العمليات العامة للتفكير الاستنباط والاستقراء
التفكير العلمي مشترك بين كل المناهج
بل إن علينا أن نُبين أن هذه الخطوات نفسها ليست مشتركةً بين العلوم كلها فحسب وإنما تمتدُّ أيضًا إلى «كل» تفكير، سواء أكان ذلك تفكير الإنسان الذي يُدرك العالَم الخارجي، والصانع الذي يؤلِّف بين أساليب فنية، والفيلسوف الذي يحاول فهم الأخلاق والدين، والعالِم الذي يعمل ويفكر أمام سبُّورته السوداء أو في معمله. ونحن نعترف بأن أنواع التفكير هذه ليست جميعها على مستوًى واحد، أو متساوية من حيث القيمة، ومع ذلك يجب أن تنطوي على عنصر مُشترك، وأن تتشابَهُ أساليبها من حيث الجوهر.
وسنبدأ أولًا بإرجاع التفكير العلمي إلى صوره العامة، ثم ندرس كل عمليةٍ من العمليات العامة المكوِّنة له على حدة.
والحق، إن المرء ليعجزُ عن فهم الشيء، أيًّا كان، إلا إذا أدمج فيه «فكرة». فالفكرة مجموعة مُنسقة من العلاقات التي تجمع بين مختلف أوجه الشيء أو أجزائه أو تجمع بين أشياء مختلفة؛ فالصورة المدرَكَة لشيءٍ مثلًا، هي فكرة تبدأ بربط مظاهره المرئية المتعاقبة، وفكرة الدائرة تربط المظاهر التي تتشكل بها الدائرة، وهي مظاهر بيضاوية عادة، إذ إن الشكل البيضاوي صورة منحرفة للدائرة، كذلك تربط الفكرة بين المظاهر البشرية واللمسية لهذا الشيء، ولنضرب لذلك مثلًا آخر؛ فموضوع القطعة المسرحية أو الرواية أو الشريط السينمائي هو الخيط الذي يجمع بين مراحلِهِ ويبررها. والأمثلة العلمية أكثر وضوحًا من ذلك: ففكرة المثلث هي سبب خصائصه، وهي تُلقي ضوءًا على النظريات الخاصة بالمثلث. وقانون نيوتن أو فكرة الجاذبية تفسِّر الثقل، وحركة الكواكب، والمد والجزر.
ولكن الفكرة لا تؤدي دورها إلا إذا كشفنا عنها أولًا، ثم أجرينا التجارب عليها، فمراحل التفكير العلمي تُشبه مراحل المشي في أنها تتكون من خطوتين أطلق عليهما كلود برنار اسم «الاستدلال الباحث» «والاستدلال البرهاني»، وأضاف إلى ذلك أن هذَين النوعَين من الاستدلال يوجدان في كل العلوم.
الاستدلال أو الأسلوب التدريجي في التفكير
هذه البراهين أو الحجج هي حدود وُسطى، أو وسائط، تربط العناصر التي تظهر متضامنة في النتيجة.
الاستدلال «البرهاني» أو الاستنباط
سوف نبدأ بهذا النوع من الاستدلال لأنه يمدنا بأوضح الأمثلة دلالة على الطريقة التدريجية في التفكير.
ولقد قلنا أنه يبدأ «بفكرة» أعني «بحقيقة» أو «مبدأ»، وإذن فهو الاستدلال الذي ينتقل من المبدأ إلى نتائجه.
أرسطو يصف الاستدلال الاستنباطي بأنه قياس
كان أرسطو أول من شعَر «بالضرورة المنطقية» التي تربط المبادئ بالنتائج في الاستدلال الاستنباطي. فخلال دراسته لعمليات «الديالكتيك»، أي للجدل المنظم، حدَّد معالم استدلال «يرغم» السامع، إذا ما اعترف بمبادئ معينةٍ تُسمَّى «بالمقدمات»، على قبول النتيجة، بحيث لا يكون المرء في حاجة — كما يقول — إلى «طلب النتيجة»، كما يفعل أصحاب الديالكتيك وإنما تفرض النتيجة بضرورة مُطلقة. وهذا النوع من الاستدلال يُسمَّى في أبسط مظاهره باسم «القياس» وهذه صورته الكاملة.
كل إنسان فانٍ | (مقدمة أولى، تُسمَّى بالكبرى) |
وسقراط إنسان | (مقدمة ثانية، تُسمَّى بالصغرى) |
إذن سقراط فانٍ | (نتيجة) |
ويدل حرف العطف في المقدمة الصغرى ولفظ «إذن» بوضوح على أننا هنا بإزاء نظام عقلي ذي مراحل متميزة.
ومن السهل أن نُدرك أن هذه العملية تنحصر في ربط الحدَّين «سقراط» و«فان» وهما الحدان اللذان يكونان موضوع النتيجة ومحمولها، بوساطة الحد «إنسان» الذي يتمثَّل في المقدمتَين، والذي يختفي إذا ما انتهى دوره، ولا يظهر بعد ذلك في النتيجة، وهو يُسمى «بالحد الأوسط»، وذلك راجع إلى وظيفته المتوسطة هذه. وكان أرسطو يقول إنه هو سبب النتيجة أو عِلتها: ويُسمَّى موضوع النتيجة (سقراط) بالحد الأصغر، ومحمولها (فان) بالحد الأكبر وتُسمَّى المقدمة التي تحتوي على الحد الأكبر بالمقدمة الكبرى، وتلك التي تحتوي على الحد الأصغر بالمقدمة الصغرى.
(١) المنطق الصوري
فإذا نظرنا إلى «ماصدق» الموضوع، وجدنا أن معنى المقدمة الماصدق ومن حيث المفهوم.
فإذا نظرنا إلى «ماصدق» الموضوع، وجدنا أن معنى المقدمة الكبرى هو: أن جماعة الناس هي جزء من جماعة الفانين. أما إذا نظرنا إلى مفهومه كان معنى الكبرى هو: أن صفات الإنسان تشتمل على الفناء. أو «فان» صفة من الصفات المكوِّنة للإنسان. وعلى ذلك، فإذا ترجم القياس إلى لغة الماصدق، كان معناه هو: لما كان الناس جزءًا من الفانين، ولما كان سقراط جزءًا من الناس، فسقراط إذن جزءٌ من الفانين. أما إذا تُرجِم إلى لغة المفهوم، كان معناه بعكس ذلك، أن الفناء لمَّا كان صفة للإنسان، ولما كان سقراط إنسانًا فإن الفناء صفة تدخل في مفهوم سقراط.
وفي القياس «الكامل» الذي تحدَّثنا عنه يكون الحد الأوسط متوسطًا من جهتين؛ فقد رأيناه من جهة يربط الحد الأكبر بالحد الأصغر، ومن جهةٍ أخرى نجد أن ماصدقه «متوسط» بين ماصدق الحدَّين. ولكنه إذا كان متوسطًا دائمًا بالمعنى الأول، فمن الممكن جدًّا ألا يكون كذلك بالمعنى الثاني.
ووظيفة الحد الأوسط (أعني كونه موضوعًا أو محمولًا) هي التي تُحدِّد «الأشكال». فالأشكال تختلف باختلاف مكان الحد الأوسط في المقدمات:
فالشكل الأول يتميز بأن الحد الأوسط فيه موضوعٌ في الكبرى ومحمولٌ في الصغرى.
والشكل الثاني يتميز بأن الحد الأوسط فيه محمول الصغرى.
والشكل الثالث يتميز بأن الحد الأوسط فيه محمول في الكبرى وموضوع في الصغرى.
والشكل الرابع يتميز بأن الحد الأوسط فيه محمول في الكبرى وموضوع في الصغرى.
ومن الممكن حفظ هذه الأشكال الأربعة بسهولة، بفضل الأبيات، التذكارية اللاتينية الآتية:
فهناك إذن أربعة أشكال. ولكنا نرى أنه من الممكن رد الشكل الرابع إلى الأول بتبديل موضع الكبرى والصغرى، والحد الأكبر والحد الأصغر، ولهذا السبب رفض بعض المناطقة هذا الشكل الرابع، ولم يعترفوا إلا بالأشكال الثلاثة الأولى.
وتختلف التأليفات التي يطلق عليها اسم «ضروب» القياس إذا كانت القضايا التي يتكون منها القياس هي ك أو س أو ج أو ب.
غير أن هناك قواعد للقياس تمنع تجمعات معينة، هذه القواعد عددها ٨. ولن نذكر منها إلا واحدةً على سبيل المثال:
المقدمتان الموجبتان لا تنتجان نتيجةً سلبية.
إذن فهذه القاعدة تؤدي إلى استبعاد الأقيسة من نوع ك ك س، ك ج س، ج ك س، ج ج ك، ك ك ب، ك ج ب، ج ك ب، ج ج ب، ولا يبقى من اﻟ ٢٥٦ ضربًا الممكنة نظريًّا سوى ١٩ لا تخالف قواعد القياس، منها أربعة من الشكل الثاني، وستة من الثالث، وخمسة من الرابع.
ولما كان الشكل الرابع قد أثار إشكالات، فلن نبحث إلا الأشكال الثلاثة الأولى.
قياس الشكل الأول يضع شرطًا كافيًا
في الشكل الأول، يكون للحد الأوسط ماصدق متوسط بالفعل؛ فالإنسان أخص من الفاني من جهة الماصدق، وسقراط أخص من الإنسان في ماصدقه (بل إن سقراط ليس له ماصدق على الإطلاق)، ما دام (فردًا) فمعنى الكبرى في الواقع هو: إن الشرط الكافي في فناء الكائن أن يكون إنسانًا.
ويكون الاستدلال من الشكل الأول إذا حددنا فيه قاعدة، وذكرنا الشرط الكافي لتطبيقها ثم أكدنا بعد ذلك أن هذا الشرط قد تحقق.
لهذا كانت المقدمة الكبرى في الشكل قضيةً كليَّة دائمًا (أي قاعدة) والصغرى قضية موجبة.
ومن الأحكام القضائيَّة ما يوضع في صورة أقيسة من الشكل الأول؛ فالمشرع يضع المقدمة الكبرى، مثل: القتل مع سبق الإصرار يعاقَب عليه بالسجن أو بالأشغال الشاقَّة إلخ (تبعًا لنوع الحالة)، ويضع المحلفون المقدمة الصغرى: على أن المدعو «م» قد ارتكب جريمة القتل مع سبق الإصرار، ونستخلص النتيجة «بالحكم»، بل ربما كانت جميع الأحكام القضائية نتائج لأقيسة، ما دامت تطبق قوانين، ولكن العلاقة الوظيفية بين المحلفين والمحكمة لا تظهر فيها صراحةً على الدوام.
كذلك يستدل المرء في الأخلاق عن طريق قياس من الشكل الأول، عندما يستنتج من القانون الأخلاقي الذي يدعو إلى واجب معين، إلزامًا بأداء هذا الواجب في حالة معينة، أو يستنتج من القانون الذي يصم فعلًا معينًا بمنافاته للأخلاق (كالكذب أو السرقة)، أن فعلًا معينًا تم أداؤه بالفعل منافٍ للأخلاق.
وقد ذكر أرسطو مثالًا لقياس الرغبة.
فالرغبة تقول: إنني عطشان.
قياس الشكل الثاني يقدم شرطًا ضروريًّا
كلُّ فيلسوفٍ نزيهٌ
إذن يجب أن تكون الصغرى سالبة، وكذلك النتيجة.
فالشكل الثاني يتميز بأن إحدى مقدمته ونتيجته سالبتان على الدوام، وهذا راجع إلى أن مقدمته الكبرى لا تُعبر عن شرطٍ كاف كما هي الحال في الشكل الأول القائل: «إن الشرط الكافي في غناء الكائن هو أن يكون إنسانًا.» وإنما تعبر عن شرط ضروري: «الشرط الضروري في أن يكون المرء فليسوفًا هو أن يكون نزيهًا.»
على أنه متى تحقق شرط ضروري، فليس في وسعنا أن نستدل منه على شيء، ولا نستطيع استخلاص نتيجة إلا في الحالة التي لا يكون الشرط الضروري قد تحقق فيها.
ولنلاحظ أن القضية «الكلية الموجبة» يمكن أن تُفهم بمعانٍ مختلفة، فإمَّا أن تعني: الشرط الكافي في فناء الكائن هو أن يكون إنسانًا، أو تعني: الشرط الضروري في إنسانية الكائن هو أن يكون فانيًا؛ ففي الحالة الأولى تكون القضية هي المقدمة الكبرى الممكنة لقياسٍ من الشكل الأول، وفي الحالة الثانية، لقياس من الشكل الثاني.
ونحن في الحياة العملية «نتعرف» على الشخص أو الشيء بوساطة سلسة من العلامات، ولكنا دائمًا مُهددون بالوقوع في الخطأ، ولا نستطيع أن نستدل من العلامات على شيء إلا إذا كانت تُكوِّن مجموعًا ذا دلالة واحدة؛ وهو ما لا يتفق مطلقًا مع منطق الاستنباط وإنما مع منطق الاستقراء.
قياس الشكل الثالث يُفيد عدم التنافي بين صفتين
في الشكل الثالث يبلغ «ماصدق» الحد الأوسط أدنى حدٍّ ممكن. فهو إذن موضوع في المقدمتَين. فما الذي يمكننا أن نستدلَّ عليه من مُقدمتَين لهما موضوع واحد؟ يمكن الاستدلال على أن المحمولين «لا يتنافى أحدهما مع الآخر».
والصيغة المنطقية لهذه النتيجة هي «بعض الحيوانات البحرية لها رئتان»، فنتيجة القياس من الشكل الثالث قضية جزئية دائمًا. وبالاختصار فالقياس من الشكل الثالث يستدل من «الواقع» على «الممكن»، فالحوت «يحقق» حالة الحيوان البحري ذي الرئتين، أي أن مثل هذا الحيوان ممكن.
المنطق الصوري القديم، والمنطق الصوري الحديث
لم يكن بُدٌّ من الانتظار قرونًا من الزمان حتى نهتدي إلى الوجهة الجديدة التي سار فيها المنطق الصوري. فحتى عام ١٧٧٠م، حين كتب «كانْت» مقدمة الطبعة الثانية من «نقد العقل الخالص» كنا لا زلنا نقرأ كلمات كهذه: «لم يضطر المنطق، منذ أرسطو، إلى التراجع خطوة واحدة إلى الوراء … وهذا أمر ينبغي أن نذكره له بالإعجاب، إذ إنه لم يتمكَّن أيضًا، حتى الوقت الحالي، من أن يخطو خطوةً واحدةً إلى الإمام، حتى لتدل كل الشواهد على أنه علم قد تم واكتمل.» والحق أن منطق أرسطو كان يمتاز بمحاولة تحليل تركيب الفكر في ذاته، بغض النظر عن مضمونه، وقد حدَّد بوضوح مبادئ تكفل صحة الفكر، ويمكن أن تستخلص منها قوانين عامة له.
الجبر المنطقي
ولقد لاحظ «بول» أننا إذا كنا نَستخدِم في عمليات الجبر رموزًا لها خصائص مُعينة، فمن الممكن استخدام رموز مشتقَّة من الرمزية الجبرية للتعبير عن العمليات الفكرية.
فلنتأمل الآن العملية الفكرية التي تجمع أو تضمُّ مجموعتَين من الأفراد — ويُسمِّيها المنطقي فئتين — وهي العملية التي يُعبر عنها مثلًا بالصيغة: «الفرنسيون والإنجليز» ففي هذا الجمع بين الحدَّين: الفرنسيين — الإنجليز، بوساطة العملية المنطقية «و» يمكننا أن نعكس ترتيب الحدَّين، فنقول: «الإنجليز والفرنسيون» وهنا نجد صفةً مستقلة كل الاستقلال عن الحدود التي تجمعت، ويُمكننا القول بأن هذا التجمع، الذي نُعبر عنه بحرف العطف هو تجمع «قابل للتبديل» مثله في ذلك مثل الجمع في الجبر الأوَّلي. فالعملية المنطقية للعطف (أي الواو) — حين يُنظَر إليها من وجهة النظر الشكلية الخالصة هذه، وبغضِّ النظر عن «معنى» الحدود التي تربط بينها — لها بدورها خصائص جديدة مماثلة تمامًا للخصائص المميزة للجمع الجبري الأوَّلي. وعلى ذلك ففي وسعنا أن نرمز لعملية الضم هذه برمز الجمع: +.
غير أن حرف العطف (الواو) قد يُشير إلى عملية أخرى للفكر. فعندما نقول «الأشخاص الذين يسكنون إنجلترا» و«الذين ينتمون إلى جنس الذكور» لا نكون بإزاء عملية جمعٍ أو ضمٍّ لفئتَين من الأفراد، وإنما بإزاء نوعٍ من التأليف، أو «الضرب» بين فئتَين: فنحن نرمي في هذه العملية إلى الإشارة إلى الأفراد الذين ينتمون إلى طائفتَين في آنٍ واحد، ويمكننا التحقُّق من أن هذه العملية المنطقية لها خصائص شكلية مشابهة لخصائص الضرب المنطقي — باستثناء خاصية واحدة سنذكرها فيما بعدُ. وعلى ذلك نرمز لهذه العملية المنطقية بعلامة الضرب ×، ونُسميها بالضرب المنطقي.
ولنلاحظ أن اللغة المتداولة تستخدم حرف الواو ذاته في وظيفتَين مختلفتَين، أما المنطق فيقضي على هذا الخلط، هو يدفع الذهن إلى المُضي في التحليل إلى أقصى درجاته. ففي حالات مُعينة تؤدي الواو وظيفة علامة الجمع + وفي حالات أخرى تؤدي وظيفة علامة الضرب × فإذا ما عبرنا عن الفئة بدائرة، أمكننا تصوير هاتَين الحالتَين بالشكلين الآتيين:
فالتعبيران: «سكان إنجلترا»، و«الذين ينتمون إلى جنس الذكور»، تدل عليهما عندئذٍ حروف س، ص … كما في الجبر. ويُعبر عن الهوية بعلامة التساوي، وعلى أساس هذه الرموز يُمكننا بالفعل أن نُنشئ «حسابًا» من نوع الحساب الجبري، لا يتسع المجال هنا لإيضاح تفاصيله. فمثلًا نُعبر عن تساوي التعبيرَين «الأشخاص الذين يسكنون إنجلترا وينتمون إلى جنس الذكور» و«الأشخاص الذين ينتمون إلى جنس الذكور ويسكنون إنجلترا» بقانون في صورة جبرية هو س × ص = ص × س: أي أن الضرب المنطقي قابل للتبديل مثله في ذلك مثل الضرب الجبري.
غير أنَّ هناك استثناءً نبَّهنا إليه من قبل، فإذا كنا في المنطق نضرب فئة في ذاتها فسيكون الناتج هو هذه الفئة ذاتها.
وهو ما تُعبر عنه علاقة س × س = س (فإذا قُلنا «الأشخاص يسكنون إنجلترا ويسكنون إنجلترا في الوقت نفسه» كان هذا مجرد تكرار)، ومن هنا لم يكن في الجبر المنطقي أسس.
على أن الصيغة س × س = س لا تصحُّ في الجبر إلا إذا كانت س هي صفر أو ١. وعلى ذلك فالجبر المنطقي يختلف عن الجبر الأوَّلي في أنه يعترف بأن الصيغة س × س = س صحيحة على الدوام.
ولكن مثلما أن الرياضيات الحديثة تحتوي على «هندسات». كذلك يحتوي الجبر على نُظم مختلفة، تتكوَّن عن طريق تغيير نسَق البديهيات الأساسي فحسب. ومن هذه الأنواع الحديثة في الجبر يُوجَد نوع هو النظرية التي وضعها بول، ولهذا السبب يُسمِّيه الرياضيون «جبر بول» وهذا الجبر يتميز عن الجبر الأوَّلي بأنه لا يقبل أُسسًا، وإذا كان «بول» قد استخدم الرمزية الجبرية لوضع دعائم منطقٍ جديد فإنه في الواقع قد خلق جبرًا جديدًا.
المنطق الرياضي Logistique
بلغ الطموح بالمنطق الأرسطي حدًّا جعله يهدف إلى أن يكون نظريةً منظمة في الاستنباط بوجهٍ عام، لكنَّا لاحظنا من قبل أن هذه التنظيم كان يفتقر إلى الأساليب الفنية والمناهج التي تستخدمها العلوم الاستنباطية. وهكذا لم يعرض المنطق الأرسطي ذاته في صورة استنباطية، أما الجبر المنطقي فيُعرَض في صورة استنباطية بالفعل، ولكن ليس له أن يدَّعي أنه علم للاستنباط بوجهٍ عام، فهو يمثل تفسيرًا منطقيًّا لعلمٍ استنباطي خاص، هو «جبر بول». والمثل الأعلى للجبر المنطقي يظل «حسابًا» يسمح بحل المسائل المنطقية ومع ذلك، فالجبر المنطقي، يفتقر إلى ذلك الاتساع والشمول الذي تتصف به «النظرية» المنهجية في الاستدلال. وهكذا لم يصل المناطقة إلى ذلك العلم المنهجي للاستدلال إلا عن طريق «المنطق الرياضي» وهو (علم جديد خلَّف الجبر المنطقي).
هذا العلم العام الذي يدرس الاستدلال الاستنباطي من حيث صورته، لا يهتم بالرجوع إلى المحتوى الخاص للاستدلال؛ بل يدرس أي الصور تصلح في الاستدلال، دون أيةِ إشارة إلى الطبيعة العينية للأحكام، وعلى هذا النحو يستخلص تركيب الاستدلالات، فإذا أراد الكشف عن كُنْهِ هذا التركيب، قام أولًا في الجزء المبدئي منه، بدراسة كل الارتباطات الممكنة بين الأحكام أي بين القضايا. فهو يتَّخِذ هذه القضايا بدلًا من الفئات نقطَ بدءٍ له. وعندئذٍ ينظر إلى هذه القضايا مؤقتًا على أنها عناصر ووحدات لكي يركز الانتباه على طريقة ربط هذه القضايا فيما بينها فحسب، ويُسمَّى هذا الجزء من المنطق الرياضي «منطق القضايا»، ما دامت الموضوعات التي يستدل عليها قضايا، وبعد أن تتمَّ هذه الدراسة ينتقل منها إلى دراسة التركيب الداخلي للقضية (الموضوع، والمحمول) وتُفضي به هذه الدراسة إلى منطق للمحمولات وللفئات وللعلاقات.
مذاهب المنطق كثيرة
ولكن مثلما أن بديهيات الرياضة ليست بطبيعتها غير قابلة للبرهنة عليها (كما أوضحنا في الفصل السادس) كذلك نجد في المنطق الحديث نفس النسبية في اختيار البديهيات والمعاني الأولى، فإلى جانب المنطق الرياضي الذي يمكن أن يُعدَّ الآن «تقليديًّا» تُوجَد أنواع أو مذاهب من المناطق، مثلما تُوجَد «هندسات» إلى جانب الهندسة الإقليدية.
فكرة قِيَم الحقيقة في المنطق الرياضي
المنطق والرياضة
المشكلات الخاصة بالعلاقات بين المنطق والرياضة لها أنواع مختلفة فلنعرض بإيجاز لبعض هذه المشكلات.
-
(١)
هل يجب على مناهج المنطق الصوري أن تستوحي المناهج الرياضية؟ يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال قد أصبحت واضحةً كل الوضوح في أيامنا هذه؛ فعن طريق المنطق الرياضي، أصبح النطق بالفعل عِلمًا له نفس وضعية العلم الرياضي، وبعد أن أصبح المنطق عِلمًا مضبوطًا بدقة، اتضح لنا مدى النجاح الذي يستطيع تحقيقه.
-
(٢)
أراد بعض المناطقة إرجاع الرياضة للمنطق، والتعبير بوجهٍ خاص عن مفاهيم رياضية خالصة، كمفهوم العدد مثلًا، وذلك باستخدام معانٍ منطقية محضة، وتُعرَف هذه المحاولة لردِّ المعاني الرياضية إلى المعاني المنطقية باسم «النزعة المنطقية logicisme» غير أن هذا ليس إلا أحد الاتجاهات الكثيرة في المنطق.
-
(٣)
يدرس المنطق مجموعات البديهيات الرياضية، وطريقة صياغتها، وصفات عدم التناقض والاستقلال فيها … إلخ، ولكن إذا كان المنطق يدرس «أسس» الرياضة، فهل معنى ذلك أن من الواجب أن يسبق تركيب النظريات الرياضية ذاتها؟ علينا أن نعترف بأن مهمة المنطق تتَّصف بوجهٍ خاص بأنها «راجعة أو ارتدادية retrospective»؛ فهو يحدد طبيعة العمليات الرياضية وقيمتَها بعد وجودها فعلًا، فالمنطق وسيلة إلى التبرير أكثر مما هو منهج للإبداع.
على أنه من العسير أن نحكُم على ما حقَّقه المنطق الحديث دون دراسةٍ عميقة لأساليبه الفنية، لهذا فنحن مُضطرون إلى أن ندع جانبًا مشكلات المنطق الحديث لنعودَ إلى آفاق البحث التي كانت معروفةً في القرن الماضي …
الاستنباط يفترض الاستقراء الذي يُزوِّده بمقدماته الكبرى
والاستقراء استدلال يبدأ بعددٍ مُعين من القضايا الشخصية (المتعلقة بواقعةٍ واحدة أو فردٍ واحد) أو من القضايا الجزئية (المتعلقة ببعض الوقائع أو الأفراد) لينتهي إلى قضية كلية (تتعلق بكل الوقائع أو الأفراد من جنس معين). ويُعرِّفه أرسطو بقوله إنه هو الاستدلال الذي ينتقل من الخاص إلى العام.
الاستقراء يمكن إرجاعه في حالات معينة إلى الاستنباط
(١) الاستقراء الصوري
ومع ذلك يجب الاعتراف بأن مثل هذه التطبيقات محدودة، وأننا تناولناها بالبحث فإننا لا نعرض لمشكلة الاستقراء الحقيقية.
(٢) الاستقراء التعميمي amplifiante
إن الاستقراء الحقيقي هو ذلك الذي وُصف بأنه استقراء تعميمي؛ فهو يعمل في آنٍ واحد على زيادة الحكم كمًّا وجهةً، أما باعتبار الكم فذلك بانتقاله من الجزئي إلى الكلي، وأما باعتبار الجهة فذلك بانتقاله من العرضي (أي من المعطى، ومن الواقعة من حيث هي واقعة) إلى الضروري (أي القانون).
(٣) نظرية بيكن في الاستقراء
(٤) الفرض والاستقراء
على أن منطق بيكن يفتقر إلى أمرَين؛ فهو أولًا لم يُوضِّح على الإطلاق أن كشف «التركيب الدقيق» أو «العملية الكامنة» هو نتيجة استدلال ينبغي تبريره منطقيًّا. وبعبارة أخرى، فالمشكلة المنطقية للاستقراء لم تطرأ على ذهنه، ثم إنه لم يوضح بجلاء تلك الفكرة الأساسية، وهي أن هذه النتيجة إنما هي فرض. وكلمة الفرض هذه تنطوي على معنيين، فالفرض تخمين وهو لا يعدو أن يكون احتماليًّا وغير يقيني ثم إن الفرض مبدأ، يستخلص الاستنباط منه نتائج يجب التحقُّق من صدقها بطريقة تجريبية. وفي هذه الصفة الثانية يَستبقي الفرض شيئًا من وظيفته الرياضية، كما أوضحنا من قبل.
الطبيعة الحقيقية للاستقراء
والآن يمكننا أن نعرف كنه الاستقراء على نحوٍ أدق. فهو أولًا تخميني، وهو يفترض ابتداعًا حرًّا ترشده المعطيات وتلهمه، دون أن تقهره على شيء، فعندما بحث كبلر عن القانون الهندسي الذي تخضع له الكواكب، فكَّر أولًا في الدائرة، ولكن تبيَّن له أن هناك انحرافًا ضئيلًا جدًّا في الواقع بين الدائرة والمدار الحقيقي، فجرب ١٩ مدارًا مختلفًا قبل أن يصل إلى المدار الحقيقي. وقد استخلص هذه المدارات التسعة عشر من المعلومات الهندسية التي كونها علماء الهندسة، خلال أبحاثهم في عهد طاليس، وإقليدس، وفي أثناء قيامهم بالكشف وبتحسين كشوفهم.
وأخيرًا فالاستقراء ينتهي إلى «فرض» أي إلى مبدأ احتمالي يصلح أساسًا لاستنباط يمكن التحقق من صدقه.
مبدأ الحتمية أساس الاستقراء
قلنا إن الاستقراء يفترض الإيمان بالحتمية، أي اعتقاد خضوع الطبيعة لقوانين، ومن هنا كانت الحتمية أساس الاستقراء.
(١) المبادئ الثلاثة لعلاقات التجربة
وقد حدد «كانْت» صيغة مبادئ علاقات التجربة الثلاثة كما يلي:
(أ) مبدأ الجوهر
يظلُّ الجوهر على حالة وسط تغير كل الظواهر دون أن تزيد كميته في الطبيعة أو تنقص. فمهمة العالِم تنحصر إذن في إيضاح طبيعة هذا الجوهر وتحديد كميته. وذلك هو موضوع تلك القوانين الكبرى المسمَّاة ﺑ «مبادئ بقاء المادة والطاقة».
العلم والجوهر
قد يظنُّ المرء أن العلم الاستقرائي المعاصر ليس في حاجة إلى مبدأ الجوهر؛ بل قد يُخيَّل إليه أنه ينبذه: هو ليس في حاجة إليه، لأنه يكتفي بصياغة قوانين سببية أو وظيفية تُعبر عن علاقات بين الظواهر المتعاقبة، أو بين العناصر المتلازمة للظاهرة، أو بين الظواهر المتلازمة. ومن جهة أخرى فهناك ظواهر تُناقِض مبدأ بقاء المادة، لأنها تُبين لنا أن بعض أجزاء المادة تُفقد أو تختفي بلا رجعةٍ. وفضلًا عن ذلك فالمادة هي الكتلة التي تتغيَّر تبعًا للسرعة، كما تقول بعض النظريات المعاصرة. ولكن يُلاحظ أن كل فقدان أو ظهور للكتلة، يَصحبه ظهور أو اختفاء للطاقة يتناسب معه، بحيث تكون إحدى صور الطاقة. وإذا كانت الكتلة تتغيَّر تبعًا للسرعة، فمن المؤكد أن الكتلة لن تعود هي الباقية؛ بل إن ما يبقى هو علاقة خاصة معقدة بين الكتلة والسرعة. فهناك إذن على الدوام مبادئ للبقاء، وكل ما في الأمر أن تحديد صيغة هذه المبادئ قد أصبح أكثر تعقيدًا وتجريدًا.
أما أن العلم في حاجة إلى هذه المبادئ، فذلك ما تُوضِّحه الملاحظة الآتية:
إن القوانين تُعبر عن العلاقات، غير أننا نظرنا إلى هذه العلاقات من وجهة النظر العلمية، فوجدناها تربط حدودًا «وأشياء» متضايفة.
ومن هذه الأشياء ما لا يتصف بالثبات، وما يستمر في البقاء، كالطاقة الكهربية مثلًا. ولكن ينبغي في نهاية الأمر أن يكون منها ما هو دائم، حتى يكون العلم منصبًّا على حقيقة واقعة.
(ب) مبدأ السببية
«كل التغييرات تحدث تبعًا لقانون الارتباط بين الأسباب والنتائج» وعلى هذا المبدأ تُبنى «القوانين السببية» ومن أمثلتها القوانين التي تُرجِع مرضًا معينًا إلى تأثير جرثومة معينة.
(ﺟ) مبدأ التأثير المتبادل
أساس الاستقراء عند «كانْت» هو إمكان التجربة
والآن نعرض لمشكلة أدق، هي مشكلة «أساس» الاستقراء. فالأساس هو الدعامة المتينة، وهو الحجة التي يدَّعيها العالِم لنفسه عندما يستقرئ. ونقول إنه يدَّعي لنفسه حجة، لأنه ينتقل من مجالٍ إلى آخر، فينتقل من الواقعة إلى القانون. فلم يكن كبلر يستطيع أن يرى المدار البيضاوي الذي أكد أن الكواكب تتحرك فيه، وهو لم يرَ إلا «بضع» مواقع لكوكب «واحد» فافترضَ أن هذه المواقع نقط في مدار بيضاوي. وذلك المدار يضمُّ عددًا «لامتناهيًا» من المواقع الماضية والحاضرة والمستقبلية «لأي» كوكب. وقد افترض كبلر أن كلَّ الكواكب «مُضطرة» بمعنًى ما إلى التحرك في مدار بيضاوي، وأنها ترسم «بالضرورة» وعلى الدوام، مدارات بيضاوية. ومن هنا نُدرك مدى «الوثبة» التي يقوم بها المرء عندما يَستقرئ. وهذه الوثبة تحدُث في كل الأحوال، ولا يتحقق أي علم دونها.
ومن المحال أن نُبرِّر هذه الوثبة عن طريق الاستنباط. فليس هناك أي «تحصيل حاصل» في حركة التفكير التي نستقرئ بها. ذلك لأن أساس المنطق الاستنباطي هو «مبدأ الهوية»، وتبعًا لهذا المبدأ لا يجوز للمرء متى أكد صدق قضيةٍ ما، أن يؤكد صدق قضيةٍ أخرى تُناقضها؛ بل إنه متى أكدها، وجب عليه أن يستمر دائمًا في تأكيدها، هي وما تستتبعه من نتائج. فهل يحق للمرء أن يمد هذه القضية ويُعمِّمها، وينتقل من تأكيد ظاهرة إلى تأكيد قانون؟ إن مبدأ الهوية لا يرفض هذا الحق، ولكنه عاجز تمامًا عن أن يُمدَّنا به، بل الحق أنه لا يذكر عنه شيئًا.
(١) الإدراك الحسي والعلم
لكن الأمر الذي يُطمئننا هو أن «الوثبة» التي نقوم بها عندما نستقرئ، هي وثبة نقوم بها بالضرورة ما دُمنا «نفكر». وفي هذه المسألة نجد أن الإدراك الحسِّي لا يقلُّ تعجلًا عن العلم؛ بل إنه ينطوي على نوعٍ من العلم. فهو لا يصوغ قوانين بالمعنى الصحيح، وإنما يُقرر أشياء وحقيقة واقعة، بطريقة ضرورية، ويدعي لنفسه صفة الحقيقة، ولو تخلَّى عن صفة الحقيقة، لتخلى عن وجوده ذاته. على أن إقرار حقيقة واقعة، معناه تأكيد أن لنا الحق في الاعتراف بوجودٍ يتقرَّر خارج الفرد الذي يُقرره، أعني الاعتراف بوجود ضروري شامل؛ ضروري بمعنى أنه يتمثل ويُوجَد ضمنًا في كل الإدراكات الحسية للشخص الذي يدرك، ويتحكم في هذه الإدراكات على نحوٍ ما، وشامل بمعنى أنه مُتضمَّن، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في جميع الإدراكات الحسِّية لكل الموجودات القادرة على الإدراك الحسي، وإذن فالإدراك الحسي ذاته يتجاوز نطاق التجربة المباشرة في تأكيد عمومية الوجود وضرورته.
وفي وسعنا أن نُقرِّب بين الإدراك الحسي والعلم بطريقةٍ أعمق من هذه. فليس ثمة إدراك حسِّي دون وجود هندسة تلقائية، لأننا لا نستطيع رؤية شيء أو لمسِهِ دون أن نُحدد له شكلًا. غير إن هذا الشكل هو ذاته «القانون». وكما أن كبلر قد جمع في المدار البيضاوي سلسلةً من مواقع الكواكب، فإن المدرك الساذج يجمع في دائرةٍ مثلًا، لمسات يده لمائدة مستديرة، أو الصور التي ترسمها هذه المائدة في عينيه، وفي معظم الأحيان لا يمكن أن تكون هذه الصورة دائرية؛ بل تكون بيضاوية بدرجات مختلفة، وإنما تكون فكرة الدائرة المتضمَّنة في رؤية المائدة المستديرة نتيجة لنوع من الاستقراء التلقائي الساذج، وهذا الاستقراء بدوره يُمكِّن من القيام بنوع من الاستنباط الذي يُشبههه في تلقائيته وسذاجته، إذ إن الدائرة التي نفكر فيها عن طريق الإدراك الحسي للمائدة المستديرة تتشكل ذهنيًّا بعددٍ لا متناهٍ من الدوائر أو من الأشكال البيضاوية الممكنة، فتسمح بالتنبؤ بكل الصور التي يمكن أن تبعثها المائدة المستديرة في أعين جميع مَن يُدركونها، أو بالتكهن بسلسلة الاتصالات اللمسية التي تُقدمها الدائرة أو يمكن أن تقدمها لهم.
(٢) الفلسفة الترنسندنتالية
ويُطلق «كانت» على هذه الفلسفة اسم «الترنسندنتالية». ولقد كان المدرسيون يُطلقون هذا الاسم على المحمولات التي تنطبق على كل الموجودات، مثل صفة كون الشيء «واحدًا» أي كونه يكشف عن وحدة داخلية، أما «كانت» فيطلق اسم «الفلسفة الترنسندنتالية» على تلك الفلسفة التي تفرض على الوجود «شروطًا قبلية» مصدرها العقل. ولنلاحظ أن هذه الفلسفة ليست في أساسها جديدة كل الجدة، وذلك لأن «ديكارت» عندما بدأ تأمُّلاته بالشك المنهجي، ووضع «الكوجيتو» أنا أفكر إذن أنا موجود، قد قال في الواقع نفس ما قاله «كانت». فالشك تكذيب للواقعية الساذجة في الإدراك الحسي التلقائي، والكوجيتو تعريف للحقيقة، وأنموذج كل حقيقة، فليست هناك حقيقة سوى ما أفكر فيه بوضوح وما أفهمه، بل إن في وسعنا الاهتداء إلى أقدم أصول الفلسفة الترنسندنتالية في مثالية أفلاطون.
برهان الحتمية
وإذن ﻓ «كانت» يُسمِّي البرهان على مبدأ ما برهانًا ترنسندنتاليًّا، إذا كان يُثبته عن طريق الشروط القبلية للتمثُّل، فهو بعبارةٍ أخرى، البرهان الذي يؤكد وجود الحقيقة الخارجية عن طريق ضرورة الفهم.
(١) الجوهر
يأتي مبدأ الجوهر بالشرط الأول الذي ينبغي توافره لكي يُدرك الذهن أي تغيُّر، وهذا الشرط هو أن يظلَّ شيءٌ ما «ثابتًا» وسط التغير، إذ لو كان التغيُّر كاملًا، لقضى على نفس المعيار الذي يُمكِّن من إدراكه.
(٢) السببية
مبدأ السببية شرط يتطلَّبه العقل لكي يتصوَّر حقيقة تعاقُب الحوادث، والتعاقب الحقيقي هو التعاقُب الذي لا يمكن عكس اتجاهه، ولا يمكن تصوُّره بالترتيب العكسي دون خلف، كما هي الحال لو تصوَّرنا — على سبيل المثال — نهرًا يتجه تياره نحو منبعه. فللواقع اتجاه، لأن الزمان الذي نتصوَّره فيه له اتجاه المثال، ولو وجدت سلسلة من التصورات تسمح بأن تُعبَرَ في أي الاتجاهين حسبما نريد، لما كانت حقيقة، ولكنا نَعبُر بالفكر أو بالحواس مجموعة من الأشياء هي في حقيقة الأمر مقترنة زمانيًّا، كحجرات البيت الواحد مثلًا. ولكننا لا نستطيع أن نتصور موت لويس السادس عشر قبل مولده، لأن هذا الموت وهذا الميلاد واقعيان، وحادثان. فالحوادث لا يمكن أن ترجع على أعقابها. وتَصوُّرُ صفة عدم القابلية للرجوع هو ذاته السببية، إذ إن السبب يُحدد النتيجة، لا العكس، ولنقل بتعبير آخر، أعمق من الأول، إن المرء لا يستطيع أن يُوقِن بأن الحادثَين متعاقبان إلا إذا أدرك أحدَهَما بوصفه سببًا للآخر.
(٣) التأثير المتبادل
وكما أن السببية هي أساس التعاقب، فإن التأثير المتبادل هو أساس التزامن، فالحادثان المتزامنان ليسا مجرد حادِثَين غير مُتعاقِبَين؛ بل هما حادثان يؤثر كل منهما في الآخر تأثيرًا مُتبادلًا، ومُتساويًا، فهما يكونان معًا جزءًا من عالَم واحد، وهما مرتبطان، ولو عن طريق الضوء الذي يتبادلانه، والإشعاعات التي تنبعث من كلٍّ منهما نحو الآخر، ولقد كان تفكير ديكارت عميقًا عندما قال إن الضوء هو الحقيقة الأساسية للكون المادي، وأثبت تقدُّم العلم فيما بعدُ أنه كان مُحقًّا في قوله هذا. فالضوء (بمعناه العام، أي بمعنى الإشعاع) هو الذي يمثل ماديًّا وحدة الكون.
أساس الاستقراء عند لاشلييه
فقد أكد لاشلييه، من وجهة نظرٍ يمكن تقريبها من وجهة نظر «كانْت» أن «شروط وجود الظواهر هي نفس شروط إمكان التفكير» (ص٤١) ولكن أصالة رأي لاشلييه إنما تنحصِر في قوله بأن «المبدأ الذي ترتكز عليه معرفتنا القبلية للطبيعة مبدأ مزدوج» (ص٦٩). ويتكوَّن هذا المبدأ من قانون العِلل «الفاعلة» وقانون العلل «الغائية» فالقانون الأول ينص على أن كل «ظاهرة متضمنة في سلسلة يتحكم وجود كل حدٍّ منها في وجود الحد الذي يليه» ص٤٢، ولكنا نُدرك، وسط كثرة الظواهر، وحدةً تربط بينها (ص٥٥) وعلى ذلك فهناك قانون ثان «تدمج فيه كل ظاهرة في نسق تتحكَّم فيه فكرة «الكل» في وجود الحد الذي يليه» (ص٤٢) ولكنا «نُدرك وسط كثرة لا يمكن أن تنتج إلا من اعتماد كل جزء منها على «الكل»، فلا بد إذن أن تكون فكرة «الكل» في الطبيعة قد سبقت وجود أجزائها وتحكمت فيه، وإذن ففي الجملة يجب أن تكون الطبيعة خاضعة لقانون العِلل الغائية.» (ص٧٩).
ولكن الواقع أنه يُوجَد بين الظواهر نوعان من العلاقات: «علاقات السبب بالنتيجة» وفيها تكون الظواهر سلسلة متصلة في الزمان، وعلاقات الوسيلة بالغاية، وعليها ترتكز الوحدة المتجانسة المنظمة للطبيعة (ص٨٠) ففي الطبيعة ذاتها مستويان من مستويات الوجود، مما يبرر البرهان الفلسفي الذي أتى به لاشييه. ففي وسعنا القول إن الظواهر «تُوجَد» من حيث إنها تعتمد على سبب يسبقها في الزمان … كذلك يمكننا القول بأن الظاهرة «تُوجَد» من حيث أنها تساهم في تحقيق غاية هي أيضًا مثالية … بل إن هذا التعريف الثاني للوجود يتمشى، خيرًا من الأول، مع الفكرة التي نكونها عمومًا عن أحد الموجودات؛ لأن ما يُسمى بهذا الاسم، ولاسيما إذا كان كائنًا حيًّا، هو على وجه الدقة مجموعة من الظواهر التي تدور — على نحو — حول غاية مشتركة. وعلى ذلك فللطبيعة نوعان من الوجود، يقومان على القانونين اللذين يفرضهما التفكير على الظواهر: وجود مجرد، يتحد ذاتيًّا مع العلم الذي هو موضوعه، ويرتكز على القانون الضروري للعلل الفاعلة، وقانون عيني، يعادل ما يمكن تسميته بالوظيفة الجمالية للتفكير، ويرتكز على قانون عرضي للعلل الغائية) (ص٨٠–٨١).
وهذه الغائية هي التي تكشف عن سمة تتميز بها بوضوح فلسفة جول لاشلييه.
لم يتخذ المنطق الصوري وجهةً مخالفة كل الاختلاف لوجهة المنطق الأرسطوطالي إلا في أواسط القرن التاسع عشر؛ فمنذ ذلك التاريخ لم يعد المنطق الصوري مبحثًا فلسفيًّا بل تحوَّل إلى مبحثٍ علمي وأصبح «علمًا» يُمكنه أن يقف بمعزلٍ عن المناقشات الفلسفية ووجهات النظر الميتافيزيقية. والمثل الأعلى الذي يسترشد به هذا العلم هو الدقة والوضعية اللتان تتصف بهما العلوم الرياضية. وهكذا سعى المناطقة إلى أن يقتبسوا من الرياضة منهجها وأساليبها في الحساب، ولقد كان أحد المناطقة الإنجليز وهو بول Boole (١٨١٥–١٨٦٤م) أول من وضع دعائم «حساب منطقي» مُشابهٍ للحساب الجبري، وعبَّر عن عملياتٍ للفكر بوساطة رموز مُستمدة من الجبر، فواو العطف مثلًا، كما يتضح في تعبيرات مثل: «الفرنسيون والإنجليز» لها خصائص شكلية (أي مستقلة عن طبيعة الحدود التي يربط العطف بينها) مشابهة لخصائص الجمع. ولنذكر من هذه الخصائص واحدة — على سبيل المثال لا الحصر — فنلاحظ أنَّ في وسعنا أن نعكس ترتيب الحدود التي تربط بينها واو العطف مثلما يمكننا في الجبر أن نعكس ترتيب الحدود في مجموع مثل: س + ص = ص + س لذا يُرمز إلى حرف العطف في صفته هذه بعلامة الجمع (+). وعلى هذا النحو يمكن التعبير عن قوانين الفكر بعلاقة جبرية، ومن هنا سُمي المنطق عند بول بالجبر المنطقي.
على أن هذا الحساب المنطقي لا يتصف بصفات العمومية والتنظيم التي ينتظرها المرء من المنطق إذا نظر إليه على أنه علم للاستنباط بوجهٍ عام؛ لذا كان من الضروري الانتظار حتى عام ١٩١٠م حين ظهر كتاب مشهور وضعه عالمان إنجليزيان في المنطق هما «رسل Russell» و«هويتهد Whitehead». فعندئذ فقط تكوَّن مثل هذا العلم الذي يُعبر عنه عامةً باسم «المنطق الرياضي» logistique وهي كلمة مشتقة logistiché tachné أي فن الحساب. ويَستخدِم الحساب المنطقي، كالجبر المنطقي، رموزًا ولكن هذه الرموز لا تكتفي بمحاكاة عمليات الحساب الرياضية ذاتها؛ ذلك لأن عالم المنطق الحديث يخالف المنطق التقليدي في أنه لا يَعُد المنطق واضحًا بذاته؛ بل «يستخلصه» من مبادئ (أي من بديهيات يضعها دون برهان عليها) مثلما يستخلِص العالِم الرياضي نظرياتِهِ من بديهيات. فهناك إذن نظريات منطقية «مثلما أنَّ هناك نظريات رياضية» وهذه النظريات المنطقية تستخلص من البديهيات عن طريق قواعد للاستنباط، ولكن ليس معنى الرمز هو المهم في البرهنة على هذه النظريات؛ بل إن صلاحية هذه النظريات لا تُستمَدُّ إلا من إمكان تطبيقها على الرموز ومدى استقلالها، ويستطيع المرء — كما هي الحال في الرياضة — أن يُغير نسق البديهيات المنطقية، وبهذا نصل إلى كثرةٍ من النظم المنطقية غير التقليدية، مثلما أمكن التوصل إلى هندسات لا إقليدية مثلًا، عن طريق تغيير بديهيات الهندسة الإقليدية التقليدية.
وهي فقرة أوردها هاملان Hamelin في كتابه: مذهب أرسطو.
Le Système d’Aristote (Alcan) p. 257.
وسنتحدث في الأقسام أ، ب، ﺟ التالية عن هذه المبادئ الثلاثة ونبرهن عليها.