تصنيف العلوم
يمكننا أن نتَّخذ من تقسيم «أوجست كونت» أساسًا، وتبعًا لهذا التقسيم، ينبغي التمييز بين العلوم العمليَّة أو علوم الأساليب الفنيَّة، التي يُطبقها المهندسون، والعلوم النظريَّة التي يبحث فيها العلماء، والعلوم النظريَّة إما عينيَّة (كعلوم الحيوان أو النبات مثلًا) أو مجردة (كعلم وظائف الأعضاء).
والعلوم المجردة الرئيسية ستة: الرياضة، والفلك، وعلم الطبيعة، والكيمياء، وعلم الحياة، وعلم الاجتماع. وهذه العلوم مُرتبة ترتيبًا من حيث البساطة والعموم، وهي علوم لها صفاتها النوعيَّة، إذ لا يمكن إرجاع كلٍّ منها إلى العلم السابق عليه، فالمذهب الوضعي يتنافى مع المذهب المادي.
ومنذ عهد أوجست كونت، تطوَّرت العلوم بحيث أصبح تصنيفه غير مطابقٍ لحالة العلم كل المطابقة. فقد ظهرت علوم جديدة (مثل علم الطبيعة الفلكي، وعلم الطبيعة الذري)، واحتلت هذه العلوم مكانةً تعلو مكانة علومٍ كثيرة أخرى، وأثبتت وحدة العلم التي تعبِّر، كمال قال «ديكارت» عن وحدة العقل الإنساني، وأصبحت المثاليَّة، التي تؤكد هذه الوحدة، في مركز أقوى من حيث قدرتها على مناهضة المادية، من النزعة الروحيَّة عند أوجست كونت.
فائدة القيام بتصنيف للعلوم، ولو كان مؤقتًا
كوَّنَّا فيما سبق فكرةً أولى عن العلم، وعلينا الآن أن ندرس مختلف العلوم على التخصيص، ولأجل هذه الغاية ينبغي لنا أن نُصنفها.
تصنيف بيكن (١٦٢٣م) وأصحاب جائزة المعارف (١٧٥١م)
لكي يتسنَّى لنا فهْم تصنيف «أوجست كونت»، يجب علينا أن نقول بضع كلمات عن التصنيفات السابقة له، والتي نقدَها هو. فهو يتحدَّث أولًا عن تصنيف «فرانسيس بيكن»، وأساس هذا التصنيف هو التفرقة بين ثلاث ملَكات لدى الإنسان، وهي الذاكرة، والخيال، والعقل. فالذاكرة يناظرها التاريخ، الذي ينقسم إلى التاريخ المدني (وهو ما نُسميه عادةً اليوم بالتاريخ، بمعناه الصحيح) والتاريخ الطبيعي. والخيال يُناظره الشِّعر. وأخيرًا فالعقل هو أساس الفلسفة أو العلم بمعنى الكلمة، وهو الذي قد يكون موضوعه الله (اللاهوت) أو الطبيعة (الفلسفة الطبيعيَّة) أو الإنسان (الفلسفة الإنسانيَّة).
نقد التصنيفين: لا يعترفان بوحدة العقل
ولنقل بوجهٍ عام إن الوظائف العقلية لا يمكن أن تُفصَل كل منها عن الأخرى، وهي تتضافر دائمًا، بحيث إن كلَّ تقسيمٍ يقوم على أساس التمييز بينها هو تقسيم مصطنع.
تصنيف أوجست كونت (١٨٣٠م): العلوم النظرية والعلوم التطبيقية
إن أول تقسيم يُفرَض هنا هو تقسيمها إلى علوم نظريَّة، وعلوم تطبيقيَّة أو عمليَّة أو فنيَّة.
ولقد نبَّه «أوجست كونت» إلى الأهمية المتزايدة التي تحتلها فئة المهندسين في المجتمع الحديث، وهي فئة تحتل مكانًا وسطًا بين العلماء ورؤساء العمل في الصناعة.
ولكن العلوم النظريَّة هي التي تهمنا بوجهٍ خاص، وهدف هذه العلوم هو معرفة الطبيعة والإنسان، لا لشيء إلا لأجل إشباع غريزة حُب الاستطلاع في الإنسان، وزيادة شعوره بذاته وبالعالَم.
تقييم العلوم النظرية إلى مجردة وعينية
إذا نحن اقتصرنا على العلوم النظرية، وجدناها تنقسِم بدورها إلى علومٍ مجردة، وعلوم عينية. «فالعلوم المجردة، العامة، تهدف إلى كشف القوانين التي تتحكَّم في مختلف أنواع الظواهر، أما العلوم العينية، أو الخاصة، أو الوصفية .. فمهمتها تنحصر في تطبيق هذه القوانين على التاريخ الفعلي لمختلف الكائنات الموجودة.»
وهاك أول مثال يؤيد هذه الفكرة؛ فإذا تأمَّلنا عِلم وظائف الأعضاء العام من جهة، وعلم الحيوان وعلم النبات من جهةٍ أخرى، وجدنا الأول يدرس «قوانين الحياة بوجهٍ عام» والآخران يحددان «طريقة وجود كلٍّ من الأجسام الحية، على وجه الخصوص».
وإليك مثالًا آخر؛ فالكيمياء ترتبط بعلم المعادن: «ففي الكيمياء نبحث كل التجمعات الممكنة للجسيمات، وفي كل الظروف التي يمكن تصورها، وفي علم المعادن، لا نبحث إلا في تلك التجمعات التي تتحقَّق في التركيب الفعلي للكرة الأرضية، وتحت تأثير الظروف الخاصة التي تتميز بها الأرض وحدها.»
العلوم المجردة الرئيسية الستة
فلنكتفِ إذن بالقول إنه قد ميز في نهاية الأمر بين ستة علوم مجردة أساسية وهي: الرياضة، والفلك، وعلم الطبيعة، والكيمياء، وعلم الحياة وعلم الاجتماع.
هذه العلوم الستة متسلسلةٌ
توزع هذه العلوم توزيعًا متسلسلًا، أعني تبعًا لنظامٍ يقضي بأن يؤدي كلٌّ منها إلى الإتيان بشيء جديد بالنسبة إلى ما سبقه، وبحيث يكون هذا الشيء أسمى وذا قيمة أكبر. فموضوع الرياضة مجرد تمامًا، وهو ليس متصلًا بالواقع بالمعنى الصحيح؛ فالرياضة تدرس الأفكار لا الأشياء. أمَّا العلوم التالية فتدرس أشياء تزداد قيمتها بالتدريج: كالمادة الجامدة أولًا، ثم المادة الحيَّة، وأخيرًا العقل الإنساني. فإذا ما تتبَّعنا ترتيب العلوم التي صُنفت على هذا النحو، سِرنا من الأدنى إلى الأعلى.
ويمكن القول بلغة بعض الفلاسفة المعاصرين إن كلًّا من موضوعات هذه العلوم المتعاقبة هو «نوع من الارتقاء» بالنسبة إلى سابقه، والمقصود بكلمة «الارتقاء» ظهور حقيقة لها قيمة أكبر، من داخل حقيقة لها قيمة أقل.
ومن المهم أن نلاحظ أن هذا الارتقاء يتوقَّف على ما يسبقه؛ أي أن الأدنى يتحكم في الأعلى. فالحياة مثلًا، تتحكم فيها قوانين المادة الجامدة، والجسم الحي يخضع لقوانين الثقل أو الجاذبية. ولكي يكون في حالة توازن يجب أن يكون الخط العمودي النازل من مركز ثقله داخل الشكل الهندسي الذي يكونه وهو واقف، وإلا سقط، وذلك لأن صفة الحياة لا تكفل له أية ميزةٍ في هذا الصدد.
ولقد تأملنا، منذ قليل، حالة خاصة، هي حالة علوم المادة الجامدة بالنسبة إلى علوم الحياة. ولكن نفس الفكرة تنطبق على الصِّلة بين الرياضة وبقيَّة العلوم، كما تنطبق على الصِّلة بين عِلم الفلك وعلم الطبيعة الأرضية؛ إذ إن الأرض نجم، ثم إنها مقر الظواهر الحرارية والكهربائية والضوئية التي تُدرَس في علم الطبيعة. كذلك الحال في علاقة علم الطبيعة بالكيمياء؛ فالظاهرة الكيميائية تخضع لقوانين علم الطبيعة، وتزيد عليها من جهة أن فيها تفاعلات لها قوانينها الخاصة. وأخيرًا، فالطبيعة البشرية إذا اتخذت موضوعًا، تشذُّ على كل قوانين الفلك، وعلم الطبيعة، والكيمياء، وعلم الحياة؛ إذ إن الإنسان كائنٌ أرضي، وجسم جامد، ومُوصِّل جيد أو رديء للحرارة والكهرباء، ويمكن أن يتفحَّم وأن يحترق، وأن تؤذيه الأحماض، وهو كائن حيٌّ يهضم ويفرز، وهو فضلًا عن ذلك إنسان له مصيره الروحي.
كل حقيقة لها نوعها الخاص بها أي لا يمكن إرجاعها إلى الحقائق السابقة
ومن هذه الملاحظة الأخيرة تتضح لنا الفكرة الفلسفية العميقة التي أوحت بهذا التصنيف: ألا وهي أن الحقائق تتمثَّل في سلسلةٍ يكون لكلِّ واحدة منها نوعها الخاص بها، أعني لا يمكن إرجاعها إلى الحقائق السابقة عليها.
والواقع أن لدى العلماء ميلًا إلى «المذهب المادي» وهو — على حدِّ التعبير الرائع الذي عرفه به «كونت»: «تفسير الأعلى بالأدنى.» على أن العالِم ذاته يرى أن كلَّ مرحلةٍ من مراحل الواقع، كالعالَم الرياضي (وهو ليس في حقيقة الأمر عالَمًا واقعيًّا) والعالَم الطبيعي، والعالَم الكيميائي، وعالَم الأحياء، وعالَم البشر. كل مرحلة من هذه تُعَد جديدة كل الجدَّة بالنسبة إلى المرحلة السابقة عليها. فالمذهب المادي إذن في رأي «كونت»، مضاد للعلم في أساسه.
أوجست كونت من السابقين إلى القول ﺑ «مذهب العرضية»
الترتيب المتسلسل يجب أن يكون هو أيضًا ترتيب العلوم في برامج التدريس
يوحي تصنيف «أوجست كونت» بفكرةٍ أخرى. فإذا كانت مجالات العلوم المتعاقبة يتوقَّف كلٌّ منها على الآخر تبعًا لترتيب متسلسل، فإن دراسة كل علم تتوقف على دراسة العلوم السابقة عليه، بحيث يتعيَّن علينا أن ندرسها بالترتيب الذي يُحدِّده التصنيف، وعلى ذلك يكون أساس تدريس العلوم هو دراسة الرياضيات؛ وتلك فكرة تبدو لنا في القرن العشرين، طبيعية إلى أقصى حد، ولا شك في أنها ليست جديدةً؛ بل لقد دعا إليها من قبلُ علماء القرنَين السابع عشر والثامن عشر. لكن المذهب الوضعي عند «أوجست كونت» هو الذي فرضَها على الرأي العام، وبالمثل تنطوي دراسة العلوم البيولوجية ضمنًا على دراسة العلوم الفلكية، أو على الأقل العلوم الطبيعية الكيميائية. فعلم الإنسان يفترض العلوم السابقة له.
الترتيب المتسلسل هو الترتيب الذي ظهرت به مختلف العلوم
إذا كان حقًّا أن العلوم يعتمد بعضها على بعض في الترتيب المتسلسل فلا بد أن تكون العلوم قد ظهرت تبعًا لهذا الترتيب ذاته، ولكن لنلاحظ أولًا أنه يجب علينا ألا ننظُر إلى نقطة بدء العلوم على أنها هي اللحظة التي بدأت فيها البحوث التي استغلها ذلك العلم، فلو صحَّ ذلك لكانت العلوم كلها قديمة كالإنسانية نفسها، فقد كان هناك دائمًا حاسبون، وفلكيُّون (أو بالأحرى منجِّمون) وأطباء. غير أن العلم يبدأ عندما يُحدد المنهج الخاص به، وفضلًا عن ذلك فإن الترتيب التاريخي لا يتفق اتفاقًا دقيقًا، بأية حال من الأحوال مع الترتيب المنطقي؛ بل يتضمَّن ظروفًا لا يمكن حسبانها، فهو «عرضي» بدوره وبطريقته الخاصة.
ويمكننا القول، على وجه الإجمال، إن العلوم قد ظهرت في صورتها النهائية، بهذا الترتيب المتسلسل، وسوف تتاح لنا، فيما بعدُ، فرصة إثبات هذه الحقيقة على نحوٍ أدق. وحسبنا الآن أن نقول أن الرياضيات والفلك عِلمانِ يونانيان، وأن علم الطبيعة قد اتخذ صورته الحديثة في القرن السابع عشر، والكيمياء في القرن الثامن عشر، وعلم الحياة في القرن التاسع عشر، وفي ذلك القرن نفسه، وبعد فترة طويلة، ظهرت علوم الإنسان، كالتاريخ العلمي، وعلم النفس التجريبي وعلم الاجتماع.
عيب تصنيف «أوجست كونت» وحدة العلوم
رغم أننا اقتبسنا من «أوجست كونت» معلوماتٍ عديدة، فإن هذا لا يمنعنا من أن نوجِّه إليه نقدًا عامًّا، وأن نُوضح بعد ذلك، النقط التي يؤدي فيها تطور العلم في وقتنا الحالي إلى تجاوز تصنيفه.
فالمذهب الوضعي روحي باعتبار مقصده؛ لأنه يعترف بأن الحقيقة الواقعية تنطوي على قِيَمٍ متدرجة تتجه في أعلاها إلى الروحية، ولنقل بدلًا من ذلك، إن تأكيد ديكارت «مثالي». فالمثالية تسعى وراء الروح، لا في الأشياء، ولكن في معرفة الأشياء.
العلم المعاصر وتصنيف كونت
- (١) علم الطبيعة الفلكي astrophysique أعني تطبيق علم الطبيعة، ومن خلالها الكيمياء، على النجوم، لتحديد تركيبها وحرارتها وكتلتها ومقاديرها وأبعادها وعمرها أيضًا، وذلك عن طريق عمليات غير مباشرة تتضافر كلها لتحقيق هذا الهدف، وتقتضي براعةً لا حد لها.
- (٢) علم الطبيعة الذري microphysique وهو تطبيق علم الطبيعة على الذرات ومكوناتها (الإلكترونات … إلخ) وهذه الدراسة تؤدي إلى تأكيد وحدة المادة، وهي فكرة مخالفة تمامًا لما قال به كونت.
ومن جهة أخرى، فلما كانت البيولوجيا تتحول بالتدريج إلى أن تعدو علمًا طبيعيًّا كيميائيًّا، ولما كان علم الطبيعة الفلكي وعلم الطبيعة الذري يتصلان في مواضع عديدة، بحيث تُطلعنا الذرة والنجم كل منهما على أسرار الآخر، لهذا كله يبدو أن رأي ديكارت كان أقرب إلى الصواب من رأي أوجست كونت.
خطة هذا البحث
ومع ذلك، فسوف نتبع الخطوط الرئيسية للتصنيف الوضعي، إذ إنه لا يزال ينطبق، إلى حدٍّ غير قليل، على ترتيب العلوم على النحو الذي ندرس عليه (ولكنه لا ينطبق تمامًا على هذه العلوم من حيث شأنها). وإذن، فسنبدأ بدراسة العلوم الرياضية، من حيث موضوعها، ثم من حيث منهجها، وننتقل بعد ذلك إلى العلوم الطبيعية (علم الفلك والفيزياء والكيمياء)، ثم تأتي علوم الحياة (البيولوجيا) ثم نُخصص فصلًا للعلوم الأخلاقية التي تتجاوز علم الاجتماع إلى حدٍّ غير قليل. وأخيرًا، نلم إلمامًا سريعًا بالنظريات الحديثة في علم الطبيعة.