تطور المذهب الذري – ميكانيكا الكم الميكانيكا التموُّجية – الروح العلميَّة الجديدة
إذا تتبعنا تاريخ العلم، أمكننا أن نُدرك الأهمية المتزايدة للدور
الذي تلعبه النظريات الفيزيائيَّة. ولقد كانت النظرة القديمة إلى هذه
النظريات هي أنها مجرد «فروض» تُمهد للبحث، أي هي إجراءٌ مؤقت يساعد
على تنظيم التجارب. على أنها قد أخذت تندمج بالتدريج في التفكير
العلمي، إلى حدِّ أنه لم يعُد من الممكن فهْم المعنى العميق للتجارب
المعملية دون إلمام بالنظريات العلمية. فينبغي إذن أن تسعى كل عقلية
فلسفية إلى إجادة فهم دور النظريات في العلوم الفيزيائية الحديثة. وتلك
مهمة عسيرة يجب أن يستعين أستاذ الفلسفة فيها بأستاذ علم
الفيزياء.
ولقد أخذنا على عاتقنا أن نُلخص في هذا الفصل عدة نظريات هامَّة.
فإذا أحس القارئ، بصعوبة أقسام من هذا الفصل، فحسبه أن يقرأ الملخص
التالي.
فلنفحص أولًا النظريات الخاصة بالذرة. إن فكرة الذرة فكرة مُوغلة في
القِدَم، ومن الضروري أن يكون كل فيلسوف قد عرفها في صورها التقليدية
(المذهب الذري عن ديمقريطس وأبيقور) وللقارئ أن يرجع أيضًا إلى القصيدة
الشعرية الرائعة التي كتبها لوكريس في طبيعة الأشياء de
rerum natura.
يمكننا القول بأن النظرة الفلسفية المبدئية إلى الذرة لم تتغير حتى
ظهرت بحوث الكيميائي الإنجليزي دالتن
Dalton. ولكن عندما جاء دالتن
(١٧٦٦–١٨٤٤م) أمكن تنظيم المذهب الذري بحيث يتسنَّى استخدامه في تفسير
الصلة الوثيقة المتبادلة بين مختلف الأجسام البسيطة في الكيمياء. وإذن
ففي مُستهلِّ القرن التاسع عشر، عبَّرت الكيمياء عن قوانين التركيب
الخاصة بهذه الأجسام، وبنت آراءها في ذلك على «الفرض الذري». وقد لخصنا
في هذه المسألة معلومات لا غنى عنها في فهم أقدم المذاهب الكيميائية.
لهذا لا ينطوي القسمان الثالث والرابع على صعوبة كبرى. ومن الممكن أن
نجد في هذين القسمَين وحدَهما صورةً لما يُسمى ﺑ «النظرية
العلمية».
وسنرى بعد ذلك كيف تحولت هذه النظرية «الكيميائية» في العصر الحديث
إلى نظرية «في الفيزياء». وذلك ما يحدث في علم الفيزياء الذي يبحث في
«المنفصل» physique du discontinu وهو
العلم الذي يلجأ إلى فكرة «الجسيم»
corpuscule بدلًا من فكرة الذرة (القسم
السادس). فلقد اتضح أن الذرة الكيميائية مركبة؛ فهذه الذرة (التي كانت
تُعد جزءًا لا يتجزأ بحسب أصلها الاشتقاقي) تبدو تنظيمًا معقدًا مكونًا
من نواة ومجموعة من الإلكترونات.
ولقد قارن بعضهم الذرة بالنظام الشمسي، وتحدث عن الأنموذج الكوكبي،
الذي اقترحه «بور Bohr». (وهنا أيضًا
يجد القارئ مثلًا ثانيًّا لفكرة النظرية الفيزيائية) القسمان السابع
والثامن.
وبقيَّة الفصل أكثر صعوبةً؛ لأنه يتعرض للعلم المعاصر. وللقارئ
عندئذٍ أن يقتصر على متابعة الطريقة التي أدخلت بها الأفكار الجديدة
التي أحدثت انقلابًا في علم الفيزياء، وينظر إلى هذه الأفكار على أنها
وقائع تاريخية.
كانت فكرة «حبيبة الطاقة grain
d’énergie» هي التي أدت أولًا إلى القول بالانفصال؛ بل
إلى القول به في مجال مختلف تمامًا عن مجال الوجود، ما دامت الطاقة
فكرة ديناميكية في أساسها، وتتضمن تبعًا لذلك فكرة تقدير العامل الزمني
(القسم التاسع).
ثم تأتي بعد ذلك فكرة «الفوتون
photon حبيبة الطاقة المضيئة في
القسمَين الحادي عشر والثاني عشر».
وتزداد الصعوبات بعد ذلك عندما يجد الفيلسوف لزامًا عليه أن يفسر
«الميكانيكا التموجية» بأفكارها التي تُثير الدهشة، وهي النظرية التي
اقترحها لوي دوبرليي Lusi de Broglie
منذ ربع قرن من الزمان. ويبدو أن فكرة «النظرية» تتبدَّى عندئذٍ بكل ما
لها من أهمية. ولكن مثل هذه النظرة لا تنفصل عن صيغتها الرياضية. لذا
اقتصرنا على استخلاص أغرب جوانبها الفلسفية (القسم الثالث عشر).
وفي مقابل الميكانيكا التموجية ظهرت في الوقت ذاته ميكانيكا الكم
quantique. التي بُنيت على مبدأ
هيزنبرج Heisenberg هذا المبدأ المسمى
بمبدأ اللاتعين، أو «اللاحتمية
idetérminisme»، فقد أثار كثيرًا من
الجدل بين الفلاسفة.
ولقد حاولنا أن نبين على وجه الدقة مجال تطبيقه، ونُشير إلى الأخطار
التي تنجم عن استنباط نتائجه الفلسفية التي تتجاوز نطاق الفيزياء
الذرية (القسم الرابع عشر).
وفي القسم الخامس عشر، الخاص بالنشاط الإشعاعي، يبدأ البحث باتخاذ
وجهةٍ أخرى، ويستطيع القارئ أن يجد سلسلةً جديدة من الأمثلة. فبعد أن
نُنبه إلى ما أثاره كشف النشاط الإشعاعي في أواخر القرن التاسع عشر
(على يد بكرل Becquerel وبيير وماري
كوري) من دهشة، نُقدم لمحةً موجزة عن الفيزياء النووية (القسم السادس
عشر) وهو مجال جديد كل الجدة، يُحقق به عالم الفيزياء «تغيرات» تُحول
عنصرًا كيميائيًّا إلى آخر؛ بل يخلق أجسامًا كيميائية جديدة: هي عناصر
ما بعد الأورانيوم transuraniens
(القسم الثامن عشر). والطاقات التي تنطلق بتحطيم هذه النويات الجديدة
(وهذا التحطيم يُسمى بالانشطار
fission) لها قوة هائلة، ولتكن هي
الطاقة المستخدمة في القنبلة الذرية.
وفي ختام الفصل، حاولنا أن نوضِّح أن الظواهر التي بلغت هذا الحد من
الجدة، والنظريات التي بلغ تنظيمها هذا الحد من الإحكام، تقتضي فحصًا
جديدًا للمَثَل الأعلى الذي يُوجِّهُ الروح العلمية، وتأكيدًا «لقِيَم»
التفكير العلمي المعاصر.
المذهب الذري الفلسفي
من المفيد جدًّا أن نتتبع بإيجاز تاريخ المذهب الذري منذ المذهب
الذري الفلسفي حتى المذهب الذري المعاصر، مارِّين بالمرحلة الوسطى،
وهي المذهب الذري قبل العلمي. ونقول إن تتبُّع هذا التاريخ مفيد،
لأنه يُطلعنا على تطور فكرة الفرض، ويُحدِّد بدقة الدور الذي تؤديه
النظريات الكبرى في العلم الحديث. ومثل هذا التاريخ، إذا كُتب في
العصر الحديث، فإنه يُبين كيف ظهرت فكرة الذرة بالتدريج، وكيف
استخدمت في تفسير أكثر الظواهر تباينًا: كالظواهر الكيميائية،
وظواهر علم الطبيعة، والكهرباء. وفي أيامنا هذه، ارتبطت الكيمياء
الذريَّة بفيزياء جسيمية physique
corpusculaire، وظهرت فكرة المنفصل
le discontinu بالتدريج بوصفها
حقيقةً عميقة تُوجَد من وراء «الاتصال» البادي للظواهر.
ولكن إذا كان المجال لا يسمح لنا برواية تفاصيل هذا التاريخ،
فحسبُنا هنا أن نشير إلى أهم مراحله.
ففي القرن الخامس قبل الميلاد، أكد الفيلسوف العبقري ديمقريطس
بصورةٍ واضحة، انفصال أشكال الوجود، وكثرتها، فكل الظواهر في رأيه
ينبغي أن تُفسَّر عن طريق فكرة جزيئات مادية تبلغ حدًّا هائلًا من
الصغر، لا تتغيَّر أشكالها ولا تتجزأ (ومن هنا كان اسم الذرة
atomos أي الجزء الذي لا يتجزأ).
وجميع هذه الذرات تتحرك في فراغٍ مُطلق. وعلى ذلك يكون الأساس
الوحيد لتفسير الظواهر هو الهندسة التي تبحث في الأشكال الذرية
والميكانيكية التي تبحث في حركاتها، وعلينا هنا أن نلاحظ أن فكرة
«الفراغ المطلَق» ستظلُّ على الدوام مرتبطةً بالنظريات
الذرية.
ولنلاحظ أن المذهب الذري عند ديمقريطس هو صورة واضحة المعالم من
صور مذهب حتمية الظواهر.
واقتبس أبيقور (٣٢٠–٢٧٠ق.م.) هذه الفكرة، وأدخل عليها تغييرًا
هامًّا؛ فقد عزا إلى الذرة قُدرةً على الانحراف دون أن تكون هناك
علة خارجية لانحرافها، ودون أن تصطدم الذرة بشيء، وقد أدى هذا
الانحراف (clinamen) إلى إدخال نوع
من اللاحتمية على حتمية ديمقريطس.
وأخيرًا عرض لوكريس (٩٩–٥٥ق.م.) في قصيدته الشعرية الرائعة: في
طبيعة الأشياء (de rerum natura)
صورة عامة لفلسفة طبيعية تقوم على أساس مذهب أبيقور الذري.
المذهب الذري قبل العلمي
عندما عاد المذهب الذري إلى الظهور في العصور الحديثة على يد
جاسندي Gassendi (١٥٩٢–١٦٥٥م) وعلى
يد علماء الكيمياء في القرنَين السابع عشر والثامن عشر، كان ظهوره
دائمًا على صورة ضروب من الحدس الهندسي نستطيع اليوم أن نُدرك مبلغ
سذاجتها. والواقع أن المفكرين في ذلك الحين لم يكونوا يتردَّدون في
أن ينسبوا إلى الذرة كل المدركات الحسية المباشرة، بحيث إن الصورة
الخاصة لذرات المادة تفسر إحساسات الذوق والرائحة واللون. وهكذا
قيل إن ذرة البرد مُدببة، لأن البرد قارس، ويصف الكيميائي نيكولاس
ليميري Nicolas Lémery
(١٦٤٥–١٧١٥م) تأثير الأحماض في الأجسام القاعدية بأنه أشبه باختراق
الطرف المدبب في الأحماض لمسام القلويات. كذلك تصوَّر الكيميائي
هومبرج Homberg (١٦٥٢–١٧١٥م) حين
أراد أن يفسر تحوُّل الزئبق إلى مسحوق زئبقي
cinabre، أن الدقائق الكروية
للزئبق تتشقَّق بفعل النار، مثل قشرة «القسطل» وتختلط كل هذه
القشور المتشقِّقة، حتى «يصبح الزئبق جافًّا كالحجر».
وهناك أمثلة عديدة للتفسيرات التي تلجأ إلى التشبيهات. ولا شكَّ
في أنه ليس لمثل هذه التشبيهات أية قيمة علمية؛ بل إنها لا تُصوِّر
لنا الظواهر تصويرًا جيدًا.
المذهب الذري في الكيمياء
كان العالِم الإنجليزي دالتن (١٧٦٦–١٨٤٤م) هو الذي استخلص
النتائج العلمية الدقيقة لفرض ديمقراطيس الخاص بالذرة التي لا
تتجزأ. فإذا سلمنا بأن لكل مادةٍ كيميائية بسيطة ذرة خاصة، ومن ثم
فلها وزنها الخاص، فلا بد أن تتجمع الذرات المتعددة كيميائيًّا
تبعًا لعلاقات محددة. وإذن فمن الممكن الوصول إلى براهين دقيقة عن
صحة الفرض القائل بالذرة وذلك بمقارنة مقاييس وزنية.
وهكذا ينقلنا دالتن إلى عصرٍ يصبح فيه الحدس الفلسفي فرضًا
علميًّا.
فلنعُد إلى الأذهان إذن القوانينَ التي تُبنى عليها الكيمياء
الحديثة، وهي القوانين التي لا يكون لأي تعليمٍ للكيمياء معنًى
بدونها:
(١)
قانون النسب المحددة (قانون بروست
Proust) ويؤكد أن كل تجمع
للذرات يتمُّ في ظروفٍ محددة بكل دقة. وهذا القانون هو
ذاته نتيجة لفكرة عدم انقسام الذرة. فإذا اتحد «مليار» من
ذرات جسمٍ مُعين، بمليار «من ذرات جسم آخر»، فإن النِّسَب
الوزنية تظل في هذه الحالة كما هي في حالة اتحاد ذرة من
الجسم الأول بذرة واحدة من الجسم الثاني.
(٢)
قانون النسب الكثيرة: تثبت التجربة أن المادتَين
الكيميائيتَين يمكن أن تؤديا إلى نوعَين متباينَين من
التركيب، وفي هذه الحالة إذا وحَّدْنا بين وزنٍ معين في
إحدى المادتين وبين أوزان من المادة الأخرى التي تتجمَّع
من الأولى بصورة مختلفة، وصلنا إلى علاقات يُعبَّر عنها
بحاصل ضرب للتجمع الأبسط. وهذه الصيغة التي تبدو مجردةً في
الظاهر، تصبح عظيمة الوضوح إذا ما تُرجِمت إلى لغة الفرض
الذري. ففي الحالة الأولى، تتَّحِد ذرة من المادة الثانية
بذرةٍ من الأولى، وفي الحالة الثانية، تتَّحِد ذرتان، أو
ثلاث ذرات، أو أربع … من المادة الثانية، بذرة «واحدة» من
الأولى.
فإذا ما فكرنا مليًّا في هذا القانون الذي تُقدِّمه
إلينا التجربة، اتضحت لنا فورًا القيمة التفسيرية لفرض
علمي منتج.
(٣)
قانون ريشتر Richter:
إذا اتحد جسمان، كلٌّ على حدة، مع جسم ثالث، فإن العلاقات
الوزنية التي يكشف عنها التحليل في الحالتين تمكِّن من
التعبير عن العلاقات الوزنية لتجمُّع هذين الجسمَين. وهنا
أيضًا نجد أن التعبير — الذي يبدو مجردًا في ظاهرِه — عن
هذا القانون، قد اتضح من تلقاء ذاته إذا ما تُرجم إلى لغة
الفرض الذري.
وعلى أساس هذه القوانين الثلاثة، يمكننا أن نعزو إلى كلٍّ من
العناصر عددًا يُسمى الوزن الذري. وبهذه الطريقة نحصل على قائمة من
الأعداد النسبية عن التجمُّعات، تُبين العلاقات الوزنية التي تتحد
العناصر الكيميائية فيما بينها تبعًا لها.
ولنؤكد هنا أن «الأوزان الذرية» التي نحصل عليها بهذه الطريقة
ليست في حقيقة الأمر «أوزانًا»، وإنما هي «نِسبٌ» بين أوزان، أي هي
«أعداد مجردة». ومن المُحقَّق أن من أكبر مظاهر التقدُّم التي
أحرزها العلم المعاصر، الانتقال من هذه الأعداد المجردة المعبرة عن
نسب، إلى أعدادٍ عينيةٍ تُعبر بالفعل عن «وزن» الذرات.
فرض أفوجادرو Avogadro
ونقطة البدء في هذا النجاح الكبير ترجع إلى الفرض الجريء الذي
تقدَّم به عالِم إيطالي في مستهلِّ القرن التاسع عشر. فقد أُعجِب
أفوجادرو بما تتَّسِم به القوانين التي وضعها جيه لوساك
Gay-Lussac عن تجمعات «أحجام»
الأجسام في صورتها الغازية من بساطةٍ هائلة. فبدلًا من العلاقة
الوزنية المعقدة: ١ إلى ٣٥٫٥، وهي العلاقة التي تُعبر عن اتحاد
الهيدروجين بالكلور، وجد «جيه لوساك» أن لترًا واحدًا من
الهيدروجين يتَّحِد بلترٍ واحد من الكلور، فيؤدي ذلك إلى تكوين
لترَين من حامض الكلور هيدريك.
ولما فكَّر «أفوجادرو» في هذه البساطة، صاغ فرضه على النحو
التالي: «إن الفرض الذي يخطر بالذهن أولًا، بل الذي يبدو أنه هو
وحده المقبول، هو أن عدد الجزيئات المتكاملة في الغازات يظلُّ
دائمًا دون تغييرٍ إذا تساوى الحجم».
وهكذا لا تكون للخواص الكيميائية التي تتميَّز بها الجزئيات
الغازية أية أهمية في فرض «أفوجادرو». ويمكن القول بأن هذا الفرض
ينتمي إلى مجال علم الطبيعة لا الكيمياء، على أن العلاقة بين
الكيمياء وعلم الطبيعة قد تحدَّدت عن طريق فكرة تبعث الحيرة في
معظم الأحيان في نفوس المبتدئين، وهي فكرة «الجرام الجزيئي
Molécule-gramme فحجم الجرام
الجزيئي هو الذي يشغله وزن م معبرًا عنه بالجرامات، على اعتبار أن
م هي ذاتها الوزن الجزيئي؛ وهو بالنسبة إلى كل الأجسام ٢٢ لترًا
ونصف.
ومن الواجب أن يبذل كل ذهنٍ فلسفي جهدًا لفهم هذه المعاني التي
هي في حقيقتها معقدة، ولكنها تُكوِّن بالفعل الأساس الذي تُبنى
عليه الثقافة العلمية الأولية.
ومن المعلوم بالطبع أن أفوجادرو لم يتصور، لا هو ولا معاصروه،
الوسائل الكفيلة بتحديد «عدد» الجزيئات التي يحتوي عليها حجم مُعين
من الغاز. فظلَّ «قانون» أفوجادرو يُستخدَم طوال قرن بأكمله، على
أساس هذا «الفرض» الأوحد، القائل بأن أعداد الجزيئات تكون واحدة
بالنسبة إلى كل الأحجام المتساوية من الغازات المختلفة.
وتم هذا التحديد التجريبي العجيب لعدد الجزيئات التي يحتوي عليها
لتر من الغاز في مستهلِّ هذا القرن عن طريق الجمع بين أساليب
طبيعية وكيميائية. وكان ذلك على يد العالِم الفرنسي الكبير «جان
بيران Jean Perrin» (١٨٧٠–١٩٤٢م)
فبعد أن درس «جان بيران» ظواهر عظيمة التباين، مثل توازن المحاليل،
وزرقة السماء، والحركة البرونية،١ وجد أن عدد الجزيئات التي يحتوي عليها جرام جزيئي يمكن
أن يُحدد، بتقريب معقول، بالمقدار ٦٠ ×
١٠٢٢ وأدَّت به دراسة الظواهر الأربع
عشرة التي قام بها إلى نتائج تعادل هذا المقدار نفسه. ولنذكر أن
عددًا يوضع على صورة ١٠٢٢ (أي عشرة أس
٢٢) عدد لا يمكن تخيله. وهذه الصورة التي اختار وضع العدد بها
تُمكِّن من فهمه، ولكنها لا تُمكِّن من تخيله، وعلى ذلك فالعدد ٦٠
× ١٠٢٢ يمثل عدد جزيئات الغاز التي
يحتوي عليها ٢٢٫٤ لترًا في ضغط ٧٦٠سم، وفي درجة الصفر، وذلك هو
«عدد أفوجادرو». ويتدخَّل «عدد أفوجادرو» في تفسير ظواهر عديدة،
وهو كما يقول علماء الطبيعة في أيامنا هذه، من الثوابت
الشاملة.
وبقسمة الوزن الجزيئي، مُعبرًا عنه بالجرام، على عدد أفوجادرو،
نحصل على الوزن الفعلي للجزيء الواحد، ومنه نحصل على وزن مختلف
الذرات.
وهكذا أصبح «فرض» أفوجادرو في خلال القرن التاسع عشر، «قانونًا»
يُستخدم في حلِّ مسائل الكيمياء. وبتطبيق هذا القانون على تجارب
متعددة ومتنوعة، أمكن تحديد الوزن الحقيقي للذرة، بوصفه «حقيقةً»
ملموسة، وذلك فيما بعد، أي في القرن العشرين. وهذا مظهر من أوضح
مظاهر النجاح الذي أحرزته «النزعة الواقعية» للعلم المعاصر. وسوف
نرى أن هذه النزعة الواقعية تزداد تأكدًا عند دراستنا للفكرة
الحديثة عن الجسيم.
فكرة الجسيم Corpuscule
اتخذت الفكرة العلمية عن الذرة، التي لعبت خلال القرن التاسع عشر
دورًا متزايدًا في الكيمياء، صورة جديدة بفضل جهود علماء الطبيعة.
والحق أن فكرة الذرة قد فرضت نفسها على تفسير الظواهر الكهربية،
وأدَّت إلى فكرة الجسميات الكهربية.
فلنستعرض إذن مختلف الجسيمات التي اهتدى إليها العلم المعاصر،
وبذلك نقدم عرضًا موجزًا «للفلسفة الجسمية» الجديدة.
الإلكترون: يبعث انطلاق الشحنات الكهربية في الفراغ أشعة سلبية،
وفي أواخر القرن التاسع عشر أثبت علماء عديدون، ومن بينهم «جان
بيران» أن هذه الأشعة هي انبعاثات من جسيمات مُحملة بشحنات كهربية
سالبة. وسُميت هذه الجسيمات باسم «الإلكترونات». وعن طريق فكرة
الإلكترون تمَّ إدخال فكرة الذرة في الكهرباء، ولقد أمكن تحديد
كتلة هذا الجسيم الكهربي وشحنتَه بدقة، وسوف تسنح لنا خلال هذا
الفصل فرص توضيح أهمية هذا الجسيم، وإدراك ما يؤديه من دور في
تقدُّم النظريات (الكيمياء الإلكترونية، الميكانيكا التموجية)،
وكذلك في أشدِّ المستحدثات العلمية تباينًا (كالخلايا الضوئية
الكهربية، وصمامات المذياع، والتليفزيون، والآلات الحاسبة). ولا شك
في أن العلم المعاصر المعروف باسم السيبرنطيقا
Cybernétique، ما كان لِيُوجد لولا
العلم الإلكتروني. وهكذا أثبت الإلكترون وجوده بالفعل في ميدان
الصناعة، وهذا ما يتضح للمرء جليًّا إذا اطَّلع على مؤلَّفٍ كتبَهُ
أحد المهندسين واسمه زلبشتين
Zelbstein، وهو التطبيقات الصناعية
للمقاييس الإلكترونية».٢
ولكن، لنعُد إلى عرض الجسيمات الجديدة في علم الطبيعة واحدًا بعد
آخر.
البروتون: لم يستغرق العلم زمنًا طويلًا في البرهنة على أن
الإلكترونية جُسيم يدخل في تركيب المادة، فكل الذرات الكيميائية
تحتوي على إلكترونات، ولكن الذرات الكيميائية متعادلة من الوجهة
الكهربية، فلا بد إذن أن هناك جسيمًا آخر «يُعوِّض» الطابع السلبي
للإلكترون، ذلك الجسيم الآخر المشحون بطاقة موجبة هو
البروتون.
ولقد كان يُظن أولًا أن البروتونات هي المكونات الحقيقية لكل
الذرات الكيمائية، وهذا ما يُعبر عنه بالقول بأن المادة ذات طبيعة
كهربية في أساسها.
وعن طريق هذه الجسيمات توصَّل العلماء إلى مذهب ذري أعمق. فلم
تعُدْ ذرات الكيميائي «أجزاءً لا تتجزأ» بالمعنى الصحيح. بل إن
الأساليب التكنيكية الكهربائية استطاعت تحطيم ذرات الكيمياء. وهنا
يجب أن نُحذر من الفكرة التي تخطر بسهولة على الأذهان، والقائلة
بأن هناك وسائلَ أخرى تستطيع تحطيم الإلكترونات والبروتونات
بدورها، فليس أبعد عن الفلسفة العلمية السليمة من استخدام الخيال
لاستباق الشروط الفعلية التي تثبُت فيها صلاحية العلم.
وأكثر من ذلك، فإن فكرة الإلكترون لم تتعارض مع معارف علماء
الكيمياء؛ بل كانت على العكس من ذلك سببًا في ازدهار الكيمياء
ازدهارًا ملحوظًا، ولكي نُعطي القارئ فكرة عن تعاون علمَي الطبيعة
والكيمياء المعاصرَين، ينبغي علينا أن نرجع خطوة إلى الوراء، ونعرض
بسرعة لأحد الآراء التركيبية الكبرى عند مجموع الظواهر
الكيميائية.
قائمة مندليف
منذ بداية عهد الكيمياء الكلاسيكية في القرن التاسع عشر، حاول
«فوركروا Fourcroy» وتينار
Thénard ثم «ديما
Dumas» في ١٨٢٨م أن يصنفوا العناصر
الكيميائية إلى عائلات غير أن تصنيفاتهم أضفت أهمية مُفرطة على
خصائص خاصة، إلى أن جاء كيميائي روسي، هو مندليف
Mendéléeff فاقترح في سنة ١٨٦٩م
تصنيفًا منهجيًّا مبنيًّا على فكرتَين أساسيتَين: الوزن الذري،
والتكافؤ الكيميائي؛ فالأوزان الذرية تزداد منذ الهيدروجين (ووزنه
الذري ١٠٠٨) حتى الأورانيوم (ووزنه الذري ٢٣٧٠٧)، أما من حيث
التكافؤ الكيميائي فإن هذا العدد يتكرَّر ظهوره دوريًّا إذا ما
سرنا حسب ترتيب الأوزان الذرية. وهكذا رسم «مندليف» قائمةً مربعة
صنَّف فيها كل العناصر الكيميائية المعروفة في زمنه إلى سطور
وأعمدة، بحيث توضح الأعمدة العناصر ذات التكافؤ الواحد (وبالتالي
ذات الخواص الكيميائية المتقاربة).
على أن مندليف لما أراد الوصول إلى تحديد أعمدة تنتمي إلى عائلة
كيميائية واحدة على هذا النحو، اضطر إلى ترك «خانات» خالية، بل
اضطر مرتين أو ثلاثًا، إلى قلب النظام الذي تُحدِّده الأوزان
الذرية المتزايدة بالتدريج، مما ينطوي على مخالفةٍ لمبدأ قائمته
ذاته، وهكذا كانت هذه الطريقة تُعطي انطباعًا بأنها عشوائية، ولكن
«مندليف» أكَّد أن هذه «الخانات» الخالية تُحدد مكان عناصر مجهولة،
ولم يتردد في تقديم بعض الإيضاحات المتعلقة بخواص هذه الأجسام
المجهولة، ومنذ ذلك الحين حتى أيامنا هذه، أخذت فراغات «القائمة
الدورية» تُملأ سنةً بعد أخرى، وتحقَّقت نبوءات «مندليف». والحق أن
قائمة «مندليف» — بما أدخل عليها من تعديلات قليلة — تُعد، في
أيامنا هذه، حقيقة من أروع الحقائق في ميدان فلسفة المادة.
وهاك الموضع الذي يظهر فيه دور الإلكترون في تصنيف مندليف. إن
حالات التكافؤ الكيميائي تتدخل في ظواهر التحليل بالكهرباء (قوانين
فارادي). وما دامت حالات التكافؤ هذه على صلةٍ بالكهرباء فلا بد
أنها على صلة بالإلكترونات، وهكذا أصبحنا نشهد ظهور كيمياء
إلكترونية، لا كيمياء كهربية، والحق أنَّ كل نوعٍ من الذرة يحتوي
على عددٍ مميز من الإلكترونات، والترتيب الحقيقي الذي وضعَهُ
«مندليف» هو ترتيب «إلكتروني»؛ فالكيمياء الحديثة في حاجةٍ إلى
مفهوم جديد، وهو مفهوم «العدد الذري» (أي عدد الإلكترونات التي
تحتوي عليها الذرة الواحدة)، والعدد الذري، لا الوزن الذري، هو
الذي يصلح متغيرًا أساسيًّا يُبنى عليه ترتيب مندليف؛ فإذا كان
مندليف قد استطاع تحديد قائمته بطريقة صحيحة إلى حدٍّ ما، رغم
جهلِهِ بهذه الفكرة، فإنما يرجع ذلك إلى أن الأوزان الذرية
والأعداد الذرية تتزايد، في وقتٍ واحد، فيما عدا استثناءات قليلة
هي بعينها الاستثناءات التي تركها مندليف «اعتباطًا» مخالفًا بذلك
مبدأه الخاص.
وعلى ذلك فجميع العناصر الكيميائية تتميز بالعدد الذري الذي
يتراوح ما بين «١» في حالة الهيدروجين و«٩٢» في حالة الأورانيوم،
(وسنرى فيما بعد كيف أمكن تصور عناصر «بعد الأورانيوم» لها أعداد
ذرية أعلى منه).
ولكن، مادامت الخواص الكيميائية للعناصر المختلفة تعود إلى
الظهور «بطريقة دورية» على حين أن الوزن الذري يزداد بطريقة
منتظمة، فلا بد أن نتصور «تنظيمًا دوريًّا» للإلكترونات المتجمعة
في الذرة الخاصة. وهكذا فُرضت على الأذهان فكرة «الطبقات»
المتعاقبة من الإلكترونات في تركيب الذرات. فقائمة مندليف لها
ثمانية أعمدة. وطبقات الإلكترونات في الذرة لا يمكن أن تحتوي على
أكبر من ثمانية إلكترونات. فعندما تحتوي طبقة على ثمانية إلكترونات
تكون كاملةً. أما الطبقات غير الكاملة فإليها ترجع الخواص
الكيميائية. على أن التجمعات الكيميائية تتجه إلى تكوين طبقات ذات
ثمانية إلكترونات، بأن تجمع في طبقة واحدة إلكترونات طبقتَين
سطحيتَين غير كاملتَين من العناصر المكونة.
وهكذا نرى كيف تتَّجِه أشد الظواهر اختلافًا في العلم الحديث نحو
نقطةٍ واحدة. وسنأتي لهذا التقارب ببرهانٍ آخر كفيل بإيضاح القيمة
التركيبية للتفكير العلمي الحديث.
فمن الخواص المميزة للأجسام الكيميائية، خاصة «الأطياف المضيئة»،
أعني مجموع الألوان الضوئية التي يكشف عنها التحليل الطيفي في
إشعاع مادة وصلت إلى حالة التوهُّج.
وهذه الألوان الضوئية ترتبط بتغيرات في تركيب طبقات الإلكترونات،
وعن طريق تفسير الصيغة الرياضية التي توضح توزيع ألوان طيف
الهيدروجين (صيغة بالمر Balmer)
تمكَّن العالِم الدنمركي «نيلز بور Niels
Bohr» (المولود في ١٨٨٥م)٣ من اختراع الكيمياء الكمية Chimie
quantique وعلى يد «بور» بدأ عهد جديد في العلم،
له أهمية فلسفية كبرى، مادامت كل الأبحاث المتعلقة بالمادة،
والطاقة والضوء (أو بوجهٍ عام، المتعلقة بالأشعة تحت الحمراء وفوق
البنفسجية، وأشعة إكس) قد اتسقت كلها في نظرية جديدة.
ونظرية بور في صورتها الأولى تنسِب إلى الإلكترونات في الذرة
حركات حول النواة؛ فالإلكترونات ترسُم مدارات كتلك التي ترسُمها
الكواكب حول الشمس، ومن هنا كان اسم «الأنموذج الكوكبي» الذي أُطلق
على نظرية «بور» غير أن هذه الحركة الكوكبية ليس لها أي أثر خارج
الذرة، ولا يؤدي الإلكترون إلى حدوث ظاهرة إلا إذا تغير مداره
فجأة، وذلك هو ما سُمي «بالوثبة الكمية Saut
quantique» هذه الوثبة الكمية تطلق كمية من الطاقة
Quantum هي بعينها كمية الطاقة
التي نجدها في الإشعاع، والمقصود بالكمية كطاقة مقدارٍ مُحدَّد من
الطاقة لا يُمكن تجزئته؛ وإذن فالطاقة لا تتغير دائمًا بطريقة
مستمرة.
وهكذا أدخل «بور» في النظرية الذرية الكيميائية فكرة الطاقة التي
اقترحها العالِم الألماني «مكس بلانك Max
Planck» قبل ذلك بعشر سنوات؛ ومن هنا أصبحنا نشهد
تقاربًا جديدًا لخطوط تطور الفلسفة العلمية، وعلينا أن نعود إلى
المصدر الأصلي لفهم هذه الفكرة الجديدة كل الجدة، وأعني بها فكرة
«كمية الطاقة Quantum
d’énergie».
كمية الطاقة le quantum
d’énergie
كانت الصيغ الرياضية التي
اقتُرحت في أوائل القرن التاسع عشر لتفسير ظواهر الإشعاع العامة
متناقضة تناقضًا تامًّا مع «الرسوم البيانية» التي تمثل نتائج
التجربة تمثيلًا حسيًّا. ونظرًا إلى أن النظريات الحديثة ليست مجرد
وسائل للتعبير، كما قيل أحيانًا بل تستخدم بالفعل للتفكير في
التجربة، فإن وجود مثل هذا التناقض الواضح بين الصيغ النظرية
والرسوم البيانية التجريبية يقتضي تعديلًا شاملًا للأسس
النظرية.
ولكن في أي مستوى من العمق كان ينبغي العمل؟ لم يتردد «ماكس
بلانك» في صبغ الطاقة بصبغةٍ ذرية، أي في تسجيل الانفصال في فكرة
تخضع لحدس الاتصال خضوعًا واضحًا، فأي شيء يبدو أكثر اتصالًا من
تغيرات الطاقة التي تعبر عنها قوة شديدة صيغتها ١ /٢ ك س٢؟٤ ألا تتغير هذه الطاقة على نحو «متصل» كالتغيُّر المتصل
في السرعة، التي يمكن أن تكون لها «كل» القِيَم فيما بين
سرعتَين؟
هذا القول الغريب بنوعٍ من الانفصال في الطاقة قد أتاح لبلانك أن
يقضي تمامًا على التعارُض بين النظرية والتجربة في مجال الإشعاع
فكمية طاقة الإشعاع يُعبَّر عنها بالصيغة اليسيرة ﺟ = ت × ﻫ (حيث ﺟ
هو جُزيء الطاقة، وت هو التردد
fréquence وﻫ ثابت أصبح يُسمى
بثابت بلانك.
وثابت بلانك ضئيل جدًّا (ﻫ = ٦٫٥٥ ×
١٠٢٧ إرج/ثانية حيث يعني الأس السالب
إمكان الحصول على قيمة ه بأن نقسم ٦٫٥٥ على القوة السابعة والعشرين
للعدد ١٠).
ولقد أصبح لثابت «بلانك» دور في أشد مجالات علم الطبيعة
والكيمياء تباينًا فهو من الثوابت الشاملة، مثله في ذلك مثل ثابت
أفوجادرو، بل إن باستطاعتنا أن نقول بأنه هو العلامة المميزة لكل
ظواهر علم الطبيعة، كذلك يصدُق قانون الانفصال في الطاقة، كما صاغه
بلانك على الإشعاع، على المادة في صورتها الذرية.
إن من واجب العقل الفلسفي أن يتدبر مليًّا في مدى خصوبة ودقة هذه
المركب المتسع، الذي يجمع الضوء والمادة معًا في قانون مشترك.
فعندما يقفز إلكترون من
مدار إلى آخر في الذرة، يحدث تغير كمِّي في الطاقة، ولكن هناك
أسبابًا أخرى لتغير الطاقة في الديناميكا الإلكترونية، وهكذا ينتهي
المرء إلى تحديد تغيرات الطاقة في الذرة تحديدًا كميًّا. وللقيام
بعملية «التحديد الكمي» هذه بما لها من أوجهٍ متعددة تنسَب أعداد
كمية إلى مختلف الحالات التي تتعرض للتغير السريع.
ولقد تبين ضرورة استخدام
أربعة أعداد كمية nombres
quantiques لتفسير كل تفاصيل ظواهر الطيف، كما
ظهرت معانٍ تدور حول فكرة الطاقة، وفرضت نفسها على الباحثين مع
أنها لم تخطر ببال أحدٍ في بادئ الأمر. فمثلًا اضطر الباحثون إلى
أن ينسبوا طاقة محورية énergie de
pivotement إلى الإلكترون، يُحدَّد لها عددٌ كمي
خاص، هو الذي يطلق عليه أولنبك
Uhlenbeck وجوند سمث
Gondsmit اسم «شبين
Spin».
ولقد أمكن التوصُّل إلى تحديد «الشبين». هذا بعد تنظيم نظري قوي
قام به العالِم الإنجليزي «ديراك
Dirac» فقد بدأ «ديراك» بأبحاث
رياضية مجردة إلى أبعد حدٍّ، ثم أدرك أنه من الضروري إيجاد تماثل
كامل بين عنصر في الحساب وبين دوران الإلكترون حول ذاته. وهكذا تم
على يد «ديراك» تحقيق تعاونٍ متبادل بين المبادئ العقلية
للميكانيكا الكمية، وبين التحديدات التجريبية.
وفضلًا عن ذلك، تخضع الأعداد الكمية الأربعة التي يتميز بها
الإلكترون لمبدأ غريب، تتأيد صحته في كل الأحوال التي ينظر فيها
إلى الإلكترون داخل نسق منظم (كما في إحدى الذرات أو إحدى الجزيئات
مثلًا). فعندما تكِّون عدة إلكترونات أجزاء من «تنظيم واحد» (أي
عندما يكونون داخل ذرة واحدة مثلًا) فليس لنا أن ننسب إلى
الإلكترونين نفس المجموعة من الأعداد الكمية الأربعة؛ إذ ينبغي أن
يختلف واحد على الأقل من الأعداد الأربعة المميزة للإلكترون عن
الأعداد الأربعة المميزة للإلكترونات الأخرى. وهذا هو مبدأ
الاستبعاد principe d’exclusion
الذي حدده «باولي Pauli».
هذا المبدأ الذي لا يدرك المرء له سببًا منطقيًّا، يفرض على كل
النظريات في علم الطبيعة الذرية. وهو يصلح مثلًا لمبدأ يتحقق
بعديًّا a posteriori عن طريق
التجربة، ولكنه لما كان يصدق «دون أي استثناء» في علم الطبيعة
الكمية، ففي استطاعتنا أن نصِفه بأنه مبدأ عقلي في تنظيم علم
الطبيعة الذرية.
عندما تصدم حزمة من الأشعة المضيئة أو من الأشعة فوق البنفسجية
سطحًا معدنيًّا، تخرج إلكترونات من المعدن. وهذا ما يُسمى بالظاهرة
الضوئية الكهربية، وهذه الظاهرة هي التي تتجلى في الخلايا الضوئية
الكهربية التي تُستخدم — ضمن ما تُستخدم فيه — في بعث حركات آلية
معينة، وتلعب دورًا هامًّا في التلفزيون وفي قياس الكثافة
الضوئية.
فإذا ما درس المرء هذه الظاهرة الضوئية الكهربية بإمعان تبيَّن
له أن انبعاث الإلكترونات لا يحدث إلا لأشعةٍ يتجاوز تردد موجاتها
قدرًا معينًا؛ فهناك عتبةٌ لا يمكن دونها أن يُحدث أي ضوء، أيَّ
تأثير ضوئي كهربي، مهما كانت كثافة هذا الضوء.
وفي مقابل ذلك نجد أن أي ضوء، مهما قلَّت كثافته، يؤدي مباشرة
إلى خروج الإلكترونات إذا كان يتجاوز هذه «العتبة». فإذا ظل المرء
يُسلِّم بأن الطاقة الضوئية تنتشر بصورة مطردة على سطح الموجة
بأسرها، فلن يتسنى له أن يفهم كيف أن ضوءًا بلغ مثل هذه الدرجة من
الضعف في كل نقط الموجة يكفي لانتزاع الإلكترونات من المعدن. وإذن
يجب أن نفترض أن الطاقة الضوئية تتكاثف في «نقط معينة» من سطح
الموجة، وعلى ذلك فالظاهرة الضوئية الكهربية تقتضي وجود حبيبات
للطاقة الضوئية وجسيمات للضوء.
الفوتون
كان ألبرت أينشتين أول مَن أدرك هذه الضرورة. وقد قدَّم إلينا
الصيغة الأساسية الآتية لهذه الظاهرة:
hv = a + 1/2 m
u2 (ﻫ ذ = ط +
1/2
س٢)
وهى صيغة يسهل فهمها على أنها تطبيق لمبدأ بقاء الطاقة على ﻫ ذ
hv (حاصل ضرب ذبذبة الضوء
v في ثابت بلانك
hv) إن ﻫ ذ هو طاقة جسم الضوء
وعندما تصطدم هذه الطاقة بالمعدن، نستخدم في انتزاع الإلكترون من
المجال الكهربي الذي يُوجَد فيه (الطاقة = ط
(a)) وفي إعطاء الإلكترون القوة
الكبيرة ٢/١ ك س٢ حيث هي كتلته و س هي
سرعة خروجه.
وتُسمى كمية الطاقة المضيئة
(quantum) في هذه الحالة بالفوتون.
والفوتون هو الجسيم في كل إشعاع. فهناك فوتونات لأشعة إكس،
وفوتونات للأشعة تحت الحمراء، وفوتونات لأشعة هوتز.
وللفوتون خواص تختلف عن خواص جسيمات المادة، فبينما يكون
«الشبين» Spin لمختلف جسيمات
المادة هو ٢/١، فإن الشبين لمختلف الفوتونات هو «واحد صحيح».
والكتلة التي تنسب إلى الفوتون أقل بكثيرٍ من كتلة الإلكترون، أي
أنها كتلة تكاد تكون منعدمة.
الميكانيكا التموجية
وهي مذهب يدعو إلى الدهشة. طرأ لأول مرة منذ ربع قرن، على ذهن
لوي دي بروليي Louis de
Broglie.
ولقد كان تفكير «لوي دي بروليي» في البداية فلسفيًّا بحق، ذلك
لأن أينشتين حين وضع النظرية التي شرحناها منذُ قليل، كان قد قرَّر
«ثنائية» مذاهب علم الضوء: إذ إن الظاهرة الضوئية الكهربية إذا
كانت تقتضي تفسيرًا جسيميًّا، فإن علم الضوء الكلاسيكي كان يدرس
ظواهر تقتضي القول بالنظرية التموُّجية (كظاهرة التداخل). وبعبارةٍ
أخرى، فإن نوع التفسير الذي كان ينبغي الأخذ به، أعني التفسير
الجسيمي أو التموجي، يختلف باختلاف الظواهر الضوئية الخاصة.
على أن «لوي دي بروليي» قد تساءل: أليس من الأقرب إلى الروح
الفلسفية أن نُكرر الثنائية نفسها بالنسبة إلى الجسم الكهربي، أي
بالنسبة إلى الإلكترون؟ ذلك لأنه قد عُرفت عن الإلكترون خواص
«جسيمية» عديدة، فلمَ لا تكون للإلكترون خواص تموجية أيضًا؟
ولقد تجلت عبقرية «لوي دي بروليي» في صياغة هذا الرأي الفلسفي في
معادلات. فهو يعرف مبدئيًّا الخواص التموجية للإلكترون، ثم يؤلف
بين هذه التعريفات في فرض نظري ضخم، هو الميكانيكا
التموجية.
ولقد قطع ذلك العالِم الفرنسي شوطًا بعيدًا في بيان التوازي بين
الميكانيكا المعتادة، التي تدور حول المحرك المادة، وبين
الميكانيكا التموجية، وكشف في ذلك عن التناظر بين مبدأ «فيرما
Fermat» (القائل بأن الضوء يسير
بين نقطتَين في المسافة التي تستغرق أدنى حدٍّ من الزمان وبين مبدأ
موبرتويس Moubertuis) القائل إن
المحرك المادي، بين نقطتين يتبع دائمًا المسافة التي يبلغ تفاوت
التأثير بالنسبة إليها حده الأدنى).
وبعد ذلك بعامَين، كشف عالمان أمريكيان هما دافيسون
Davisson وجيرمر
Germer عن ظواهر التموج التي تنبأ
بها «لوي دي بروليي». فالموجات المرتبطة بالإلكترون تؤدي، شأنها
شأن الموجات الضوئية، إلى حدوث تداخلات.
وهكذا تجدَّدت في عام ١٩٢٧م، بالنسبة إلى الإلكترون، ثنائية
الموجة – الجسيم، التي ثبتت في عام ١٩١٧م بالنسبة إلى
الضوء.
وسرعان ما عُرفت الأساليب التكنيكية التي تُمكن من استغلال هذه
الكشوف النظرية والتجريبية. فاستُخدمت الموجات الإلكترونية مثلما
تُستخدَم الموجات الضوئية في المجهر التقليدي.
على أنه ينبغي بالطبع، ألا نتصوَّر المجهر الإلكتروني على مثال
المجهر المعتاد؛ بل يبدو جهازًا آليًّا كهربيًّا معقدًا.
ولا تقف الميكانيكا التموجية عند حدود ما يبدو أنه القوة الدافعة
الأولى لها (أي الإلكترون)، بل إننا نُصادف الظواهر التموجية في كل
الحركات السريعة للجسيمات. فالميكانيكا التموُّجية لا تقتصر على
دراسة الموجات الإلكترونية، بل تدرس أيضًا الموجات المادية (أي
الموجات المرتبطة «بكل» العناصر الجسيمية في المادة)، ومثال ذلك،
صنع مجاهر بروتونية.
ولا شك في أن قوة التكبير التي تُوصِّل إليها هذه الأجهزة
الجديدة أعظم بكثير من المجاهر المعتادة، وهكذا تُمكننا الموجات
المادية من ملاحظة تركيب المادة ملاحظة أدق.
ولقد تردَّد الناس وقتًا ما في بحث طبيعة الموجات المادية،
وكانوا في ذلك متأثِّرين بالفكرة التقليدية القائلة بموجات ضوئية
يتصوَّرونها — نقلًا عن فرينل
Fresnel — على أنها انبعاث لحركة
متذبذبة في وسط مرن (هو الأثير في علم الضوء التقليدي). ومن هنا
كان القول بموجةٍ مرشدة onde
pilote تُوجِّه جسم الضوء. ولكن سرعان ما أدرك
العلماء أنه لا يوجد ما يُبرر ذلك الطابع الواقعي الذي نُسب سذاجةً
إلى الموجات. وهكذا انتهوا إلى تحديدها «احتماليًّا». وعلى وجه
الإجمال فإن كثافة الضوء ترجع إلى عدد الفوتونات الماثلة في منطقة
من الموجة. وهذا العدد يتفاوت تبعًا «لاحتمال» وجود فوتونات.
فالموجة التي افترضها «لوي دي بروليي» هي توزيع لاحتمال وجود
الفوتونات على المكان وهكذا يتَّضح أن فكرة الاحتمال هنا
أساسية.
مبدأ هيزنبرج
وإذن يبدو أن الارتكان إلى «صور» للموجة كان في بداية الأمر
ينمُّ عن كثيرٍ من التسرع. ولذا دعا عالِم الطبيعة الألماني
هيزنبرج Heisenberg إلى تنظيمٍ
للمفاهيم المعروفة في مستوى الظواهر المدروسة في المعمل ذاته. فما
كشفت عنه دراسة الأطياف الضوئية، هو وجود فروق في الطاقة بين
حالتَين لذرةٍ واحدة. ويُمكِّن مقياس تحليل الطيف من وضع جدول
للحدود يُشير فيه كل حدٍّ إلى حالةٍ ممكنة من حالات الطاقة. وبعد
ذلك ينبغي أن يُحسَب حساب للاعتبارات الاحتمالية، التي توضح احتمال
الانتقال من حالة إلى أخرى. ويُمكِّن قواعد التجمع (التي تمنع من
القيام بتجمعات معينة استنادًا إلى مبادئ مختلفة) من الاهتداء إلى
القوانين الضوئية للقياس الطبقي. وكلما زادت المناهج دقة، زاد نجاح
هذا المنهج في التفسير.
وفي ظلِّ هذا المثل الأعلى
نفسه للظاهرية الخالصة phénoménisme
Pur وضع «هيزنبرج» مبدأً أصبح أساسيًّا في علم
الطبيعة الذرية، هو مبدأ اللاتعيُّن؛ ففي رأي هيزنبرج أنه ليس
للمرء أن يُدخِل في علم الطبيعة إلا أفكارًا يحددها عن طريق تجربة إيجابية.٦ فعندما يتحدث المرء مثلًا عن موقع الإلكترون في نسق،
يجب أن يُحدد تجربة لتعيين هذا الموقع. فهل يمكن أن تؤدي هذه
التجربة إلى نتيجةٍ دقيقة بمعنًى مُطلق، دون أي لاتعيُّن؟ كلَّا،
فمثل هذه التجربة تجرى في فوتون، أي على جسيم «متحرك». ومهمة تجربة
تحديد الموقع هي أن تُعيِّن اصطدام الفوتون بالإلكترون. وعلى ذلك
فالإلكترون سيترك المكان الذي حاولنا أن ننسِبَه إليه، وهكذا يكون
من المُحال الوصول إلى تحديد مطلق.
ومثل هذه الاستحالة نُصادفها لو حاولنا تحديد حركة الإلكترون
بقياس كمية حركته، وهو ما يشيع تسميته بعزم الحركة
moment (العزم = الكتلة في السرعة: ).
وأخيرًا أكد «هيزنبرج» وجود «لا تعين تكميلي» بين المعلومات
الهندسية والمعلومات الديناميكية. ويعبر عن مبدأ اللاتعيُّن عند
هيزنبرج على النحو التالي:
حيث هي الخطأ في المكان، هي الخطأ في عزم الحركة،
h هو ثابت بلانك فإنقاص يعني زيادة والعكس بالعكس.
وهكذا يتبيَّن لنا أن أساس مقاييس علم الطبيعة الذرية يفتقر إلى
التحديد. ولهذا كان يُطلَق على مبدأ اللاتعيُّن اسم آخر، هو مبدأ
اللاتحدُّد indeterminisme.
على أن مبدأ اللايقين هذا (أو مبدأ اللاتعيُّن) لا ينبغي أن
يُفهم بمعنًى يدلُّ على التحقير. فهو في الحق يمكن من الربط بين
عدد كبير من الظواهر. والحقيقة أنه أساس لعلم الطبيعة الذري. وفي
وسعنا أن نعُدَّه — من نواحٍ عديدة — إحدى «مصادرات» الميكانيكا
الكمية.
كذلك ينبغي الحذَر من استخلاص نتائج فلسفية منه تتجاوز مجال
تطبيقه (وهو علم الطبيعة الذري). فعندما نكون إزاء أجسام في مستوى
ملاحظتنا العادية، يكون من الخطأ تطبيق مبدأ اللاتعيُّن عليها.
فكتلة هذه الأجسام أكبر من أن تضطرب مواقعها بسبب حركة الموجات
المكتشفة (ولو كانت هذه الكتلة لا تتجاوز عدة ملليجرامات).
ولنلاحظ أخيرًا أنه لو كان ثابت بلانك
h = صفرًا، لأمكننا الوصول إلى
أقصى حدود الدقة، سواء في التحديدات المكانية أو في التحديدات
الحركية، فثابت بلانك h يمثل هنا،
كما في سائر الميادين، الحد الذي يفصل بين الطبيعة في مجالنا وبين
الطبيعة الذرية.
وفي مبدأ الأمر كأن تطوُّر كلٍّ من الميكانيكا التموجية (عند لوي
دي بروليي) وميكانيكا القوائم الكمية matrices
quantiques (عند هيزنبرج) مستقلًّا عن الآخر. ولكن
سرعان ما أثبت «شرودنجر
Schrodinger» إمكان التعبير عن
نظريات العلم الأول بناءً على نظريات الثاني، والعكس بالعكس. وهكذا
نهتدي مرةً أخرى إلى ذلك التقارب في النظريات الذي يُبين لنا أن
وحدة العلم تظل هي المثل الإيجابي الأعلى للروح العلمية.
النشاط الإشعاعي
كان من نتيجة حرصنا على تتبع سلسلة من الحوادث تتميز بالترابط
المحكم، وتبلغ في ذلك حدًّا قلَّ أن نجد له مثيلًا في بحث العلم
الحديث في المادة، أن تركنا جانبًا كشفًا كبيرًا ظهر في نهاية
القرن الماضي، وهو كشف تتأكد خصوبته من يومٍ إلى آخر، وأعني به
النشاط الإشعاعي.
وسنوضح باختصار كيف أتاح لنا النشاط الإشعاعي توسيع نطاق معرفتنا
بالمادة، وأسهم في وضع أسس علم جديد، هو الفيزياء النووية.
ففي نهاية القرن التاسع عشر، لاحظ هنري بكرل H.
Becquerel (١٨٢٥–١٩٠٨م) أنَّ موادَّ معينة (أملاح
الأورانيوم) تنطبع في اللوحات الفوتوغرافية في الظلام التام. وقد
تمكَّن «بيير كوري» (١٨٧٦–١٩٣٤م) بعد دراسةٍ منهجية لهذه الإشعاعات
الغامضة، من عزل مادة أنشط بكثير من الأورانيوم، هي
الراديوم.
وسرعان ما أصبحت تُنسَب إلى النشاط الإشعاعي صفتان أساسيتان:
(١)
أن قوة الإشعاع لا يمكن زيادتها أو إنقاصها بأية وسيلة،
فمن العبث مثلًا أن تسخن المادة ذات النشاط الإشعاعي أو
تبرد، أملًا في تغيير نشاطها الإشعاعي.
(٢)
والإشعاع في حالة الراديو بطيء؛ فقد تبين بالحساب أنه لا
بد من مرور ١٥٩٠ سنة حتى يفقد نصف ذرات الراديوم الذي
نلاحظه نشاطه الإشعاعي. وبعد فترة قصيرة أمكن عزل عناصر
مشعَّة أخرى (الثوريوم
thorium والأكتينيوم
actinium والبولونيوم
polonium). وُجِدَ الوقت
الضروري لكي يفقد نصف المادة في كل من هذه العناصر، قوته
الإشعاعية، وسميت هذه الفترة الزمنية، بالنسبة إلى كل
مادة، باسم «متوسط الحياة». ولكن يحب الحذَر من أن ننسِب
إلى هذه التسمية معنًى يذكِّرنا — من قريب أو من بعيد —
بفكرة الحياة؛ ففي هذا أكبر قدر من الخطأ. والواقع أننا
هنا بإزاء تناقُص له قدْر ملحوظ من الثبات، وليست له أية
صفة من صفات ظواهر الحياة. ويبلغ هذا التناقص حدًّا من
الانتظام أوحى إلى البعض باتخاذه «مقياسًا للزمن» يمكن أن
ينافس المقاييس الفلكية.
ولكن، ما قوام هذا الإشعاع؟
أمكن منذ البداية تمييز ثلاثة أنواع من الأشعة، رمز لها في بادئ
الأمر (عندما لم تكن طبيعتها قد عُرفت بعدُ) بالحروف الثلاثة
الأولى من الأبجدية اليونانية:
(١)
أشعة «ألفا» التي قد تنحرف في اتجاه كاليسار مثلًا
بوساطة مجال مغناطيسي.
(٢)
أشعة بيتا التي تنحرف بواسطة هذا المجال ذاته إلى
اليمين.
(٣)
أشعة جاما ، وهي لا تنحرف.
ولقد تبيَّن أولًا أن أشعة بيتا لم تكن سوي سيال من الإلكترونات. ثم تبين أن
أشعة ألفا تتكوَّن من ذرات من الهليوم حلَّلتها الكهرباء.
أمَّا أشعة جاما فهي إشعاع من نوع الضوء المنتشر الذي تزيد ذبذبته
عن ذبذبة أشعة إكس. فهو تيار من فوتونات خاصة، هي فوتونات
جاما.
وأخيرًا أدرك الباحثون أن هذه الأشعة الثلاثة لا يرجع مصدرها إلى
المناطق السطحية للذرة، وإنما تأتي من منطقة أعمق، هي نواة الذرات
نفسها. وبعبارة أخرى، فالنشاط الإشعاعي لا يتعلق بالعلم الكيميائي
بالمعنى الصحيح؛ بل هو الفصل الأول في علم جديد، هو علم الطبيعة
النووي.
والواقع أن الطبيعة النووية هذه لم تتطوَّر إلا عندما أمكن إثارة
ظواهر في هذا الجزء المركزي للذرة، أي النواة. ومع ذلك فأبعاد هذه
النواة ضئيلة جدًّا إذ قطرها يتراوح بين ٠٫٥ ×
١٠١٢سم في حالة الهيدروجين وبين ٣ ×
١٠−١٢سم في حالة الأورانيوم.
والنواة بدورها جسم معقد، ويُسلِّم الباحثون اليوم بأنها تتكوَّن
من نوعَين من الجسيمات: البروتون والنيوترون. والنيوترون جسم جسيم
كتلته تقرب من كتلة البروتون، ولكن ليست له شحنات كهربية
كالبروتون. فهو محايد من الوجهة الكهربية ومن هنا كان اسمه.٧
ولقد كشفه عالم الطبيعة الإنجليزي تشادوك
Chadwick في عام ١٩٢٣م.
وهناك فرضٌ له أهمية فلسفية كبرى، يفسر ظواهر عديدة. وينحصر هذا
الفرض في القول بإمكان تحويل بروتون إلى نيوترون، والعكس. وفي هذه
الحالة تجمع البروتونات والنيرترونات تحت اسم عام هو النويات
nucléones «ويقال إن هذه النويات
يمكن أن تتخذ حالتَين: الحالة البروتونيَّة، والحال
النيوترونيَّة.
فإذا مرت نوية من الحالة النيوترونية إلى الحالة البروتونية،
طردت النواة إلكترونًا. على أن هذا الإلكترون لم يكن له وجود في
النواة قبل طرده منها، وإنما تولد نتيجة لتحوُّل النيرترون إلى
بروتون.»
وفي التحوُّل المقابل، تطرد النواة إلكترونًا موجبًا (بوزيتون
positon أي المويجب) وهو جسيم
جديد، مواز تمامًا للإلكترون ولإيضاح هذه الموازاة بصورة جليَّة،
سُمِّيَ الإلكترون في كثير من الأحيان باسم النيجاتون
negaton (السويلب) ولقد تم كشف
البوزيتون في ١٩٣٢م على يد عالِم الطبيعة الأمريكي أندرسن
C. D. Anderson.
التحولات النووية
عندما أطلقت قوة كبيرة في جسيمات مُتعدِّدة (كالبروتونات
والنيوترونات ونوايا الهليوم …) بفضل أجهزة خاصة كالسيكلوترون
cyclotron أمكن إدخال هذه الجسيمات
في ذلك الحيز الضيق الذي هو نواة الذرة. وعندئذٍ تطرأ عليها تحولات
transmutations.
وبالفعل يؤدِّي تغيير عددِ البروتونات إلى تحويل جسمٍ كيميائي
إلى آخر، ما دام عدد البروتونات في النواة يُحدد، هو وعدد
الإلكترونات في مُحيطها الكيميائي، مكان العنصر المادي في قائمة
«مندليف».
هذه التحولات النووية تُعبر عنها صِيَغ تذكرنا بالصيغ التي تلخص
التفاعلات الكيميائية. وهناك صيغة لتحوُّل نووي:
ومعناها أن نواة الأزوت N التي
تحتوي على ١٤ نوية (٧ بروتونات و٧ نترونات) إذا ما قُذفت بنواة
الهليوم He التي تحتوي على ٤
نوايات (٢ بروتونات و٢ نترونات) تتحول إلى نواة الأكسجين
O التي تحتوي على ١٧ نوية (٨
نروتونات و٩ نترونات)، وفي هذا التفاعل النووي تطرد نواة من
الهيدروجين H (أي بروتون
واحد).
ولنلاحظ أن مثل هذه المعادلة تنطوي على دلالتين: فإذا جمعنا أسس
طرفي التفاعل، وجدنا أن عدد النوايات يظل ثابتًا.
١٤ + ٤ = ١٧ + ١
وإذا جمعنا الأعداد الموجودة في أسفل الرموز، وجدنا أن عدد
البروتونات يظل ثابتًا (أي أن الشحنات الكهربائية تظل
ثابتةً).
٧ + ٢ = ٨ + ١
واليوم يَعرف العلماء مئات من التفاعلات المماثلة لهذا
التفاعل.
وفي هذه التفاعلات يظهر كثير من الأجسام الجديدة ذات النشاط
الإشعاعي. ولقد اكتُشف هذا «النشاط الإشعاعي الصناعي» في ١٩٣٤م على
يد «جوليو كوري Joliot-Curie»
وزوجته. فقد توصَّلا إلى تكوين فوسفور مشع لا وجود له في الطبيعة.
وهذا الفوسفور هو النظير المشع
isotope للفسفور المعتاد. ويطلق
اسم النظير المشع على مختلف العناصر التي تحتل نفس الموقع في قائمة
«مندليف» ولكل النظائر المشعة للجسم الواحد عدد واحد من
البروتونات، ولكنها تختلف بينها في عدد النيترونات.
هذه الأجسام ذات القدرة الإشعاعية الصناعية تقوم إلى جانب
الراديوم بدورٍ كبير في العلاج بالأشعة.
بل إن الأساليب العلمية النووية قد استطاعت تكوين أجسام تتجاوز
حدود قائمة «مندليف» ذاتها، أعني أجسامًا يزيد عددها الذري عن ٩٢،
وهو العدد الذري للأورانيوم، ولهذا السبب سُميت تلك الأجسام «بما
بعد الأورانيوم» وهناك أسماء العناصر الجديدة، ورمزها وعددها
الذري.
وبعض النظائر المشعة لعناصر ما بعد الأورانيوم هذه غير مستقرة،
وكذلك الشأن بالنسبة إلى نظائر الأورانيوم ذاته. فهي قد تُشطَر
وتنقسِم إلى عنصرَين أو عدة عناصر كيميائية ذات عدد ذري صغير. وهذا
الانقسام أو الانفلاق يؤدي إلى إطلاق طاقة هائلة هي التي تُستخدَم
في القنبلة الذرية.
والحق أننا في هذا العرض العاجل لجسيمات المادة، لم نتأمل عن كثب
خواص «الطاقة» للظواهر النووية. فإذا تذكَّرنا أن للطاقة كتلة،
أدركنا أنه من الممكن أن تُوجَد طاقات ينبغي حسابها ضمن عدد
الجسيمات ذاتها. ولقد نبَّه أحد كبار علماء الطبيعة النووية، وهو
جاموف Gamov في آخر طبعة لكتابه،٩ إلى أنَّ الطاقة التي تتدخل لربط النويات معًا في
نواة، يمكن أن تتجاوز كتلة النوية، وبالتالي يؤدي ذلك إلى تعديل
نظرتنا إلى النويات من حيث هي أشياء صغيرة لا يمكن تحطيمها.
وتلك ملاحظة يجب أن تلفت انتباه الفيلسوف؛ فهنا نرى مثلًا
عمليًّا للتعادل العميق بين الطاقة والكتلة — في مستوى الوجود ذاته
— وهو التعادل الذي كان إحدى النتائج الانقلابية الكبرى لنظرية
النسبية عند أينشتين.
ولقد سبق الاعتراف بهذا التعادل في مستوى الجسيمات الخفيفة (مثل
الإلكترونات الموجبة والسالبة) وهناك ظواهر مُعينة تفسَّر بأنها
تجسيم للفوتون (حبيبة الطاقة) في جسمَين لهما شحنتان مُتضادتان
وظواهر أخرى تُفسَّر بأنها انتفاء صفة الجسمية عن «زوج» من
الجسيمات. وتُوحي ملاحظة جاموف بوجود الجسمية وانتفائها في مستوى
الجسيمات الأكثر ثقلًا.
على أن هذه الملاحظات تؤدي بنا إلى الدخول في مجال العِلم الذي
ما زال يتكوَّن، ولا زلنا إلى اليوم نفتقر إلى نظرةٍ تركيبية إلى
مجموع النوايات الذرية. ومن هنا كان هيسينسكي
Haissinsky على حقٍّ حين ختم
محاضرته التي أشرنا إليها من قبل، بقوله: إن النواة تنتظر لنفسها
«مندليف آخر».
•••
ومن الجلي أن مثل هذه التغيرات العميقة في المفاهيم التي يُبنى
عليها التفكير العلمي، تقتضي فحصًا جديدًا للمثل الأعلى الذي يوجه
الروح العلمية، وتأكيدًا جديدًا «لقيم» الفكر النظري
والتجريبي.
فالروح العلمية، في صورتها الحديثة، لا يسعها أن تكتفي بتتبُّع
نموِّها عبر العصور فقط فلقد رأينا التفكير القائم على منهج
البديهيات قادرًا على الإكثار من نقط البداية، أعني قادرًا، بعبارة
أخرى على إصلاح أصوله. كما وضعت مذاهب ديالكتيكية تنكر المصادرات
التي كانت تبدو ذات بداهة مطلقة، ورأينا كيف تكوَّنت هندسات لا
إقليدية لا تقلُّ إحكامًا عن الهندسة التقليدية.
وبالمثل يمكن تفسير الميكانيكا النسبية، والميكانيكا التموجية،
والميكانيكا الكمية، بأنها كلها مواقف ديالكتيكية تجاه ميكانيكا
نيوتن. كل هذه الاتجاهات الديالكتيكية تستدعي بلا شكٍّ — كما أوضح
بول موي١٠ في الكتاب الحالي (الفصل الثالث، قسم ١٨) — تجديدًا
للروح العلمية، وقد عرض جاستون باشلار G. Bachelard
في كتابه «الروح العلمية الجديدة» صورة عامة لهذا
التجديد، وقدَّم في كتابه «فلسفة اللا La
philosophie du Non» عرضًا جدليًّا لهذه الكثرة من
نقط البداية.
والحق أن هذا العرض السريع الذي أوضحنا به تقدُّم عِلمنا بالمادة
(من وجهة نظر الكيمياء ومن وجهة نظر الطبيعة النووية معًا) يُبين
لنا بوضوح أن الفلسفات التقليدية، من تجريبية وعقلية، لا بد من
إعادة النظر فيها في هذه المجالات. فإذا تأمَّلنا درجة تعقيد
الظواهر الإلكترونية والنووية، وجدناها تُقدِّم إلينا خواص
ديناميكية «خُلقت من جديد»، وتُنسَب في الأغلب إلى مواد «تكوَّنت»
بعد أن لم يكن لها وجود. فهناك إذن نوعٌ من العلوم على الواقع، لا
يكون فهمُه دون القيام بثورة في الفلسفات التي تتفق مع ما يقع تحت
حِسِّنا مباشرةً من ظواهر.
فكيف يمكن إذن أن تتردَّد الفلسفة — كما يحدث في العصور الفلسفية
الكبرى — في العودة إلى دراسة العلوم؟ أيرجع ذلك إلى أنَّ العلم قد
أصبح أكثر صعوبةً؟ ولكن متى كانت الصعوبة عائقًا في وجه الفلسفة؟
الأمر الذي لا شك فيه، على أية حال، هو أن هذا التقدُّم الرائع
للتفكير النظري والعملي، لا يسمح للمرء بأن يقرَّ بصحة الانتقادات
التي توجَّهُ دون انقطاع إلى «قيمة العلم» منذُ مُستهل هذا القرن،
فكيف يجوز لأحدٍ أن يتحدث عن «إخفاق العلم» — مثلما «فعل فردينان
برونتيير F. Brunertiere» — إذا
كان العلم يُساهم بنصيبٍ في رفاهية البشر، ولا يقتصر على ذلك؛ بل
يُلقي على حياتنا ضوءًا روحيًّا ساطعًا (وهذا هو الأهم من وجهة نظر
الفيلسوف)؟ لقد كان هذا أيضًا هو الباعث لنا على ألا نلحَّ في هذا
الفصل على تأكيد مظاهر التقدم المادي والعملي للعلم — مع أنها
واضحة كل الوضوح — بقدْر إلحاحنا على تأكيد الأفكار النظرية التي
تقلِبُ دعائم المعرفة رأسًا على عقب.
فإذ كنا نعترف بأن الإنسان كائن مفكر. ألن يكون توسيعه لتفكيره
على نطاقٍ هائل هو الذي يجعله واعيًا، لا بطبيعته فحسب؛ بل بأنه
رسالة رفيعة؟
١
حركة اكتشفها في ١٨٢٧م عالم النبات برون
Brown: فعندما يفحص المرء
بالمجهر سائلًا يعلق به غبار، يجد حبَّات الغبار تثور وتتقلب.
وهذا التقلُّب ناتج عن اصطدامها بجزيئات السائل.
٢ «Applications industrielles de mesures
électroniques» Edition de Montligeon”,
1950.
٤
أي نصف حاصل ضرب الكتلة في مربع السرعة. (المترجم)
٥
ملحوظة للمترجم: في النص الفرنسي خطأ مطبعي ترتَّب عليه
ترقيم هذا القسم برقم ١١ بعد القسم السابق رقم ٩ مباشرة، وقد
احتفظنا بهذا الترقيم على ما هو عليه، حتى لا تختلط الإشارات،
واكتفينا بالتنبيه إلى هذا الخطأ.
٦
إن لم يكن ذلك في تجربة، فعلية، فعلى الأقل في تجربة للفكر
الذي لا يبتعد أبدًا عن المعنى التجريبي للأفكار.