الفصل الثالث
الروح العلمية
إنَّ الروح العلمية وليدة حب الاستطلاع الذي يدفع العالم إلى جمع
الظواهر التي تثير اهتمامه، ويجب أن تُجمع هذه الظواهر بصبرٍ ودقة، وفي
كثيرٍ من الأحيان يقتضي البحث عنها شجاعة، إذ ينطوي على مخاطرات،
وفضلًا عن ذلك فإن المُضيَّ في هذا البحث يقتضي نزاهةً هي ألزم لوازم
روح النقد.
ولكن ينبغي أن يكمل الخيال الروح العلمية، إذ ليس ثمة علمٍ لا
تتدخَّل فيه فروضنا وتفسيراتنا لما يقع تحت الملاحظة، غير أن هذا
الخيال يختلف في نوعه عن خيال الفنان، وإن لم يكن أقلَّ اتساعًا لدى
العالِم منه لدى الفنان. وإذن فبعض الصفات التي تُعَد قوامًا للروح
العملية «خارجة عن المجال العقلي» وهي تنتمي إلى مجال الأخلاق بوجهٍ
خاص. ومع ذلك فمن الخطأ أن نعتقد أن العالِم لا يعدو أن يكون إنسانًا
أمينًا يتميَّز بقدْر كبير من الدقة. فالعلم ينطوي على تحصيلٍ غير
قليل، يكتسِبه العالِم عن طريق الثقافة العلمية؛ بل عن طريق الثقافة
الفلسفية والجمالية أيضًا.
وفضلًا عن ذلك، فالروح العلمية تفترض التسليم بمعتقدات خاصة تُعبر
عنها بعض المبادئ، مثل مبدأ الحتمية
(déterminisme) الذي يستبعد فكرة الجبر
المحض fatalisme ويستبعد، على نحوٍ ما،
القول بالصدفة Hasard (إذ إن حساب
الاحتمالات ليس حسابًا للصدفة؛ بل هو حساب لما تتضمَّنه الصدفة
الظاهرية من حتمية معروفة). وللعلم مبدأ آخَر هو مبدأ النسبية، الذي
أدى إلى كشوفٍ هامة والذي أصبحت له، في أيامنا هذه، أهميةٌ
خاصة.
العلم يبدأ بالدهشة وحُب الاستطلاع
يقول أفلاطون: إن إيريس iris هي
ابنة تاوماس Thaumas والمعنى الذي
يرمز إليه هذا القول عنده هو أن العلم وليد الدهشة، ولكن الدهشة
تترك الناظر مذهولًا، عاجزًا عن الفهم، لو لم يشعر بعد دهشته
الأولى برغبةٍ في تأمُّل الأشياء بأعيُنٍ جديدة، ولو لم يستشعر،
بوجهٍ خاص، الرغبة الشديدة في أن يرى الأشياء ابتداءً من تلك
اللحظة، في هذا الضوء الجديد، التي يجعلها تبدو على ما هي عليه
حقيقة، وتتهيَّأ للكشف عما تُخفيه من أسرار، وإذن فالدهشة ينبغي أن
يعقبها حب الاستطلاع.
على أن حب الاستطلاع انفعالٌ عظيم التعقيد، ينتهي إلى أفعالٍ
وعادات تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا، وتتفاوت قيمتُها تفاوتًا
عظيمًا. فقد يرغب المرء في معرفة كثيرٍ من الأمور، فقد يرغب، من
ناحيةٍ أخرى، في محاولة إجادة معرفتها والتعمُّق فيها. والأهم من
ذلك، أن بواعث حُب الاستطلاع تتفاوت إلى حدٍّ بعيد، وعلينا أن
نُميز فيها، بوجهٍ خاص، بين حبِّ الاستطلاع الشرير، الوقح،
الفضولي، الذي يستهدف إشباع غرائز دنيئة، أو يرمي في الأغلب، إلى
مجرد زيادة القوة الاجتماعية لمَن يضطرب وجدانه بمثل هذا الانفعال،
١ وبين حب الاستطلاع السليم النبيل. فهدف هذا النوع
الأخير هو القوة أيضًا، غير أنها في هذه الحالة قوة عملية أو قوة
عقلية. فقد يعلم المرء لكي يؤثر في الأشياء، ولكنه قد يعلم أيضًا
لمجرد العلم. وهدفنا هو الحديث عن هذا النوع الأخير من المعرفة وحب
الاستطلاع، فهو أنقى الأنواع وأرفعها، وهو الروح الكامنة في بقيَّة
الأنواع جميعها، والدافع المبرر لها.
ولكن كيف تفسَّر الرغبة الشديدة في المعرفة من أجل المعرفة؟ إنها
تفسَّر عن طريق ذلك الإحساس النشوان الذي ثمل به الإنسان عندما
امتدَّ نطاق شعوره، ودفعه الحماس إلى الارتفاع بوجوده الباطن إلى
قِمَم الكون، أو على الأقل إلى قِمَمٍ يمكنه أن يتأمَّل منها
آفاقًا بلغت من الاتساع حدًّا يدعو إلى الدهشة. فازدياد معرفة
المرء يعني بالنسبة إليه مزيدًا من الوجود، دون أن يكون ذلك على
حساب الآخرين؛ إذ إن المعرفة تتداول دون أن يطرأ عليها نقصان؛ بل
قد تتوافر لها كل فرص الازدياد عن طريق النقد المتبادل
والتعاون.
حب الاستطلاع يدفع العالِم إلى جمع عددٍ لا يُحصى من الملاحظات
عن الظواهر
إن العملية الأولى التي يتَّجِه إليها العالِم مدفوعًا بحبِّ
الاستطلاع العلمي، هي أن يجمع أكبر عددٍ ممكنٍ من الظواهر التي
لُوحظت بدقةٍ؛ فالعلم يُكوِّن قوائم للظواهر. مثال ذلك أن
الملاحظات الفلكية ترسُم خريطةً للسماء تزداد تعقدًا على الدوام.
ومعامل الطبيعة والكيمياء تضع جداول تسجل فيها خصائص الأجسام
المعروفة، التي تمتدُّ قائمتها باستمرار. ومعامل التشريح تُجري
تشريحاتٍ تُحفَظ نتائجها على هيئة رسوم، أو صور شمسية، أو قطع
محفوظة. فهي تزيد عدد مجموعاتها المحفوظة ونماذجها ومتاحفها، وتمكن
الرحلات الاستكشافية والبعثات التي تجوب كلَّ مكان على سطح الأرض
من زيادة ذخائرها.
ولقد حبَّذ الوزير الإنجليزي فرانسيس بيكن (١٥٦١–١٦٢٦م)، وهو أحد
رواد العلم الحديث، هذا البحث الدائب عن الظواهر، الذي أطلق عليه،
بأسلوبه التشبيهي الشاعري، اسم صيد «بان»
(
Pan).
٢
الملاحظة تقتضي خضوعًا تامًّا للواقع، وبالتالي نزاهةً
وصبرًا
في هذا الصيد تتكشَّف براعة القائم بالملاحظة، ومهارته وإخلاصه،
غير أنه يقتضي، على الأخص، دقةً وأمانة، وهما صفتان أخلاقيتان لا
غِنى عنهما.
فينبغي أولًا أن تلاحظ الظاهرة في ظروف تستبعِد كل احتمالٍ وتقضي
على كل مظنَّة للشك؛ فقد حدث أن خدع المزيفون بعض العلماء،
فأوهموهم أنهم كشفوا آثارًا من عصر ما قبلَ التاريخ أعدَّت ببراعة،
أو عرضوا عليهم قطعًا مصنوعة، أو وثائق لسجلاتٍ ملفَّقة، وتلك بلا
شك حالات استثنائية، وقع فيها العلماء عن طوية سليمة، وأثارت بعض
الضجة في الرأي العام، ولكن سرعان ما اختفت أو زال تأثيرها بفضل
النقد المتبادل الذي يمارِسه العلماء كلٌّ على أبحاث الآخرين، ولم
يلحق بالعلم ضررٌ بسبب ذلك.
فالظاهرة الأصيلة، لا «المزيفة»، ينبغي أن تُقرَّر وتوصف بأمانةٍ
كاملة. ذلك بأن حب الاستطلاع لدى العالِم إنما هو انفعال، وهو قد
يشوِّه نظرته إلى الأمور، شأنه في ذلك شأن أي انفعالٍ آخر. إذن
ينبغي للعالِم أن يتحلى بصفات التواضُع والصبر والنزاهة حين يلاحظ
الظواهر ويصِفها على ما هي عليه، لا كما يتمناها أن تكون.
كذلك تتطلَّب الملاحظة العملية صبرًا لا ينفد. مثال ذلك أن عالِم
الفلك الدنماركي «تيكو-براهي
Tycho-Brahe» (١٥٤٦–١٦٠١م) وكان
ثريًّا ومن أسرةٍ نبيلة، خصَّص ثروته وهدايا الملك «فردريك» من أجل
تشييد معمل يحتل جزيرة بأَسرِها في الأرخبيل الدنماركي، هي جزيرة
هفين
Hveen قرب الزينيور
Elseneur أسماه «مدينة أوراني»
(وهو اسم إلهة الفلك)
Uranieborg
وظلَّ طوال عشرين عامًا، وبمعونة تلاميذه العشرين، يجمع ملاحظات
أكملها بعد ذلك في هلشتين
Holstein
تحت رعاية الإمبراطور «رودولف» حين طُرد من البلاد، فاضطر إلى
مبارحة جزيرته ومعدَّاته ووطنه الأصلي، ثم اتخذ لنفسه معاونًا أصبح
بعد ذلك خليفة له، وهو كبلر (١٥٧١–١٦٣٠م) وبعد وفاته، استغل كبلر
ملاحظاته ليُحدد مدار كوكب المريخ، وكان يظن في أول الأمر أن هذا
المدار دائري، ولكن الظواهر كذَّبت هذا الظن، والحق أن هذا التكذيب
كان بفارق ضئيل للغاية، هو فارق دقائق في القوس، أي ربع القطر
الظاهر للشمس، ولكن كما قال كبلر: «إن الكرم الإلهي قد جعل لنا في
شخص «تيكو» مُلاحظًا بلغت دقَّتُه حدًّا يستحيل معه أن نتصوَّر
خطاه في ثماني دقائق». وهكذا عاد إلى البحث عن المدار الحقيقي
للمريخ، وبعد عناءٍ دام تسعَ سنواتٍ «كاد يبلغ حدَّ الجنون» جرب في
خلالها تسعة عشر مدارًا مختلفًا، اهتدى أخيرًا إلى المدار
البيضاوي، واستطاع أن يضع «قانونه الأول» المشهور ونصُّه «إن كوكب
المريخ (وفيما بعد طُبِّق هذا القانون ذاته على كل الكواكب) يرسُم
مدارًا بيضاوي الشكل تقع الشمس في أحد مركزَيه».
٣
ومن هذا المثال يتبين لنا أن العلم يتطلب صفاتٍ أخلاقية، وينطوي
على نوعٍ من الزهد، ففي النصف الثاني من القرن السابع عشر كانت قد
توافرت للعلماء منظارات فلكية رائعة، ولكن كان يصعب استخدامها إلى
حدٍّ بعيد؛ فقد كان الهدف مثبَّتًا في طرف عصا تدور حول محورٍ
رأسي، وكان على المرء أن يوجِّه الهدف إلى النجم عن طريق إدارة
العصا، ثم يتأمَّل، من خلال عدسة تُمسك باليد، الصورة الحقيقية
التي يصل إليها على هذا النحو، وكانت هذه الآلة الفجة هي التي
استعملها أبناء كاسيني
Cassini٤ بالليل في حدائق مرصد باريس، وقضوا السنين الطوال
يجمعون ملاحظاتهم وأقيستهم التي أدت إلى تطبيق قوانين كبلر الثلاث
على كل الكواكب وعلى توابعها، فوضعوا بذلك أساس علم الفلك الحديث.
٥
الملاحظة العلمية تتطلب شجاعة، إذ تنطوي على أخطار
تناقلت الألسن قصة عالِم الفلك الذي عاش في القرن الثامن عشر،
وأراد أن يُلاحظ كسوف الشمس الذي يُسبِّبه الكوكب عطارد، فأبحر إلى
نصف الكرة الجنوبي، الذي يُمكنُه فيه وحده أن يراه، فأَسره قراصنة،
ولم يُطلقوا سراحه إلا بعد سنين عديدة لم يتمكَّن خلالها من القيام
بملاحظاته، وفي آخِر الأمر عاد إلى الرحيل إلى الهند، حيث يستطيع
أن يرى الكسوف التالي.
والواقع أن العِلم يُثير من الانفعالات الجيَّاشة ما يجعل مَن
يُحسُّون أناسًا لا يعرف الخوف إليهم سبيلًا. وإذا كان العالِم
الفلكي الذي تحدَّثنا عنه قد بلغ غاياته دون أن يُصاب بضررٍ بالغ،
فإن هناك كثيرًا من العلماء الذين كانوا يدرسون أشعة «إكس» الخطرة
في مَعامِلهم قد أُجرِيت لهم في كثير من الأحيان عمليات بترٍ على
جانب كبير من الخطورة. والواقع أن الملاحظة العملية تنطوي أحيانًا
على أخطارٍ جدِّية وتقتضي شجاعةً بدنية. ويُمكننا أن نقول بوجهٍ
عام: إن المرء عندما يكشف قوة طبيعية أو كيميائية أو بيولوجية
مجهولة، ويشرع في دراستها، تكون ملاحظتها أمرًا ينطوي على الخطر،
فالعالِم «كلود برنار» قد عقرَه حصان كان يُجرِّب عليه آثار المرض
الخطير المسمَّى بداء الخيل، ولا شكَّ في أن أطباء معاهد باستير
المتعدِّدة كانوا يتعرضون لأخطارٍ مميتة وهم يقومون بعملية عزلٍ
وجمع ودراسة فصائل «نقية» (أعني خطرة إلى أقصى حدٍّ) من البكتريا
والطفيليات المخيفة التي تُسبب الأمراض الوبائية الكبرى، كالتيفوس
ومختلِف أنواع حُمى المناطق الحارة، والكوليرا والطاعون.
العمل العلمي يتطلَّب نزاهةً كاملة
لا يقبل العالِم جزاءً على كل ما يُصادفه من أخطار، وما يقوم به
من أعمال، سوى المجد فحسب، فمِهنة العالِم تقتضي إنكارًا للذات،
وتتطلَّب منه على الأقل امتناعًا عن استغلال عِلمه من أجل الإثراء،
وهكذا يظلُّ العالِم فقيرًا، والحق أن المهن العلمية ليست هي التي
تسمح بصفقاتٍ مُربحة، وإنما تعود الأرباح الجمَّة من التطبيقات
الصناعية للعِلم. غير أن هذه الأرباح لا تذهب إلى جيب العالِم،
الذي تظلُّ أبحاثه نظريةً خالصة، أعني تتَّجِه دائمًا نحو المعرفة
أو «التأمُّل النظري theoria» بل
تذهب إلى ذلك الذي يُحوِّل فكرة عِلمية إلى جهازٍ عملي تُصنَع منه
أعداد كبيرة في مصانع ضخمة، وتتطلَّب اجتذاب عددٍ كافٍ من العملاء،
أعني البحث عن «أسواق» كما يقولون وتلك مهمة لا صِلة للعالِم بها
على الإطلاق، فعليه أن يختار، وقد اختار التأمُّل النظري بالضرورة،
والفقر تبعًا لذلك.
ولا شك في أن المجتمعات الحديثة تقدم «إعانات» للعلم النظري، فهي
ترعى المعامل والمراصد، عن طريق الميزانيات الحكومة أو التبرعات
الفردية، وتُخصص للعلماء أرفع أنواع «التكايا»
Sinécures حسب تعبير الجماعات
الدينية القديمة، (والكلمة الفرنسية
Sinécures تعني العطايا التي
تُبذَل للباحِثين من رجال الدين حتى لا تشغلهم أعباء النفوس، أي
دون أن يُضطروا إلى الانشغال بها sine
cura).
وتحوَّلت هذه المنح في الوقت الحالي إلى وظائف الأستاذية لا
يتعرض مَن يقوم بها كثيرًا لمظاهر الخضوع، وإنما تُتيح له استخدام
معامل مزوَّدة بمعداتٍ جيدة، ولكن ما هكذا يكون الإثراء!
أما عن المجد، فهو يقتضي إنكارًا للذات: وهو يأتي عادةً بعد
انتهاء حياة العالِم؛ بل يحدُث كثيرًا أن يُنسَب إلى شخصٍ مجهول.
وإذا كان في وسعنا الآن، بوجهٍ عام، أن نُطلق على الكشف العِلمي
الحديث اسم مَن اهتدى إليه، فما ذلك إلا لأن المحدثين قد أصبحوا
يتَّصفون بالحرص الشديد في الأمور المتعلقة بدقَّة التسجيل
التاريخي، ولكن هذه الصفة حديثة إلى حدٍّ ما، ومن هنا لم تظهر في
المراحل الأولى للعلم، منذ العصر القديم حتى عصر النهضة، سوى أسماء
غير موثوق منها، وكثير منها خرافية أو أسطورية. وفضلًا عن ذلك
فألمع الأسماء في نظرنا اليوم لم يكن لها مثل هذا الصِّيت بين
مُعاصريها على الإطلاق.
بل إن على العالِم أن يُروِّض نفسه على التضحية بهذا المجد غير
المؤكد في ذاته، إذا ما ارتكب خطأ، أو غابت عنه فكرة. فقد كان
«باستير» يدعو العالَم إلى القيام بتجاربه «ضد فكرته الخاصة»، أعني
أن ينقد نفسه؛ بل أن يُعاديها، وبعد أن فند «باستير» بالتجربة
نتيجة التجارب التي زعم «بوشيه
Pouchet» أنه قد برهن بها على
«التوالد التلقائي»، أعني تكون الكائنات الحية عن طريق عمليات
كيميائية محضة، قال باستير: «إني أنتظر وألاحظ وأسأل الطبيعة،
وأطلب إليها أن تتفضَّل بأن تُعيد أمامي الخلق الأول من جديد، فكم
يكون ذلك المنظر رائعًا! غير أنها تظل خرساء.»
٦
ففي هذه التجارب كان «باستير» يعمل إذن ضد ذاته، إذ إن ميوله
الشخصية كانت تتَّجِه إلى النتائج التي ظنَّ «بوشيه» أنه قد وصل
إليها. لكن بدت له تجارب «بوشيه» مُثيرةً للشك، ومعرَّضةً لنقد
شديد، ولهذا حرص على تنفيذها بدقة. حقًّا إن هذا التنفيذ قد جلب له
المجد رويدًا رويدًا، ولكن كان ذلك على الرغم منه.
روح النقد ضروريَّة للعالِم
كل هذه الصفات العقلية تُلخصها كلمة «روح النقد».
وكلمة «نقد» مأخوذة من اليونانية
Chrinein وتعني «الحكم». فروح
النقد هي إذن روح الحُكم الصائب. فما الحكم بالمعنى الدقيق والرفيع
لهذه الكلمة؟ هو أن يتَّخذ المرء الموقف العقلي للقاضي الذي هو
بسبيل إصدار حُكم. ومن الواجِب أن يكون القاضي غير مُتحيِّز، وعدم
التحيُّز يقتضي منه أن يطرح جانبًا ميولَه الشخصية، وأن ينتظِر
بصبرٍ حتى تُعرض عليه كل الحجج التي ينبغي له أن يختار بينها. كما
أن هذه الصفة تُوجِب على القاضي أن يُضفي على كلٍّ من هذه الحجج
قيمتها الحقيقية، وأهميتها الفعلية، دون أن يُضيف شيئًا إلى تلك
التي يُقدرها هو شخصيًّا. وأخيرًا فالنزاهة تقتضي أن تظهر كل الحجج
في الحُكم النهائي بقيمتها الفعلية، ويكون تأثيرها معادلًا لتلك
القيمة.
وعلى ذلك، فاتصاف المرء بروح النقد، معناه إذن أن يأخذ على عاتقه
أن يفحص كل البراهين التي يمكنها أن تُوجِّه القرار في اتجاهٍ
مُعين أو في اتجاه آخر فحصًا دقيقًا، ودون تدخُّلٍ من أهوائه، وأن
يعِيَ ذهنه تلك البراهين بما لها من قيمةٍ حقيقية، وأن يؤلِّف
بينها في النتيجة النهائية دون إغفالِ واحدٍ منها، ويتطلَّب ذلك
طاقة أخلاقية كبيرة، وقُدرة على كبح أهواء الذات، كما يتطلَّب ذلك
النوع من الذكاء الذي أسماه باسكال «الحس المرهف
Esprit de finesse» والذي يُمكِّنه
من أن يجمع كل الحجج الدقيقة والعديدة جدًّا، ويجعل لكلٍّ منها
دورًا، دون أن يُغفل واحدة منها.
وإذن فروح النقد هي بالاختصار «حاسة البرهان». ولقد كان الباحثون
على حقٍّ عندما أضفوا أهميةً خاصة على روح النقد في العلوم التي
تتَّخِذ الحقائق البشرية موضوعًا لها، كالتاريخ مثلًا؛ إذ إن
الميول والأهواء الشخصية أو الاجتماعية للعالِم ترتبط بمجال بحثِه
ارتباطًا وثيقًا. فالمؤرخ يجب ألا يكون مُنتميًا إلى عصرٍ معيَّن،
أو إلى وطنٍ مُعين. غير أن هذا المطلب يستحيل تحقيقُه بمثل هذه
الصرامة؛ إذ إن المؤرخ لا بدَّ أن يُحبَّ ما يُحبُّه وطنه، وحزبه،
وعصره، وأن يكره ما يكرهه هؤلاء، ولكن يجب عليه ألا يحسِب لهذه
المشاعر حسابًا؛ بل يجب أن يُفكر «كما لو كان» وطنه وحزبه غير
موجودين بالنسبة إليه؛ أعني أن يجعل روحه معاصرة لما يَرويه من
أحداث.
من الضروري أن يُكمل الخيال روح النقد
يتضح لنا مما سبق ضرورة توافُر صفة أخرى في العالم. تلك هي صفة
الخيال، وكثيرًا ما يُقال إن العالِم لا ينبغي له أن يكون
خياليًّا، وإن هذه الصفة هي التي تميزه عن الفنان مثلًا، ونحن
نُسلِّم بأنه قد يكون للخيال أثر ضارٌّ في تفكير العالِم؛ فقد
يعوقه عن رؤية الأشياء على ما هي عليه، ويفرض عليه آراءً وهمية
«وأفكارًا مُسبقة».
غير أن الخيال يُسهِم بنصيبه في المجهود العلمي، وإنه لمن الخطأ
الاعتقاد بأنَّ العلم لا يُضيف شيئًا إلى ما يلاحظه، فهو يكشف لنا
فيه عن عالَم كامل؛ فالعالِم يُخمِّن بأن وراء الاتصال الظاهري
للأجسام المادية أعدادًا لا مُتناهية من الذرات ومركباتها، تتحرك
بسرعة فائقة، ويفصل بعضها عن بعضٍ حيِّز مكاني يفُوقُها امتدادًا
إلى أبعدِ حدٍّ. كذلك يلمح الفلكي بفكره، أن في السماء التي تزخر
بالنجوم مساحات شاسعة مليئة بعددٍ لا يُحصى من العوالم الكبرى،
التي تقع على مسافات يستحيل علينا تصوُّر اجتيازها أو إدراكها. ذلك
هو الجانب الشاعري في العلم، وهذا الجانب الشاعري هو الذي خلقه
العالم من أساسه، وليس معنى ذلك أن العالَم المحسوس، كما نُدركه،
قد عدِم كل جمال، ولكنا نودُّ أن نُشير إلى أن هناك جمالًا آخر
مختلفًا عن الأول كل الاختلاف، هو جمال عقلي صرف، يبتكره ذهن
العالِم وحده، ولكي يُضفي العالِم مثل هذا الجمال على الكون، كان
عليه أن يسلُبه الجمال المحسوس أولًا، وأن يستبعِد شهادة الحواس،
وكأنها حجاب خداع، ويأبى على الخيال الحسِّي لذَّته، لكي يُفسح
المجال للخيال الذي يمكن تسميتُه بالخيال العقلي.
(١) العلم والشعر: هوميروس وأرشميدس
لقد قيل إن خيال هوميروس لم يكن له نظير في العصر القديم سوى
خيال العالم الرياضي أرشميدس. ومن المؤكد أن بين هذين
العبقريَّين تشابهًا غريبًا. فقد أضفى هوميروس قيمة شاعرية لا
نظير لها على مشاهد الحياة الإنسانية وأفعالها؛ كأعمال الناس
في الحقل، وفي المنزل، ولهوِهِم، وقتالهم وأكلهم، ونومهم،
فشِعر «هوميروس» هو شِعر الخبز والنبيذ .. أما أرشميدس، فقد
أفهمَنا الأدوات البشرية المتداولة، كالرافعة ومُشتقاتها،
والجاروف، والملفاف؛ نقول إنه أفهمَنا هذه الأدوات على نفس
النحو الذي روى لنا به هوميروس شِعر الحياة المنزلية
المعتادة.
ولنا أن نقول إنَّ نصيب
العِلم من الخيال ليس أقلَّ من نصيب الشِّعر منه. غير أن
الخيال ليس واحدًا في كلتا الحالتَين: فخيال العالِم يقتضي
نوعًا من التضحية، وهو يأبى أن يدين للحواس بشيء، والجمال الذي
يستهويه هو جمال العلاقات المجرَّدة والأعداد. وفضلًا عن ذلك،
فالخيال بالنسبة إلى العالِم ليس غاية، وإنما هو وسيلةٌ فحسب.
فبينما ينحصِر هدف الشاعر أو الموسيقار في تحريك خيال القارئ
أو السامع وهزِّ مشاعره بحيث تتجاوب معه، ولا يعبأ بالحقيقة،
نرى العالِم يولِّي وجهه شطرَ الحقيقة، وما «التحقيق» الجمالي
— إذا جاز لنا أن نتحدَّث في هذا المجال عن «تحقيق»، بالمعنى
المجازي للكلمة — إلا التأثير الذي ينطبع في نفس القارئ أو
السامع، أمَّا التحقيق العلمي فهو الخضوع النهائي للواقع.
فنتائج الخيال العلمي تندمج في الواقع، وهي لُحمته وسداه في
نهاية الأمر، وليس من مهمَّة العلم أن يصنع الجمال، وإنَّما أن
يصل إلى الحقيقة. وإذا كان للحقيقة جمالها، وإذا كانت تُؤثِر
أن يكون مَن يُقدسها مُحبًّا للجمال، فإنها تتطلَّب منه — بكل
صراحة — أن يكون على استعدادٍ للتضحية من أجلِها بكل ما قد
ينطوي عليه الجمال من إغراء. فقد يكون هذا البرهان أو الحل
الرياضي «رشيقًا» وقد تكون تلك الفكرة التجريبية «جميلة»
ولكنهما يفقدان كل قيمةٍ إذا ما ثبت بعد اكتمال التحقيق أنهما
باطلان.
إذن فقوام الروح العملية صفات خارجة عن مجال
العلم، وهي على الأخص صفات
أخلاقية
تلك هي النتيجة التي ينتهي إليها جوبلو،
٧ والتي يؤدي بنا بحثنا السابق بأَسرِه إلى أن نؤيِّد
بكل قوةٍ ما تأتي به من عناصر إيجابية. فالعالِم إنسان تبلُغ لدَيه
الشجاعة والأمانة العقلية أقصى حدودها، وهو قاضٍ لا يتطرَّق إلى
نزاهته شك، وهو إذا شئنا، شاعر بمعنًى ما غير أن هذا لا يكفي في
رأينا، لإيضاح خصائص الروح العلمية، فمن الضروري أن تنطوي على شيء
لم نذكره بعدُ.
الروح العلمية تنطوي أيضًا على ثقافة واسعة
فلنبين أولًا أهمية الثقافة. والمقصود بالثقافة أولًا مجموع
المعارف التي يمكن تسميتُها بالمعارف الاحترافية أو المتخصصة، أعني
تلك التي تشمل قدرًا معينًا من المعرفة يتخذه العالِم موضوعًا
لبحثٍ. وهذا أمرٌ بديهي، ولكن قد يكون التنبيه إليه ضروريًّا، إذا
كان هدفنا، على الأقل، هو أن نُجرد الجهل من صفة الحياد التي
اشتُهر بها زورًا وبهتانًا. فليس جهل المرء لكل شيءٍ هو الذي
يُمكِّنه من مواجهة الواقع بروحٍ نزيهة محايدة، وما كان الجهل
دعامةً من دعائم روح النقد أبدًا؛ بل إن الأمر على العكس من ذلك.
فروح النقد صفة رقيقة هشَّة، تحتاج على الدوام إلى تقويةٍ وتدعيم
مُستمَدَّين من التحصيل العلمي، ولا يَفهم مدى تعقُّد الواقع إلا
مَن عرف كثيرًا، وجرب كثيرًا، وقضى على فُرَص الخطأ. ويصدُق ذلك
بوجهٍ خاصٍّ على العلوم المعقَّدة التي تتَّخِذ الأحياء والإنسان
موضوعًا لها؛ إذ إنه إن كان عباقرة الرياضيات يظهرون قبل الأوان في
كثيرٍ من الأحيان، فإنَّ عباقرة علم الحياة والأخلاق أناسٌ ناضجون
دائمًا. فالرياضي «إفارست جولوا Evariste
Galois» الذي مات في سنِّ العشرين، قد وجد وقتًا
كافيًا يُبدي فيه عبقريته، أما «دارون» و«لامارك» فلم يقوما بأي
كشفٍ قبل سنِّ الخمسين، كذلك كتَب «كانْت» (نقد العقل الخالص) وهو
في السابعة والخمسين من عمره.
وقد يكون من المستحسَن أن يُلمَّ العالِم، الذي كرَّس حياته
لعلمٍ خاص، بالعلوم التي يفترِضُها ذلك العلم؛ فالطبيب مثلًا لا
ينبغي له أن يُلم بالبيولوجيا وحدَها بل يجب أن يكون قد مارس
الكيمياء، وعلم الطبيعة نفسه.
٨
ويذهب «كلودبرنار» إلى حدٍّ أبعد من ذلك؛ فهو يُوصي مَن يُعِد
نفسه ليكون عالِمًا، بأن يتزوَّد من الثقافة الفلسفية والفنية:
«إنني، رغم نفوري من المذاهب الفلسفية، أُحب الفلاسفة حبًّا جمًّا،
وأجِد متعةً كبرى في صُحبتهم … فالفلاسفة يبحثون دائمًا في المسائل
المختَلَف عليها، ويقفون في مستوياتٍ رفيعة، أي عند الحدود القصوى
للعلوم، وبهذا يُضفون على التفكير العلمي حركةً تبعث فيه الحياة
وتسمو به …» وهذا عن الفن، فهو يقول «إن العلم لا يتعارض قطُّ مع
ملاحظات الفن ومُعطياته، بل مِن رأيي أن العكس هو الصحيح ضرورة.
فالفنان يجد في العلم أُسُسًا أرسخ، والعالِم يستقي من الفن حدسًا أصدق.»
٩
العلم ينطوي على إيمانٍ بمبادئ مُعينة
لقد أضفنا كلًّا من الخيال وسعة التحصيل إلى الصفات المقوِّمة
للروح العلمية، وهي تلك الصفات التي لها طابع أخلاقي أو خارج عن
نطاق العقل على الأقل، فهل هذه هي كل الصفات؟ وهل يكفي المرء، لكي
يكون عالِمًا، أن يكون أمينًا شجاعًا، وعلى قدْرٍ من الخيال،
ومُلِمًّا بمعلومات كثيرة؟ كلَّا؛ فما زلنا بعد ذلك كله على هامش
الروح العلمية.
فبعد أن أوضح «كلود برنار» أهمية روح النقد (التي يُسمِّيها
بالشك الفلسفي) في الوصول إلى الحقيقة، أبدى هذا التحفُّظ الهام:
«ومع ذلك، ينبغي ألا يكون المرء ارتيابيًّا
sceptique، بل عليه أن يؤمِن
بالعلم، أعني بالحتميَّة، وبالارتباط المطلَق والضروري للأشياء،
سواء بين الظواهر الخاصة بالكائنات الحية، أو بين كل ما عداها من الظواهر.»
١٠
وعلى ذلك، فالعالِم في رأي «كلود برنار» ليس مجرد مُلاحِظ أمين
شجاع لدَيه نوعٌ من الخيال وقدرٌ غير قليلٍ من الثقافة، بل هو
«مؤمن». وهذا يؤدي بالمرء إلى أن يُرى أشبَهَ بمعبد، وبالطائفة
الدينية التي تتميَّز بعقائد محددة.
والحق أن هذا الوصف يصدُق على العِلم إلى حدٍّ ما، فالعلم يؤلِّف
جماعة اجتماعية محددة، وهو أكثر من أن يكون مِهنة، وهو لم يكن
موجودًا على الدوام؛ بل إن عمرَه يتراوح ما بين خمسة وعشرين
وثلاثين قرنًا، هذا إذا ربطنا نشأته بنشأة علم الفلك عند اليونان،
ويقصر هذا العمر فيبلُغ ثلاثة أو أربعة قرون، إذا رأينا أنه بدأ مع
ظهور علم الطبيعة الحديث، ولا يرجع تأثير العلم ونفوذه إلَّا إلى
القرن الثامن عشر، وهو ينطوي على مجموعة من المبادئ التي ينقُلها
التعليم من جيلٍ إلى جيل، ولا تُصبح موضوعًا لأي شكٍّ بالمعنى
الصحيح، وإن كانت تُعدَّل أحيانًا، بحيث يظلُّ تقدُّم العلم متصلًا
ومستمرًّا، كما قال «باسكال» في إحدى كلماته المشهورة: إنه نوع من
الدين، ولكن الأهم من ذلك أنه عقيدة، والعالِم قد أقسم يمين الولاء
لعددٍ مُعين من المبادئ.
أهم هذه المبادئ، تأكيد الحتميَّة
يبدو أن كلود برنار يسوي بين العلم وبين الإيمان «بالحتميَّة».
فما الحتميَّة؟ إنها مبدأ عبَّر عنه كلود برنار على النحو التالي:
«في الكائنات الحية، وفي أجسام الجماد على حدٍّ سواء، تتحدَّد شروط
وجود كل ظاهرة تحديدًا مُطلقًا.»
١١
ولقد فعل كلود برنار الكثير من أجل تثبيت دعائم عِلم حقيقي
«بالكائنات الحية»، وهذا ما يُفسر الجزء الأول من عبارته، والمقصود
بالظاهرة حادث يمكن الوصول إليه، من حيث المبدأ عن طريق الملاحظة،
ونقول من حيث المبدأ، لأنه قد يحدُث أن تكون حواسُّنا عاجزةً من
الناحية العملية عن إدراكه مباشرة، ويكون لزامًا علينا أن نلجأ إلى
آلات دون أن نبرح مكاننا (فمثلًا، تسليط أشعة إكس لا يستطيع تسجيله
إلا للتصوير) أو أن نتصوَّره من جديد، بناءً على ما خلفه من آثار
(ومن هذا القبيل، كسوف الشمس الذي تنبأ به طاليس، كما روى لنا
كُتَّاب المذاهب doxographes
اليونانيون، وهم مؤرخو الفلسفة والعلم عند اليونان)، أو أن نتنبأ
به عن طريق تضافر ما لدينا من براهين على وجوده (مثل حركة الأرض،
التي لا نستطيع أن نُقررها مباشرة، وإن كان لدينا عنها عدد كبير من
البراهين غير المباشرة).
أما شروط وجود الظاهرة فهي الظواهر التي تسبِقُها أو تصحَبُها،
والتي يؤدي وجودها إلى حدوث الظاهرة، بينما يستحيل أن تحدُث في
غيابها. ومن هذا القبيل، الجراثيم، والقابلية للإصابة بمرض مُعْدٍ.
وهذه الشروط «محددة حتمًا» (ومن هنا استخدام لفظ الحتمية)، بمعنى
أنها ثابتة على نحو مطلق. وبعبارةٍ أخرى فالظاهرة لا تحدث إلا إذا
توافرت هذه الشروط، ولكنها لا بد أن تحدُث في هذه الحالة. وإذن من
المستحيل أن تحدُث الظاهرة إذا لم تتحقق هذه الشروط، ومن المستحيل
ألا تنتج إذا ما توافرت. وهذه الاستحالة هي ما يُسمَّى
بالضرورة.
النتيجة الأولى: ليس هناك قدر محتوم ولا مصير محدَّد
كثيرًا ما يخلط الناس بين الحتمية وبين الإيمان بالقدَر المحتوم،
وبالمصير، أعني الجبر المطلق. غير أن الحتمية بعيدة كل البُعد عن
الجبر المطلق، حتى لَيُمكن القول بأنها مضادة له بمعنًى ما، وهذا
ما جعل «كانْت» يستخلص من الحتمية نتيجة هي إنكار الجبر المطلق
non datur fatum١٢ وليذكر المرء أسطورة «أوديب». فأوديب سوف يقتُل أباه
ويتزوَّج أُمَّه، مهما حدث، ومصير أوديب هو على حدِّ تعبير «كوكتو»
آلة جهنمية تؤدي دورَها في اللحظة المحددة مهما فعل. على أن
الحتمية لا تؤكد ضرورة وقوع حادث مُعين مهما كانت سوابقه؛ بل هي
تؤكد أن هذا الحادث يتحدَّد ضرورة «عن طريق» سوابقه؛ فالجبري يرى
أن الفعل هو الضروري، وهي ضرورة يصفُها «كانْت» بأنها مطلقة
catégorique، أما المؤمن بالحتمية،
فتُهمُّه العلاقة بين الحادث وشروطه. فالضرورة التي تؤكدها الحتمية
ضرورة «مشروطة
hypothétique».
ونتيجة ذلك أن القدَر لا رادَّ له، أما الحتمية فهي كما يقول
البحارة في تعبيرهم الطريف — «طيِّعة
maniable». فليس في وُسعنا أن نفعل
شيئًا حيال فعلٍ أراده القدَر، وكل محاولة لتجنُّبه تُقربنا منه.
فعندما ابتعد أوديب عن هذين اللذَين اعتقد أنهما أبوه وأمُّه،
اقترب بقوة لا تقهر من والدَيه الحقيقِيَّين، والفتى في أسطورة
«لافونتين» يقضي عليه بالفعل أسَد مرسوم؛ لأنه ظلَّ مُبعدًا عن
الأُسد الحقيقية، بعد أن حُكِم عليه في النبوءة بأن أسدًا سيقتُله.
١٣ أما إذا أدرك المرء أن الطاعون تُسبِّبه جرثومة تنقلها
براغيث الفيران، فعندئذٍ يمكنه تجنُّب الطاعون بالحذَر من تسلُّل
الفيران، وبالقضاء عليها، وبالفعل يمكن الوصول إلى هذه
النتيجة.
النتيجة الثانية: ليست هناك صدفةٌ non datur
casus
يقول «كانْت» بنتيجة ثانية للحتميَّة، هي نفي الصدفة.
١٤
والحق أن فكرة الصدفة أو الاتفاق مُعقدة محيرة، لأن لِكلمة
الاتفاق عدَّة معانٍ مُتباينة، نستبقي منها معنيَين:
-
(١)
فعندما نقول إن صديقَين تقابلا اتفاقًا، أو إن قالبًا
سقط من حائط فقتل بالصدفة شخصًا مارًّا، نعني بذلك أن
المقابلة تبدو مقصودةً ما دامت قد وصلت إلى نقطة التقى
فيها الاثنان، وأن سقوط الحجر يبدو منطويًا على قصد القتل،
لشدة ما يبدو لنا أنه قد قصد المارَّ المشار إليه بالذات.
ولكنا نعلَم أن الأمر في الواقع بخلاف ذلك، فما يبدو قصدًا
مدبرًا، لا يُطابق أية حقيقةٍ واقعية. فليس ثمة قوة إلهية
هيأت المقابلة، أو وجَّهت الحجر، وليس للعلِم أن يُنكر
الصدفة بهذا المعنى، إذ إن الصدفة لا تكون عندئذٍ شيئًا
على الإطلاق. الكلمة هنا تعني أنه ليس هناك شيء، وأنه ليس
ثمة أي قصد يبحث عنه.
-
(٢)
ولكن كلمة الصدفة يُصبح لها، في التعبير القائل «لعبة
الصدفة أو الحظ» معنًى مخالف للسابق كلَّ الاختلاف، وأعمق
منه كلَّ العمق. فلاعب الورق مثلًا «يُفنِّط» أوراق اللعب
ويوزِّعها، وقاذف العجلة يُلقي بها، ولكن ليس هناك صِلة
بين هذه الحركات وبين توزيع الأوراق، أو بين ظهور الرقم
الرابح؛ فاللاعب لم يُوزِّع الأوراق بإرادته، وقاذف العجلة
لا يستطيع شيئًا حيال الرقم الرابح، فهاتان النتيجتان غير
مُحدَّدتَين.
وفي هذه المرة، يُنكر العِلم الصدفة. فكل حركة من حركات لاعب
الورق أو قاذف العجلة لها، في الواقع، دورٌ فعَّال في توزيع
الأوراق أو ظهور الرقم، والنتيجة محددة «ومحتومة». وكل ما في الأمر
أنَّ تركيب المربعات التي تحمل الأرقام، والطريقة التي يُصنَع بها
الورق، والتي ينبغي أن توزَّع بها، من شأنها ألا تُمكن اللاعبين أو
القاذف من التحكُّم في حركاته، أو من معرفة ما سوف تأتي به.
الصدفة في رأي كورنو Cournot: اعتقد بعض الفلاسفة أن في وسعهم
تأكيد وجود الصدفة وجودًا فعليًّا، ومن هؤلاء كورنو
١٥ فالصدفة عنده تنحصر في «اجتماع أو تقابل ظواهر تنتمي
إلى سلاسل مستقلة في نظام العِلِّية» فسقوط الحجر مثلًا يُكوِّن هو
وسوابقه وشروطه (تماسُكه الواهي بالسقف، هبوب الريح في اتجاهٍ
مُعين، وفي لحظة مُعينة، وانخفاض الضغط الجوي) سلسلةً حتمية
تمامًا. ومن جهة أخرى، فإن مرور السائر عاثر الحظ يُكوِّن هو
وسوابقه وشروطه (رغبتُه في النُّزهة أو الذهاب إلى عمله) سلسلةً
أخرى حتمية كالسابقة، وتقابل السلسلتَين هو الذي لا يخضع للحتمية
ما دامت السلسلتان مُستقلَّتَين، ولا تخضعان لنفس الحتمية؛
فالحتمية الأولى خاصة بالظواهر الجوية، والثانية نفسية. وبالمثل
فحركة قاذف العجلة تبدأ سلسلةً حتمية تؤدي إلى ظهور رقم مُعين.
ولكن هذه الحتمية وهي آلية تمامًا، تنتمي إلى نوعٍ من الوجود
مُخالِف لذلك الذي تنتمي إليه تلك الأفكار والرغبات والتقديرات
التي دفعت اللاعب إلى المراهنة بنقودِه على رقمٍ مُعين. ولنذكُر
هنا أيضًا كلمة «باسكال» المشهورة: لو كان أنف كليوباترا أقصر
قليلًا لتغير وجه الأرض.
١٦ فأنف كليوباترا ناتج عن حتمية تشريحية وراثية، والصدفة
تتمثَّل في لقاء كليوباترا مع أنطوان. فقد كان أنطوان بمعنًى ما،
ممثلًا لحتمية أخرى، هي حتمية تاريخية وسياسية، وأدى تقابُل هاتَين
الحتميتَين إلى وقوع أنطوان في الحب، وتخلُّفه عن أكتيوم، وخسارته
للمعركة، وأخيرًا الإمبراطورية الرومانية التي دامت قرونًا
متعددة.
وتمتاز نظرية «كورنو» بأنها تُرجع مختلِف تعريفات الصدفة إلى
تعريفٍ واحد. فليس ثمة إلا اتفاقٌ واحد، هو تقابل سلاسل مستقلة
والنظرية لا تنكر الحتمية بالمعنى الصحيح؛ بل تُجزِّئها، وتفصلها
إلى سلاسل، وخيوط متميزة. لكن لنا أن نتساءل هنا: هل هذا الفصل
مشروع؟ الحق أنه يبدو كذلك للوهلة الأولى، لأن البحث العلمي لا
ينصبُّ في الواقع إلا على سلاسل تسير في خطوطٍ مستقيمة؛ فالعِلم
يمضي عن طريق فصل الظواهر الواقعية بعضها عن بعض، وهذا الفصل ينتهي
إلى تكوين «حتميات» تكفيه مؤقتًا، ولا يشعر تجاهها بالحاجة إلى
بحثِها وإلى تأكيد وحدتها تبعًا لذلك. والحق أن الفلسفة أكثر
طموحًا في هذا الصدد، إذ إنها تسعى إلى الوحدة، ولا تستطيع أن
تتصوَّر سوى حتميةٍ واحدة، تُسميها بالكون، وهي لا تعرف سلاسل
مُستقلة، ما دام الكون واحدًا. قد يُقال إن تلك نظرة ميتافيزيقية،
ولكن كثيرًا ما يحدُث أن يُصبح ما كان ميتافيزيقيًّا بالأمس علمًا
في الغد، بل اليوم.
١٧ وهذه هي الحال هنا. ففكرة الكون قد أصبحت فكرةً علمية،
كما سنرى فيما بعد. على أن هذه الفكرة تقتضي أن يرتبط كل شيء، وأن
يكون استقلال السلاسل مجرد وهم، يطابق حالةً مؤقتة من حالات البحث
العلمي.
إذن نستطيع القول، مع اسبينوزا، بأن «الشيء لا يُسمَّى
احتماليًّا» (أعني ناتجًا عن الصدفة والاتفاق) إلا لعدم كفاية معرفتنا.
١٨
تأكيد الحتمية هو الذي يمكِّن من حساب الاحتمالات
إن الذي يُبقي على الاعتقاد بحقيقة الصدفة (بمعنى غياب العلة) هو
تفسير باطل لحساب الاحتمالات. والمقصود بحساب الاحتمالات مجموعة من
المبادئ الرياضية تسمح بتحديد فرص وقوع حادث اتفاقي. فيبدو إذن،
لأول وهلة، أن الرياضة ذاتها تُبرر الصدفة، ما دامت تقيسها. وسنرى
أن الأمر على خلاف ذلك تمامًا، وأن حساب الاحتمالات ليس حسابًا
للصدفة؛ بل هو على العكس من ذلك حسْب لحتمية مجهولة جزئيًّا، عن
طريق عناصر منها نستطيع معرفتها.
فلندرس تطبيق هذا الحساب على الألعاب التي تعتمد على الصدفة.
ولنُسلِّم أولًا بقواعد اللعب (٥٢ ورقة، أربعة لاعبين، ١٣ ورقةً
للاعب مثلًا). ولنحسب عدد التأليفات الممكنة كلها — وفي الرياضة
فرع يُسمَّى بالحساب التأليفي
combinatoire يمكِّن من القيام
بهذا الحساب — ثم نبحث من بين هذه التأليفات عن تلك التي تؤدي إلى
نتيجةٍ مُعينة (كوجود ثلاثي الآس لدى لاعبٍ واحد مثلًا) ثم نحدد
عددَها هي الأخرى، ونُبيِّن نسبة هذا العدد الأخير إلى العدد
الكلي، وتُسمَّى تلك باسم نسبة احتمال اللعبة المذكورة (كثلاثي
الآس مثلًا) فلنفرض أن هذه النسبة تدوَّن على النحو أ/ب. عندئذٍ
نقول: إن هناك من الفرص أ/ب في أن يجد اللاعب ثلاثي الآس بين
أوراقه، وكلمة «فرص» ليست لها أيَّة دلالة سحريَّة؛ بل تعني «نسبة
التأليفات» فحسْب، وليس في وسعِ هذه النسبة أن تتنبَّأ بما إذا كان
اللاعب سوف يهتدي إلى ثلاثي الآس في الدورة القادمة من ألعابة؛ بل
هي لا تسمح بأن نعلَم بعد كم من الدورات سوف يهتدي اللاعب إليه،
ولكن إذا ما لعب عددًا كبيرًا جدًّا من الدورات، فإن النسبة
الفعلية والنسبة النظرية تتطابقان، وذلك هو ما يُسمَّى ﺑ «قانون
الأعداد الكبيرة».
وعلى ذلك، فحساب الاحتمالات يفترض حتمية حقيقية وراء الصدفة
الظاهرية، وهو يُطبق على الطبيعة كلَّما أعوزتنا معرفة الحتمية
المفصلة، لأنَّ العوامل المقوِّمة للحتمية صغيرة إلى حدٍّ كبير، أو
تؤثر تأثيرًا سريعًا جدًّا، وإن كنَّا نعرف القانون الذي تخضع له.
فكتلة الغاز المحصورة في قنينة من الزجاج تتكوَّن من عدد كبير من
الجسيمات، ولا يمكننا الاهتداء إلى حركة كل من هذه الجسيمات، لأننا
لا نعلم تفاصيلها، وإن كنا نعرف قانونها، ففي وسعنا أن نعلَم
الطريقة التي سوف تتجمَّع بها كل القِيَم الممكنة للتفاصيل لتكوِّن
كلًّا، وأن نحسب المجموع الكلي، وهذا المجموع هو الصدمة الكلية على
جدران القنينة، وما ينتُج عنها من ضغطٍ وذلك هو ما تقوم بحسابه
«النظرية الحركية للغاز» التي وضعها كل من «جبس
Gibbs» و«بولتزمان
Boltzmann» في سنة ١٨٧٠م.
المبدأ الثاني الذي تستلهِمه الروح العلمية، هو مبدأ
النسبيَّة
إن الحتميَّة هي حقًّا مبدأ العلم، ومحور الحتميَّة هو فكرة
الضرورة، ولكن نظرًا لعدم وجود الجبريَّة، فإن الضرورة لا تتعلَّق
بالحوادث ذاتها إذا شئنا الدقة، وإنَّما بالشروط التي تُحيط بها،
وبعلاقاتها. فهي إذن «نسبية» أعني أنها صفة للعلاقات، لا للحوادث
ذاتها.
والحق أن فكرة العلاقة قد تكوَّنت بصعوبةٍ كبيرة فاليونانيون قد
أدركوا أهميتها، ونحن نعلم أنهم أسمَوهما pros
ti، وهذا هو اسم المقولة الرابعة من مقولات أرسطو.
غير أن العلاقة عندهم كانت تُعبِّر عن مقارنة كمية يُستخدَم «أفعل
تفضيل» لتحديدِها، أو هي رابطة غير محدودة بين صفةٍ نشعر بها، وبين
حساسية الذات التي تُدرَك (فيقال مثلًا إن المصاب بالصفراء يرى كل
شيءٍ أصفر اللون، أو أن المصاب بعمى الألوان يتساوى لدَيه الأخضر
والأحمر). ونتيجة ذلك أن النسبة كانت تُعَد إحدى حجج الشك، والحق
أنَّ النظر إلى الأمور من وجهة النظر النسبية يجعل من المُحال
القول بوصف مُطلق؛ فسقراط ليس طويلًا ولا قصيرًا؛ بل هو «أطول» من
تيتاتوس، و«أقصر» من القبيادس، والكريز الناضج ليس أخضر ولا أحمر،
بل هو أحمر «بالنسبة إلى» ذي الإبصار السليم مثلًا، وأخضر وأحمر
معًا بالنسبة إلى المصاب بعمى الألوان الجزئي.
الرياضيات والنسبيَّة العلميَّة
وقد كانت الرياضة هي التي
حرَّرت العقل إذ أعانته على تكوين فكرةٍ صادقة. ذلك لأن العلاقة في
الرياضة موضوع من موضوعات هذا العلم، ولقد كان اليونانيون هم الذين
كوَّنوا فكرة اللوجوس
Logos
وعرفوها، وكانوا يَعنون بها العلاقة الرياضية أ/ب بل «التناسُب»
وتساوي العلاقات أ/ب = ﺟ/د، واستخلصوا النظرية عن هذه العلاقات.
وذلك هو موضوع الكتاب الخامس لإقليدس. وكانت مهمة العصر الحديث هي
تعميم هذه الفكرة على نحوٍ يكفي لتحويل النسبة إلى «دالة»
fonction. ويقدِّم ديكارت في
«المقال في المنهج» تعريفًا لعِلم رياضي (الرياضة البحتة والمجردة
mathesis pura atque abstracta
«كما يُسمِّيها في التأمُّل الخامس») هو نظرية محضة «للعلاقات أو
النسب المختلفة».
١٩ وبعد أن اعتاد الإنسان أن يُواجِه فكرة العلاقة
مباشرة، ويراها معقولة، انتهى به الأمر إلى إدراك أن النِّسبيَّة
بدلًا من أن تؤدى إلى الشك، هي في الحق إحدى دعائم العلم.
(١) قلنا إن الحتمية هي تأكيد ضرورة «شرطية» أعني ضرورة رابطة،
وضرورة نسبية؛ فالحتمية تتَّخِذ إذن صيغة «العلاقات الضرورية» وذلك
هو ما يُسمَّى ﺑ «قوانين الطبيعة». ويُطلِق عليها «لوكريس
Lucréce» اسم
foedera أي (مواثيق) تقوم الأشياء
على أساسها، وهذه الكلمة تُطابق تعبيرًا أوغل في باب المجاز
للفيلسوف اليوناني أنبدوقليس (في القرن الخامس ق.م.) قال فيه إن
الطبيعة هي «قسم واسع النطاق» ولكن هذه كلها لا زالت تعبيرات
أسطورية، تفترض وجود آلهة، وقدرًا محتومًا يُصدِر قسَمًا ويظلُّ
على الدوام متمسكًا بكلمته. على أن الرياضة قد استبعدت الآلهة،
واستبدلت بفكرة الميثاق فكرة «الدالة» وسوف نرى فيما بعدُ أن
قوانين الطبيعة هي دالات رياضيَّة.
فالنسبيَّة هي إذن، أولًا، تُصوِّر الحتمية على هيئة شبكةٍ من
الدالَّات الرياضية التي تشمل الطبيعة، وتحلُّ محلَّ فكرة القدَر
القديمة.
(١) يمكن تحديد نسبية الإحساسات تحديدًا رياضيًّا
(٢) عندما كان
اليونانيون يقولون إن الإحساس نسبيٌّ تبعًا للحاس، كانوا
يعتقدون أنهم بذلك يدعمون موقف الشك، فيما يتعلَّق بالمعرفة
الحسِّية على الأقل. ولهذا السبب تحولت المدرسة الأفلاطونية
إلى الشك بعد قرنَين من الزمان. أما المحدثون فقد أفلحوا في
إدماج نسبية الإحساس في العلم. ولتحقيق ذلك، أدمجوا الإحساس في
دالَّةٍ رياضية تربطه بالموضوع المحسوس، أي بالمنبِّه. ومن
المؤكد، كما بيَّن لنا عِلم النفس، أن الإحساس ليس كميةً
حقيقية، قابلة للإضافة؛ فالأبيض ليس مجموع لونَين رمادِيَّين،
ولكن إذا لم يكن من الممكن التعبير عن الإحساس بأرقام تسلسُلية
cardinaux، فمن الممكن التعبير
عنه بأرقام ترتيبية ordinaux،
أي إن من الممكن تدريجه؛ فمن الممكن تدريج الألوان الرمادية
حتى أقصى مراحلها، أي حتى اللَّون الأبيض، وكل تدريج جديد يمثل
عبور ما يُسمِّيه علماء النفس ﺑ «العتبة
seuil» أي الحد الأدنى
للإحساس. على أن العتبة (التي نعلم أنها على أنواع، منها
الكمية المطلقة الفارقة ومنها الكيفية) يمكن أن يُعبَّر عنها،
من جانب الموضوع ذاته، برقمٍ مُعين. مثال ذلك أن العتبة الكمية
البصرية الفارقة تناظر ١٠ / ١١ في حالة إضاءة الشيء، بالنسبة
إلى القِيَم المتوسطة، والعتبة الكيفية الفارقة في الموسيقى هي
٨١ / ٨٠ (أي أقل صوت مُمكن). وعلى هذا النحو تحتلُّ العين
والأذن … إلخ، مكانهما بين أدوات الملاحظة، بل أدوات القياس،
وإن يكن هذا المكان مُتواضعًا.
وليست أعضاء الحس في أساسها سوى نقط نهاية للأعصاب. فهي جزء
من الجهاز العصبي. على أن للجهاز العصبي قوانين خاصة يخضع لها
في أداء وظيفته، وتتحكم في الملاحظة العلمية، ﻓ «التيار
العصبي» مثلًا له سرعة محدودة إلى حدٍّ كبير، وتتفاوت تبعًا
للأفراد، بحيث إننا عندما نرى الظاهرة، يمضي زمن معين (ما بين
١٠ و٢٠ في المائة من الثانية) قبل أن نقوم برد فعلٍ عليها. وقد
أمكن تحديد قيمة هذا الزمن عن طريق علم النفس الفسيولوجي
(دراسة زمن رد الفعل).
(٢) نسبية وجهة النظر يمكن تحديدها رياضيًّا بدورها
على أن هذا ليس كلَّ ما في الأمر، فالملاحظة نسبية تبعًا
لمكان الملاحظة أيضًا، لا تبعًا للملاحِظ وحدَه، إذ إن كل
ملاحظة بشرية تبدأ من الأرض. ولقد ظنَّ الناس في بداية الأمر —
وكان ذلك أمرًا طبيعيًّا — أن الأرض مَرصَد ممتاز للملاحظة فهي
مركز العالَم، والسماء تدور حولنا، ما دمنا نراها تدور حولنا.
فعِلم الفلك التلقائي يتَّخِذ الأرض مركزًا له
géocentrique كما يقولون،
وكذلك كان علم الفلك اليوناني. ولكنا نجد بين مُفكري اليونان
المتعمِّقين النابهين، مَن اعترفوا بأنَّ الأرض تدور حول الشمس
أو حول مركز العالَم؛ ومن هؤلاء عالِم فيثاغوري هو فيلولاوس
Philolaos (القرن الخامس ق.م.)
وعالِم أفلاطوني هو أرسطارخس الساموسي
Aristarque de Samos (القرن
الثالث ق.م.)، وظلَّت فكرتهم التي ظهرت قبل أوانها، راكدةً
وحجبَها انتصار المذهب الفلكي القائل بأن الأرض مركز الكون،
وهو المذهب الذي أذاعه بطليموس (القرن الثاني بعد الميلاد). ثم
بُعثت الفكرة، كما نعلم، على يد كبرنك، وهو بولندي في القرن
السادس عشر، وسار جاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢م) في الطريق الذي بدأه
كبرنك، وسرعان ما ذاعت تعاليمُه، رغم ما عاناه من اضطهاد.
والفكرة القائلة بأن الأرض تدور حول الشمس، وحول نفسها، فكرةٌ
رياضية؛ إذ إن التصوير الرياضي لحركات الأجرام السماوية أكثر
يسرًا، وأقرب إلى العقل، إذا ما نظرنا إلى الشمس على أنها هي
النقطة الثابتة، فإذا ما تبيَّن لنا مقدار خصب نظرية كبرنك
وجاليليو أدركنا أن التقدُّم العلمي، في هذه الحالة بدَورها،
كان مشروطًا «بتحوُّلٍ» انصرف فيه العقل عن المحسوس، مُفضِّلًا
عليه المعقول.
(٣) فكرة النسبية أدَّت إلى الكشف عن سرعة الضوء
أدت فكرة النسبية أيضًا إلى كشف سرعة الضوء، وهو كشفٌ له
أهميته القصوى في علم الضوء؛ بل في الميكانيكا ذاتها في الوقت
الحاضر. فالرأي التلقائي الذي كان شائعًا هو أن الضوء لا
يستغرق زمنًا، وهو رأيٌ مبنيٌّ على استدلالٍ ساذج. هو أن
الحادث الذي أراه، قد وقع في لحظةٍ معينة، ما دمت قد رأيته في
هذه اللحظة (أما بالنسبة إلى الصوت، فقد تحوَّل الناس عن هذا
الرأي، عن طريق تجارب بسيطة مُلفتة للنظر إلى حدٍّ بعيد، ولكن
كان لها أثرها البالغ). ومن الواضح أن في هذا الاستدلال
مغالطة، ولكن ما كان يمكن التخلُّص منها إلا بإرشاد تجارب
عظيمة الدقة، تفسَّر بناءً على فكرة النسبية.
ففي سنة ١٦٧٦م لاحظ عالِم
الفلك الدانمركي «أولاف رومر Olaf
Reomer» عضو أكاديمية العلوم بباريس، أن أول
تابع من توابع المشتري يدور حول ذلك الكوكب في زمنٍ مُتغير
(وكان التغيُّر يقدَّر بحوالي ربع ساعة في الأسبوع)، وعندما
فحص الشروط الأرضية للملاحظة، تبيَّنَ له أن التابع يُصبح
«متقدمًا» عن المتوسط الزمني عندما تقترب الأرض من المشتري
(الذي يسير في دورانه بسرعة أبطأ من الأرض كثيرًا) ويُصبح
«متأخرًا» عندما تبتعِد الأرض عنه. فخطَرَ بباله عندئذٍ أن
للضوء سرعةً مُعينة، وبالتالي، أن الأرض عندما تقترب من
الكوكب، تتلقَّى الأشعة المضيئة بسرعةٍ أكبر، أما إذا ازدادت
المسافة فإنها تتلقَّاها ببطءٍ أكبر؛ بل لقد استخلص من ذلك
تقديرًا لسرعة الضوء، وإذا كان ذلك التقدير مخطئًا (٢٠٠٠٠٠
بدلًا من ٣٠٠٠٠٠كم في الثانية) فإنه يُعَد تقديرًا رائعًا في
ذاته، ويرجِع خطؤه إلى أسبابٍ لا صلة لها بمنهجه.
وهنا أيضًا تظهر النسبيَّة في التصميم على إعطاء دَورٍ
للملاحظ (البشري أو الأرضي) في كل ملاحظة، وعلى جعل هذا الدور
قابلًا للتقدير الحسابي بقدْر الإمكان، فيُتيح لنا ذلك فرصة
استبعاد تأثير الملاحظ على الملاحظة.
(٤) الرياضة والدقة العلمية
كل هذا يفترض تطبيق الرياضة على الطبيعة، بطرقٍ شديدة
الاختلاف. غير أن إدخال الرياضة في هذا الميدان يُمكِّن من
القيام بمجهودٍ آخر، بل يتطلَّب مثل هذا المجهود، وأعني به
السعي وراء «الدقة».
فالرياضة لا تتميَّز بالدقة التامَّة فحسب (٢ + ٢ = ٤
بالضبط، المثلثان اللذان تتساوى أضلاع كلٍّ منهما بالآخر
ينطبقان تمام الانطباق) بل إنها هي الدقة ذاتها، إلى درجة أنها
تُمكننا من قياس عدم الدقة بدقةٍ تامة، إذ تُوضِّح بكل دقةٍ
فيمَ يكون المقياس غير دقيق، فيُقال إن عدم الدقة يصِل إلى
١ / ١٠٠٠ أو ١ / ١٠٠٠٠ إلخ، بحيث تكون الدقة متناسبةً مع مقام
هذا الكسر.
والقول يُعَد «دقيقًا» إذا كان ينطبق على الواقع بطريقةٍ
محددة تمامًا، أعني إذا كان ذلك القطاع من الواقع الذي يُشير
إليه القول محصورًا تمامًا، ولا ينطوي تبعًا لذلك إلا على
أقلِّ قدرٍ ممكنٍ من عدم التحديد، ومن اليسير أن نتبيَّن
الفارق بين قضيتَين مثل: الطقس بارد، الترمومتر يُشير إلى درجة
تحت الصفر. فالأولى تنطبق
على عددٍ من الوقائع أكبر بكثيرٍ من ذلك الذي تنطبق عليه
الثانية. ومن هنا نرى إلى أي حدٍّ تُفيد الصيغة الرياضية في
إكساب الدقة. فهي تزداد دقةً على الدوام، ما دام في وسعنا
دائمًا أن نضيف أرقامًا عشريَّة، كلما ازدادت دقة أجهزة
القياس.
الأشكال المتتابعة للروح العلمية
لقد تطورت الروح العلمية، وليس من الصعب إدراك سبب تطورها هذا:
- (١)
فالتقدم في الأساليب الفنية الصناعيَّة يمدُّنا بأجهزة
علميَّة أكملَ وأقوى مما كان لدَينا، نتمكن بواسطتها من
الاهتداء إلى ظواهر كانت مجهولة، كما يزيد دقة الأقيسة من
جهة أخرى.
- (٢)
وتقدُّم الرياضة يأتي بِدالَّات جديدة، وتعبيرات جديدة،
يمكن استخدامها في حلِّ مشكلات جديدة.
- (٣)
وإن مجرد تكديس الملاحظات التي تقوم بها الأجيال
المتعاقبة من الباحثين، لَيأتي بوقائع جديدة تُثير مشاكل
لم تكن معروفة، وتخلق مزيدًا من الصعوبات.
- (٤)
والعلم يُغيِّر شكل العالم؛ فهو يعمل أولًا على تعبير
آفاقه بالنسبة إلى عقولنا، ثم إن الصناعة الحديثة، التي
نشأت عن العلم، تتابع طريقها إلى السيطرة المادية على
كوكبنا هذا، والكون الجديد يُولِّد علمًا جديدًا، وهكذا
دواليك، وعلى ذلك فبين الوقائع وبين المعرفة العلمية سلسلة
غير محدودة من الأفعال وردود الأفعال.
كل هذه الأسباب لا تؤدي إلى تغير العلم فحسب؛ بل إلى تغيير للروح
العلمية ذاتها؛ إذ تظهر مناهج جديدة، تقتضي صورة جديدة للعقل،
وصفات جديدة له.
وهكذا يمكن أن يُروى تاريخ الروح العلمية، وإن كنا لا نُزمع
القيام بهذا العمل؛ بل سنكتفي بأن نعرض بإيجازٍ شديد للمراحل
الكبرى التي يمكن أن نلمحها في ذلك التاريخ.
(١) علم الطبيعة الميكانيكي
يبدأ هذا التاريخ من القرن السابع عشر. ففي السنوات الأولى
من ذلك القرن نشأ علم الطبيعة بمعناه الصحيح من علم الفلك عند
كبرنك وجاليليو.
(١) وإذن يُمكننا أن نميِّز مرحلةً أولى تشمل القرن السابع
عشر. هذه المرحلة تسيطر عليها النظرة الآلية المعروفة عند
ديكارت وجاسندي.
٢٠ وفيها كان ينظر إلى التركيب الداخلي للظواهر على
أنه مُكوَّن من آلاتٍ صغيرة إلى أبعد حدٍّ، كالعتلة والملفاف
والنورج الآلي والرافعة؛ أعني أقدم الآلات البشرية، التي بدأ
أرشميدس (في القرن الثالث ق.م.) في وضع النظرية المبنية عليها،
والتي أتمَّها ديكارت.
٢١ فظواهر المغناطيسية مثلًا يُفسِّرها ديكارت بحركة
مسامير حلزونيَّة لا متناهية الصِّغر تدخل في مسامِّ أجسامٍ
مُعينة (المغناطيسي الطبيعي، والصلب) فتوجِّهها أو تنقلها من
موضعها؛ أي أن تفسير الظاهرة هو وصف للأنموذج الآلي الذي تمثله
تفاصيل تركيبها الداخلي.
(٢) فيزيقا القوى المركزية
(٢) ومنذ أن
انتصر نيوتن، وطوال القرن الثامن عشر، لم تَعد الأمور تُفسَّر
على النحو السابق، بل استبدل بالتفسير القديم مذهب «القوى
المركزية»، والمقصود بهذا التعبير، قوى الجذب والتنافر
الموجَّهة نحو فقط (مراكز)، أو الخارجة من نقط، تمثلها
موجِّهات Vecteurs، وهي
المستقيمات المعروفة التي تتَّخِذ صورة السهام. فتفسير ظاهرة
(كالثقل وحركة النجوم، والجذب المغناطيسي أو الكهربي وتغير سطح
السائل في أنبوبة الاختبار، ومثل العناصر إلى الاتحاد في
الكيمياء) إنما هو رسم الموجِّه، الذي يُحدد قانونُه خصائصَه
الرياضية. ونستطيع القول بأن ميتافيزيقا الطبيعة عند «كانْت»
هي الصورة الواعية والمنظمة لهذه الفكرة. كما تتمثَّل حتمية
الموجِّهات هذه في الصيغة المشهورة التي عبَّر بها لابلاس عنها
(١٧٩٤–١٨٢٧م): «لو استطاع عقلٌ ما أن يعلم في لحظةٍ معينة جميع
القوى التي تُحرك الطبيعة، وموقع كل كائن من الكائنات التي
تتكوَّن منها، ولو كان ذلك العقل من السعة بحيث يستطيع إخضاع
هذه المعطيات للتحليل، لاستطاع أن يُعبر بصيغة واحدة عن حركة
أكبر أجسام الكون وعن حركات أخف الذرَّات وزنًا، ولكان علمه
بكل شيءٍ علمًا أكيدًا، ولأصبح المستقبل والماضي ماثِلَين أمام
ناظرَيه كالحاضر
تمامًا.»
(٣) فيزيقا المجالات
(٣) في القرن
التاسع عشر، أدَّت دراسات كولومب
Coulomb (١٧٣٦–١٨٠٩م) وأمبير
Ampére (١٧٧٥–١٨٣٦م) وفارادي
Faraday (١٧٩١–١٨٦٧م) في
الكهرباء والمغناطيسية، ونظريات ماكسويل
Maxwell (١٨٣١–١٨٧٩م) في الضوء
(الذي هو في رأيه ظاهرة كهربائية مغناطيسية في أساسها)؛ إلى
ظهور فكرة جديدة عن الحتمية: هي حتمية المجال. والمقصود
بالمجال نطاق مُعين من المكان يتحكَّم كل جزءٍ من أجزائه في
الآخَر تحكُّمًا «متبادلًا»، طبقًا للتركيب الخاص للمجموع؛
فالحتميَّة هنا لم تعُد تتصوَّر خلال التعاقب الزمني بل خلال
التزامن simultanéité، أي أن
السابق ليس هو الذي يتحكم في اللاحق، وإنما المجموع هو الذي
يتحكم في الجزء.
(٤) الروح العلمية الجديدة
(٤) وأخيرًا،
ومنذ السنوات الأولى في القرن العشرين، ظهرت «روح علمية جديدة»
— على حدِّ تعبير باشلار
Bachelard — من مختلف النظريات
العاميَّة. وسنرجئ مهمة وصف هذه الروح الجديدة،
٢٢ وحسبنا أن نقول: إنها أحدثت في العلم انقلابًا
بعيد المدى لا نستطيع القول على الإطلاق إن نتائجه الفلسفيَّة
قد ظهرت كلها.