدا بعض السائقين الذين يتجرَّءون ويسيرون على الطريق اليهودي». (٢٠٠٢)
والواقع أن بنفينستي، وهو نائب سابق لعمدة القدس، قد وصف التكوين الإقليمي الناشئ كعملية تصادم ﻟ «حيز ثلاثي الأبعاد في ستة أبعاد؛ ثلاثة يهودية وثلاثة عربية.» وتمتد السياسة الجغرافية للعمودية إلى المجال الجوي وإلى الحيز تحت السطح؛ فإسرائيل تسيطر على المجال الجوي فوق الضفة الغربية، وتستغل هيمنتها على المجال الجوي والطيف الكهرومغناطيسي من أجل إنزال شبكةٍ من الرقابة وتحديد حالات الإعدام التي تحدث على أرض الإقليم.
يمارس جيش الدفاع الإسرائيلي حاليًّا سيطرةً كاملةً على المجال الجوي للضفة الغربية. في معاهدة كامب ديفيد، وافقت إسرائيل على مفهوم دولةٍ فلسطينية، إلا أنها طالَبَتْ بالسيادة على المجال الجوي فوقَها في سياق التوصُّل إلى حلٍّ نهائي. وفي أثناء مفاوضات أوسلو وكامب ديفيد أصرت إسرائيل على السيطرة على الموارد الباطنية في سياق أي حلٍّ دائم. ولأول مرةٍ يَرِد ذِكْر شكلٍ جديدٍ من السيادة الباطنية، التي تُفتِّت أساسيات السيادة القومية، في اتفاقية أوسلو المؤقتة. (وايزمان ٢٠٠٢)
(٤-٧) منطقة التَّمَاس والجدار
عن إخوانهم الفلسطينيين في الضفة الغربية، ومن أجل الذهاب إلى جنين لشراء أو بيع شيءٍ ما، سوف يُضطرون لاجتياز معبرٍ حدودي، ليس واضحًا متى وأين سيكون. وليس واضحًا أيضًا كيف سيحصلون على الخدمات الأساسية مثل المدارس أو الخدمات الصحية من السلطة الفلسطينية، التي ستكون على الجانب الآخر من الجدار. وبينما لن يكون هناك جدار بينهم وبين إسرائيل، فإنهم سيُنظَر إليهم في إسرائيل باعتبارهم مقيمين غير شرعيين، ولا توجد نية لضمهم أو تحويلهم إلى مواطنين إسرائيليين. (رابابورت ٢٠٠٣)
جميع الفلسطينيين فوق سن العشرين الذين يعيشون في منطقة التَّمَاس، سوف يتعيَّن عليهم الحصول على «تصريح إقامة دائم» من الإدارة المدنية لتمكينهم من مواصلة العيش في ديارهم. والفلسطينيون الذين سيُقابَل طلبُهم بالرفض قد يناقِشون قضيتهم أمام لجنةٍ عسكرية؛ فإذا رفضت اللجنة الاستئناف، فلا بد أن يغادروا بيوتهم. سوف يكون على الفلسطينيين الذين يملكون أراضيَ زراعيةً في منطقة التَّماس تقديم «وثائق تُشير إلى حق المدَّعِين في الأرض»؛ وسيكون على المعلمين في القرى الواقعة في منطقة التماس تقديم شهادات تُثبت أنهم معلمون معتمدون. ولا بد أن تشير التصاريح إلى بوابةٍ معينةٍ لا بد أن يَعبُر منها حامل التصريح، والأوقات من اليوم التي يُسمَح خلالها لحامل التصريح بالمرور. أما المبيت في منطقة التَّماس، وإدخال مركبةٍ إلى المنطقة، ونقل بضائع إلى داخل المنطقة، فيستلزم تصاريح منفصلة. (بتسِلِم ٢٠٠٣ب)
وكما كتب ميرون رابابورت: «الشيء الوحيد الذي تبقَّى للفلسطينيين هو العيش في حظائر ضخمة، والعمل في المناطق الصناعية التي سيجري بناؤها بلا شكٍّ في المستوطنات، بالقرب من الفتحات المؤدية إلى الحظائر» (٢٠٠٣).
(٥) ملاحظات ختامية
لقد تتبَّعَ هذا الفصلُ تطوُّرَ بعضٍ من المكونات الأساسية لواحدةٍ من أكثر منظومات السيطرة التي تتخذ طابعًا إقليميًّا مُركزًا وُضع على الإطلاق، وكان هدفه هو تقديمَ مثالٍ توضيحيٍّ مفصلٍ للعديد من الموضوعات التي جرت مناقشتها في الفصول السابقة. وفي سياق تكوين منظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية، وإعادة تكوينها، وتشغيلها؛ يمكن رؤية الدور الجوهري للعديد من الأيديولوجيات والأساليب الخطابية (السيادة، القوميات، الملكية، الاستعمارية، الأصوليات الدينية، حقوق الإنسان)، والتفاعل بين الهياكل الإقليمية والمسارات المتعددة للتحرك والتنقل (الهجرة، الإجلاء، الطرد، الغزو، الاحتلال)، ومجموعة من الممارسات المتباينة (عمليات شراء الأراضي، الدبلوماسية، الحرب، التفسير القانوني، العنف المخالف للقانون)، والتركيب والتفكيك الانسيابي للمستويات «العمودية» للتحليل والتجربة (المادي، المحلي، القومي، الإقليمي، الدولي). وقد اعتمدتُ في تقديم هذا المخطط التمهيدي على ملاحظات الباحثين من عددٍ من التخصُّصات والنشطاء، وحريٌّ بنا هنا أن نتذكَّر كلمات ديفيد نيومان التي بدأ بها هذا الفصل: إن دراسة وبحث التحليل الإقليمي لمصطلح «فلسطرائيل» «يُبيِّنان مدى أهمية بقايا البُعْد الإقليمي لفهم التنظيم السياسي للمكان، حتى في هذا العالم «الخالي من الحدود والأقلمة» وفي أصغر الأقاليم» (٢٠٠٢، ٦٣٢).
إن هذا العرض بلا شكٍّ «أحادي الجانب»؛ إذ إن تركيزه ينصبُّ على بناء وتشغيل منظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية وتأثيرها على الشعب الفلسطيني. ويُعَدُّ هذا على الأخص نتاجًا للتفاوتات الجذرية للسلطة المتضمَّنة هنا؛ فبينما لا يُعَدُّ الشعب الفلسطيني عاجزًا على نحوٍ مطلقٍ عن تشكيل الأماكن التي يعيش ويموت بداخلها مع الشعب الإسرائيلي، فإن هذه القدرة على القيام بذلك أقل بكثيرٍ من قدرة الدولة الإسرائيلية على نحوٍ واضح. غير أن «أحادية» عرضي مخففة نوعًا ما باعتمادي البالغ على تأويل الباحثين والنشطاء والإسرائيليين من منتقدي منظومة السيطرة الإقليمية الإسرائيلية التي تطوق حياتهم وحياة أحبائهم. والصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين ينعكس إلى حدٍّ ما (وإن لم يكن على نحوٍ تام) في المجادلات والمناقشات بين الصهيونيين والمناهضين للصهيونية، والمتدينين والعلمانيين، والمحافظين والليبراليين، والراديكاليين من شباب وشيوخ الإسرائيليين الذين سيواصلون إعادةَ أقلمة ظروف الوجود الإنساني في الأرض المتاخمة للركن الجنوبي الشرقي من البحر الأبيض المتوسط. والتشكيلات الإقليمية القائمة الآن تعكس قوى الخوف، والكراهية، والوحشية، والفساد، والخيانة، والتضحية. وبالرغم من الصعوبات، يتطلع كثيرون إلى خلق تشكيلاتٍ تؤدِّي إلى ترسيخ وتدعيم الأمل والاحترام والكرامة الإنسانية.