خاتمة
وإنما الذي نعنيه هو الازدهار المعنوي الذي تلقَّاه الإنسان من العلم. فقد زاده العلم وعيًا بالعالَم، وأتاح له أن يمدَّ نظرته العقلية إلى ما وراء الحدود التي تفرضها عليه الحواس، إلى حدٍّ لا نهاية له. فقد مكَّنَه علم الطبيعة الفلكي وعلم الطبيعة الذري من ارتياد آفاق «العالَمَين اللامُتناهِيَين» اللذين يتأرجح بينهما الإنسان، كما يقول باسكال، ثم إنَّ العلم قد جعله أكمل شعورًا بذاته. فقد كشف له عن العلاقات التي تربط الفرد والنوع بالبيئة البيولوجية والاجتماعية والتاريخية فازداد فهمًا لذاته، لأنه أدرك بصورةٍ أكمل وأدق، موقعه في الوسط الذي يحيا فيه، وماضيه الحيواني والبدائي. وفضلًا عن ذلك، فقد أجاد فهمه لطبيعتِهِ من حيث هو كائن مفكر، فالعلم لا يُبارَى من حيث هو شعور بالتفكير الإنساني. والتفكير الحقيقي، الذي يتكيف مع الأشياء، ويتحرَّر من الشوائب الحيوانية، ومن الأوهام الاجتماعية، هو التفكير العلمي.
وأخيرًا، فقد دفع العلم الإنسان إلى نوع من الزهد، هيَّأه لممارسة أفضل حياةٍ أخلاقية، وأصدق حياة دينية، ﻓ «التحوُّل عن الهوى البشري» الذي يَقتضيه العلم، هو تهيئةٌ لإنكار الذات والإخلاص. وهو من الناحية الأخرى خير طريق للوصول إلى ما هو إلهي. وإذا كانت تلك النظم الدينية الرائعة التي حقَّقها الصينيون والهنود في عصر سقراط قد اضمحلت أو أدركها الفساد، فذلك إنما يرجع في رأينا إلى افتقارها إلى العلم الصحيح، الذي اضطر الشرق بمضي الزمن إلى البحث عنه في الغرب. أما التفكير المسيحي، وهو التفكير الديني للغرب، فلم يتولَّد بالتأكيد عن العلم، ولكنه يدين للعلم بالكثير من أجل بقائه ونقائه. فالمسيحية قد ألهمت ديكارت نزعته الروحية، وألهمت «كانْت» صرامته الأخلاقية. ومذهبا ديكارت وكانْت هما قبل كل شيء فلسفتان عمليتان.
وإذن، فإذا كان قوام الحكمة، كما يقول اسبينوزا، في شعور المرء بذاته، وبالعالَم، وبالله، أمكننا القول بأن الحكمة لن تجِدَ خيرًا من العلم ظهيرًا.